دعاة في ميزان التاريخ
الحسن البصري
ولد الحسن البصري في المدينة (21هـ)، وكان أبوه من أهل بيسان، فسبي، فهو مولى الأنصار.
وولد في خلافة عمر، وحنكه عمر بيده، وكانت أمه تخدم أم سلمة، فربما غابت فتعطيه أم سلمة ثديها فتعلله به إلى أن تجيء أمه، فيدر عليه ثديها فيشربه، فكانوا يقولون: فصاحته من بركة ذلك، فجلت به الحكمة والعلوم.
حسن الخلقة والخلق، قوي الجسد، فصيح بليغ، صادع بالحق، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، واعظ مؤثر، وعالم متبحر، شجاع مقدام، حسن الثياب والزينة، جيد الطعام واللباس، زاهد عابد، خائف متقشف، أثنى عليه العلماء بالغ الثناء.
مرب حكيم، صاحب أخبار ومناقشات، مهتم بالعربية، حاكٍ لأشياء من التاريخ، قاوم الشرك بأنواعه.
نشأ بين الصحابة رضوان الله عليهم؛ مما دفعه إلى التعلم من الصحابة والرواية عنهم، وعاش بين كبارهم؛ كعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وروى عن عمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب، وأبي بكرة الثقفي، والنعمان بن بشير، وجابر، وجندب البجلي، وابن عباس، وعمرو بن تغلب، ومعقل بن يسار، والأسود بن سريع، وأنس بن مالك، وروى عن عدد كبير من الصحابة.
وعن أبي بردة قال: ما رأيت أحدًا أشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الشيخ، يعني الحسن.
وعن حميد بن هلال قال: قال لنا أبو قتادة العدوي: الزموا هذا الشيخ، فما رأيت أحدًا أشبه بعمر رضي الله عنه منه، يعني الحسن.
عبادة الحسن البصري وعلمه:
كان الحسن البصري صوامًا قوامًا، يقول ابن سعد عنه: كان الحسن جامعًا عالمًا عاليًا رفيعًا، ثقة مأمونًا، عابدًا ناسكًا، كبير العلم، فصيحًا جميلًا وسيمًا، وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسن حجة، وقدم مكة فأجلسوه على سرير، واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان فيمن أتاه مجاهد وعطاء وطاوس وعمرو بن شعيب، فقالوا أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط(1).
وكان أنس بن مالك يقول: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا.
قيل ليونس بن عبيد: أتعرف أحدًا يعمل بعمل الحسن؟ فقال: والله، لا أعرف أحدًا يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله، ثم وصفه فقال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلّا له.
عن خالد بن صفوان قال: لقيت مسلمة بن عبد الملك بالحيرة بعد هلاك ابن المهلب، فقال: يا خالد، أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قال: قلت: أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في حلقته وحديثه، وأعلم من قبلي به، كان أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبه قولًا بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام بأمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، وجدته مستغنيًا عن الناس، ووجدت الناس محتاجين إليه(2).
وقال أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النساك: كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن، ويسمعون كلامه، ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله، لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان غيرها تبرم به وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر، فأما حلقته في المسجد فكان يمر فيها الحديث والفقه وعلم القرآن واللغة وسائر العلوم، وكان ربما يُسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، وكان منهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة، ومنهم من يصحبه للإخلاص، وعلم الخصوص؛ كعمرو بن عبيد، وأبي جهير، وعبد الواحد بن زيد، وصالح المري، وشميط، وأبي عبيدة الناجي، وكل واحد من هؤلاء اشتهر بحال، يعني في العبادة(3).
وعن بكر بن عبد الله المزني قال: من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن،
وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام.
خوف الحسن البصري وخشيته:
ومما يعرف عن الحسن البصري شدة خوفه وخشيته لله، ومن ذلك ما رواه حميد الطويل قال: خطب رجل إلى الحسن فكنت أنا السفير بينهما، قال: فكأن قد رضيه، فذهبت يومًا أثني عليه بين يديه، فقلت: يا أبا سعيد، وأزيدك أن له خمسين ألف درهم، قال: له خمسون ألفًا ما اجتمعت من حلال، قلت: يا أبا سعيد، إنه ما علمت لورع مسلم، قال: إن كان جمعها من حلال فقد ضن بها عن حق، لا والله، لا يجري بيننا وبينه صهر أبدًا.
وعن علقمة بن مرثد في ذكر الثمانية من التابعين قال: وأما الحسن فما رأينا أحدًا أطول حزنًا منه، ما كنا نراه إلا حديث عهد بمصيبة.
ويقول يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما، وعن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي.
الجرأة في قول الحق:
مر ببعض القراء على أبواب بعض السلاطين فقال: أفرختم حمائمكم، وفرطحتم بغالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم، أما إنكم لو جلستم في بيوتكم حتى يكونوا هم الذين يتوسلون إليكم لكان أعظم لكم في أعينهم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم.
لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك؛ استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي فقال لهم: إن يزيد خليفة الله، استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون؟ فقال ابن سيرين والشعبي قولًا فيه تقية، فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكًا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده؛ فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي لابن سيرين: سفسفنا له فسفسف لنا(4).
