logo

كثرة أبواب الخير


بتاريخ : الأربعاء ، 7 رمضان ، 1444 الموافق 29 مارس 2023
بقلم : تيار الاصلاح
كثرة أبواب الخير

كم تنشرح النفس وتقر العين حين تسمع كلمة (الخير)، فهي كلمة واسعة الدلالة، عظيمة الأثر، فالخير يجتمع الناس جميعًا على حبه والدعوة إليه والثناءِ على فاعله.

إن عمل الخير –سواء كان قولًا أو فعلًا– مقصد شرعي، ومطلب إنساني، وهو من أسباب القرب من الله، وتحصيل الأجور والدرجات، وانشراح الصدور وسعتها، ودفع الهموم والأحزان.

أمر الله تعالى عباده المؤمنين بفعل الخير، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، بل حثهم على المسابقة فيه، فقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]، وبين جل وعلا أن كل عمل خير مهما كان صغيرًا أو حقيرًا فإنه يعلمه، فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [النساء: 127].

والخير له طرق كثيرة، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده من أجل أن تتنوع لهم الفضائل والأجور، والثواب الكثير، وأصول هذه الطرق ثلاثة: إما جهد بدني، وإما بذل مالي، وإما مركب من هذا وهذا، هذه أصول طرق الخير.

أما الجهد البدني فهو أعمال البدن؛ مثل الصلاة، والصيام، وعيادة المريض، وما أشبه ذلك، وأما البذل المالي فمثل الزكوات، والصدقات، والنفقات، وما أشبه ذلك، وأما المركب فمثل الحج والجهاد فسبيل الله؛ فإنهما يكونان بالمال وبالنفس، ولكن أنواع هذه الأصول كثيرة جدًا، من أجل أن تتنوع للعباد الطاعات، حتى لا يملوا.

لو كان الخير طريقًا واحد لمل الناس من ذلك وسئموا، ولما حصل الابتلاء، ولكن إذا تنوع كان ذلك أرفق بالناس، وأشد في الابتلاء.

يقول عبد الكريم الخضير: تنوع العبادات عندنا ولله الحمد من نعم الله؛ لأن بعض الناس ينقاد إلى عمل البدن، فعنده استعداد أن يصلي مائة ركعة في اليوم، يقوم الليل ما عنده إشكال، يصوم النهار، ومنهم من ييسر لهم أمر الإنفاق في سبيل الله، ويصعب عليه عمل البدن، ومنهم أيضًا من ييسر له عمل جزئي من عمل البدن فتجده يستطيع الصلاة، ولا يستطيع الصيام يعني -إلا بمشقة-، وبعض الناس تجده يصلي لكن يصعب عليه التلاوة، وبعض الناس يسهل له أمر التلاوة فيقرأ ساعة والساعتين في المصحف، أو عن ظهر قلب ولا يمل، وإذا مرة به آية سجدة صعب عليه؛ لأن جلسة الصلاة ثقيلة عليها.

فمن نعم الله جل وعلا أن نوع لنا هذا العبادات، لكن ينبغي أن يأخذ من جميع هذه العبادات؛ لأنه جاء الحث عليها في الشرع، فلا ينهمك في طلب العلم عن النوافل الخاصة، وإن كان المفضل عند أهل العلم طلب العلم وأنه أفضل من نوافل العبادة؛ وهذا عند التعارض، لكن إذا أمكن أن يصرف جزءًا من وقته لطلب العلم ويقسم هذا الوقت إلى وقت للحفظ، ووقت للفهم، ووقت لمجرد سرد ومطالعة، ويصلي في أثناء ذلك بين كل فينة وأخرى له ركعتين، ويحرص على ما جاء الحث عليه من صيام النوافل، ويساعد الناس ببدنه وبماله، ويقضي حوائج أهله لا يتأخر عنها (1).

تنوع العبادات للإنسان مبني على حاجة الإنسان، وكذلك تنوع الأجر في الجنة مبني على تنوع العبادة في الدنيا، ولهذا تجدون في الجنة أنواعًا من النعم: خمر، ورمان، وأنهار من لبن، وأنهار من عسل مصفى ونحو ذلك، وهذا التنوع مبني على تنوع أعمال الإنسان، وهذا يدل أيضًا على حاجة الإنسان إلى هذه الأعمال (2).

