logo

عيوب نفسك.. لا عيوب غيرك


بتاريخ : الخميس ، 16 محرّم ، 1445 الموافق 03 أغسطس 2023
بقلم : عبد الله لعريط
عيوب نفسك.. لا عيوب غيرك

إن الحمدَ لله تعالى نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَنْ تبِعه بإحسان إلى يوم الدين.

توطئة:

خلق الله تعالى الإنسان، وجعل فيه مركب نقص من عيوب وأخطاء، ولم يجعله كاملًا خاليًا من النقائص، ابتداء بالأب الأول آدم عليه السلام الذي عهد الله إليه ألَّا يأكل من الشجرة، فأخطأ وأذنب وعصى ربَّه، وكان ذلك سببًا في إخراجه من الجنة.

لا عصمة لغير الأنبياء، فكل الناس يخطئون ويذنبون، وليسوا بمعصومين من الزلَل؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون))؛ حديث حسن رواه الترمذي رحمه الله.

فما دام العبد فيه من العيوب ما فيه، فالواجب عليه أن يهتم بعيوبه، ويعيش مقومًا لها منشغلًا بإصلاحها، وهذا ما دأب عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، نسوق جملة من أقوالهم حتى يستبين لنا هذا السبيل، ولن يستقيم حال الآخرين إلا بما استقام به حال الأولين.

أقوال وحكم:

قال سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئًا أشدَّ عليَّ من نفسي، مرة لي ومرة علي.

لطيفة:

كلمة "عالجت"، فكأنما الذنوب والخطايا جراحات تحرج صاحبها وتؤلمه، وتفسد عليه سرور الحياة وسكينتها، فيُسارع العبد في علاجها طلبًا للعافية؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل"؛ أي: بادر في علاج جرحك قبل أن يستفحل، فيكون فيه هلاكُك.

وعلاج الذنوب بالتوبة والاستغفار والإقلاع عنها والمسارعة في الصالحات، وينبغي أن يستثمر العبد أوقات حياته فيما يُقرِّبه من الله حتى ينال كريم النعيم العاجل والآجل، ولا يضيِّع وقته فيما يشغله عن هذه الغاية السامية ونبل هذا الهدف في هذه الحياة؛ وهو المؤانسة بالله، هذه الغاية لا تدرك أبدًا بالركون للنفس بالاستجابة لرغباتها واتِّباع هواها، هذا الركون غالبًا هو الذي ينسي عيوبها، فتهلك صاحبها.

قال مجاهد رحمه الله: من أعزَّ نفسَه أذَلَّ دينه، ومن أذلَّ نفسَه أعزَّ دينه؛ (ومعناه: الذي يغترُّ بنفسه ويرى أنها عزيزة منيعة لا ينجم عنها خطأ ولا معصية سوف يضرُّ بدينه الذي هو عصمة أمره، وهذا التصوُّر الأعمى هو ما يجرُّ هذه النفس إلى التكبُّر عن خلق الله وظلمهم والتعدِّي في حقوقهم).

قال يونس بن عبيد رحمه الله: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير، ما أعلم أن في نفسي منها واحدة؛(وهذا من التواضُع والهضم من هؤلاء الأعلام التقاة رحمهم الله، هذا التواضُع هو الذي جعلهم يؤتون ما أتوا من واجبات وفرائض وسنن على أتم وأكمل وجه، ويرون ويخافون أنها لا تقبل منهم؛ قال الله جل وعلا في حقهم: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 60، 61]، هذا الخوف والوجل كان دافعًا لهم في المسارعة إلى الخيرات وترك المنكرات، واغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات.

خلاصة كلامهم: نفهم من كلامهم رحمة الله عليهم أنهم عاشوا مشتغلين بعيوب نفوسهم ومهتمين بإصلاحها، فما من موطن خير إلا اغتنموه، وما من موطن شرٍّ إلا تركوه واجتنبوه، فلا مجال ولا وقت لديهم يُضيِّعونه فيما لا يعنيهم.

هذا حال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم مع نفوسهم، عاشوا يقومونها ويعالجونها كما يعالج الطبيب مريضه، فصلح حالهم، وعاشوا في أمن وأمان، وحقَّقُوا بذلك الجنة العاجلة والآجلة.

جنة الدنيا: هي في الأمن والاستقرار النفسي وطمأنينة القلب وراحة البال والضمير، وهي المفقودة في زماننا عند كثير من خلق الله رغم ما أوتوا من حظوظ الدنيا من متاع ونعيم.

قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، يهديهم الله لثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فهي لهم وليست لغيرهم، فخلف من بعدهم خلف انشغلوا بعيوب الناس، فعاشوا يتتبَّعون العورات والعثرات وكأنهم مكلَّفون بإحصاء عثرات وزلَّات خلق الله.

عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بخياركم))، قالوا: بلى، قال: ((الذين إذا رُؤُوا ذُكِرَ الله، أفلا أخبركم بشراركم؟))، قالوا: بلى، قال: ((المشَّاؤُون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، البَاغُون البُرَآءَ العنت))؛ أخرجه البخاري رحمه الله في الأدب المفرد، وقال الشيخ الألباني رحمه الله: حديث حسن.

"البَاغُون البُرَآءَ العنت": الباغون؛ أي: الذين يطلبون، بغيت الشيء؛ أي: طلبته وحرصت على تحصيله ونيله". "البَاغُون البُرَآءَ"؛ أي: يبغون في حقِّ الأبرياء، العنت: هنا معناه: الفتنة وارتكاب الفواحش من الزنا وغيرها، وهي في قول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19].

فانظروا لأثر تتبُّع العورات والعثرات، فهو من موجبات الغضب من الله، وهذا من نتاج النفوس التي استفحل داؤها ولم يهتم صاحبُها بمعالجتها وترك حبلها على غاربها فأهلكته، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، قال بكر بن عبد الله رحمه الله: "إذا رأيتم الرجل موكَّلًا بعيوب الناس، ناسيًا لعيوبه، فاعلموا أنه قد مُكِرَ به".

فلماذا الاهتمام بالآخرين وطلب عثراتهم وتتبُّع زللهم، وفي النفس من النقائص والعيوب ما لو عاش العبد العمر كله يقومها لما كفاه، فهل لنا من عودة لهذا النهج القويم والطريق المستقيم؟!

وصية: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أمسك عليكَ لسانكَ، وليَسعْكَ بَيتك، وابْكِ على خطيئتكَ))؛ رواه أبو عيسى الترمذي رحمه الله في سننه، وقال: هذا حديث حسن.

ملاحظة: وابْكِ على خطيئتك: من الناس من يبكي على عيوب غيره ويشتكي زلاتهم وعثراتهم، فوصية نبينا صلى الله عليه وسلم أن يمسك العبد لسانه، ويبك على زلَّاته وعثراته وسيئاته، ورب كلمة تهوي بالعبد في جهنم سبعين خريفًا.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: ((ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أو تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)).

معنى لا تكلني إلى نفسي؛ أي: لا تتركني لضعفي وعجزي لحظة واحدة، وهذا دليل ضعف العبد، وعجزه وأنه لا يقوى إلا بالله، ففرُّوا إلى الله، وليشتَكِ العبد إليه ضعف نفسه وقلة حيلته وعجزه وهوانه على الناس.

ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَنْ زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها،

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصدر: موقع الألوكة