كيف ندعو إلى الله؟
إن الدعوة إلى الله أمر لازم، على المسلمين في كل زمان ومكان، والمسلم هو الوارث الحقيقي الوحيد للرسالات السماوية عامة ورسالة الإسلام خاصة؛ وهي خاتمة الرسالات، ورسولها الكريم هو خاتم الأنبياء.
فنحن المسلمين نحمل هذه الرسالة إلى الدنيا جميعًا، ونحن من يتحمل تبعات وأعباء هذه الدعوة الكريمة، يقول تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، ويقول تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل ما يقارب الثلاثة وعشرين سنة، دعا في كل مكان، وفي كل زمان، ولم يتنازل عن دعوته الحق حتى توفاه الله إلى جواره الكريم.
يقول عباس محمود العقاد: «اللهم هل بلغت» هذه هي اللازمة التي ردّدها النبي صلى الله عليه وسلم في أطول خطبه الأخيرة، وهي خطبة الوداع، وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها، لأنها لخصّت حياة كاملة في ألفاظ معدودات، فما كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها بعملها وقولها وحركتها وسكونها إلا حياة تبليغ وبلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، جلال ربي الرفيع فقد بلغت (1).
ويقول القرضاوي: أكرمنا الله بأن وضع لنا نموذجًا بشريًا تتمثل فيه الأسوة الحسنة ويتجسّد فيه الكمال البشري، أقصى الكمال البشري، الذي يمكن أن يرتقي إليه بشر، هذا النموذج هو محمد صلى الله عليه وسلم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، كان الناس في حاجة إلى نموذج تتجسد فيه الكمالات البشرية، الناس ليسوا فلاسفة، إنما الناس العاديون يحتاجون إلى شيء مَرئي مُحسّ مُجسّم؛ فكان هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جسد فيه تعاليم وأخلاق القرآن كما قالت زوجه وألصق الناس به؛ عائشة رضي الله عنها، حينما سئلت عن أخلاقه، فقالت: «كان خلقه القرآن» (2)، القرآن مُفسرًا ومُجسّمًا في حياته صلى الله عليه وسلم.
ويقول أيضًا: اختار محمدًا وهو أفضل الخلق ليحمل الرسالة العامة الخالدة الخاتمة، واختار العرب ليكونوا قومه وصحابته، واختار لغة العرب لتكون اللغة التي ينزل بها القرآن العظيم {الله أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالته} [الأنعام: 124]، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلى العرب وحدهم إنما أرسل إلى العالمين: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] (3).
وجاء في جزء من الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: «أعطيت خمسًا لم يُعطهن أحد قبلي؛ كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (4).
وقد كرّم الله عز وجل أمة الرسول الأمين بأن أشركها معه في مهمة الدعوة إلى الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].
يقول محمود شلتوت: للرسالة المحمدية جانبان: جانب التلقي عن الله رب العالمين، وهو خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد من أمته، وجانب الفهم والبيان، والدعوة والإرشاد، والعمل على توسيع نطاق الإسلام ومد رواقه، وتنظيم الشئون بأحكامها، وإلى هذا الجانب ترجع عزة الإسلام وبقاؤه على الدهر فتيًا لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه الأحداث.
ويشارك الرسول من أمته في هذا الجانب من آتاه الله العلم والحكمة، وقذف في قلبه النور والهداية، وكشف له عن سر تشريعه، وبصّره بمواقع الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، ووهبه غيرة تحمله على الجهاد في ذلك كله، وعلى الصدق والإخلاص في هذا الجهاد (5).
يقول يوسف القرضاوي: فالتعبير القرآني بقوله: {أُخْرِجَتْ} يدل على أن هناك من أخرج هذه الأمة، وهو الله جل جلاله، فلم تنبت هذه الأمة من نفسها كنبات البرية، بل أنبتها منبت بذر بذرتها، وتولى رعايتها، وهي لم تخرج لنفسها، بل أخرجت للناس، لهداية الناس، ولنفع الناس، وإصلاح الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهي في المقام الأول أمة دعوة ورسالة مبعوثة مما بعث به رسولها إلى الناس، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» (6).
ويتابع الشيخ القرضاوي: وأمة الإسلام مكلفة بحمل هذه الرسالة العالمية إلى العالم، فلا يجوز لها أن تحتكر الخير والنور لنفسها، بل عليها بعد أن اهتدت بنور الله أن تهدي الآخرين إليه، وبعد أن صلحت بالإيمان والعمل الصالح أن تصلح الأمم وتدعوها إلى الخير الذي أكرمها الله به (7).
يقول محمد رشيد رضا: ما قام دين من الأديان ولا انتشر مذهب من المذاهب ولا ثبت مبدأ من المبادئ إلا بالدعوة.
وما تداعت أركان ملة بعد قيامها، ولا انتكث فتل شريعة بعد أحكامها، ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة، فالدعوة حياة كل أمر عام تدعى إليه الشعوب والأقوام سواء كان ذلك الأمر حقًا وإصلاحًا في نفسه أو كان باطلًا مموهًا بالحق وإفسادًا مغشى بالإصلاح ومسمى باسمه، ومن راجع التاريخ يعلم أنه ما وجد أحد يدعو إلى شيء ولم يجد تابعًا وها نحن أولاء نرى المذاهب الباطلة تنمو بالدعوة ويعم انتشارها والمذاهب الحقة تتضاءل وتعفى آثارها.
وقد بدأ الإسلام يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم وأهملوا العناية بالدعوة إليه، وإنما طال زمن نموه وكثرة ما صرفه من الموانع لقوته وأصالته في الحق، ولذلك ما أمكن لأهل دين آخر أن يردوا مسلمًا يعرف الإسلام عن دينه؛ بل صعب عليهم أن يردوا المقلدين فيه عنه لوضوح الفرق بينه وبين ما يدعون إليه من الأديان الأخرى، وغاية ما أمكنهم هو أن يفتنوا عددًا قليلًا ممن ليس لهم من الإسلام إلا أنهم من صنف يسمى أهله المسلمون ويسمى دينهم الإسلام.
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك فرصة للدعوة إلا استغلها، ولم يجد مجالًا وطريقًا للدعوة إلا سلكه، بدون أن يعيقه عائق أو حائل، دعا قومه ولم يأل في دعوته، وواجهه قومه وكفار قريش بكل مجالات التكذيب والافتراء والعناد والإعراض والأذى النفسي والجسدي حتى أنهم همّوا بقتله، ومع ذلك بقي ثابتًا كالطود، راسخًا كالجبال، لم يُقصّر ولم ينهار ولم يفقد العزيمة والصبر.
ولم يقف به الأمر عند دعوة قومه والاتجاه للطائف؛ بل إنه كان أيضًا كان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم يدعوهم إلى الله، وأنه رسوله المرسل، وكان أن استجاب له رهطُ من الخزرج حين دعاهم، وقال بعضهم لبعض: يا قوم، والله إنه للنبي الذي تتوعدكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه وصدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وانصرفوا إلى المدينة وذكروا لقومهم ما حدث لهم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمي «بيعة العقبة الأولى» (8).
نعم، إذا أغلق في طريق الدعوة باب، فلا تيأس واطرق الأبواب الأخرى، وإذا سُدّ سبيل فاعلم أن الله سوف يفتح لك بجهادك وصبرك وعملك سبلًا أخرى، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
إن بعض الدعاة يحاول أن يجد لنفسه الأعذار والمبررات التي تزّين له أحيانًا الامتناع عن القيام بهذا الواجب العظيم، ويظن نفسه أنه من خلال هذه الأعذار قد أعذر نفسه أمام الله؛ ولكنه مخطئ.