وكان الحسن ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: انصحني، فكتب إليه: إن الذي يصحبك لا ينصحك، والذي ينصحك لا يصحبك.
وعن حمزة الأعمى قال: ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت: يا أبا سعيد، ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنت أختلف إليه، فقال لي يومًا: يا بني، أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابك في ساعات الخلوة لعل مولاك يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين، قال: وكنت أدخل عليه منزله وهو يبكي، وآتيه مع الناس وهو يبكي، وربما جئت وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه، قال: فقلت له يومًا: يا أبا سعيد، إنك لتكثر من البكاء، قال: فبكى، ثم قال: يا بني، فما يصنع المؤمن إذا لم يبك، يا بني، إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت ألَّا تكون عمرك إلا باكيًا فافعل؛ لعله يراك على حالة فيرحمك بها، فإذا أنت قد نجوت من النار(5).
وروي عن الحسن أنه مر بقوم وهم يضحكون، فقال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون.
كان الحسن البصري أشجع أهل زمانه، كما يقول هشام بن حسان، وكان جعفر بن سليمان يقول: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقدمه.
استغناؤه عن الناس:
كان الحسن البصري من الزاهدين حقًا، فهو الذي زهد فيما عند الملوك فرغبوا فيه، واستغنى عن الناس وما في أيديهم فأحبوه، فعن يونس بن عبيد قال: أخذ الحسن عطاءه فجعل يقسمه، فذكر أهله حاجة فقال لهم: دونكم بقية العطاء، أما إنه لا خير فيه إلا أن يصنع به هذا.
قال قتادة: دخلنا على الحسن وهو نائم وعند رأسه سلة، فجذبناها فإذا خبز وفاكهه، وجعلنا نأكل، فانتبه فرآنا، فسره فتبسم وهو يقرأ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النور:61].
وعن جرير بن حازم قال: كنا عند الحسن وقد انتصف النهار وزاد، فقال ابنه: خفوا عن الشيخ فإنكم قد شققتم عليه، فإنه لم يطعم طعامًا ولا شرابًا، قال:مه، وانتهره، دعهم، فوالله، ما شيء أقر لعيني من رؤيتهم أو منهم، إن كان الرجل من المسلمين ليزور أخاه فيتحدثان، ويذكران، ويحمدان ربهما حتى يمنعه قائلته.
ولقي الحسن بن أبي الحسن البصري بعض إخوانه، فلما أراد أن يفارقه خلع عمامته فألبسه إياه وقال: إذا أتيت أهلك فبعها، واستنفق ثمنها.
وعن الحسن البصري: إن المؤمن، والله، ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه.
ولما ولي الحجاج بن يوسف الثقفي العراق، وطغى في ولايته وتجبر، كان الحسن البصري أحد الرجال القلائل الذين تصدوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، فعَلِمَ الحجاج أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجاج إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلَّاسه: تبًّا لكم، سحقًا، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، والله، لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفًا بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمر، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسن، فشخصتْ نحوه الأبصار، ووجفت عليه القلوب، فلما رأى الحسن السيف والنطع والجلاد حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلال المؤمن، وعزة المسلم، ووقار الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاج على حاله هذه هابه أشد الهيبة، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا، فما زال يوسع له ويقول: ها هنا، والناس لا يصدقون ما يرون، طُلب ليقتل، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز، وكل شيء جاهز لقطع رأسه، فكيف يستقبله الحجاج، ويقول له: تعال إلى هنا يا أبا سعيد، حتى أجلسه على فراشه، ووضعه جنبه، ولما أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجاج، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسن يجيبه عن كل مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية، نوع من أنواع الطيب، وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه، ولما خرج الحسن من عنده تبعه حاجب الحجاج، وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإني رأيتك عندما أقبلت ورأيتَ السيف والنطع قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت؟ فقال الحسن: لقد قلت: يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردًا وسلامًا عليَّ، كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم(6).
وخرج الحسن من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب فقال: ما يجلسكم ها هنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء، أما والله، ما مجالستهم مجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فرطحتم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجززتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم الله، والله، لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم، أبعد الله من أبعد(7).
الدنيا في نظر الحسن:
ذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمي قليلًا مخافة ما يكره طويلًا، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة، التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد، فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغصته وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرًا ولم يضرب لها مثلًا لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ، وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختيارًا، وبسطها لأعدائه اغترارًا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله حين شد الحجر على بطنه(8).
وقال الحسن أيضًا: إن قومًا أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها.
قيل له: ألا ترى كثرة الوباء، فقال: أنفق ممسك، وأقلع مذنب، واتعظ جاحد.
قيل للحسن: إن فلانًا اغتابك، فبعث إليه طبق حلوى، وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك بهذا.
وكان يقول: نضحك ولعل الله قد اضطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئًا.
نظر إلى جنازة قد ازدحم الناس عليها فقال: ما لكم تزدحمون، ها تلك هي ساريته في المسجد، اقعدوا تحتها حتى تكونوا مثله.
