حكم خروج الأرملة من بيت الزوجية زمن العدة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واقتدى بسنته واهتدى بهداه، وبعد:
فإن الله قد فرض على المرأة المفارِقة لزوجها بسبب وفاته مدةً زمنيةً تتربص فيها، بأن تنتظر فلا تتزوج، ولا تتعرض للخطاب حتى تنتهي هذه المدة، وهي ما تعرف بالعدة.
ومن أحكام هذه العدة أيضًا أن تمكث المرأة المتوفى عنها زوجها في البيت الذي كانت تسكنه معه زمن قيام الزوجية.
لكن اختلف الفقهاء في متى يحق لها الخروج من هذا المسكن زمن العدة؟
أما الخروج للضرورة فلا خلاف بينهم في جوازه ليلًا أو نهارًا.
وأما الخروج للحاجة فأكثرهم، ومنهم الأئمة الأربعة، على منعها منه، وتحريمه عليها.
وتكمن المشكلة هنا أن بعض مدعي المناداة بحقوق المرأة يعرضون هذه القضية، موحين أن في هذا الحكم ظلمًا كبيرًا لها؛ إذ كيف تمكث طوال مائة وثلاثين يومًا في بيت الزوجية، فما ذلك إلا تعذيب لها، وتقييد لحريتها كما يزعمون.
وهم بعرضهم القضية على هذا النحو يفتحون بابًا للطعن في أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بحقوق المرأة في الإسلام، ذلك الاتجاه الذي يتبناه المغرضون من العلمانيين ونحوهم.
كما أن في طيات هذا الكلام تجريحًا لأهل العلم القائلين بهذا القول، ومنهم أكثر الصحابة، وأربعة الأئمة، وغيرهم من الأعلام والأجلاء من أهل الفقه والإمامة في الدين.
ومن هنا تأتي أهمية الرد على الشبهات المتعلقة بالموضوع، وتجلية الحق في هذه المسألة.
ونعرض لذلك باختصار، بذكر الشبهة والرد عليها، وذلك كما يلي:
الشبهة الأولى:
في إلزام المرأة بتلك العدة تضييق وتشديد عليها، وفيه أيضًا حمل لها على تجديد الأحزان والاستسلام لها، وكيف يمكن أن تتعامل مع الوحشة والوحدة؟ ولماذا حُكم الرجل ليس كحكم المرأة، فيعتد لوفاة زوجته كهي؟ وليجعل الرجل نفسه مكانها؛ هل يتحمل الحبس في البيت الذي ماتت فيه زوجته أربعة أشهر ولا يخرج، يقعد يتذكر ويستسلم لأحزانه وهمومه!!
والجواب:
قد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
فهذا أمر الله، وهذا شرعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وأما الحزن فمحله القلب، ويعتري الرجل والمرأة، ولا يتقيد بزمن، ودفعه ممكن وكائن داخل البيت وخارجه، لمن أراد ذلك ولم يستسلم لوساوس الشيطان، ورضي بالقضاء والقدر.
وأما قولكم: وكيف يمكن أن تتعامل مع الوحشة والوحدة؟ فنقول: لا يلزم من مكثها في البيت أن تجلس منفردة، وفي عزلة عن الناس، ولا يعني ذلك عدم التقائها بجيرانها، وخروجها لمن هم قريب منها.
وقد ذكر ابن باز رحمه الله لمن سألته عن نحو ذلك أنه لا بأس، وكان مما قال: «الخروج اليسير لجمع الغنم حول البيت وفي النهار أمره واسع وسهل...، وكذلك كون بيت أخي زوجها جنبها يليها وربما تزورهم فالأمر فيه واسع، ولو أنها جلست في بيتها ولم تذهب كان أحوط؛ لأن الرسول قال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله»، فلو أنها بقيت في البيت ولم تذهب إلى الجيران للزيارة كان هذا أحوط، ولكن إن شاء الله لا يضر ذلك، وليس عليها شيء، لكونهم متقاربين ومتجاورين في الصحراء، فهذا لا يضرها...، هذه أمور خفيفة؛ مثل خروجها لحاجتها للسوق تشتري خبـزها، وطعامًا لبيتها...»(1).
