logo

ماذا لو أنَّ الابتعاد عن الناس لفترة هو الحل؟


بتاريخ : الخميس ، 21 رمضان ، 1441 الموافق 14 مايو 2020
ماذا لو أنَّ الابتعاد عن الناس لفترة هو الحل؟

كم مرةً شعرت بأنَّك تبتعد عن ذاتك، وأنَّك تولي اهتمامًا للآخرين، ولمشكلات الحياة وتفاصيلها؛ أكثر من اهتمامك بنفسك، وبرسالتك، وبقيمك وأهدافك؟ كم مرةً رغبتَ بالذهاب إلى مكانٍ بعيدٍ حيث لا أُناس يعرفونك فيه، ولا هواتفَ ذكيّةً تَرِن، ولا وسائل تواصل اجتماعي تلاحقك؟ مكانٌ بسيط يختصر الحياة، حيث البحر الهادئ، والتأمل الهادف. هنالك حيث يكون معك أشخاصٌ يحترمون خصوصيتك ومساحتك، فهم يُنشدِون السّلام والأمان والتفكُّر مثلك تماماً؛ مكانٌ تستطيع أن تنفرد فيه مع ذاتك، وأفكارك، وأعماقك، من دون أدنى تشويشٍ خارجي.

كم مرةً شعرت باستنزاف طاقتك اللازمة لمجاملة الناس والتعاطف معهم والإجابة عن تساؤلاتهم والقيام بزيارتهم في مناسباتهم كنوعٍ من الواجبات الاجتماعية، وأنَّك غير قادرٍ على الاستمرار في هذا الوضع؟ كم مرةً شعرت أنَّ تواصلك مع الآخرين يُشكِّل عبئاً عليك، وقيداً لحريتك، وسلاحاً فتاكاً لخصوصيتك؟ فماذا لو أنَّ الناس والبيئة المحيطة، يمتصّون طاقتك، ويشوِّشون رؤيتك، ويضيِّعون أحلامك؟ دعونا في هذا المقال، نكتشف الفوائد الرائعة الناتجة عن الابتعاد عن البشر لفترةٍ معينة.

لماذا نبتعد عن الناس؟ في وسطٍ غابَت فيه الخصوصية، وضاعَ فيه أدنى تقديرٍ للحظةِ أو لعفوية الموقف؛ إلى أن أصبح الناس يمتهنون التَّصنع والمجاملات، حتى أصبحت هي الأصل؛ بينما أصبحت العفوية والبساطة والصراحة، دخيلةً على العلاقات الاجتماعية، في وسطٍ يُقدِّر الشكل والقشور على حساب المضمون والجوهر، ويعشق التفاخر بالممتلكات العقارية والمجوهرات، لا بالممتلكات الفكرية والمبدئِية والقيمية، في وسطٍ تشوَّهت فيه معايير التَّقويم، حيث أصبح فيه الإنسان ذو القلب الطيب والنية الحسنة: "ساذجاً"، والآخر الاستغلاليَّ: "ذكياً وعملياً"، في وسطٍ كهذا، ستشعر -حُكمًا- أنَّ طاقتك تخور، وأنَّ أهدافك أصبحت ضبابية، وأنَّ بوصلتك قد خضعت للتشويش، وأنَّ مبادئك قد أصابتها الزعزعة؛ فتلجأ إلى حماية نفسك لأنَّك تعلم علم اليقين أنَّك على صواب، وأنَّ قيمك تستحق النضال من أجلها، فهي مُستمدةٌ من ربِّ العالمين - من خلال الابتعاد عن الناس واللجوء إلى اللّه؛ المصدر الحقيقي للطاقة، والخير، والسلام.

ما هي فترة الابتعاد عن الناس؟ تُعرَّف فترة الابتعاد عن الناس على أنَّها: فترةٌ لا يتكلَّم فيها الشخص مع الناس مطلقًا، كأن يكون في مكانٍ معزولٍ عنهم؛ أو أن يكون معهم ولكن لا يحادثهم، ويستخدم معهم لغة الإشارة عند الضرورة.

وبالتأكيد يكون معزولاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، وأقلُّ مدةٍ زمنيةٍ لهذه الفترة هي 3 أيام، وقد تمتد إلى 40 يوم يكون كلام الشخص خلالها مع الله، بحيث يُحادِثه بقلبه وليس بصوتٍ عالٍ؛ إذ لا يجب تحريك الحنجرة خلال هذه الفترة؛ لأنَّ طاقة الصمت المُطلق قويةٌ جداً.

سنعرف فوائدها الآن، لكن علينا بدايةً التفريق بين الابتعاد عن الناس بوعيٍ وإدراكٍ بهدف التقرب من الله، وإزالة التشويش الحاصل للإنسان؛ وبين العزلة الناتجة عن الاكتئاب، والتي تكون عزلةً سلبيةً تُركِّز على المشكلات والمشاعر السلبية.