إن بعض الدعاة يمنعه من القيام بواجب الدعوة معارضة الأهل وخاصة الوالدين، وأنهم يناصبونه العداء، فنقول لأمثال هؤلاء عودوا إلى سيرة أبي الانبياء إبراهيم عليه السلام، فلقد كان يدعو قومه وأباه دون كَلل ولا مَلل، وهم يناصبونه أشدّ العداء، بل أرادوا أن يحرقوه لولا رعاية الله له، ومع ذلك لم يبتعد عن واجب الدعوة، ولم يتوقف، وكان يدعو الله أن يغفر لقومه ويهدي أباه، فالدعوة إلى الله تبقى مستمرة رغم معارضة الأهل، ورغم ممانعة الوالدين، ولكن على هؤلاء الدعاة أن يكونوا في علاقاتهم مع آبائهم وأمهاتهم حكماء، رحماء، رفقاء بهم، وأن يحملوا لهم في قلوبهم المحبة، وأن يسألوا الله لهم الهدى، وأن يطيعوهم في ما لا معصية فيه، وأن يكون قدوتهم في ذلك مواقف بعض الصحابة أمثال سعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير رضي الله عنهما.
وبعض الدعاة يدعو الله إذا توفر «الأمن» و«الطمأنينة»، ويتوقف عن الدعوة إذا واجهه الطاغوت، أو جَبهته أرتال الجاهلية، وهؤلاء ينسون أو يتناسون أن أفضل النتائج وأحسن الثمار يحصل عليها الداعية وهو يواجه الموت والطاغوت، لأنه عندها يصدق في قوله وفعله، ولقد كان لموقف موسى عليه السلام من فرعون وهامان وتحديه لهما، كان لهذا الموقف أكبر الأثر في إسلام السحرة وتحملهم العذاب ودخول دين الله.
هناك أمورٌ يجب على الداعي إلى الله أخذها بعين الاعتبار، إضافةً إلى غزارة العلم، ولين الجانب، فإنّه إن تحلّى بتلك الأخلاق حقق مقصوده، وازداد إنجازه بإذن الله، وفيما يأتي بيان ذلك:
- الإخلاص لله تعالى في طريقه، فعلى الداعية أن يذّكر نفسه دائمًا، أنّه يقصد بذلك العمل مرضاة الله سبحانه، ولقد كان الشافعيّ رحمه الله يقول: وددت أنّ الناس تعلموا هذا العلم، ولم ينسب إلى منه شيءٌ (9).
- عدم سؤال الناس أيّ منفعةٍ جراء تقديم النصح والإرشاد لهم، فإنّ الناس تُقبل على من زهد مما في يدها، ودليل ذلك قول الله تعالى مبينًا أنّ النّاس تقبل ممّا لا يسأل الأجر: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]، وفي الآية تنبيهٌ آخرٌ على أن يكون الشخص من المهتدين القدوات، كما أُسلف الذكر.
- الصبر على طول الطريق، وتأخر النتائج، حيث يقول الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، فإنّ الداعي إلى الله يجب أن يدرك أنّ هداية الناس، وإقبالهم على دعوته، قد لا تتم بسهولةٍ ويسرٍ، أو أنّها ستظهر نتائج فوريةً، فالصحابة مكثوا وقتًا طويلًا تحت العذاب والاضطهاد، فصبروا على ذلك، حتى أظهر الله تعالى دعوتهم، وحقق عزّتهم.
- العلم بأنّ هذه الدعوة هي الميراث الذي تركه الأنبياء، وإنّها دعوةٌ عامةٌ شاملةٌ، يجب أن تصل إلى مشارق الأرض ومغاربها، فعلى الداعية أن يبّلغ دعوته مهما كانت يسيرةً في عينه، إلى من استطاع من الناس، حتى ينتشر الدين في العالم كلّه، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني ولو آيةً» (10).
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
يقول الأستاذ سيد قطب: ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله، ووصف روحه ولفظه، وحديثه وأدبه، ويوجه إليها رسوله صلى الله عليه وسلم وكل داعية من أمته.
وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين، وسوء أدبهم، وتبجحهم النكير؛ ليقول للداعية: هذا هو منهجك مهما كانت الأمور: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 33- 36].
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله، في مواجهة الْتواءات النفس البشرية، وجهلها، واعتزازها بما أَلِفت، واستكبارها أن يُقال: إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها، وعلى مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق، ولكنه شأن عظيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
إن كلمة الدعوة -حينئذ- هي أحسن كلمةٍ تُقال في الأرض، وتَصعَد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدِّق الكلمة، ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات؛ فتصبح الدعوة خالصة لله، ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
ولا على الداعية بعد ذلك أن تُتَلَقَّى كلمتُه بالإعراض، أو بسوء الأدب، أو بالتبجح في الإنكار؛ فهو إنما يتقدم بالحسنة؛ فهو في المقام الرفيع، وغيره يتقدم بالسيئة؛ فهو في المكان الدون: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34].