وقال له رجل: إن قومًا يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلًا، فقال:هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطعمتها في النجاة من النار فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلًا، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
وعن حميد قال: بينما الحسن في المسجد تنفس تنفسًا شديدًا، ثم بكى حتى أرعدت منكبًا، ثم قال: لو أن بالقلوب حياةً، لو أن بالقلوب صلاحًا لأبكتكم من ليلة صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر من عورة بادية، ولا عين باكية من يوم القيامة.
جاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي: حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك.
قال الحسن: يا ابن آدم، عملك فإنما هو لحمك ودمك، فانظر على أي حال تلقى عملك، إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق وسعة الخلق مما يقرب إلى الله عز وجل، يا ابن آدم، إنك ناظر إلى عملك، يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئًا وإن هو صغر، فإنك إذا رأيته سرك مكانه، ولا تحقرن من الشر شيئًا فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، فرحم الله رجلًا كسب وأنفقه قصدًا، وقدم فضلًا ليوم فقره وفاقته، هيهات هيهات، ذهبت الدنيا، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، وأنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون؟ إنه لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم، يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا(9).
قال الحسن البصري: أيسر الناس حسابًا يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا، فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي هموا به لهم مضوا، وإن كان عليهم أمسكوا.
قال: وإنما يثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا، أخذوها من غير محاسبة، فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر، وقرأ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].
قال الحسن: قدم علينا بشر بن مروان، أخو الخليفة، وأمير المصريين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يومًا، ثم طعن في قدميه فمات، فأخرجناه إلى قبره، فلما صرنا إلى الجبَّان [المقبرة]، إذ نحن بأربعة سودان يحملون صاحبًا لهم إلى قبره، فوضعنا السرير عن الجنازة فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه، نحن في مكان وهم في مكان آخر في المقبرة، ثم حملنا بشر بن مروان إلى قبره، وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودَفَنَّا بشرًا، ودفنوا صاحبهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفتُ التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئًا قط كان أعجب منه(10).
روى أبو عبيدة الناجي أنه سمع الحسن يقول: يا ابن آدم، إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيبًا إلا وجدت عيبًا آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك.
وقال أيضًا: إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله، إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله، ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا؟ والله، لا أعود لهذا أبدًا إن شاء الله، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى إلى فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه .
لله ما أطهر هذه القلوب!، ولله ما أزكى هذه النفوس!، بالله عليك قل لي: هل أرواحهم خلقت من نور أم أطلعوا على الجنة وما فيها من الحور، أو عايشوا النار وما فيها من الدثور، أم إنه الإيمان يكسى ويحمل فيكون كالنور {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
وفاة الحسن البصري:
قال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائرًا آخذًا أحسن حصاه في المسجد، فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن، قال: فلم يلبث إلا قليلًا حتى مات.
ومات الحسن ليلة الجمعة، وغسله أيوب وحميد، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصل في جامع البصرة، وكان مماته سنة عشر ومائة، وعمره تسع وثمانون سنة، وقيل ست وتسعون سنة.
قال هشام بن حسان: كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس، فدخل عليه رجل بعد العصر فقال: مات الحسن، فترحم عليه محمد وتغير لونه، وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم.
قال ابن علية: مات الحسن في رجب سنة عشر ومائة، وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحوًا من ثمان وثمانين سنة، وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة، صلوا عليه عقيب الجمعة بالبصرة، فشيعه الخلق وازدحموا عليه، حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع، ويروى أنه أغمي عليه ثم أفاق إفاقة فقال: لقد نبهتموني من جنات وعيون، ومقام كريم.
إن وجود الدعاة في المجتمع رحمة لهذا المجتمع من عدة جهات:
أولًا: أنهم من أسباب رفع العذاب عنهم: إذا وجد الصالحون والمصلحون في مجتمع فهم من أسباب رفع العذاب عن المجتمع.
ثانيًا: بهم يرزقون، وبهم يمطرون.
ثالثًا: هم مصدر العلم، ومنهم يتعلم الجهَّال.
رابعًا: هم مصدر الوعظ الذين يعظون الغافلين.
خامسًا: هم مصدر القدوة.
سادسًا: تنصلح أحوال الناس بمخالطتهم.
ولذلك كلما كثروا في المجتمع كان دليلًا على صلاح المجتمع وصحته، وإذا قلوا أو انعدموا فهذا دليل على مرض هذا المجتمع أو موته.
***
_________________
(1) الطبقات الكبرى، لابن سعد (7/ 161).
(2) سير أعلام النبلاء، للذهبي (4/ 576).
(3) المصدر السابق (4/ 579).
(4) وفيات الأعيان، لابن خلكان (2/ 71).
(5) تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن المزي (6/ 115).
(6) فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، محمد نصر الدين عويضة (1/ 668).
(7) سير أعلام النبلاء (4/ 586).
(8) نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري (5/ 250).
(9) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم (2/ 143).
(10) الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، د. علي الصلابي (2/ 281).