يجب على الشخص الذي سيقرِّر اختبار هذه التجربة، إبلاغ المقرَّبين له بالأمر، وغايته؛ كيلا يتعرَّض إلى شكلٍ من أشكال السخرية أو التَّهكم.

 فوائد الابتعاد عن الناس لفترة معينة:

1. التَّعرف على الله تعالى عن قرب: هل تساءلتم مرةً من أين أتينا بمعلومات حياتنا وقوانينها؟ الجواب أنَّنا أتينا بقوانين الحياة من أشخاص، هؤلاء الأشخاص قرءوا كتاب اللّه وفسَّروه، وقاموا بصوغ القواعد بناءً عليه. لكنَّ السؤال هنا، أليس الأجدر بنا أن نقرأ نحن كتاب الله بتفكّرٍ، وأن نستنبط قوانين الحياة بأنفسنا، ونستخرج طريق الوصول إلى السعادة والمتعة الحقيقية، عوضًا عن جعل الآخرين يُملون علينا ما نفعل؟ إنَّ فترة الابتعاد عن الناس والخلوة مع الله؛ ستمنحك هذه المتعة، متعة الاكتشاف ومتعة التعرُّف على خالقك بدون وسيطٍ أو شريكٍ.

2. تهدئة العقل، وتنشيط الجزء من الدماغ المسؤول عن الإبداع والابتكار: لابدَّ أنَّك تُلاحظ أنَّ عقلك مُتعب، وأنَّ إبداعك مُقيَّد؛ فنحن في عصرٍ سريع، ومُتقلِّب، ومُسيطرٍ على لاوعيك وإدراكك؛ لذلك، إنَّ الابتعاد عن كلِّ شيءٍ لفترة، والتواصل مع الله فقط؛ سيُنشِّط الجزء المسئول عن الإبداع والابتكار في دماغك. نعم، ستصل إلى مستوى وعيٍ أعلى، وستُدرِك الحياةَ من منظورٍ مختلف، وستُلهَم بأفكارٍ إبداعيةٍ خلاقة، ستبتكر حلولاً لمشكلاتٍ عالقةً في حياتك، وستقضي على الروتين والجمود في كلِّ نواحيها.

3. كسر سيطرة الشهوة والجسد، والتَّدرب على التَّحكم في الألفاظ واختيارها: تتحكَّم أجسادنا بالكثير من تصرفاتنا وكلماتنا، وكأنَّنا أسرى أجسادنا؛ ففي كثيرٍ من المرات، يخرج لساننا عن السيطرة، ونبدأ بانتقاد الآخر وتوجيه التُّهم والكلمات الجارحة له، دون أيِّ قدرةٍ على التحكم بانفعالاتنا. تمنحنا فترة التواصل مع الله، والابتعاد عن الناس؛ عمقاً مختلفاً، فنغدو أكثر اتزاناً، وهدوءًا، وتحكماً بانفعالاتنا، وانتقاءً لألفاظنا.

4. التَّعرُّف على النفس بعمقٍ، وافساح المجال للتفكُّر والتأمل: يقع الكثير من الأشخاص ضحية الموروثات الخاطئة القائلة بضرورة جهاد النفس، والتي تُعِدُّ النفس البشرية أمراً سلبياً يجب كبته ومحاربته.

في الحقيقة: إنَّ النفس البشرية أرقى شيءٍ على وجه الأرض، وعلى الإنسان أن يسعى في كلِّ يومٍ إلى تطويرها وترقيتها وسموها. فالإنسان الذي لا يُتقِن فنّ الإنصات إلى روحه، والغوص إلى أعماقها، ومواجهة مخاوفها وهواجسها، وتعظيم حسناتها؛ لن يعرفَ السلام الداخلي يوماً.

5. التّخِلي عن الأحمال الدنيوية المُرهقة: يعيش مجتمعنا اليوم حالةً إدمانيةً على وسائل التواصل الاجتماعي، ويرفض رفضاً قاطعاً الانفصال عن كلِّ ما هو ماديٌّ ودنيوي. فقد يُشكِّل الابتعاد عن الجهاز الخلوي لمدة يومين كاملين، انهياراً للكثير من الأشخاص. هناك الكثير من الناس يخافون البقاء مع أنفسهم، ويعملون جاهدين لكيلا يكونوا وحيدين. للأسف، لن تعرف هذه النماذج السعادة والاستمتاع بحياتها.

إنَّ الابتعاد عن كلِّ ما هو دنيوي لفترةٍ معينة، سيُقرّبك من نفسك أكثر، وسيُشعِرك بالراحة، ويُخفِّف الضغط عليك، ويمنحك شعوراً رائعاً بالحرية.

6. إيجاد الإجابات عن أسئلةٍ كبيرةٍ وهامّة جداً في حياتك: تكمنُ الأجوبة عن كلِّ الأسئلة المصيرية التي تتبادر إلى ذهنك في داخل نفسك؛ ولن تكتشفها إلا بالغوص إلى أعماق روحك. ولتعيش تجربة الغوص تلك، عليك أن تكون هادئاً، ومُتأمِّلاً، وفي قمة تركيزك، ومُبتعداً عن كلِّ شيء عدا الله؛ عندها فقط سيأتيك الوحي بالإجابات التي تريدها.

