logo

كتابًا مؤجلًا


بتاريخ : الأحد ، 23 صفر ، 1447 الموافق 17 أغسطس 2025
بقلم : تيار الإصلاح
كتابًا مؤجلًا

 لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء، عليهم السلام، فحصل وهن وضعف وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] أي: له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه (1).

 

ثم قال تعالى بعدها ليقرر حقيقة كونية وأخرى شرعية: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].

 

أي: لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له؛ ولهذا قال: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا}، كقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] وكقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2].

 

وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه (2).

 

الأجل في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره، والمعنى: أنه سبحانه- قدر لعباده أجلين: أجلا تنتهي عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنًا معينًا، وأجلًا آخر يمتد من وقت موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم (3).

 

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ} ينبغي، معناه انتفاء الفعل وامتناعه؛ فتارة يكون الامتناع في مثل هذا التركيب لكونه ممتنعًا عقلًا؛ كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم: 35]، وقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60]، وتارة لكونه ممتنعًا عادة نحو: ما كان لزيد أن يطير.

 

وتارة لكونه ممتنعًا شرعًا؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92].

 

وتارة لكونه ممتنعًا أدبًا؛ كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُفهم هذا من سياق الكلام.

 

{لِنَفْسٍ} نكرة في سياق النفي، فتعُم كل نفس من الآدميين وغير الآدميين، {أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، بأمره وإرادته، استثناء مفرغ من أعم الأسباب؛ أي: بتمكينه وتسويغه ذلك.

 

 وهو كلام مستأنف سِيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرًا من قتلهم، وبناءً على الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام ببيان أن موت كل نفس منوط بمشيئة الله عز وجل، لا يكاد يقع بدون تعلقها به، وإن خاضت مواردَ الحتوف، واقتحمت مضايقَ كلِّ هول ومخوف.

 

وفيه أيضًا تحريضهم على الجهاد، وتقوية نفوسهم وتشجيعهم على لقاء العدو، بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحدًا لن يموت قبل بلوغ أجله، وإن خاض المهالكَ، واقتحم المعارك؛ فالجُبن لا يزيد في الحياة، والشجاعة لا تنقص منها (4).

 

إن الموت لَا يحتاج بالنسبة لله تعالى إلى أسباب، فليس إلا أن يأذن بقبض الروح فيكون الموت من غير أي مجهود يبذل، ومنها تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء الأعداء، فإن الحذر والحرص على الحياة لَا يمنعان ما قدر الله تعالى، فإذا كان قد أذن للنفوس أن تلقى ربها فلا مانع يمنعها، ولا دافع يدفع عنها أسباب المنايا

 

وفيها الإشارة إلى حفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد تربص به الأعداء، وأحاطوا به من كل جانب، وصار قريبًا من نهزة المختلس، ولكن الله تعالى أحاطه بكلاءته وعنايته، وفيها أيضًا بيان أن الله سبحانه وتعالى قابضُ نبيه صلى الله عليه وسلم مهما يطُلِ الأمد أو يقصر (5).

 

{كِتَابًا} أي: كتبه الله كتابًا؛ مصدر مؤكد للجملة التي قبله، {مُؤَجَّلًا} مؤقتًا بوقت وأجل معلوم، لا يتقدم ولا يتأخر ولو ساعةً، والكتابة هنا عبارة عن القضاء، وقيل: مكتوبًا في اللوح المحفوظ، مبينًا فيه.

 

قال الطيبي: اعلم أن الله تعالى إذا علم أن زيدًا يموت سنة خمس مائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها، فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم الله تزيد أو تنقص، فتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح، وأمره بالقبض بعد آجال محدودة فإنه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق علمه في كل شيء، وهو بمعنى قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وعلى ما ذكر يحمل قوله عز وجل: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]، فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

 

والحاصل أن القضاء المعلق يتغير وأما القضاء المبرم فلا يبدل ولا يغير انتهى (6).

 

وهذا كقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، وكقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2].

 

إن لكل نفس كتابًا مؤجلًا إلى أجل مرسوم، ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم. فالخوف والهلع، والحرص والتخلف، لا تطيل أجلًا، والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرًا، فلا كان الجبن، ولا نامت أعين الجبناء، والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد! بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية، وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع، وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده (7).

 

 وروى ابن كثير في تفسيره عن حبيب بن صهبان، قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو، هذه النطفة؟ يعني: دجلة؛ {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145]، ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم، أقحم الناسُ، فلما رآهم العدو قالوا: ديوان، فهربوا (8).