والعبادة تصلح النفس وتصلح القلب، بتنوع هذه العبادات مجال لتنوع التأثير على شخصية الإنسان، فالناس يختلفون، والناس يتفاوتون؛ ولهذا راعت الشريعة هذا الأمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها، قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم» (3).

هذا الأمر يعني أن مجالات التقرب إلى الله عز وجل، ومجالات التميز في طاعة الله مجالات واسعة تستوعب جميع الناس وفئات الناس، من الناس من يجد أنسه وراحته في الصلاة، فهو من أهل الصلاة والاجتهاد فيها، ومن الناس من يجد ذلك في الصيام، ومنهم من يجده في الصدقة، وهذا في إطار التميز في النوافل والتقرب إلى الله عز وجل والاجتهاد فيها.

أما أصل الفرائض فلا يعذر أحد فيها، ولا يمكن أن نرى مسلمًا يوصف بأنه من أهل الصيام وليس من أهل الصلاة بمعنى أنه لا يؤدي الفريضة (4).

قال الله تعالى في هذا الباب: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، قال السعدي: أي: بادروا إليها وأكملوها، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب، من حقوق الله وحقوق عباده، لا يصير فاعلها سابقًا لغيره مستوليًا على الأمر، إلا بأمرين: المبادرة إليها، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به.

ويستدل بهذه الآية، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات، التي يقدر عليها لتتم وتكمل، ويحصل بها السبق(5).

ويقول أيضًا: ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة، من الصيام، والحج، والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات وآدابها، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية (6).

وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]، أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه، أمامهم، ويمنة، ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم (7).                

وهذا يدل على أن الخيرات ليست خيرًا واحدًا، بل طرق كثيرة، قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} [البقرة: 197]، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيم} [البقرة: 215]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، والآيات في هذا كثيرة، تدل على أن الخيرات ليست صنفًا واحدًا، أو فردًا واحدًا، أو جنسًا واحدًا.

ويدل لما قلنا أن من الناس من تجده يألف الصلاة، فتجده كثير الصلوات، ومنهم من يألف قراءة القرآن، فتجده كثيرًا ما يقرأ القرآن، ومنهم من يألف الذكر، والتسبيح، والتحميد، وما أشبه ذلك، فتجده يفعل ذلك كثيرًا، ومنهم الكريم الطليق اليد الذي يحب بذل المال فتجده دائمًا يتصدق، ودائمًا ينفق على أهله ويوسع عليهم في غير إسراف.

ومنهم من يرغب العلم وطلب العلم، الذي هو في وقتنا هذا قد يكون أفضل أعمال البدن؛ لأن الناس في الوقت الحاضر، في عصرنا، هذا محتاجون إلى العلم الشرعي، لغلبة الجهل، وكثرة المتعالمين الذين يدعون أنهم علماء، وليس عندهم من العلم إلا بضاعة مزجاة، فنحن في حاجة إلى طلبة علم، يكون عندهم علم راسخ ثابت مبني على الكتاب والسنة، من أجل أن يردوا هذه الفوضى التي أصبحت منتشرة في القرى والبلدان والمدن (8).

عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» (9).

قال عياض: يعني أن كل عظم من عظام ابن آدم وكل مفصل من مفاصله يصبح سليمًا عن الآفات باقيًا على الهيئة التي تتم بها منافعه فعليه صدقة شكرًا لمن صوره ووقاه عما يغيره ويؤذيه (10).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: «بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كل كبد رطبة أجر» (11).

شَكَرَ اللهُ العظيم الجليل لهذا الرجل، ومنحه مغفرتَه التي يتنافس عليها المتنافسون مقابل ماذا؟ هل قاتل في سبيل الله حتى ذهبت روحه؟ كلا، وإنما من أجل حفنة ماء ملء الخف ليسقي بها كلبًا من الكلاب.

واستمع أيها الحبيب إلى هذا الخبر العجيب: عن أبي هريرة عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس» (12).

