فن الإلقاء المؤثر ودلالاته من الكتاب والسنة
تعريف الإلقاء وأنواعه:
تعتبر كل محادثة بين اثنين فأكثر نوعًا من أنواع الإلقاء، ولقد صُنِّف الإلقاء إلى ثلاثة أنواع:
1- فردي، أي تتحدث مع شخص واحد فقط.
2- لمجموعة صغيرة، كما هو الحال في الدروس المنهجية في المدارس والمساجد ونحوه.
3- لمجموعة كبيرة، كما هو الحال في الخطب والمحاضرات العامة ونحوها.
ولعل ما يهمنا في هذه الرسالة هو النوع الثاني والثالث؛ لكونهما يمثلان جل مجالات الإلقاء المنظم، ولأن القصور غالبًا ما يقع فيهما دون سواهما.
مجالات الإلقاء:
إن مجالات الإلقاء كثيرة جدًا، ويصعب حصرها، ولعل من أبرز أمثلتها: خطبة الجمعة، والدروس المنهجية، سواء في المدارس أو في المساجد، والمحاضرات العامة على تنوع موضوعاتها.
عناصر الإلقاء:
كل عملية إلقاء لا بد لها من ستة عناصر أو أركان، ينبغي مراعاتها إذا ما أريد لها النجاح، وهذه العناصر هي:
1- المصدر: وهو الملقي، فلا بد أن يُلِم بقواعد الإلقاء ليكون إلقاؤه مؤثرًا.
2- المستقبِل: وهو المستمع، فلا بد من التعرف على صفاته الشخصية؛ وذلك لاختيار ما يناسبه من المواضيع، ومن طرق، ووسائل، وأساليب الإلقاء.
3- الرسالة: وهي الموضوع، فلا بد من إتقان تحضيره، ومراعاة كونه مناسبًا للمستمعين، وضمن دائرة اهتماماتهم.
4- القناة: وهي وسائل وأساليب الإلقاء.
5- استجابة الجمهور: وأعني بها مدى استفادة الجمهور من الموضوع الذي ألقي عليهم.
6- المؤثرات الخارجية: كضيق المكان، وحرارة الجو، وضعف الإضاءة، وكثرة الضوضاء الخارجية ونحوه.
أهداف الإلقاء:
1- زيادة العلم والمعرفة: كأن تلقي محاضرة للتعريف ببلد معين، أو إنسان معين، أو مبدأ معين، أو نحو ذلك.
2- تعزيز وجهات النظر السليمة: كأن تلقي محاضرة على جمع من المسلمين المصلين عن فضائل الصلاة؛ لتزيدهم محبة للصلاة، وتمسكًا بها.
3- تغيير وجهات النظر الخاطئة: كأن تلقي محاضرة على جمع من الناس، يعتقدون بجواز تطبيق القوانين الوضعية في ديار الإسلام؛ لإقناعهم بعدم جواز ذلك.
4- تعزيز السلوك العملي السليم: كأن تلقي محاضرة على جمع من المحافظين عن صلاة الجماعة، وعن فضل المحافظة عليها لتعزز فيهم هذا المسلك.
5- تغيير السلوك العملي الخاطئ، وتبني السلوك السليم: كأن تلقي محاضرة على جمع من المدخنين عن حرمة التدخين وأضراره ليكفوا عنه.
كيف يكون إلقاؤك مؤثرًا؟
أولًا: أُسس لا بد منها:
1- الإخلاص لله تعالى:
يقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، ويقول جل من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70]، فأمر سبحانه بتقواه أولًا، ثم القول السديد المستقيم الموافق لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فما كان الله ليبارك في عمل لم يرد به صاحبه وجه الله، ففي الحديث القدسي يقول الله سبحانه وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»(1).
2- اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه وخطبه وأحاديثه:
إن الله قد علم نبيه أفضل الطرائق والأساليب لدعوة الناس إلى دين الإسلام، فهو صلى الله عليه وسلم خير متبوع في هذا الأمر وفي كل أمر.