وجاء أيضًا في فتاوى إسلام ويب: «المعتدة من وفاة يجوز لها الخروج نهارًا، ولها أيضًا الخروج ليلًا إذا احتاجت لذلك، ومن الحاجة أن تخرج إلى جارتها الملاصقة للتأنس إذا لم يكن لها من يؤانسها، لكن يحرم عليها المبيت خارج بيتها...، وزيارة أقاربها ليست حاجة مبيحة لخروجها، وبالتالي فلا يجوز لها الإقدام على ذلك ما دامت في عدتها».
كما أن لها أن تسلي نفسها وهي في بيتها بالأعمال المفيدة، أو بالقراءة والمطالعة الهادفة، أو بطب العلم والاستماع لبرامج التلفاز الهادفة، ونحو ذلك مما يضيق وقت المسلم والمسلمة عن إيفائه.
وأما قولكم: ولماذا حُكم الرجل ليس كحكم المرأة؟
فنقول: ليس الذكر كالأنثى؛ فالرجل ملزم بالعمل خارج البيت، ومطلوب منه الكدح والتعب، والسعي والسفر، والذهاب والإياب، وهو المسئول عن النفقة، بينما المرأة في الاسلام ينفق عليها، وعملها داخل بيتها، وقرارها فيه هو الأصل، وقد قال تعالى لأمهات المؤمنين، وهن خير قدوة لسائر النساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}.
ومن ثم فليس في إلزامهن بالمكث في بيتها زمن العدة أمر كبير، ولا تشديد ولا تضييق.
الشبهة الثانية:
ما العمل مع حاجة المرأة للطعام والشراب وتحصيل نفقة المعيشة؟ أليس في منعها من الخروج إضرار بها، وتعطيل لمصالحها؟ والدين إنما جاء لمصلحة الناس، ولن يحرم شيئًا فيه مصلحة.
والجواب:
هذا كلام من يجهل الحكم الشرعي للمعتدة، فقد نص الفقهاء على أن لها الخروج لقضاء مصالحها وحوائجها نهارًا، وكذلك بالليل إذا اضطرت إلى ذلك، ولم يكن لها من يقوم بأمرها وخدمتها.
بل جمهور الفقهاء على أنه يجوز لها الخروج في الليل أيضًا للحاجة التي هي دون الضرورة، إلا أنها لا تبيت إلا في بيتها(2).
وقد فصل ابن عثيمين رحمه الله في أحوال خروج المعتدة وحكم كل حال، فقال: «لا يخلو خروج المعتدة من ثلاث حالات: إما أن يكون لضرورة، أو لحاجة، أو لغير ضرورة ولا حاجة.
الحال الأولى: إذا كان لغير ضرورة ولا حاجة فإنه لا يجوز؛ مثل لو قالت: أريد أن أخرج للنزهة، أو للعمرة، فإنه لا يجوز؛ لأنه ليس لحاجة ولا لضرورة.
الحال الثانية: أن يكون الخروج من البيت للضرورة، فهذا جائز ليلًا ونهارًا، مثلًا حصل مطر، وخشيت على نفسها أن يسقط البيت فإنها تخرج للضرورة، لكن إذا وقف المطر وصُلِّح البيت ترجع، ومثل ذلك لو شبت نار في البيت.
الحال الثالثة: أن يكون لحاجة؛ مثل لو ذهبت تشتري، مثلًا، عصيرًا، أو تشتري شايًا، ومنها: أن تكون مدرِّسة فتخرج للتدريس في النهار، ومنها: أن تكون دارسة فتخرج للدراسة في النهار لا في الليل، ومنها: أنها إذا ضاق صدرها فإنها تخرج إلى جارتها في البيت لتستأنس بها في النهار فقط؛ لأن أزمة ضيق الصدر قد تتطور إلى مرض نفسي، ومنها: أن تخرج لتزور أباها المريض، لا بأس أن تخرج لتعود أباها إذا مرض، أو أمها، أو أحدًا من أقاربها، فلها أن تخرج نهارًا لا ليلًا، ووجه التفريق بين الليل والنهار أن الناس في النهار في الخارج، والأمن عليها أكثر، وبالليل الناس مختفون والخوف عليها أشد»(3).
فتأمل كيف يراعي الشرع حتى نفسية المرأة؟ وكيف ينتبه الفقهاء إلى تلك الدقائق، ذلك بما لا يتصادم أو يتعارض مع الحكم الشرعي.
