logo

فاتخذه وكيلًا


بتاريخ : الأحد ، 21 رمضان ، 1440 الموافق 26 مايو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
فاتخذه وكيلًا

فاتخذه وكيلًا في كل أمورك، حتى في تحقيق طاعته، والقيام بأمره ونصرة دينه، ومع هذا فالطريق صعب لاحب، يحتاج إلى مدد الصبر والعون من الله تعالى، وحسن التوكل عليه، وقد رأينا موقف إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار فقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، وقد جاءه جبريل فقال له: «ألك حاجة؟»، فقال: «أما إليك فلا»، فقال الله عنه: {فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت:24]، وقال للنار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].

قال القرطبي: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]؛ أي: قائمًا بأمورك، وقيل: كفيلًا بما وعدك(1).

والتوكل على الله عز وجل من أعمال القلوب، وهو ثمرة اليقين، وقضية هذا أن التوكل من لوازم الإيمان؛ فينتفي بانتفائه؛ إذ الإيمان هو التوحيد، ومن اعتمد على غير الله لم يوحده بالحقيقة وإن وحده باللسان، وليس المراد من التوكل ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛ لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراد من التوكل، وقد كان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم، وهم القدوة وبهم الأسوة(2).

فقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}، فهو رب كل متجه، رب المشرق والمغرب، وهو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، فالانقطاع إليه هو الانقطاع للحقيقة الوحيدة في هذا الوجود، والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود، والاتكال على الله وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته، وهيمنته على المشرق والمغرب، أي على الكون كله(3).

وقال الفخر الرازي: «أما قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فالمعنى: أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلًا، وأن تفوض كل أمورك إليه، وهاهنا مقام عظيم، فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه، فإنه غير عالم بحقيقة لا إله إلا هو...، وقال بعضهم: وكيلًا؛ أي: كفيلًا بما وعدك من النصر والإظهار(4).

أهمية التوكل على الله:

تترتب العديد من الآثار الإيجابية والثمار على توكل العبد على الله تعالى، وفيما يأتي بيان عددٍ منها:

ينال العبد بتوكله على الله تعالى سعة وبركة في رزقه؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا»(5).

يُعد التوكل على الله تعالى من الأسباب التي تُقضى بها الديون، حيث قال الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].

يقي التوكل على الله سبحانه من الشيطان، ويحمي العبد من الوقوع في إغوائه، حيث قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ} [النحل:99].

يطرد التوكل التشاؤم عن العبد ويبعده عنه، فالتشاؤم في حقيقته التطير بالمكروه من الأقوال والأفعال والأشياء المرئية، فبعض العباد غير المتوكلين على الله تعالى يتشاءمون من رؤية شخصٍ ما.

يُعد التوكل على الله عز وجل من الأسباب التي تُدخل العبد الجنة في الحياة الآخرة، وتُبعده عن دخول النار؛ حيث روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حسابٍ»، قالوا: «ومن هم يا رسول الله؟»، قال: «هم الذين لا يكتَوون ولا يسترْقُونَ وعلى ربهم يتوكلون»(6).

ينال العبد محبة الله تعالى بتوكله عليه، وبنَيْل العبد محبة الله لا يُعذّب في نار جهنم، وينال محبة العباد ويكسب قلوبهم، كما ينال استجابة الدعاء والسؤال من الله تعالى.

يدل التوكل على الله سبحانه على الإيمان الحقيقي، فالمؤمن الصادق هو الذي يتوكل على الله تعالى، بينما المنافق فلا يتوكل على الله تعالى، وإنما يتوكل على نفسه وعلى المخلوقات(7).

قال ابن قيم الجوزية: «التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم معه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ونهيه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية»(8).

وقوله تعالى: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء:2]، فأمر أن يتخذ وكيلًا، ونهى أن يتخذ من دونه وكيلًا؛ لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، والوكالة الجائزة أن يوكل الإنسان في فعل يقدر عليه فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله، وذلك الذي يوكله لا يفعل شيئًا إلا بمشيئة الله عز وجل وقدرته، فليس له أن يتوكل عليه وإن وكله؛ بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه.

فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله يحصل وإن توكل على غيره، أو يحصل بلا توكل؛ لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلًا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلًا، وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]؛ أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين، فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول سواء اتبعوه أو لم يتبعوه لم يكن للإيمان واتباع الرسول ثَمَّ أثر في هذه الكفاية، ولا كان لتخصصهم بذلك معنى، وكان هذا نظير أن يقال: هو خالقك وخالق من اتبعك من المؤمنين، ومعلوم أن المراد خلاف ذلك.

وإذا كان الحَسْبُ معنًى يختص به بعض الناس؛ علم أن قول المتوكل: حسبي الله، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، أمر مختص لا مشترك، وأن التوكل سبب ذلك الاختصاص، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد، أو خص أهله بكرامة فلا بد أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة، وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر، فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه؛ كالأطفال، لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين، فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلًا مطلقًا وإن عدم التوكل(9).