 

فالأعمار محدودة، والآجال محتومة، والأقدار هي الحاكمة، والله وحده هو المتصرف في كل شيء، فيأذن بقبض كل نفس على وفق علمه دون تأخير ولا تقديم، سواء في الحرب أو في السلم.

 

وفي هذه الآية تشجيع للجبناء، وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، فكيف يسوغ الجبن والضعف ما دام العمر بيد الله، وانقضاؤه بمشيئة الله؟

 

ثم بيّن الله تعالى غاية البشر: وهي إما إرادة الدّنيا، وإما إرادة الآخرة.

 

فمن قصد بعمله التوصل للدّنيا فقط، ناله منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله من ثوابها وما قسم له من الدّنيا، كما قال تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقال تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 18- 19] (9).

 

فقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ}؛ أي: بعمل الآخرة {ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}، وهذا الجزاء من إيتاء الله من أراد ثواب الدنيا مشروط بمشيئة الله تعالى.

 

{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145]، ولا نعطيه الآخرة كلها؛ لأن الآخرة درجات يختلف فيها الناس، ولا يمكن أن يُعطى الإنسان جميع درجات الناس، ولكن يُعطى من الآخرة، ولكنها تختلف عن عطية الدنيا؛ كما قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16- 17]، فعطية الآخرة ليست كعطية الدنيا، بل هي أعظم.

 

وشتان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام- مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل- والذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها؛ إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب، والذي يتطلع إلى الأفق الآخر.. إنما يحيا حياة «الإنسان» الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب (10).

 

وظاهر التقسيم يقتضي اختصاص كل واحد بما أراد؛ لأن من كانت نيته مقصورة على طلب دنياه، فلا نصيب له في الآخرة، لكن من كانت نيته مقصورة على طلب الآخرة، فقد يُؤتى نصيبًا من الدنيا.

 

واعلم أن الآية وإن كان سياقها في الجهاد، ولكنها عامة في جميع الأعمال؛ وذلك لأن المؤثِّر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي، لا ظواهر الأعمال.

 

وليس المراد أن من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يُحرم من ثواب الآخرة وحظوظها، فإن الأدلة الشرعية دلَّت على أن إرادة خير الدنيا مقصد شرعيٌّ حسن، وهل جاءت الشريعة إلا لإصلاح الدنيا والإعداد لحياة الآخرة الأبدية الكاملة؟

 

والنص الكريم يُثبت أن الدنيا لها وسائل، والنجاح فيها له أسباب توصل إلى النتائج، والآخرة لها أسباب وذرائع، وعلى ذلك لا يكون النجاح في شؤون الدنيا دليلًا على القرب من الله تعالى، ولا الفشل فيها دليلًا على البعد عن الله تعالى، ذلك قول الفُجَّار، الذين يتخذون من سطوة الكفار مع كفرهم دليلًا على أنهم أقرب إلى الله من المؤمنين؛ ويغفُلون عن قول الله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف: 33- 35].

 

وفيه أن الإخبار عن الشيء أو عن وقوع الشيء لا يدل على حِلِّه؛ فقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145]، لا يدل على حل إرادة الإنسان الدنيا بعمله، إنما هو خبرٌ عن أمر وقع، والحِل والحُرمة يُؤخذ من دليل آخر من الشرع.

 

ومن ثَم يتبين خطأ من قال: إنه لا يشترط للمرأة مَحْرم في السفر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: «ليتمن الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحِيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحَدٍ» (11)، لأن هذا إخبار عن الواقع وليس إقرارًا له شرعًا، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهودَ والنصارى؟ قال: «فمن» (12)، بلى، قال ذلك، فهل يعني هذا أنه يجوز أن نتبع سنن اليهود والنصارى؛ لأن الرسول أخبر بأننا سنتبعها؟ أبدًا... فالإخبار عن الشيء وقوعًا لا يدل على جوازه شرعًا، إنما يُؤخذ جوازه أو عدم جوازه من أدلة أخرى.

 

فقوله: {وَسَنَجْزِي}، وقوله: {نُؤْتِهِ} [آل عمران: 145] بالنون فيهما، وفي: (سنجزي) التفات؛ إذ هو خروج من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.

 

وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء، وكونه بحيث يقصُر عنه البيان ما لا يخفى.

 

{الشَّاكِرِينَ} وعدٌ لمن شكر نِعَمَ الله، فقصر همه ونيته على طلب ثواب الآخرة، وفيه إيثار إرادة الآخرة على الدنيا.

 

قال ابن فورك: وفيه إشارة إلى أنهم ينعِّمهم الله بنعيم الدنيا، ولا يقصرهم على نعيم الآخرة (13).