3- القدوة:
تقول عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن»(2).
فلقد كان صلوات ربي وسلامه عليه يدعو الناس للعمل بالقرآن، وكان هو أول من يتخلق بأخلاق القرآن، فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الدعاة المخلصون.
4- وضوح اللغة:
يجب أن يكون الإلقاء باللغة التي تناسب المستمعين، مع ضرورة تجنب اللهجات الدارجة إلا في أضيق الحدود.
يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2].
5- التوقيت المناسب:
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»(3)؛ أي: كان يراعي الأوقات في تذكيرنا.
6- الوسائل المناسبة:
السبورة - الفيديو - الكمبيوتر... الخ؛ مما يساعد على توضيح المعاني، ويؤدي إلى جذب انتباه المستمعين.
7- تنويع الأساليب:
كالتقرير، والاستفهام، والتعجب، وكضرب الأمثال، وقص القصص، وغيرها مما يكثر استعماله في القرآن والسنة المطهرة، كما أن من أعظم الأساليب المؤثرة في المستمعين الاستدلال على أقوالك بنصوص القرآن، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
8- مراعاة حاجة المستمعين للموضوع:
فهذا هو القرآن يتنزل في مكة ثلاث عشرة سنة، لا يحدثهم، في الأعم الأغلب، إلا في موضوع العقيدة؛ لحاجة المسلمين الجدد لهذا الموضوع دونما سواه.
9- مشاركة الجمهور:
وذلك عن طريق إلقاء الأسئلة عليهم واستقبالها منهم، ففي خطبة الوداع يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فيقول: «أتدرون أي يوم هذا؟»... الحديث(4).
10- ابدأ بالمعلوم ثم انتقل للمجهول:
ففي خطبة الوداع بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقرير حرمة اليوم والشهر والبلد، وهي أمور معلومة لأصحابه، ثم انتقل إلى ما قد يجهلونه، وهو أن دماءهم وأموالهم حرام عليهم كحرمة هذه الأمور.
11- تأكد من الإفهام:
بسؤالهم: هل فهموا؟، قال الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر خطبة الوداع: «ألا هل بلغت» ثلاثًا، حتى قالوا: نعم، فقال: «اللهم فاشهد»(5).
12- تعزيز الفهم والتحفيز:
بالتكرار، والأسئلة فيما سبق طرحه، والحوافز المادية والمعنوية، والتنويع في الوسيلة والأسلوب.
13- التعليم بالتطبيق العملي:
صعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر لتعليم أصحابه الصلاة، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(6).
14- مبدأ البذرة والأرض والساقي:
يصور ذلك تصويرًا جميلًا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»(7).
وهذا يعني أنه لا بد من اختيار الأرض الخصبة التي تتقبل البذرة وتنبت بإذن ربها، كما أنه لا بد من المتابعة، والسقي المستمر، والصبر على ذلك مهما طال الزمن، وإلا قد تجدب الأرض، وتموت البذرة، ولا تثمر الجهود.
15- الرفق والرحمة والخلق الحسن:
عندما بال الأعرابي في المسجد لم يزجره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعنفه؛ وإنما أخبره أن المسجد إنما جعل للصلاة وذكر الله، ولا يصلح لمثل فعلك.
16- كن قياديًا:
أحسِن السيطرة على المستمعين لكيلا يفلت منك زمام المحاضرة، فقد يوجد بينهم من يثير الشغب، أو من يحب الضحك والمزاح، أو من يهوى إحراج المحاضرين.