وليس له أن يرد بالسيئة؛ فإن الحسنة لا يستوي أثرها؛ كما لا تستوي قيمتها مع السيئة.
والصبر والتسامح، والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر، يرُدُّ النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] (11).
نقاط في طريق الدعوة:
إن النقطة الأولى في طريق الدعوة، التي لا يجوز ولا ينبغي أن نتجاوزها إلى ما بعدها إلا وقد تحققت، وهي أن تكون دعوتنا خالصة لله سبحانه وتعالى، وإذا دعونا إلى الله، ائتلفت القلوب بإذن الله تبارك وتعالى، وتحقق الخير، ومع ذلك ينبغي مراعاة ما يلي:
أولًا: لا نستعجل النتائج والثمرات:
لأننا ندعو إلى الله، والله هو الذي تكفل بقيام هذه الدعوة، فما علينا إلا البلاغ، ولسنا بأكثر في ذلك من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، فلذلك لا نخطئ الطريق.
هذه وظيفتك على وجه التحديد، وهذا دورك في هذه الدعوة، ليس لك ولا عليك شيء وراءه، عليك أن تذكر، فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئًا، حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان، فالقلوب بين أصابع الرحمن، لا يقدر عليها إنسان.
وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى (12).
لا نقيس عمر الدعوة بالزمن:
فلا نقول: لم يتحقق هدف الدعوة إلى الله كما تقول بعض الدعوات: مضى علينا كذا من الزمن ولم يتحقق الهدف، هذا لا يوجد عندما ندعو إلى الله، إنما يوجد المحاسبة والمراجعة، وإن دعونا إلى الله حقًا، وعلى المنهج الصحيح، فالثمرة متحققة ولا بد ولو لم يكن من تلك الثمرة، إلا أننا دعونا إلى الله.
هذه ثمرةٌ عظمى أننا عرفنا طريق ربنا عز وجل وسبيله، ودعونا إليه سواء استجاب لنا أحد أو لم يستجب، فلنا أسوةٌ بالأنبياء الكرام، الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: «النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد» (13).
إذاً ليست المسألة حسابًا عدديًا، أو بكثرة الأتِّباع أيضًا، وإنما هي بالاتباع لا بالأتباع، أدعو إلى الله على بصيرة، وبالحكمة، كما في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] (14).
متى أدعو؟
يدعو الإنسان في كل وقت؛ فالدعوة عبادة، والعبادة نهايتها الموت {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، ويراعي في ذلك المكان والمناسبة، فليس للدعوة مكانًا ولا حدًا ولا زمانًا.
وأثمن الفرص وأعظمها الفرصة التي لا تتكرر في حياة الإنسان إلا مرة واحدة، ألا وهي استغلال العمر في الدعوة إلى الله والعمل لهذا الدين، إن انتقلت إلى الدار الآخرة لن تعود مرة أخرى للدنيا لتعمل.
بماذا أدعو؟
تدعو بما تعرف من العلم، وكذلك عن طريق توزيع الكتب والأشرطة، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» (15).
عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بحال المدعو حتى يتهيأ لأسئلته ونقاشه ويعرف مدخله ومخرجه، ثم أعلمه إلى ماذا يدعو؟ فبدأ بالتوحيد ثم الصلاة وهكذا.
والحكمة مطلوبة في الدعوة، فالمؤمن كيس فطن، لا بد من مراعاة الآداب الشرعية والأخلاق المرعية حتى لا يقع الإنسان في حرج وحتى لا يفسد عليه هذا الطريق.
من أدعو؟
أولًا: تدعوا نفسك التي بين جنبيك قال تعالى: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (5) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (6)} [المدثر: 1-7] وهذه في تربية النفس، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] .
