logo

عوامل الانتصار على النفس


بتاريخ : الثلاثاء ، 10 ربيع الأول ، 1442 الموافق 27 أكتوبر 2020
بقلم : تيار الاصلاح
عوامل الانتصار على النفس

نفس الإنسان هي كيانه، وجوهر حياته، وهي دومًا توجهه وتخاطبه بعمل أشياء محددة، تكون إيجابية حينًا وسلبية حينًا آخر، وهنا يختلف النَّاس في طريقة تعاملهم مع نفوسهم، فمنهم من يطلق لها العنان وينقاد خلفها، فتضيع كل جهوده، ويفنى عمره وهو يلبي رغبات نفسه جميعها، ومنهم من يقود نفسه بدلًا من أن ينقاد خلفها متبعًا هواه، فنجده يقودها بحزم وحكمة في نفس الوقت.

الإنسان في صراع مع نفسه حتى ينتصر عليها أو تنتصر عليه، أو يبقى الصراع قائمًا والمعركة سجالًا، إلى أن يدركه الموت وهو على ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9- 10]، وإلى هذا المعنى يشير الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز، مجخيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه» (1).

والناس في معركة النفس أصناف ثلاثة:

1- صنف انتصرت عليهم أهواؤهم، فركنوا إلى الأرض وأخلدوا إلى الدنيا، وهؤلاء هم الكفرة ومن نهج نهجهم ممن نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ويصفهم في قرآنه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ علَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

2- وصنف يجاهدون أنفسهم، ويصارعون أهواءهم فينتصرون تارة وينهزمون أخرى، يخطئون فيتوبون، يعصون الله فيندمون ويستغفرون: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وهؤلاء أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (2).

3- والصنف الثالث: فهم أشد الأصناف علينا، فنقبل على أحدهم حتى ندرك حاجتنا منه ثم يفزع إلى الاستغفار فيُفسد به علينا ما أدركنا منه، فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك حاجتنا منه (3).

والانتصار على النفس علامة شجاعة وسمو ومروءة، وإذا كانت النفوس المستقيمة ترنو إلى الكمال والسمو وتبحث عن مسالكها، فإن الانتصار على النفس له علامات واضحة لا يخطئها النظر البصير، من أهمها ما يلي:

أولًا: العفو والتجاوز عن خطايا الآخرين؛ احتسابًا للأجر من الله تعالى، قال الله عز وجل: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134].

فالغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال، أو المعنوية كالشرف، فيزعجها إلى التشفي والانتقام، ومن أجاب داعي الغيظ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي; فلذلك كان من التقوى كظمه... والعفو عن الناس: هو التجافي عن ذنب المذنب منهم وترك مؤاخذته مع القدرة عليها، وتلك مرتبة في ضبط النفس والحكم عليها وكرم المعاملة قل من يتبوءها، فالعفو مرتبة فوق مرتبة كظم الغيظ، إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة (4).

ويدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [الشورى: 40] (5).

وإذا اجتمعت هذه الصفات في نفس سهل ما دونها لديها.

ثانيًا: حبس النفس على الطاعات، وفضائل الأعمال، وكريم الأخلاق، وحبسها عن المعاصي والدنايا، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

في حديث ابن مسعود: قلت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قال: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين» قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني (6).

فالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغيرها من العبادات فيها انتصار على ضعف النفس وهواها ورغائبها المنحرفة، وتربية لها كي تزكو إلى أعلى درجات المنزلة عند الله وعند الناس.

ثالثًا: مصاحبة الأخيار، فمصاحبة الأخيار مستحسنة مرغبًا فيها ومصاحبة الأشرار مستقبحة مرهبًا عنها، مصاحبة الأخيار تورث الخير ومصاحبة الأشرار تورث الشر؛ كالريح إذا هبت على الطيب عبقت طيبًا، وإن مرت على النتن حملت نتنًا.

وقيل: إذا جالست الحمقى علق بك من حماقتهم ما لا يعلق لك من العقل إذا جالست العقلاء; لأن الفساد أسرع إلى الناس وأشد اقتحام ما في الطبائع، والحاصل أن الصحبة تؤثر، ولذا قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال بعض العارفين: كونوا مع الله، فإن لم تقدروا أن تكونوا مع الله، فكونوا مع من يكون مع الله، وتفصيل هذه المسألة وتفصيل الخلطة والعزلة في الأحياء بطريق الاستقصاء (7).