ولعله يحضرني في هذا المقام قصة طريفة لأحد الدعاة عندما كان يحاضر في جمع من النساء عن تعدد الزوجات في الإسلام، وأفاض في الحديث بموضوعية وإتقان واستيعاب، واستعان بالأرقام والإحصاءات، وأورد الحجج العقلية والنقلية لإثبات فوائد تعدد الزوجات، إلا أن عددًا من الحاضرات لم يقتنعن، وأخذن في اللجاج والجدل العقيم، فرأى المحاضر أن يسكتهن بطريقة أخرى، فقال لهن: في الحقيقة أن المسئول الحقيقي عن تعدد الزوجات هو المرأة لا الرجل، فلما استغربن ذلك وأنكرن عليه قال لهن: لو أن كل امرأة رفضت أن تكون زوجة ثانية لرجل لما كان هناك تعدد زوجات.
ثانيًا: المواصفات الكلامية:
1- معدل سرعة الكلام:
لا يكن كلامك سريعًا لا يفهم، ولا بطيئًا فيمل، وإنما ابتغ بين ذلك سبيلًا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بيِّنٍ فَصل، يحفظه من جلس إليه»(8).
2- التكرار للمعلومة المهمة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثًا لتعقل عنه»(9).
3- السكتة الخفيفة قبل المعلومة المهمة:
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: «أتدرون أي يوم هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر؟»، قلنا بلى، قال: «أي شهر هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس ذو الحجة؟»، قلنا: بلى، قال: «أي بلد هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليست بالبلدة الحرام؟»، قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا إلى يوم تلقون ربكم»(10).
4- تكلم ببطء عند المعلومة المهمة:
فإن ذلك أدعى لجذب انتباه المستمعين، وأبلغ في إيصال المعلومة المهمة إليهم.
5- تجنب السكتات الطويلة من غير حاجة:
كتلك التي تفعل عند تقليب الأوراق، أو البحث عن ورقة معينة، أو استذكار نص معين من القرآن أو الحديث، أو غير ذلك.
6- تجنب تكرار كلمة معينة بكثرة لغير حاجة:
نحو: (يعني، عرفت، تعرف، سمعت، أقول، شفت، في الحقيقة، في الواقع، هاه... الخ).
7- ارفع الصوت عند المعلومة المهمة:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثًا(11).
8- لا يكن صوتك رتيبًا مملًا في الشدة والحدة:
فإن التنويع في شدة الصوت بين الارتفاع والانخفاض، وفي الحدة ترقيقًا وتفخيمًا، يمنع تسلل الملل والنعاس إلى المستمعين، ويشد انتباههم إليك شدًا.
ثالثًا: المؤثرات غير الكلامية:
1- المظهر العام:
لا بد أن يوافق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا بالإضافة إلى كونه مقبولًا لدى المستمعين من حيث العرف والتقاليد.
2- توزيع النظرات:
ينبغي الإقبال بالوجه والنظر إلى جميع المستمعين، وعدم النظر فقط في الأوراق أو إلى أعلى أو إلى أسفل أو إلى جهة واحدة أو إلى شخص معين، فإن ذلك أدعى لجذب انتباه المستمعين جميعهم إليك؛ فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظةً بليغة...(12).
3- تعبيرات الوجه:
ينبغي للملقي أن يتفاعل مع ما يقول، فإن كان حديثه عما يفرح تهلل وجهه فرحًا، وإن كان عما يحزن بان الحزن على وجه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه.
4- تحريك اليد والجسم:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: يقول صلى الله عليه وسلم: «بُعثت أنا والساعة كهاتين»، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى(13).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم (2985).
(2) رواه أحمد (24601).
(3) رواه البخاري (68).
(4) رواه البخاري (1741)، ومسلم (1679).
(5) رواه البخاري (1741)، ومسلم (1679).
(6) رواه البخاري (631).
(7) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).
(8) الشمائل المحمدية (213).
(9) المصدر السابق (214).
(10) رواه البخاري (1741)، ومسلم (1679).
(11) رواه البخاري (60)، ومسلم (240).
(12) رواه ابن ماجه (42).
(13) رواه البخاري (6504)، ومسلم (867).