أما العوام وأهل الجهالة وأتباع الهوى فلا يُترك لهم تقدير المصالح والمفاسد؛ إذ ليسوا أهلًا لهذا النظر، وصدق الله القائل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71].
الشبهة الثالثة:
ليس هناك ما يفيد هذا الحكم؛ وهو إلزام الأرملة بالمكث وعدم الخروج من البيت: أما آية سورة الطلاق {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} فهي في المطلقات، وأما آية البقرة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، فقد ذكرت الزمان (أي مدة العدة)، لا المكان (أي مكان قضائها)! فلم يخص الله مكانًا في عدة المتوفى عنها زوجها، والبيان لا يؤخر عن وقت الحاجة؛ وعليه تكون هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في وجوب لزوم المتوفى عنها زوجها البيت، وأما حديث الفريعة بنت مالك: «امكثي في بيت زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله»(4)، فسنده ضعيف.
وتبقى الحجة في إذن النبي صلى الله عليه وسلم لزوجات شهداء أحد بالخروج من بيوتهم ليواسي بعضهن بعضًا، مع عدم تقييد ذلك، وهو أيضًا ما ورد عن ابن عباس وعلي وعائشة من الصحابة(5).
والجواب:
أما قولكم: آية سورة الطلاق {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} في المطلقة الرجعية، فنعم يحتمل أن الآية وردت لبيان حكم خروج المطلقات، لا المعتدة من وفاة؛ بل خصها بعضهم بالمطلقة الرجعية دون البائن؛ كابن حزم.
لكن يمكن أن يقال: إن الآية، وإن كانت في معرض الكلام عن المطلقات، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما يؤيد الحديث الصحيح الثابت عن فريعة بنت مالك.
وأما قولكم: آية البقرة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، فقد ذكرت الزمان (أي مدة العدة)، لا المكان (أي مكان قضائها)، فلا يصح أيضًا الاستدلال بذلك؛ إذ إن السنة مبينة للقرآن، والصحابة أفهم منا لتلك الآيات والمراد بها، وقد جاءت السنة بوجوب لزوم الأرملة بيتها فترة العدة، وهو ما فهمه الصحابة من الآيات.
وأما قولكم: (إن الآية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ناسخة لوجوب لزوم المتوفى عنها زوجها البيت) فغير مسلم؛ فإن الآية لم تتعرض لهذا؛ بل نسخت حكمًا آخر.
قال ابن القيم: «وهو استحقاقها للسكنى في بيت الزوج الذي صار للورثة سنة وصية، أوصى الله بها الأزواج، تقدم به على الورثة، ثم نسخ ذلك بالميراث، ولم يبق لها استحقاق في السكنى المذكورة، فإن كان المنزل الذي توفي فيه الزوج لها أو بذل الورثة لها السكنى لزمها الاعتداد فيه، وهذا ليس بمنسوخ، فالواجب عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، فالذي نسخ إنما هو اختصاصها بسكنى السُّنَّة دون الورثة، والذي أمرت به أن تمكث في بيتها حتى تنقضي عدتها، ولا تنافي بين الحكمين»(6).
وقد يجاب عليه بأن يقال: قوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إنما هو بعد الأربعة أشهر والعشر جمعًا بين النصوص، وقد ألمح الشوكاني إلى هذا الوجه فقال: «وأجيب عن الاستدلال بحديث ابن عباس بأن نسخ بعض المدة إنما يستلزم نسخ نفقة المنسوخ وكسوته وسكناه دون ما لم ينسخ، وهو أربعة أشهر وعشر»(7).
وأما تضعيفكم حديث الفريعة بنت مالك: «امكثي في بيت زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله»، واستدلالكم بما ورد عن ابن عباس فمردود؛ لأن الحديث صحيح، ويتعين الأخذ به، والحجة فيه لا في غيره، وقد عمل به جل الصحابة والتابعين ومن بعدهم(8)، ولا حجة في مخالفة واحد أو اثنين أو أكثر، كما لا يلزم مع ثبوت السنة حصول الإجماع.
وما أحسن ما ذكره ابن عبد البر في هذا المقام؛ إذ يقول: «أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة»(9).
وكذلك قال الشوكاني: «وحديث فريعة لم يأتِ من خالفه بما ينتهض لمعارضته؛ فالمتمسك به متعيّن، ولا حجة في أقوال أفراد الصحابة»(10).