وإذا كان الأمر باتخاذ وكيلًا مسببًا عن كونه لا إله إلا هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره؛ إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلًا.

والوكيل: الذي يوكل إليه الأمور؛ أي يفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه(10).

وفي قوله تعالى: {أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء:2]، في هذه العبارة خلاصة الهُدى، وتركيز المنهج وجِمَاعه، والوكيل: هو الذي يتولى أمرك، وأنت لا تُولِّي أحدًا أمرك إلا إذا كنتَ عاجزًا عن القيام به، وكان مَن تُوكِّله أحكم منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيرًا، والقوي يصير ضعيفًا، والصحيح يصير سقيمًا.

وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحدًا تِلْو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لِتولِّي أمرك والقيام بشأنك، فربما وَكَّلْتَ واحدًا منهم ففاجأك خبر موته.

إذن: إذا كنت لبيبًا فوكل مَن لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يُعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور يقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان:58].

وما دام الأمر كذلك فإياك أن تتخذ من دون الله وكيلًا، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك؛ كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم؛ بل يناولونك ويُبلِّغونك عن الله سبحانه(11).

والتوكل مصاحب للصادق من أول قدم يضعه في الطريق إلى نهايته، وكلما ازداد قربه وقوي سيره ازداد توكله، فالتوكل مركب السائر الذي لا يتأتى له السير إلا به، ومتى نزل عنه انقطع لوقته، وهو من لوازم الإيمان ومقتضياته، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فجعل التوكل شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل، وفى الآية الأخرى: {وَقَال مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِين} [يونس:84]، فجعل دليل صحة الإسلام التوكل.

وقال تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11]، فذكر اسم الإيمان هاهنا، دون سائر أسمائهم، دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وإن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفًا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد، والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والهداية.

وفي سورة أُم القرآن قال تعالى: {إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وقوله حكاية عن شعيب أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وقوله حكاية عن أوليائه وعباده المؤمنين أنهم قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]، وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل:8-9]، وقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]، وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، وقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30].

فهذه مواضع جمعت الأصلين: التوكل، وهو الوسيلة، والإنابة، وهى الغاية، فإن العبد لا بد له من غاية مطلوبة، ووسيلة موصلة إلى تلك الغاية، فأشرف غاياته، التي لا غاية له أجَلَّ منها، عبادة ربه، والإنابة إليه.

وأعظم وسائله، التي لا وسيلة له غيرها البتة، التوكل على الله والاستعانة به، ولا سبيل له إلى هذه الغاية إلا بهذه الوسيلة، فهذه أشرف الغايات، وتلك أشرف الوسائل، وأما الجمع بين الإيمان والتوكل ففي مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك:29]، ونظيره قوله: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِين} [المائدة:23]، وقوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11].

وأما الجمع بين التوكل والإسلام ففي قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].

وأما الجمع بين التقوى والتوكل ففي مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى قوله تعالى: {وَتوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:1-3]، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2-3] .

وأما الجمع بين التوكل والهداية ففي مثل قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لقومهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12]، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، فأمر رسوله بالتوكل عليه، وعقب هذا الأمر بما هو موجب للتوكل، مصحح له، مستدع لثبوته وتحققه، وهو قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} فإن كون العبد على الحق يقتضي تحقيق مقام التوكل على الله، والاكتفاء به، والإيواءَ إلى ركنه الشديد، فإن الله هو الحق، وهو ولي الحق وناصره ومؤيده، وكافي من قام به، فما لصاحب الحق ألا يتوكل عليه؟ وكيف يخاف وهو على الحق؟ كما قالت الرسل لقومهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12]، فعجبوا من تركهم التوكل على الله وهو هداهم، وأقروا أن ذلك لا يكون أبدًا.

وهذا دليل على أن الهداية والتوكل متلازمان، فصادف الحق، لعلمه بالحق وليقينه بأن الله ولي الحق وناصره، مضطر إلى توكله على الله لا يجد بدًا من توكله.

فإن التوكل يجمع أصلين: علم القلب وعمله، أما علمه فيقينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، وأما عمله فسكونه إلى وكيله، وطمأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أَمره إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه، فبهذين الأصلين يتحقق التوكل، وهما جماعه، وإن كان التوكل دخل في عمل القلب من عمله، كما قال الإمام أحمد: «التوكل عمل القلب»، ولكن لا بد فيه من العلم، وهو إما شرط فيه، وإما جزء من ماهيته.

والمقصود أن القلب متى كان على الحق كان أعظم؛ لطمأنينته ووثوقه بأن الله وليه وناصره وسكونه إليه، فما له ألا يتوكل على ربه؟ وإذا كان على الباطل، علمًا وعملًا أو أحدهما، لم يكن مطمئنًا واثقًا بربه، فإنه لا ضمان له عليه، ولا عهد له عنده، فإن الله سبحانه لا يتولى الباطل ولا ينصره، ولا ينسب إليه بوجه، فهو منقطع النسب إليه بالكلية، فإنه سبحانه هو الحق، وقوله الحق، ودينه الحق ووعده حق، ولقاؤه حق، وفعله كله حق.

