logo

كيف ننتقي الرواحل


بتاريخ : الخميس ، 21 شوّال ، 1436 الموافق 06 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
كيف ننتقي الرواحل

الرواحل هم فرسان الدعوة الذين لا يترجلون، والأوفياء الصادقون الثابتون الذين لا يتلونون ولا يغدرون، والأبطال الشجعان الذين لا يترددون، والربانيون التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله.!

بهم يحفظ الله الدعوة والعمل الإسلامي، هممهم عند الثريا؛ بل أعلى، بواطنهم كظواهرهم؛ بل أحلى، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم ملائكة السماء.

صناعة الرواحل:

الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، وإذا كانت في جماعة الإبل تبينت وعرفت.

والرواحل: هم الرجال والأبطال والعلماء والدعاة وصناع الحياة؛ بل هم لب وروح وجوهر الحركة، والراحلة المفقودة التي تحمل أثقال السائرين إلى الله، إلى بلاد لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه!!

ذلك الفرد النشط الحي القوي الذي يأخذ على عاتقه المسئولية، ويعمل وفق طاقاته وإمكانيته في سبيل إحياء الأمة، ذلك الفرد الذي تصبح الفكرة همه؛ تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، الذي إن لم تكن لديه الوسائل الفعالة سعى في إيجادها، ولو كان أمرًا مستحيلًا، فهو يعيش من أجل عقيدته، ويرضى بكل أذى في سبيلها، ويبذل كل غال ورخيص.

إن النصوص وحدها لا تصنع شيئًا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلًا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا، لقد كان هدفه صلى الله عليه وسلم أن يصنع رجالًا لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبًا، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، لقد انتصر يوم صاغ من الإسلام شخوصًا، وحول إيمانهم بالإسلام عملًا، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفًا، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، إنما طبعها بالنور على صحائف القلوب، وصنع منهم قرآنًا حيًا يدب على الأرض.

روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الناس كالإبل المائة، لا تَكاد تجد فيها راحلة»(1).

قال الزهري: «فالمعنى لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئًا سهل الانقياد، وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه».

وقال القرطبي: «الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد، الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم، عزيز الوجود؛ كالراحلة في الإبل الكثيرة»(2).

وكان يقول بعض أرباب الحال: هذا زمان قحط الرجال، وروي أن سهلًا التستري خرج من مسجد ورأى خلقًا كثيرًا في داخله وخارجه، فقال: «أهل لا إله إلا الله كثير، والمخلصون منهم قليل»، وقد نبه سبحانه على هذا المعنى في آيات، منها قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، ومنها: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]، ومنها قوله تعالى في وصف السابقين المقربين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} [الواقعة:13-14].

وُصِف لابن شُبْرُمَةَ رجلٌ فقال: «ليس ذاك من الرواحل، إنما هو من الزوامل».

حاجة الدعوة إلى الرواحل:

فإن الدعوة إلى الله اليوم واجب الأمة الإسلامية جمعاء، كل حسب قدرته وإمكاناته، إلا عاجز معذور، ومع أهمية ذلك الواجب إلا أنك تلحظ لدى بعض المنتسبين للصحوة ضعف استشعار المسئولية، والغفلة عن استحضار ذلك الواجب، فلا يشعر بأنه مطالب بعينه بالنهوض بالأمة، ومداواة عللها، وتضميد جراحها، وتجد بعض من يتمنى أن توكل إليه المهام الدعوية، فإذا أوكلت إليه تراه لا يقوم بها خير قيام، ولا ينهض بها كما ينبغي! فتراه متراخيًا في إنجاز المهام، ضعيفًا في أداء الأعمال.

وتجد أعمالًا هامة معطلة؛ لأنه لا يصلح لها كثير من الناس، ينظر الدعاة إلى الله ويقلب أحدهم ناظريه فيمن حوله، ليجد من يقوم بالمهام الدعوية وينجزها بجد وعزم وإكمال، دون تراخ أو إخلال، فيرتد إليه البصر خاسئًا وهو حسير.

إن شكوى عمر رضي الله عنه: «اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة»، هي عين شكوى الدعاة إلى الله الآن؛ لأنها في وقتنا حقيقة واقعة ماثلة للعيان.

كثيرًا ما يمثل بعض المنتمين إلى الصحوة الإسلامية دور الغثاء، فـليس ضعف أمتنا بسبب قلة عددنا، ولكن بسبب الغثائية التي أنهكتها، وأصبحت تخدعنا عند الأزمات.

إن دعوتنا وأمتنا كما أنها بحاجة إلى العاملين إلا أنها بحاجة أشد إلى الجادين الكفء من العاملين، أولئك الذين عندهم من الإصرار على القيام بالأمر المنوط بهم، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة، المشمرين عن ساعد الجد إذا أوكلت إليهم الأعمال، أصحاب العمل النشيط الدءوب، أولئك الذين لا يعرفون إلا مبدأ العزم والفاعلية، فمهمتنا اليوم كبيرة.