وأما قولكم: تبقى الحجة في إذن النبي صلى الله عليه وسلم لزوجات شهداء أحد بالخروج من بيوتهم ليواسي بعضهن بعضًا، مع عدم تقييد ذلك، وهو أيضًا ما ورد عن ابن عباس وعلي وعائشة من الصحابة.
فقد أجاب عنه العلماء أيضًا، فقال صديق حسن خان: «... وقد ذهب إلى العمل بحديث فريعة جماعة من الصحابة فمن بعدهم، وقد روى جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، ولم يأت من أجاز ذلك بحجة تصلح لمعارضة حديث فريعة، وغاية ما هناك روايات عن بعض الصحابة وليست بحجة، لا سيما إذا عارضت المرفوع، وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلًا أن رجالًا استشهدوا بأحد، فقال نساؤهم: «يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا، أفنبيت عند إحدانا؟»، فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها، وهذا مع إرساله لا تقوم به الحجة»(11).
وقد علق الشيخ الألباني على ذلك فقال: «هناك آثار أخرى عن ابن عمر وغيره مخالفة لها وموافقة للمرفوع، رواها عبد الرزاق في المصنف (7/ 29-26)(12)، وهذا المرفوع الآتي عن مجاهد يشير إلى الحديث الذي أخرجه الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلًا أن رجالًا استشهدوا بأحد، فقال نساؤهم: «يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا، أفنبيت عند إحدانا؟»، فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها...، وهذا مع إرساله فيه عنعنة ابن جريج، ومن المعلوم أن الآثار إذا اختلفت فالأخذ بما وافق منها الحديث المرفوع، ولا سيما إذا جرى العمل عليها، فقد قال ابن عبد البر في حديث فريعة: استعمله أكثر فقهاء الأمصار»(13).
وأما ما روي عن علي بن أبي طالب أن النبي أمر المتوفى عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت، فقد قال الدارقطني: «لم يسنده غير أبي مالك، وهو ضعيف»، وقال ابن القطان: «ومحبوب بن محرر أيضًا ضعيف، وعطاء مخلط، وأبو مالك أضعفهم»(14).
وحاصل ما تقدم:
أولًا: أن آية عدة الوفاة في سورة البقرة جاءت لتبطل عادة من عادات العرب في الجاهلية؛ حيث كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولًا كاملًا محدة، لابسة شر ثيابها، متجنبة الزينة والطيب، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة، وشرع عدة الوفاة {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، والإحداد على غير الزوج ثلاثة أيام فقط.
ثانيًا: أنه يجب على المعتدة من وفاة زوجها لزوم بيتها الذي فارقها زوجها وهي فيه، ويستثنى من هذا الحكم الخروج للحاجة أو للضرورة، وعلى هذا عامة أهل العلم، من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم من الفقهاء، وهو ظاهر الأدلة والنصوص، ولا عبرة بمخالفة هذا الاتفاق من عدة أفراد.
وعليه، فيجوز للمعتدة من وفاة زوجها أن تخرج من بيتها لحاجة أو ضرورة، ولكن بشروط:
1- ألا تجد من يقضي عنها حاجتها.
2- أن يكون خروجًا يسيرًا بقدر العادة، من غير مبالغة ولا تطويل.
3- أن تأمن على نفسها.
4- أن يكون المكان الذي خرجت إليه قريبًا منها عرفًا.
قال ابن قدامة: «فإن خافت هدمًا أو غرقًا أو عدوًا أو نحو ذلك، أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية رجع فيها، أو بإجارة انقضت مدتها، أو منعها السكنى تعديًا، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به...»(15).
وأصل ذلك ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «طلقت خالتي، فأرادت أن تجد نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (بلى فجدي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي، أو تفعلي معروفًا)»(16).
قال الصنعاني: «ولا يخفى أن الحديث المذكور علل فيه جواز الخروج برجاء أن تصدق, أو تفعل معروفًا, وهذا عذر في الخروج، وأما لغير عذر فلا يدل عليه»(17).
وهذا بالتأمل هو الدين الوسط، الذي يقوم على الطاعة والانقياد والاستسلام للأمر، كما أنه في الوقت ذاته يراعي حاجات الناس ومصالحهم، وما فيه التيسير عليهم.
والله أعلى وأعلم، وله الحمد في الأولى والآخرة.
_______________
(1) انظر الفتوى على موقع الإمام ابن باز، وجاء في المغني، لابن قدامة: «وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارًا، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها، لما روى جابر قال: (طَلُقَتْ خالتي ثلاثًا فخرجَت تجذ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرًا»)» [رواه مسلم والنسائي وأبو داود]، وجاء في تحفة المحتاج (8/ 261-262): «ولها الخروج في عدة وفاة، وكذا بائن بفسخ أو طلاق في النهار لشراء طعام، وبيع أو شراء غزل ونحوه كقطن، ولنحو احتطاب إن لم تجد من يقوم لها بذلك، وذلك لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أذن لمطلقة ثلاثًا أن تخرج لجذاذ؛ أي قطاف، نخلها، وقيس به غيره، قال الشافعي رضي الله عنه: ونخل الأنصار قريب من دورهم، ويؤخذ منه تقييد نحو السوق والمحتطب بالقريب من البلد المنسوب إليها، وإلا فيظهر أنها لا تخرج إليه إلا لضرورة، ولا تكفي الحاجة، ومحله إن أمنت، وكذا لها الخروج ليلًا إلى دار جارة، بشرط أن تأمن على نفسها يقينًا، ويظهر أن المراد بالجار هنا الملاصق أو ملاصقة ونحوه، لغزل، وحديث، ونحوهما، لكن بشرط أن يكون زمن ذلك بقدر العادة، وألَّا يكون عندها من يحدثها ويؤنسها على الأوجه، وأن ترجع وتبيت في بيتها لإذنه صلى الله عليه وسلم في ذلك».
(2) وفي فتاوى إسلام ويب: «لا حرج في خروج المرأة الحادّة لقضاء حوائجها ومصالحها ما لم تخرج إلى معصية، وحضور زواج البنت من المصالح، وقد ذهب جمهور العلماء، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة، إلى أن للحادة الخروج من منزلها في عدة الوفاة نهارًا إذا احتاجت إلى ذلك، كما أنه يجوز في الليل أيضًا عند جمهور الفقهاء، إلا أنها لا تبيت إلا في بيتها».
(3) انظر: شرح زاد المستقنع، لابن عثيمين، بتصرف يسير.
(4) وتمام الحديث، كما في سنن أبي داود أن الفريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، قالت: «فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فخرجتُ حتى إذا كنت في الحجرة، أو في المسجد، دعاني، أو أمر بي فدُعيت له، فقال: (كيف قلت؟)، فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)، فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
(5) فائدة: اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن المرأة الحادة يجب عليها المبيت في منزل زوجها، إلى أن تنقضي عدتها، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
القول الثاني: أن المرأة الحادة تبيت حيث شاءت، ولا يلزمها المبيت في منزل زوجها، وهو اختيار البخاري، وقول الظاهرية، والزيدية، والإمامية من الشيعة. (انظر: ملتقى أهل الحديث، منتدى الدراسات الفقهية، عدة المتوفى زوجها في الحروب والتهجير).
(6) عون المعبود، وحاشية ابن القيم (6/ 291).
(7) انظر: نيل الأوطار (6/ 356)، وعلي أية حال فحتى على القول بأن ملازمة معتدة الوفاة بيت زوجها ليست مأخوذة من هذه الآية؛ لأن (التربص) في قوله سبحانه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} تربص بالزمان، لا يدل على ملازمة المكان، فليس في ذلك حجة لعدم الوجوب، قال ابن عاشور: «والظاهر عندي أن الجمهور أخذوا ذلك من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، فإن ذلك الحكم لم يقصد به إلا حفظ المعتدة، فلما نسخ عند الجمهور بهذه الآية كان النسخ واردًا على المدة وهي الحول، لا على بقية الحكم، على أن المعتدة من الوفاة أولى بالسكنى من معتدة الطلاق، التي جاء فيها: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1]، وجاء فيها {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق:6]». التحرير والتنوير (2/ 448).
(8) اعترض القائلون بعدم وجوب المبيت على الاستدلال بهذا الحديث لضعفه من وجهين:
الوجه الأول: لجهالة زينب بنت كعب بن عجرة.
الوجه الثاني: انفراد سعد بن إسحاق بن كعب برواية الحديث؛ لأنه لم يروه عن زينب غيره، وهو غير مشهور بالعدالة.
أما الإجابة عن الوجه الأول: فلا نسلم القول بأن الحديث ضعيف لجهالة زينب بنت كعب؛ لأن الأئمة احتجوا بحديثها وصححوه، فقد وثقها الترمذي، وذكرها ابن حبان في كتاب الثقات، وقد أجاب ابن القيم على علة جهالة زينب رضي الله عنها فقال: «فهذه امرأة تابعية كانت تحت صحابي، وروى عنها الثقات، ولم يطعن فيها بحرف، واحتج الأئمة بحديثها وصححوه...، ليس في هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة، التي تلقاها عثمان بن عفان وأكابر الصحابة بالقبول».
أما الإجابة عن الوجه الثاني: فلا نسلم القول بأن الحديث ضعيف لجهالة سعد بن إسحاق؛ لأنه غير مشهور بالعدالة، فقد وثقه النسائي، وابن حبان، ويحيى بن معين، والدارقطني، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، فالقول بأنه غير مشهور دعوى باطلة؛ لأنه قد روى عنه الأئمة الكبار، أمثال: سفيان الثوري، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد، وابن جريج، والزهري، وغير هؤلاء من الأئمة. (انظر: ملتقى أهل الحديث، منتدى الدراسات الفقهية، عدة المتوفى زوجها في الحروب والتهجير).
(9) نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 610).
(10) نيل الأوطار (6/ 355).
(11) الدراري المضية شرح الدرر البهية (2/ 238).
(12) قال ابن القيم: «... وقالت طائفة ثانية من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: تعتد في منزلها التي توفي زوجها وهي فيه، قال وكيع: حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب أن عمر رد نسوة من ذي الحليفة حاجات، أو معتمرات توفي عنهن أزواجهن، وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، أخبرنا حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كان عمر وعثمان يرجعانهن حاجات ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة...، وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم، أخبرنا يحيى بن سعيد هو الأنصاري أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب قالوا في المتوفى عنها: لا تبرح حتى تنقضي عدتها، وذكر أيضًا عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وجابر، كلاهما قال في المتوفى عنها: لا تخرج، وحجة هؤلاء حديث الفريعة بنت مالك، وقد تلقاه عثمان بن عفان رضي الله عنه بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول، ولم يعلم أن أحدًا منهم طعن فيه، ولا في رواته، وهذا مالك مع تحريه وتشدده في الرواية، وقوله للسائل له عن رجل: «أثقة هو؟» فقال: «لو كان ثقة لرأيته في كتبي» قد أدخله في موطئه، وبنى عليه مذهبه.
قالوا: ونحن لا ننكر النزاع بين السلف في المسألة، ولكن السنة تفصل بين المتنازعين، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: «أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة رضي الله عنها، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر»، يشير لأثر سالم أن ابن عمر قال: «لا تخرج المتوفى عنها في عدتها من بيت زوجها». انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 607)، والصفحات التي بعدها.
وعن نافع قال: «كانت بنت عبد الله بن عمر تعتد من وفاة زوجها، فكانت تأتيهم بالنهار فتحدث عندهم، فإذا كان الليل أمرها أن ترجع إلى بيتها»، وكذلك عن مجاهد أن نساءً من همدان نعي لهن أزواجهن، فسألن ابن مسعود رضي الله عنه فقلن: «إنا نستوحش»، فأمرهن أن يجتمعن بالنهار، فإذا كان الليل فلترجع كل امرأة إلى بيتها.
وهكذا، فمعظم الآثار المنقولة عن الصحابة تفيد أن المرأة الحادة يجب عليها أن تبيت في منزل زوجها.
(13) حاشية كتابه «التعليقات الرضية» (2/ 299).
(14) انظر: ملتقى أهل الحديث، منتدى الدراسات الفقهية، عدة المتوفى زوجها في الحروب والتهجير.
(15) المغني، لابن قدامة (8/ 159).
(16) صحيح مسلم (1483).
(17) سبل السلام (2/ 295)، وتمام عبارته: «فلا يدل عليه إلا أن يقال: إنما رجاء فعل ذلك، وقد يرجى في كل خروج في الغالب».