وفي الصحيح: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحا خبيثة» (8)، عن أبي موسى: «مثل الجليس الصالح مثل العطار، إن لم يصبك منه، أصابك ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين، إن لم يحرقك بشرره، علق بك من ريحه» (9).

قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

رابعًا: الإيثار، فإفاضة الخير على الغير من أصدق الشواهد على الانتصار على النفس، كان أبو طلحة رضي الله عنه كان أكثر الأنصار بالمدينة مالًا؛ من نخل وكان أحب أمواله اليه بيرحاء فلما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (10).

خامسًا: التضحية والفداء لأجل الحق والخير، وقد سجلت حوادث التاريخ بمداد من ذهب الإعجاب مواقف التضحية والفداء، وموقف عمير بن الحمام الأنصاري يوم بدر حين قال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم»، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟»، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها»، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل (11).

سادسًا: الانتصار على النفس تربية للناس على البعد عن إيثار الدنيا، وحث لهم على التطلع إلى الآخرة، وفي عصرنا الحاضر يرضع الفرد حب الدنيا والتعلق بها والانتصار للنفس لا عليها في البيت وفي المدرسة وفي وسائل الإعلام المختلفة سلوكًا وقدوة، وإلا فأين حظ السلوك الراقي والقدوة المثلى في حياتنا ومناهجنا؟ وأين نحن من تضحيات الصحابة رضي الله عنهم؟

أين نحن من موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما صارع كافرًا تحداه في خضم المعركة فصرعه، وجثم على صدره ليقتله، فلما بصق الكافر في وجه أمير المؤمنين قام عنه وتركه؛ معللًا ذلك بأنه خشي أن يكون قتله له انتقامًا وانتصارًا لنفسه وليس في سبيل الله؟

هل أدركنا أهمية الانتصار على النفس وخطر الاستهانة بأمره، لأنه مفتاح الانتصار على الأعداء؟ وهل يستطيع هزيمة العدو من يعجز عن هزيمة فساد نفسه؟ وما أصدق القائل: اللهم اكفني نفسي أما أعدائي فأنا كفيل بهم، بل إنه حين يغلب أثر الانتصار للنفس ويخبو أثر الانتصار على النفس في المجتمع يفشو الوهن والمهانة وتضعف الهمم والتطلعات وتذهب البركة والثمرة، وتصبح الأمة خاملة الذكر والقدرات؟

عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (12).

العوامل المعينة للانتصار على النفس:

والعوامل المعينة على الانتصار على النفس ومجاهدتها كثيرة ومتنوعة، وهذا التنوع من فضل الله بلا ريب، ولعل من أهمها ما يأتي:

أولًا: مخالفة الهوى، والسعي الجاد في إصلاح النفس، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 43- 44]، ومُطْلِقُ الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلًا وإن كانت سببًا لأعظم الآلام عاجلًا وآجلًا، فللدنيا عاقبة قبل عاقبة الآخرة، والهوى يعمي صاحبه من ملاحظتها، والمروءةُ والدينُ والعقلُ ينهى عن لذة تعقب ألما، وشهوة تورث ندمًا.

ومن لا مروءة له، يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها؛ لضعف ناهي المروءة، فأين هذا من قول الشافعي رحمه الله تعالى: لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته.

وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرًا في الأحيان، غير أن العادة مقتضية ذلك، فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما تطالبه به العادة، ولو زال عنه رين الهوى لعلم أنه قد شقي من حيث قدر السعادة، واغتم من حيث ظن الفرح، وألم من حيث أراد اللذة، فهو كالطائر المخدوع بحبة القمح، لا هو نال الحبة، ولا هو تخلص مما وقع فيه (13).

إن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه، قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، وفي الحديث الصحيح المرفوع: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (14).

وإذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى؛ فإن الإمام المسلط القادر، لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه، والشابَ المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه، لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، والرجلَ الذي قلبه معلق بالمساجد، إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات، والمتصدقَ المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك، والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه، والذي ذكر الله عز وجل خاليًا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ، وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى.

وكلما تمرن على مخالفة هواه، اكتسب قوة إلى قوته.

ثانيًا: إصلاح الألسنة:

اللسان مغراف القلب، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير فقلت يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال لقد سألت عن عظيم وانه ليسير على من يسره الله عليه حتى قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله» فقلت له بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه فقال كف عليك هذا فقلت يا رسول الله وانا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم في النار، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (15).

إذا أراد الإنسان أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يثاب عليه فليتكلم؛ وإلا فليمسك عن الكلام سواء ظهر أنه حرام أو مكروه أو مباح، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه مندوبًا إلى الإمساك عنه مخافة أن ينجر إلى المحرم أو المكروه، وقد يقع ذلك كثيرًا قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] (16).

ثالثًا: المداومة على الاستغفار والتوبة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (17).

قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وعبر بلفظ بالوجدان هنا، لأن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه أولًا بكراهة الذنب وذهاب داعيته، ثم يجد بعد ذلك أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل الدّرن منها (18).

رابعًا: إيثار ما عند الله على ما عند الناس:

وأن يسعى الإنسان إلى إرضاع أطفاله هذا الإيثار مع لبن أمهاتهم، لأن آثاره عميقة في الفكر وفي السلوك، وفائدته عظيمة وهي أعظم من فائدة اللحم الذي يكسو العظام، قال الله تعالى في مدح المؤثرين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 8 - 12].

ولأهمية البيت والمدرسة ووسائل الاعلام في صياغة فكر وسلوك الفرد بحكم تأثيرهم القوي فيه فإن عليهم واجبًا في تأصيل خلق الإيثار ذاك الخلق الرفيع في النفوس، ولا سيما نفوس الناشئة والذي يمكن نقشه في صفحتها البيضاء كما ينقش في الحجر.

وهذا الواجب الخطير له جناحان:

الجناح الأول: تربية سلوك الناشئ وتعويده على محبة هذا الخلق الكريم، والحرص على الاتصاف والتخلق به، وتهذيب هذا السلوك إن شانه شيء من النواقص ليعود له صفاؤه.

والجناح الثاني: القدوة الحسنة، بأن يكون الوالدان والمعلم والإعلامي وكل من هو محل متابعة غيره قدوة حسنة لهذا الغير في الإيثار والخلق الحسن، وفي محاسبتهم لأنفسهم وانتصارهم عليها، فيظهر ذلك كله في سلوكهم وفي فكرهم وفي حوارهم مع غيرهم، ولكن في واقعنا أين هذا القدوة؟

خامسًا: المداومة على محاسبة النفس:

لأن الإنسان لا يحس بمرض قلبه ولا بفساد نفسه إلا عند محاسبتهما، فبالمحاسبة تظهر أعراض المرض والفساد ويسهل علاجهما العلاج الصحيح النافع، في حين أن الإعراض عن هذه المحاسبة يجعل الداء ينخر في الجسد والروح، لأن محاسبة الذات فيها خير الدنيا والآخرة، كما أن محاسبة الغير انتصار للنفس فيها تضييع الدنيا والآخرة.

والمحاسبة هي مفتاح الفوز على هوى النفس وشذوذها، وهي الصيانة الناجحة لفطرتها المستقيمة، وبسببها يجتمع العمل مع الاخلاص، واتقان الواجب مع الشعور بالتقصير، في حين أن الانتصار للنفس هو سبب بلاء العجب والغرور والهوى المتبع، وتزكية النفس التي نهى الله عن تزكيتها (19).

مقومات النصر في معركة النفس:

القلب: ما كان حيًا رقيقًا صافيًا صلبًا مشرقًا لقول علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه: إن لله تعالى في أرضه آنية وهي القلوب؛ فأحبها إليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها، ثم فسرها فقال: أصلبها في الدين، وأصفاها في اليقين، وأرقها على الإخوان، وقوله: قلب المؤمن يزهر، وقلب الكافر أسود منكوس (20).

والقرآن الكريم يصور قلوب المؤمنين فيقول: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال: 3]، بينما يصور قلوب الكافرين فيقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِالصُّدُورِ} [الحج: 46]، ويقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

العقل: ما كان بصيرًا، مدركًا، مميزًا، مقتبسًا العلوم التي بها ينال القرب من الله ويدرك عظمته وقدرته وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]، وقوله إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك، وقوله: ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى.

ولذلك دفع الإسلام إلى العلم والمعرفة، وإلى التفقه في الدين، ليأخذ العقل من الأسباب ما يستعين به على التمييز بين الخير والشر والحق والباطل، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» (21)، وقال: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (22)، كل ذلك لما للعلم من قيمة وأثر في تعميق الإيمان في النفوس وفي تعريف الإنسان على حقائق هذا الكون.

فعقل المؤمن عقل واع يميز بين الخير والشر، والحلال والحرام، والمعروف والمنكر لأنه ينظر فيه بنور الله من وراء ستر رقيق: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40]، ونور العقل لا يطفئه إلا المعاصي والدوام عليها والمجاهرة بها وعدم التوبة منها.

وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لما دخلت على عثمان رضي الله عنه، وكنت قد لقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزرًا، وتأملت محاسنها، فقال عثمان لما دخلت: يدخل أحدكم وأثر الزنا على عينيه، أما علمت أن زنا العينين النظر؟ لتتوبن أو لأعزرنك؟ فقلت: أوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة (23).

التحصن من مداخل الشيطان:

ومن التوجيهات التي أكد عليها الإسلام لاتقاء سهام إبليس ومكائده ذكر الله تعالى في بدء كل عمل، ومن التحصن محاذرة الشبع والتخمة وإن كان حلالًا صافيًا لقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].

ومنها قراءة القرآن وذكر الله تعالى والاستغفار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «ما من مولود إلا على قلبه الوسواس، فإن ذكر الله خنس، وإن غفل وسوس وهو قوله تعالى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] (24).

ومنها دفع العجلة والتثبت من الأمور ابن القيم: إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور وتمنع الخيور، وهي متولدة بين خلقين مذمومين؛ التفريط والاستعجال قبل الوقت، قال الحرالي: والعجلة فعل الشيء قبيل وقته (25).

وصدق الله تعالى حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ الله فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] (26).

مصالحةُ النفسِ:

هذا الأمرُ له دورٌ عميقُ الأثرِ في تغييرِ حياةِ الأفرادِ للأفضل، فأن تصالح نفسك أن تهذبها، تخلصها من الأمراضِ البشريةِ كالحسدِ والحقدِ والكراهيةِ والبغضاءِ، الاعترافُ بالأخطاءِ أمرٌ يساعدك على التَّخَلُّصِ من عيوبك وضبط المشاعر بكل سهولة، استخدام أُسلوبِ النقدِ البناء مع النفسِ لسد الثغرات بإصلاحها، وليس اتخاذها كنقطةِ ضعفٍ ولوم النفسِ والدخول في دوامة اليأس، كما يجبُ وضعُ النفس في أصحِّ الأماكن، كعَدَمِ تعظيمِ الأمورِ، وعَدَمِ تجاهلها أيضًا، وغيرها الكثير من السبلِ التي من الممكن أن تأخذ بيدك لإصلاح الذات ومصالحتها.

______________

(1) أخرجه مسلم (144).

(2) أخرجه ابن ماجه (4251).

(3) كيف تنتصر على نفسك/ منهل الثقافة التربوية.

(4) تفسير المنار (4/ 110- 111).

(5) تفسير السعدي (ص: 148).

(6) أخرجه البخاري (527).

(7) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/3136- 3137).

(8) أخرجه البخاري (2101).

(9) أخرجه ابن حبان (579).

(10) أخرجه البخاري (1461).

(11) أخرجه مسلم (1901).

(12) أخرجه أبو داود (4297).

(13) 38 ثمرة لمخالفة الهوى/ صيد الفوائد.

(14) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(15) أخرجه الترمذي (2616).

(16) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 68).

(17) أخرجه البخاري (6307).

(18) تفسير المراغي (5/ 150) بتصرف.

(19) الانتصار على النفس والانتصار للنفس!/ الجزيرة.

(20) إحياء علوم الدين (3/ 10).

(21) أخرجه البخاري (71).

(22) أخرجه الترمذي (2685).

(23) إحياء علوم الدين (3/ 25).

(24) أخرجه الحاكم (3991).

(25) فيض القدير (3/ 278).

(26) كيف تنتصر على نفسك/ منهل الثقافة التربوية.