 

وشكر النعمة القيامُ بحقها، وأداء ما ينعم الله تعالى به من نِعم في مواضعه، فإذا أُعطي فشُكر العطاء بإنفاقه في مواضع الإنفاق، وإذا مُنح القوة فشُكرها أن يجعلها لنصرة الحق وخفض الباطل، وإذا أُعطي نعمة الحكمة والفكر السليم، فيكون الشكر بتسخير ذلك لنفع العباد، وهُدى الناس، وإرشادهم إلى طرق البحث وتذليل الأرض لهم، وأن يكون ما ينتجه للعمارة لا للخراب.

 

وهنا نجد النص لم يُبين الجزاء، ولم يُبين من الذين يتصفون بالشكر من طلَّاب الدنيا أو طلَّاب الآخرة، وقد ترك الجزاء من غير بيان ليعم الجزاء الدنيويَّ، والجزاء الأُخرويَّ، فمن طلبوا الدنيا واتخذوا أسبابها، ونصروا الضعيف، وخذلوا القوي، وعمروا الأرض ولم يفسدوها، ولم يطرحوا ما عند الله تعالى بل طلبوه، كانوا من الشاكرين، واستحقوا الجزاءين: جزاء الدنيا بأن يصلوا إلى النتائج التي قصدوها؛ وهي العلو في الأرض من غير طغيان، والجزاء في الآخرة عند تجلِّي الرحمن.

 

فائدة:

اعلم أن بين الشكر والحمد عمومًا وخصوصًا من وجهين؛ أي: إن أحدهما أعم من الآخر من وجه، فباعتبار أن الحمد يكون لكمال المحمود ولإنعام المحمود يكون أعم من الشكر، وباعتبار أن الحمد يكون باللسان يكون أخص من الشكر، والشكر باعتبار كونه متعلقًا بالقلب واللسان والجوارح أعم من الحمد، وباعتبار أنه في مقابلة نعمة أخص من الحمد.

 

وبهذا التقرير نعرف أنه ليس بين الحمد وبين الشكر ترادفٌ، بل هما متباينان يتفقان فيما إذا حمِد الله سبحانه وتعالى على نعمته، كما لو أكل أو شرب فقال: "الحمد الله"، فهذا يعتبر شكرًا وحمدًا، ويختلفان فيما إذا حمِد الله على كماله، فهنا لا يكون هذا من باب الشكر، وإذا شكر الله بجوارحه، فليس هذا من باب الحمد (14).

 

والآية قد تضمنت حقيقتين علميتين:

الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه، فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك، فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشي آخر؛ وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلًا عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب خاص، فليس من الممكن أن يتقدم أجل إنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تُعلم، من قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلًا}.

 

والثانية: أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤتيه من الدنيا ما قدره له؛ وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له ويعطيه ثواب الآخرة؛ وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (15).

 

إن استغلال كل لحظة في العمل الجاد لما ينفع هو ما يجعل للحياة قيمة ومعنى، عندما نستثمر وقتنا وجهودنا في تحسين أنفسنا وخدمة الآخرين، نترك إرثًا يتجاوز حدود عمرنا.

 

الحياة قد تكون قصيرة، ولكن بإمكاننا ملؤها بأفعال وأهداف تحقق الخير والسعادة.

 

الأثر الذي يتركه الإنسان في حياته يمكن أن يستمر حتى بعد رحيله، الأعمال الصالحة، العلم النافع، الكلمة الطيبة، وحتى الذكرى الجميلة التي يتركها في قلوب الناس، كلها أمور تجعل الإنسان حاضرًا رغم غيابه.

 

كما قال الشاعر:

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم     وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

 

ما أجمل أن نعيش حياتنا ونحن نسعى لترك أثر طيب يُخلد ذكرانا بين الناس.

***

------------

(1) تفسير ابن كثير (2/ 128).

(2) تفسير ابن كثير (2/ 129).

(3) التفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 33).

(4) كتابًا مؤجلًا/ منتديات الألوكة.

(5) زهرة التفاسير (3/ 1435).

(6) تحفة الأحوذي (6/ 290).

(7) في ظلال القرآن (1/ 487).

(8) تفسير ابن كثير (2/ 129).

(9) التفسير المنير للزحيلي (4/ 112).

(10) في ظلال القرآن (1/ 487).

(11) أخرجه أحمد (18260).

(12) أخرجه البخاري (7320).

(13) البحر المحيط في التفسير (3/ 367).

(14) كتابًا مؤجلًا/ منتديات الألوكة.

(15) أيسر التفاسير للجزائري (1/ 386).