ليس في أفعاله شيء باطل؛ بل أفعاله سبحانه بريئة من الباطل، كما أقواله سبحانه كذلك، فلما كان الباطل لا يتعلق به سبحانه؛ بل هو مقطوع عليه البتة كان صاحبه كذلك، ومن لم يكن له تعلق بالله العظيم وكان منقطعًا عن ربه لم يكن الله وليه ولا ناصره ولا وكيله.

فتدبر هذا السر العظيم في اقتران التوكل والكفاية بالحق والهدى، وارتباط أحدهما بالآخر، لو لم يكن في هذه الرسالة إلا هذه الفائدة السرية لكانت حقيقة أن تودع في خزانة القلب، لشدة الحاجة إليها، والله المستعان وعليه التكلان.

فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل، والله أعلم(12).

الفرق بين التوكل والتواكل:

إن الأخذ بالأسباب مع تفويض أمر النجاح لله تعالى، والثقة بأنه عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملًا، هو من التوكل المأمور به، أما القعود عن الأسباب وعدم السعي فليس من التوكل في شيء، وإنما هو اتكال أو تواكل حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الأسباب المؤدية إليه، مصداق ذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ، تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟»، قال: «الله ورسوله أعلم»، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا»، قال معاذ: «يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟»، قال: «لا تبشرهم فيتكلوا»(13).

يعتمد المتوكل على نفسه، ويتصف بالنشاط والعمل والمثابرة، أما المتواكل يعتمد على غيره ولا يخطو خطوة واحدة إيجابية في حياته.

يرضى الله على الإنسان المتوكل عليه، ويساعده ويحفظه من السوء، ويضع مفاتيح الخير أمامه، ويهديه دائمًا لاتباع الطريق الصائبة، ويثيبه على سعيه في الحياة، أما المتواكل فلا يرضى عنه الله، ولا يحظى بتوفيق الله وتيسيره، ولا يستجيب لدعائه.

المتوكل كثير الفعل والدعاء، ينوي وينفذ ما نوى، أما المتواكل فلا يفعل ولا ينوي، يتكلم كثيرًا ولكنه لا ينفذ شيئًا.

التوكل يدفع الإنسان للاطمئنان على رزقه وحياته وصحته، وعدم الخوف من الآخرين؛ لأن الله هو من يتولى شئونه، أما التواكل يشعر صاحبه بالخوف دائمًا لأنه ضعيف الإيمان، وكسله هو من يدفعه للجلوس وعدم الإقدام على العمل والسعي.

يتصف المتوكل بالصبر والتحمل، والحمد دائمًا، وتقبل السراء والضراء، أما المتواكل فإنه لا يمتلك الصبر والتحمل، ولا يدرك أن نقص الرزق والصحة والمال نتيجة تخاذله.

التوكل يدفع الإنسان للتواضع، ويرى الحياة والخلق ملك للخالق، ونحن عابدون فيها، ساعون للعيش والعبادة، فليس لأحد أن يتكبر على الآخر ما دمنا متشابهون لا يميزنا سوى أعمالنا، والتواكل يدفع صاحبه للغرور ورمي حموله وواجباته على الناس، ويرى نفسه الأفضل دائمًا؛ لقلة معرفته بالدين الصحيح وأحكام التقوى.

مع التوكل يشعر الفرد بالبهجة والفرح عند الحصول على ما يريد، ويشعر بمدى إنجازاته، سواء المال أو النجاح نتيجة الكد والاجتهاد، أما المتواكل فلا يشعر بالفرحة؛ لأنه معتاد على الجلوس، ولم يشعر بلذة تعبه وجهده.

كن متوكلًا على الله، قوي الإيمان به، ومستندًا إلى واسع رحمته ورزقه، ولا تكن متواكلًا خاملًا متخاذلًا، فتخسر الدنيا والآخرة(14).

***

______________

(1) تفسير القرطبي (19/ 45).

(2) شرح صحيح البخاري، للقسطلاني (9/ 271).

(3) في ظلال القرآن (6/ 3746).

(4) مفاتيح الغيب (30/ 688).

(5) أخرجه ابن ماجه (4164).

(6) أخرجه مسلم (218).

(7) ما الفرق بين التوكل والتواكل، موقع: موضوع.

(8) مدارج السالكين (2/ 125).

(9) جامع الرسائل، لابن تيمية (1/ 90).

(10) التحرير والتنوير (29/ 267).

(11) تفسير الشعراوي (13/ 8337).

(12) طريق الهجرتين وباب السعادتين، ص258.

(13) أخرجه مسلم (30).

(14) الفرق بين التوكل والتواكل، موقع: موضوع.