فكر خارج الصندوق
ينتشرُ في أوساط التنميةِ البشرية مفهوم "فكِّر خارج الصندوق"، أو اخرج من الصندوق؛ مما يعني الخروج من الدائرة الضيقة في التفكير إلى سَعة الأفُق، وفضَاء الإبْداع، وإيجاد الحلول وابتكار الأفكار، والتنقيب عن أفكار جديدة، وحلول ذكية لم تخطُر ببالك من قبلُ.
وانطلاقًا مِن قول المتنبي: "وبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأشْياءُ"، فإنني أحاولُ أن أعرِض للقارئ الكريم أولًا مثالًا للتفكير داخل الصندوق؛ حيث يتَّضح ذلك جليًّا فيما نُسِب إلى شارلز هولاند دويل - (مفوض الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية) - من أنه قال ذات مرة: "إن كل شيءٍ كانَ من الممكن اختراعُه، فقد تَمَّ اختراعُه"؛ أي: إنه لا مجال لاختراعات جديدة في العالم! فهذا القول مثال واضحٌ للتفكير داخل الصندوق، وستُصاب بالدهشة والهول عندما تعلَم أن شارلز قال هذا الكلام في عام 1899م؛ أي: في الوقت الذي كانَ الناس يستخدمون الخيول والبغال والقطارات البخارية للتنقُّل، وقبل اختراع السيارات والطائرات ورحلات الفضاء بأمدٍ بعيدٍ! وقبل ثورة الإنترنت بحوالي قرنٍ من الزمان.
ولدينا في تراثنا العربي مفهومٌ مماثل يَحُثُّ على التفكير الضيِّق، وهو: ما تركَ الأولُ للآخرِ شَيْئًا! فهذا كذلك مثلٌ واضحٌ للتفكير داخلَ الصندوق؛ حيث جعل الإبداعَ حِكرًا على القُدامى؛ يقولُ الجاحظ: إذا سمعتَ الرجلَ يقولُ: ما تركَ الأوَلُ للآخِر شيئًا، فاعْلمْ أنه لا يريدُ أن يُفلِح، والصحيحُ: كمْ تركَ الأولُ للآخر، كما يرى علماء الأدب والنقد.
أما التفكير خارج الصندوق، فمعناه أن تفكِّر أولًا، ومعظمُنا للأسف لا يُفكرون! مع أن الأفكار مُعْفاة من الضرائب كما يقول كامدن، ثم لا يكون تفكيرُك على الشكل التقليدي المعتاد، وكأنك حبيسُ صندوقٍ لا تخرُج منه؛ بل يكون على نمطٍ جديد، وبالبحث عن بدائل جديدة، واختلاق أساليب وحلول متنوعة، ومعظمُنا للأسف يعيش على نمطٍ واحدٍ من التفكير المبني على حبِّ التقليد وعدم التخلي عن الآراء -ولو كانت خاطئة- ومعارضة إنعاش الفكر وتنْميته، في الوقت الذي يدعو فيه دينُنا إلى إمْعان التفكير في خلق الله والكَوْنِ باستمرار، ولا أدلَّ على ذلك مِن ورودِ كلمة "يتفكَّرون" ومشتقاتها في القرآن الكريم ثماني عشرة مرة.
وأَوَدُّ أن أَقِفَ مع مفهوم "فكِّر خارج الصندوق" من زاوية اجتماعية، من خلال الأسطر الآتية بحول الله تعالى وتوفيقه:
1- اخرج من صندوق الأفكار السلبية التي تَشْتَعل مَعاركُها الطاحنة في عقلك وفِكْركَ باستمرار، إلى رحاب الإيجابيَة والتفاؤل، وإحسان الظن بالله تعالى أولًا، ثم بخلقه ثانيًا، واعْلَمْ أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، فكلُّ شيءٍ قضاءٌ وقدرٌ، فلِمَ التضجُّر والقهر والحزن والكآبة والكدر؟
ما بين غَمضةِ عَينٍ وانتباهتِها يُغيِّر اللهُ مِن حالٍ إلى حالِ
2- اخرج من صندوق الأخلاق السيئة والعادات المذمومة؛ كالحسد والغل، والشَّحناء والتباغض، والغيبة والنميمة، إلى ميادين المكارم والمحامد، والمحبة والمودة، والتصافي والتراحم، والتعاون والتآخي؛ قال زهير بن أبي سلمى:
الوُدُّ لاَ يَخْفَى وَإِنْ أَخْفَيْتَهُ وَالبُغْضُ تُبْدِيهِ لَكَ العَيْنَانِ
3- اخرج من صندوق التعصب الضيِّق للمذهب والفكر والرأي، إلى السُّنةِ واتباع منهج السلف الصالح، فالسنة نورٌ وهداية، وخيرٌ ورحمة، والتقليدُ والتصعبُ والابتداع من الأمراض المعدية المهلكة.
لا تَرْغَبَنَّ عن الحديثِ وأهلِه فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ
4- اخرج من صندوق التقليل من الآخرين، ومن إنجازاتهم وأعمالهم ومشاريعهم، إلى إعطاء كلِّ أحدٍ حقَّه، فدينُنا يأمرُ بالعدل والإحْسان، وإنزالِ الناس منازلَهم، والإنصاف مِن شِيَمِ الكرام، قال أبو العتاهية:
لاَ تَمشِ فِي الناسِ إلا رحْمَةً لَهُمُ وَلا تُعامِلْهُمُ إلا بإنْصَافِ
5- اخرج من صندوق الفوضى والعشوائية إلى دائرة التنظيم والترتيب، فلا يكن مكتبُك ولا بيتك رُكامًا من الأوراق والمستندات والقصاصات المبعثرة، والجرائد والمجلات التي لن تقرأها، وربما يعلوها الغُبارُ منذ سنوات، واجعَل لكلِّ شيءٌ مكانًا يُمكنك الوصولُ إليه عند الحاجة دون إهدارٍ للوقت والجهد.
