logo

فقه تربية اليتيم


بتاريخ : الأربعاء ، 22 جمادى الأول ، 1437 الموافق 02 مارس 2016
بقلم : تيار الاصلاح
فقه تربية اليتيم

كفالة المسلمين لأيتامهم إضافة إلى كونها واجبًا شرعيًّا وإنسانيًّا فإنها أيضًا تشكل حصنًا ضد وقوع هذا اليتيم في براثن المنظمات العلمانية والحركات الإجرامية.

 

إن اليتامى عاجزون ضعاف يستحقون كل عناية ورعاية لمصالحهم، ويفتقدون التربية التي تعوضهم عن فقد أبيهم، لذا عني القرآن بشأنهم فأنزل الله فيهم آيات تتلى إلى قيام الساعة، قرر فيها الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته، وأكّد فيها النّهي عن أكل ماله وتضييع حقّه.

 

ولقد راعى التشريع الإسلامي ظروف الأيتام وضعفهم، وانعدام خبرتهم بسبب صغرهم في إدارة وتنمية وحفظ أموالهم، فشرع أحكامًا خاصة بهم، منها أنه جعل الولاية على أموالهم لأقاربهم الكبار الراشدين كالأب والجد، حفاظًا على ثرواتهم، ورفع الشرع الحرج عن الأولياء في مخالطة الأيتام(1).

 

قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

 

إن اليتيم إذا أخذ حظه من التربية الطيبة والتوجيه السديد كان له الأثر الطيب في المجتمع، وإذا أهمل هذا اليتيم في صغره ونشأ تنشئة سيئة؛ فإنه يكون خطرًا على مجتمعه.

 

وكل تعاليم الإسلام حاثة على معاملة اليتيم معاملة طيبة، مرعاة لنفسيته، لأنه حين فقد أباه شعر بالحاجة إلى من يحميه، ويقوي عزيمته، فقد أصابه شيء من الذل والانكسار، وقد كان يجد في أبيه داعيًا حانيًا ملبيًا لما يريد، فلما فقده وأحس بذهابه شعر بالوحشة؛ فكان لا بد من تعويضه لئلا ينشأ مريضًا منطويًا منعزلًا، سيئ النظرة للناس، وربما أدى إلى انحرافه إلى طريق الجريمة والإجرام(2).

 

ولكن معاملة اليتيم لها فقه وتربيته لها فن؛ حتى لا يخطأ الإنسان في حق اليتيم فيظلمه، أو يبالغ حيث لا تنفع المبالغة فيحتاط بغير وعي؛ فيكون الضرر من حيث يريد النفع.

 

فلقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم أن المطلوب إصلاحهم، فقال سبحانه: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي أن المطلوب إصلاحهم وإصلاح مالهم، وذكر إصلاحهم، لأنه المقصد الأول، ولأن إصلاح مالهم إصلاح لهم، وخير لكم ولهم، وإصلاح حالهم بالتهذيب والتربية والعطف والمحبة والرأفة، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم، لأن الغلظة معهم تربي فيهم الجفوة، وتنشأ عنها القسوة، فينشئون وهم يبغضون الناس، ويتربصون بهم الدوائر.

 

وقد أثبت علم النفس الجنائي أن روح الإجرام تنبعث عند النشأة الأولى في الغلمان الذين يحسون بأن المجتمع يجفوهم، ويغلظ عليهم فيخافونه ويبغضونه، ويترقبون الفرصة السانحة ليستلبوا المال أو الأرواح، أو ما يمكنهم أن يصلوا إليه، فكان لابد من تربية اليتيم بالإصلاح والتهذيب، وألا يقهر نفسه حتى لا يجفو فيكون من وراء ذلك الشر المستطير والخطر الكبير(3).

 

روح الإخوة:

وإذا كان المطلوب هو الإصلاح بكل وسائله، وهو الغاية المطلوبة، فإن كان الإصلاح بمخالطتهم وضمهم إليهم من غير أن تؤكل أموالهم، فالمخالطة سائغة جائزة، ولذا قال سبحانه: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أي عند المخالطة استشعروا أنهم إخوانكم في الدين والإنسانية وأبناء إخوانكم، وعاملوهم بتلك الأخوة الرحيمة الرابطة، ولا تنظروا إليهم شذرًا، وتؤكلوهم نزرًا، لأنهم غرباء عن بيتكم، بل أشعروهم بأنهم دائما في بيت أهلهم وذويهم، حتى لا تتربى نفوسهم على الجفوة فيبغضوا الناس، ويتربصوا بهم الدوائر، ويكون ذلك في طبعهم إذا كبروا وبلغوا أشدهم(4).

 

اليتيم ابن بيئته:

إن اليتيم إنسان فقد العائل والنصير منذ صغره، فإذا نشأ في بيئة ترعاه وتكرمه وتعوضه عما فقده من عطف أبيه، شب محبًا لمن حوله وللمجتمع الذي يعيش فيه، وإذا نشأ في بيئة تقهره وتذله وتظلمه؛ نظر إلى من حوله وإلى المجتمع كله نظرة العدو إلى عدوه، وصار من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون لأنه سيقول لنفسه: إذا كان الناس لم يحسنوا إلى فلماذا أحسن إليهم؟ وإذا كانوا قد حرموني حقي الذي منحه الله لي، فلماذا أعطيهم شيئًا من خيرى وبرى؟

 

لهذه الأسباب وغيرها أمر الإسلام أتباعه برعاية اليتيم وإكرامه وصيانة حقوقه من أى اعتداء أو ظلم(5).

 

عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

 

قال ابن كثير: فقوله: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي: على حدة، {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم، فلا بأس عليكم؛ لأنهم إخوانكم في الدين؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي: يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح (6) .

 

يقول ابن جرير: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، يقول: مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم، يقول: الوليّ الذي يلي أمرهم، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم(7).

 

كفالة اليتيم ترقق القلب:

إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي، والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها.

 

واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها، رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم.

 

ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم، وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعًا، وكان الغبن يقع أحيانًا على اليتامى، فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام، عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم، فكان الرجل يكون في حجره اليتيم، يقدم له الطعام من ماله، فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام، فوق ما فيه من الغرم أحيانًا على اليتيم، فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور، وإلى تحري خير اليتيم، والتصرف في حدود مصلحته، فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم، والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم، فاليتامى إخوان للأوصياء، كلهم أخوة في الإسلام، أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة، والله يعلم المفسد من المصلح.