وجماع ذلك أن يحاسب الإنسان نفسه أولًا على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه، إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسب نفسه على المنهيات، فإن عرف أنه وقع في شيء منها تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى.
وليس معنى؛ أن يدعو نفسه ويتوقف عن دعوة الآخرين، بل هنا وهناك.
ثانيًا: أن تدعو من حولك من الأقارب والوالدين والجيران امتثالًا لأمر الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} [الشعراء: 214] من الوالدين والزوجة والأبناء والإخوة والأخوات، وهؤلاء إن استجابوا للداعي كانوا أعوانًا وأنصارًا له في دعوته، ثم تأتي إلى المجال الأوسع والأرحب أماكن العلم الدائمة، أماكن الزيارات والأمر واسع جدًا، ولعلك تسد ثغرة في أسرتك، بل لعلك تفَّعل أقاربك وتدفعهم إلى الأعمال الدعوية، وأعظم به من أجر.
ولكل ميسر لما خلق له، فكل إنسان في مجاله أرأيت العالم المشهور كيف هي دعوته؟ ثم أرأيت المعلم بين طلابه؟ أرأيت العامل في عمله؟ لكل سهم من سهام الدعوة والناس في ذلك ما بين مقل ومستكثر.
والإنسان يدعو حسب الوسائل المتيسرة، فيوسف عليه السلام دعا في السجن مع عدم توفر الوسائل المعينة، وموسى عليه السلام عنده ضعف في الكلام كما ذكر الله عنه، ومع ذلك بعث رسولًا نبيًا، وفي هذا حجة على من كان لديه نقص في إيصال المعلومة مثلًا، يستعين بالوسائل التي توصل المعلومة وينتهي ذلك العذر.
من الوسائل المعينة على الدعوة:
الوسائل المعينة على الدعوة إلى الله كثيرة جدًا وسأذكر طرفًا منها:
القيام بالنفس: ومن ذلك خدمة المجتمع: كقيام الأطباء بعلاج الفقراء مجانًا أو بتكلفة يسيرة، المساعدة في تزويج الأقارب والمعارف والجيران، تعليم كتاب الله في المساجد القيام على الأرامل والأيتام، إقامة دروس خصوصية للراسبين من أهل الحي أو الأقارب، وهذا جربها مجموعة من المدرسين فكان لها الأثر البالغ.
ها هو صلى الله عليه وسلم يأتي إلى امرأة عجوز مقعدة فيقم لها بيتها ويحلب شاتها ويطعمها، ولما توفي صلى الله عليه وسلم قام بذلك أبو بكر رضي الله عنه، فأتى عمر رضي الله عنه، وقال للمرأة ماذا يصنع الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يقم بيتي ويحلب شاتي ويطعمني، فبكى عمر وقال: قد أتعبت الدخلاء من بعدك.
وهذا سبط النبي صلى الله عليه وسلم من تربى في دوحة النبوة ونهل من معينها: كان علي بن الحسن رضي الله عنهما يحمل جرب الدقيق ليلًا على ظهره يقسمها على فقراء المدينة، فلما مات وجدوا سوادًا في ظهره من حمل تلك الأكياس الثقيلة، وعرف الفقراء من أهل المدينة أنه مات لانقطاع الدقيق عنهم.
فخدمة الناس والقيام بقضاء شئونهم من أوسع أبواب الدعوة فهو يقرب القلوب ويجدد المودة.
المشاركة بالرأي والفكر:
لما اجتمعت جموع الكفار لحرب النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أشار سلمان برأي جديد على الساحة العسكرية العربية، ألا وهو حفر الخندق حول المدينة، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المقترح الجديد، وحفر الخندق، فكان له الأثر البارز في حماية المدينة بتوفيق من الله عز وجل.
كثير من الناس لديه أراء واقتراحات لكنها تبقى حبيسة رأسه، وربما انطلقت من لسانه غيبة واستنقاصًا للعاملين في مجال الدعوة: لو عملوا، ولو فعلوا، فلماذا لا توصلها إليهم؟
ويقول سيد قطب: الإسلام عقيدة الضمير، ينبثق منها سلوك في المجتمع، ويقوم عليها نظام للحياة، نظام كامل يتناول نشاط الفرد في حياته العائلية، وحياته الاجتماعية، وحياته الدولية، ويحكم على علاقاته المتنوعة في تلك الميادين كلها، ويضع الشرائع التي تنظم هذه العلاقات؛ لذلك يستحيل الفصل في الحياة الإسلامية بين العقيدة الكامنة في ضمير الفرد، والشريعة التي تحكم حياته.