6- اخرج من صندوق الغُلو إلى سماحة الإسلام ويُسْره ولُطفه، كن لطيفًا في التعامل مع كل أحد، بدءًا من البيت، ومرورًا بالشارع، ووصولًا إلى العمل، بعيدًا عن إصدار الأحكام على المسلمين، وعن استخدام لغة التعميم والقطيعة، فالجنة عرضُها السموات والأرض، ورحمةُ الله واسعة، وإنما بُعِثْتُم مُيَسِّرين، والدين يُسرٌ ورحمةٌ، وسماحة ولُطف.
7- اخرج من صندوق التهجُّم على الآخرين ونقْدهم وتصنيفهم، إلى فضاء الأُخوة والمحبة والسلام، وتمنِّي الخير للجميع.
تَكَثَّرْ مِنَ الإِخْوانِ مَا اسْطَعْتَ إِنَّهُمْ عِمَادٌ إِذا اسْتَنْجَدْتَهُمْ وَظَهِيرُ
8- اخرج من صندوق العُجب والاغترار بالإمكانيات، والمنصب والكرسي والوجاهة والقوة، فلو بَقِيتْ لغيرك لَمَا وصلَتْ إليك.
الكِبرُ تُبْغِضُهُ الكرامُ وكلُّ مَنْ يُبْدي تَواضُعَهُ يُحَبُّ ويُحْمَدُ
9- اخرج من صندوق الجهل وعدم التطوير، إلى نور العلم والمعرفة، وليَكُنِ الكتابُ صاحبَك وأنيسَك، وجليسَك ومُسامرَك، فالكتابُ صديقٌ لا يَخون، والمطالعة للنفس كالرياضة للجسم كما يقول أديسون.
10- اخرج من صندوق الهاتف وسِجن الجوال، إلى أرض الله الواسعة الجميلة الفسيحة التي ضيَّقْتَها على نفسك في شاشة بحجم اليد، وأشغلتَ نفسك بتطبيقاتٍ وألعابٍ وإعجاباتٍ وتعليقات، لا تُسمنُ ولا تغني من جوع، واعلَم أن الأجهزة الذكية سببٌ للقلق وليس المتعة إذا لم نستخدمْها بالشكل الصحيح؛ إذ تقول دراسة إن الأشخاص البالغين من العمر 20-30 عامًا يتأكدونَ من حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي 157 مرة في اليوم!
11- اخرج من صندوق قطيعة الرحم، وتواصَلْ مع أرحامك، واستفسِر عن حالهم، اتَّصل عليهم، أرسِل لهم هدايا، تودَّد إليهم، أدخِل الفرحَ والسرور على قلوب الكبار والصغار.
وَإِنَّ الَذي بَيني وَبَين بَني أَبي وَبَيْنَ بَني عَمِّي لَمُختَلِفٌ جِدَّا
فَإِنْ أَكُلوا لَحمي وَفَرْتُ لحومَهُم وَإِنْ هَدَموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجْدَا
12- اخرج من صندوق التسرع والعَجَلة، وقطع كلام الآخرين، إلى فضاء الأناة والتُّؤْدَةُ، والرَّويَّة والإصغاء للآخرين، فالعجلة أُمُّ الإخفاق، والعَجول مُخطئ ولو ملَك، والمتأني مصيبٌ وإن هلَك، كما يُقال.
وتراه يُصغي للحديثِ بسَمْعِه وبقلبِه ولعلَّه أَدْرَى بِهِ
13- اخرج من صندوق التشتت والضياع والتهويل، إلى ضبط النفس والاعتدال، والتوازن في أمورك كلها، فلا تُفرط في المدح والذم، في الصداقة والجفاء، في الحب والكره.
ألا فاسْتَقِمْ في كلِّ أمرِكَ واقتَصِدْ فذلك نَهْجٌ للصِّراطِ قَوِيمُ
14- اخرج من صندوق الأنانية التي تُولدُ الحسد والبَغضاء والاختلاف، وكنْ وفيًّا لإخوانك وزملائك، وحاوِلْ قضاء حوائجهم وعدم إيذائهم، وتجنَّب المنَّ عليهم.
فتًى مثلُ صَفْوِ المَاء أمَّا لقاؤُه فبِشرٌ وأَمَّا وعْدُه فجَميلُ
15- اخرج من صندوق البخل والعبوس، إلى حُسن الاستقبال، والبشاشة في وجه الضيف، فليس المهم أن تَبستمَ في وجهه فقط، إنما الأهمُّ أن يرجِع الزائرُ وهو مبتسمٌ.
أُضاحكُ ضيفي قبلَ إنزالِ رَحْلِه فيُخصِبُ عِنْدي والمكانُ جَديبُ
16- اخرج من صندوق الخُمول إلى الهِمَّة العلياء، ومِن ضِيق القومية إلى رحاب الإسلام؛ قال الشاعر الإسلامي الفيلسوف محمد إقبال:
كُنَّا جبالًا في الجبال ورُبَّمَا سِرْنا على مَوجِ البحارِ بِحَارَا
بمعابدِ الإفْرنْج كانَ آذانُنا قبلَ الكتائبِ يَفتَحُ الأمصَارَا
لمْ تَنْسَ إفريقيا ولا صَحْراؤُهَا سَجداتِنا وَالأرضُ تَقْذِفُ نَارَا
---------
المصدر: موقع الألوكة