وفي لفظ في الصحيحين: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له» (13)، الشكر من الله والمغفرةُ والجنةُ لهذا الرجل مقابل ماذا؟

أزاح غصن شوك يؤذي الناس من طريقهم، فما أعظم فضل الله، وما أوسع أبواب الخير.

قال ابن القيم: إذا حضرت للرجل فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها، والمبادرةِ إليها، والعجز في تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت، والله سبحانه يعاقب مَنْ فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له (14).

قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه.

ثم استثنى تعالى فقال: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» الحديث (15).

{أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضًا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر، وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي.

{أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات: 9] الآية.

وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.

كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء.

ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل (16).

عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظمًا عن طريق الناس، وأمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى؛ فإنه يمشي وقد زحزح نفسه عن النار»(17).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» (18).

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه» (19).

فطرق الخير كثيرة، وأبواب العمل الصالح مشرعة، وقد قال أهل العلم: إن أعمال البر لا تفتح كلها للإنسان الواحد في الغالب، إن فتح له في شيء منها لم يكن له في غيرها، وقد يفتح لقليل من الناس أبواب متعددة.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة حبهم للخير وحرصهم على العمل الصالح يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ ويسألونه: أي الأعمال أحب إلى الله؟ لأنهم يعلمون أن الإنسان ليس في وسعه ولا في طاقته أن يأتي بجميع الأعمال.

وقد كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعدِّدًا في أوقات مختلفة وأحوال مختلفة، ووجه الحكمة في ذلك؛ اختلاف أحوال السائلين واختلاف أوقاتهم، فأعلم كل سائل بما يحتاج إليه، أو بما له رغبة فيه، أو بما هو لائق به ومناسب له.

ومن إجابات النبي صلى الله عليه وسلم: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قال: ثمّ أيّ؟ قال: «بر الوالدين»، قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال: حدثني بهن ولو استزدتُه لزادني (20).

وفي سنن النسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أيّ الأعمال أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصوم، فإنه لا عِدل له» (21).

قال المناوي: فإنه لا عدل له، إذ هو يقوي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب وانقمعت شهواته، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كل وجه، وأحاطت به الحسنات من كل جهة (22).

وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله» قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا» قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: «تعين صانعًا أو تصنع لأخرق» قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك» (23).

أبواب الخير كثيرة، وهي متاحة ويسيرة، والأعمار قصيرة، فالغنيمةَ الغنيمة قبل قدوم اللحظة الأخيرة.

المبادرةَ والمسابقة والمسارعة قبل هجوم الأجل، وانقطاع العمل.

باب الله مفتوح، وفضله ممنوح، وعطاؤه يغدو ويروح، فأين العاملون وفي أبواب الخير متسابقون {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

استَكثِروا من فعْل الخيرات، وسابقوا إلى عمل الطاعات، واملؤوا صحائفكم بالباقيات الصالحات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

-------------

(1) التعليق على تفسير الجلالين/ عبد الكريم الخضير (14/ 5)، بترقيم الشاملة آليًا.

(2) شرح العقيدة الواسطية/ عبد الرحيم السلمي (2/ 15)، بترقيم الشاملة آليًا.

(3) أخرجه البخاري (1897)، ومسلم (1027).

(4) دروس الشيخ محمد الدويش (44/ 7)، بترقيم الشاملة آليًا.

(5) تفسير السعدي (ص: 234).

(6) تفسير السعدي (ص: 73).

(7) تفسير السعدي (ص: 554).

(8) شرح رياض الصالحين (2/ 149).

(9) أخرجه مسلم (720).

(10) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 350).

(11) أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244).

(12) أخرجه مسلم (1914).

(13) أخرجه البخاري (652)، ومسلم (1914).

(14) زاد المعاد (3/ 574).

(15) أخرجه مسلم (1006).

(16) تفسير السعدي (ص: 202).

(17) أخرجه مسلم (1007).

(18) أخرجه الترمذي (1956).

(19) أخرجه مسلم (2699).

(20) أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85).

(21) أخرجه النسائي (2222).

(22) فيض القدير (4/ 330).

(23) أخرجه مسلم (84).