إن هذه الشريعة لا تقوم إلا على أساس من تلك العقيدة، كما أن العقيدة حين توجد في الضمير فإنها تحاول أن تظهر في واقع الحياة في صورة شريعة، ولا انفصام بين هذه وتلك في طبيعة الإسلام، هذه الحقيقة كفيلة بأن ترسم لنا طريقنا في الدعوة إلى الإسلام، كما أنها قد رسمت من قبل خط سير الدعوة الإسلامية في واقعها التاريخي.
لقد بدأ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيًا إلى الإسلام، فما أن استمع بعض الناس إليه، حتى أتم دعوته مشرعًا ومنظمًا وحاكمًا، إنه صلى الله عليه وسلم، لم يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، لأن الإسلام يعتبر كل شيء لله، ولا يعرف قيصر إلا منفذًا لشريعة الله، منظمًا لشريعة الله، منظمًا للحياة بقانون الله.
ويتابع رحمه الله: هذا الواقع التاريخي إلى جانب تلك الحقيقة الواضحة في طبيعة الإسلام، كلاهما يرسم لنا طريقنا في الدعوة إلى الإسلام، إن هذا الدين لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله: أن نسعى في تكوين الفرد المسلم، حتى إذا كان، انبعث هو انبعاثًا ذاتيًا إلى تحقيق نظام الإسلام، غير أن خطواتنا اليوم في طريق الدعوة قد تحتاج إلى شيء من التعديل يناسب طبيعة العصر الذي نعيش فيه، والملابسات التي تحيط الآن بالحياة.
ويتابع رحمه الله: وليس هنالك إلا اختلاف ظاهري بين أوضاعنا الحاضرة، والأوضاع التي كانت مع عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الوجهة، وإن خُيّل إلى البعض أن الدعوة إلى تحرير البشر من عبودية الأرباب المتفرقة لا موضع لها اليوم ولا ضرورة. كلا، فإن عبادة الأرباب المتفرقة اليوم، لا تنقص عن عبادة الأرباب المتفرقة في الجاهلية، كل ما تغير هو نوع الأرباب، لا عبادة الأرباب، أمت عبادة الشهوات، وعبادة الخرافات، فهما هما على حالهما بغير استثناء.
أما التعديل الذي نحتاج إليه في خطواتنا اليوم، فهو ألا نبدأ بتكوين الفرد المسلم من الناحية الاعتقادية والسلوكية فحسب، بل أن نضم إلى هذا، وفي ذات الوقت، عرض برامج اجتماعية للحياة، قائمة على أصول الفكرة الإسلامية، ومستمدة من الشريعة الإسلامية، وألا ننظر بهذه البرامج حتى يتم تكوين الأفراد المسلمين، وألا نرسم هذه البرامج جزءًا جزءًا ويومًا بعد يوم، كما حدث في أيام الدعوة الأولى (16).
***
____________
(1) عبقرية محمد (ص:71).
(2) أخرجه أحمد (24601).
(3) الإسراء والمعراج بشارة للمسلمين/ موقع القرضاوي.
(4) أخرجه البخاري (335).
(5) فقه عمر، مجلة الرسالة (العدد:550).
(6) أخرجه البخاري (220).
(7) ماذا أورث محمد البشرية بعده؟ مقالات القرضاوي.
(8) مجلة المنار (العدد: 117).
(9) آداب الشافعي ومناقبه (ص: 68).
(10) أخرجه البخاري (3461).
(11) في ظلال القرآن (5/ 3121).
(12) في ظلال القرآن (6/ 3899).
(13) أخرجه البخاري (5752).
(14) كيف ندعـو إلى الله/ موقع الحوالي.
(15) أخرجه أبو داود (1584).
(16) دراسات إسلامية (ص: 73).