7. التخلّص من تأثير طاقة المحيطين السلبية: عندما تشحن نفسك على مدار ثلاث أيامٍ متتاليةٍ -على سبيل المثال- بطاقةٍ جبّارةٍ ناتجةٍ عن الاتصال القوي مع الله، ستكون عندها قوياً جداً، ولن تستطيع طاقة الناس السلبية المحيطة من التأثير عليك. فسيكون لديك مستوى أعلى من الوعي، والسلام الداخلي، والحكمة؛ بحيث تكون قادراً على تجاوز هفوات الناس، وتقبُّلِها. بالإضافة إلى ذلك، تمنحك الطاقة الجبارة قوةً ضد الحسد، أو أيِّ شيءٍ ماكر؛ لأنَّ طاقة الصمت لا تضاهيها طاقة، فالإنسان الذي يتعامل مع الطاقات السلبية (إهانات، إساءة، ...) بصمتٍ، يترك المجال لله لكي يتصرّف ويدافع عنه.

8. أكبر مُفجرٍ للثقة: يهتمّ ضعيف الثقة بنظرة الناس، فتجده يسعى جاهداً إلى كسب ثقتهم بكلِّ شيء؛ سواءً بشكله، أم لباسه، أم بطريقة تعامله معهم. تَهَبُ فترة الابتعاد عن الناس والتكلم مع الله فقط؛ الإنسان طاقةً رهيبة، وثقةً عالية بالنفس، ويغدو أهمّ شيءٍ لديه هو نظرة الله وليس نظرة الآخرين، وتمنحه هذه الفترة قدراتٍ مميزةً، ومهاراتٍ قياديةً عاليةً، بالإضافة إلى اكتشاف المعنى الحقيقي لوجوده ورسالته في الحياة.

9. الوصول إلى معنى الشهادة: عندما تتحاور مع نفسك وتبدأ بمراجعة أفعالك، وتسأل نفسك في كلِّ موقف: "مَن يحرّكني؟ هل الله وقيمي أم الشهوة والأهواء؟" عندها ستصل إلى المعنى الحقيقي للشهادة. فالشهادة الحق: فعلٌ، وليست مجرد لفظ.

10. تفجير طاقة الحياة، والتحفيز على الإنجاب: عندما تكون في أعلى اتصال مع الله، فستُشحَن بطاقةٍ كبيرةٍ قادرةٍ على إحياء ما مات منك، فبالنسبة إلى مَن يعاني من صعوباتٍ في الإنجاب، رجالاً أم نساءً، ستمنحهم هذه الطاقة القدرة على الإنجاب من جديد.

11. ضمان فعل الخير: بما أنَّ زمن المعجزات وَلَّى، ومادام أنَّ هناك حياةً، وأنَّ هناك طاقةً كونيّةً جبارة، فسيكون هناك إلهامٌ في كلِّ يومٍ، يُلهِمُ الأشخاص الصالحين لفعل الخير.

 

نصائح خلال فترة الابتعاد عن الناس: خلال فترة الابتعاد عن الناس، والتقرب إلى الله والتواصل معه وحده؛ عليكَ أن تتعامل مع كتاب الله بوعيٍّ كبير، وأن تُكلِّم الله طوال هذه الفترة ببساطةٍ وعفوية، وبلا تكلُّف، وأن يكون الحوار معه من دون صوت (أي بدون تحريك الحنجرة)، وألا تخجل من أن تُعرِّي ذاتك أمام خالقك، وأن تعترف أمامه بكلّ أخطائك، واعداً إيَّاه بالتحسين والتطوير، وبإمكانك استخدام البكاء كوسيلةٍ للتفريغ.

وعليك تذكُّر ماضيك، ومراقبة حاضرك، ووضع خطةٍ لمستقبلك. ولا تنسَ خلال تجربتك سؤالَ نفسك باستمرار، ومحاورتها دائماً؛ فهي الصديق الوفي، والطفل النّهِم إلى التعلُّم والتحسين. الخلاصة: لكي تصل إلى التوازن المطلق، عليكَ البدء بذاتك.

عليكَ الجلوس مع نفسك ومع خالقك لتعرف مَن أنتَ؟ ما هي رسالتك في الحياة؟ ما هدفك؟ وإلى أين تود الوصول؟ ما هي قيمك؟ وأين تكمن السعادة والمتعة؟ نعم، قد تستغرق الإجابة عن هذه الأسئلة الوجودية سنواتٍ طويلة، لكنَّ الأهمَّ أن تخطو الخطوة الأولى، وأن تُحدِّد بوصلتك.

نعم، ليس الأمر بهذه السهولة، لكنَّه أمرٌ يستحق كلَّ النضال والبحث والسعي والتأمّل من أجله، فهو الذي يعطي القيمة الحقيقية لحياتنا.

المصدر: موقع النجاح