تحتاج الدعوة الآن إلى أولئك الذين احترفوا إتقان الأعمال وأدمنوا إحسانها، تحتاج إلى أولئك الذين فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم مراده في حديث شداد بن أوس، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته»(3).

فكما أن هذا يعود على الذبيحة بتخفيف الألم، فإنه توجد قيمة أخرى كبيرة؛ وهي أن يتعود المسلم الإحسان، الأداء الحسن، الأداء الكامل، الأداء المتقن، الأداء الجميل.

إن الإسلام لا يكتفي بأداء الأعمال، كل الأعمال حتى الذبح والقتل، على أية صورة، وإنما يتطلب الإحسان في الأداء.

أهم صفات الرواحل:

1- القوة في أداء الأعمال والجدية في إنجاز المهمات:

علينا أن نكون كأبي دجانة حينما أخذ السيف أخذه بحقه، فقد قال صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «من يأخذ مني هذا؟» فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا، قال: «فمن يأخذه بحقه؟»، قال فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، قال: فأخذه ففلق به هام المشركين(4)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك القتال اليوم سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة أبو دجانة»(5).

هكذا كان السلف رضي الله عنهم حتى في عباداتهم، فهذا سعيد بن المسيب رحمه الله يقول: ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، وقال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجلٍ في الصلاة منذ خمسين سنة.

عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله»، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: «نعم»، قال: ائذن لي فلأقل، قال: «قل»، فأتاه، فقال له: وذكر ما بينهما، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة، وقد عنانا، فلما سمعه قال: وأيضًا، والله، لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفًا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد؟ قال: ترهنني نساءكم، قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم، قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة، يعني السلاح، قال: فنعم، وواعده أن يأتيه بالحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر.

قال: فجاءوا فدعوه ليلًا فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صوتًا كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة، ورضيعه، وأبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلًا لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء، فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل نزل وهو متوشح، فقالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه، قال: نعم فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود، قال: فاستمكن من رأسه، ثم قال: دونكم، قال: فقتلوه(6).

نحتاج إلى هذه القوة في تحمل أمانة الدعوة إلى الله، القوة في أداء الأعمال، أي أعمال، تلك القوة التي أرشدنا الله إليها في كتابه، فها هو يحيى عليه السلام يُنادى ليحمل الأمانة الكبرى بهذا النداء: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، نودي ليحمل العبء، وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع.

فينبغي على الفرد أن يضع طاقاته في أحسن حالاتها، وفي أقصى توترها {خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ}، ينبغي أن نتعلم الْكِتَابَ ونأخذ تعاليمه وندعو إليه {بِقُوَّةٍ}، بجد وحرص واجتهاد، فالله وهب يحيى {الْحُكْمَ صَبِيًّا}، وهبه الفهم، والعلم، والجد، والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه(7).

وهذه القوة وذلك العزم أمر به موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145]، بـجد وعزيمة وحزم، فإنه عليه السلام قد أنيط به تكوين شعب جديد بتربية جديدة شديدة، مخالفة كل المخالفة لما نشأ عليه من الذل والعبودية لفرعون وقومه، ومن الشرك والوثنية ومفاسدها، فإذا لم يكن المربي لهؤلاء القوم والمرشد لهم صاحب عزيمة قوية، وبأس شديد، وعزم ثابت، فإنه يعجز عن سياستهم وتربيتهم، ويفشل في تنفيذ مهمته ودعوته(8).

فأمر الدين والدعوة، خاصة بعد طول قهر وإبعاد، لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة، إنه عهد الله مع المؤمنين، وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق، وله تكاليف شاقة، نعم، ولكن هذه هي طبيعته، إنه أمر عظيم، أعظم من كل ما في هذا الوجود، فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة، المصمم على هذه التكاليف، ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة، ولا بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم، لا بد مع هذا من تذكر ما فيه، واستشعار حقيقته، والتكيف بهذه الحقيقة؛ كي لا يكون الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة(9).

تحتاج دعوتنا إلى ذلك العبد التقي، فمع كونه خفيًّا إلا أنه راحلة ضخمة، إنه ناجح في كل أعماله، ينجز أي عمل أوكل إليه، فإذا كان في الحراسة ملأ مكانه وسد ثغرتها، وإذا كان في الساقة سد ثغرتها.

تحتاج إلى ذلك الذي لا يعرف الرخاوة ولا التميع، ولا يعرف إلا الجد والقوة، أينما حل أفاد، وكل عمل أوكل إليه أنجزه، فارس في كل الميادين، لا يعرف الخلود إلى الراحة والدعة، يتحمل تبعات الدعوة وآلامها وثقلها، لا يكل ولا يمل، ولا يضعف ولا يستكين مهما كان العمل، ومهما كانت مشاقه وتكاليفه وتبعاته، هكذا الربانيون أتباع الأنبياء، وهذه هي صفتهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَان