logo

البأساء والضراء في القرآن الكريم


بتاريخ : الأربعاء ، 25 ربيع الأول ، 1447 الموافق 17 سبتمبر 2025
بقلم : تيار الإصلاح
البأساء والضراء في القرآن الكريم

البأساء والضراء مصطلحان قرآنيان يعبران عن الشدائد والمحن التي يمر بها الإنسان، فالبأساء تشير إلى الشدائد الخارجية مثل الفقر، والخوف، وفقدان الأموال والأحباب، بينما الضراء تشير إلى الشدائد الداخلية مثل الأمراض والأوجاع والآلام الجسدية والنفسية.

المواضع التي وردتا فيها:

الكلمتان غالبًا تردان معًا في سياق الابتلاء والاختبار، ومن أبرز المواضع:

- {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، الآية تتضمن معنى الابتلاء بالضراء دون ذكر اللفظين نصًا.

- {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42].

- {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94].

- {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]، ليس فيه اللفظان لكن يتعلق بالابتلاء.

- {فَلَوْلَا إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43].

الفرق بينهما عند المفسرين:

الطبري: البأساء هي الشدة في الأموال والأرزاق، والضراء هي الشدة في الأبدان من الأمراض والأسقام.

ابن عاشور: جمع بينهما لأن الابتلاء قد يكون في القوة المعيشية (بأساء)، أو في القوة البدنية (ضراء).

ابن كثير: فسرها بأن الله يبتلي الأمم بالفقر والجدب (البأساء) وبالأمراض والأسقام (الضراء).

قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء، {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وغيرهم (1).

قال صاحب المنار: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} قالوا: إن البأساء اسم من البؤس وهو الشدة والفقر، والضراء ما يضر الإنسان من نحو مرض أو جرح، أو فقد محبوب من مال وأهل، وفسروا البأس باشتداد الحرب، والصبر يحمد في هذه المواطن وفي غيرها، وخص هذه الثلاث بالذكر؛ لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر، لما في احتمالها من المشقة على النفس والاضطراب في القلب؛ فإن الفقر إذا اشتدت وطأته يضيق له الذرع، ويكاد يفضي إلى الكفر، والضر إذا برح بالبدن يضعف الأخلاق حتى لا يكاد المرء يحتمل ما كان يسر به في حال الصحة، فما بالك بالمرض وآلامه وما يطرأ في أثنائه من الأمور التي تسوء النفس، وأما حالة اشتداد الحرب فهي على ما فيها من الشدة والتعرض للهلكة بخوض غمرات المنية يطلب فيها من الصبر ما لا يطلب في غيرها؛ لأن الظفر مقرون بالصبر، وبالظفر حفظ الحق الذي يناضل من يجاهد في سبيل الله دونه ويدافع عنه، ويحاول إظهاره ويبغي انتشاره، وهذا هو المأمور من الله تعالى بالصبر حين البأس، لا المحارب لطمع الدنيا وأهواء الملوك (2).

والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟ إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعًا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعًا أمام الشدة، إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرًا، إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله، ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة، الصبر في البؤس والفقر، والصبر في المرض والضعف، والصبر في القلة والنقص.

والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال؛ كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.

ويبرز السياق هذه الصفة.. صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.. يبرزها بإعطاء كلمة {الصَّابِرِينَ} وصفًا في العبارة يدل على الاختصاص، فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير: «وأخص الصابرين» وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر، لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال- على حبه- وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد، وهو مقام للصابرين عظيم، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله، يلفت الأنظار (3).

إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقًا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين (4).

وقد ذكر الله الصبر في البأساء وهي الشدة التي تنزل من فقر مدقع، ومن طاغية يطغى، ومن نوازل تنزل، كخسف أو ريح عاصف، أو سوء معاملة أو نحو ذلك مما يصيب الإنسان في الحياة، والصبر فيها هو ألا يهلع، وأن يفوض أمره إلى الله تعالى، ويرجو كشف الغمة ولا تذهب نفسه شَعاعًا، بل يكون مالكًا لنفسه مدركًا بقلبه ومبصرًا بما يدفع عنه الأذى راجيًا من الله تعالى العون في هذه الشديدة النازلة (5).

من ألطف الأمور وأعجبها على النفس في هذه الحياة أن ما يضرها هو نفسه ما يصلحها، تأمل معي كم من مرض قاد للهداية، وكم من مصيبة قادت إلى عافية ومراجعة للنفس لتخطو إلى صوابها قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}.

ما أجمل تهذيب القرآن للنفوس العنيدة المكابرة عن الحق، فهو طبيبهم وبلسم لجراحاتهم.

قلت: تأمل معي كلمة لعلهم يتضرعون: فهي سكون القلب وخلو الروح من معتقدات الزمان وتوحيد القبلة للواحد الديان، مما يزيد العقل اقناعًا بمنهج البأساء والضراء في إصلاح الفرد والمجتمعات.

ثم يأتي لك في ثنايا سورة البقرة التعريف والافصاح عن منهج البأساء والضراء في القرآن بكل جلاء وعاقبة الصبر عليه، فلا لبس ولا غموض في التربية الذاتية وللأسرة والمجتمع حيث قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ} [البقرة: ١٧٧].

الآثار التربوية للبأساء والضراء:

إنه منهج من مناهج التربية الإسلامية في القرآن الكريم تدفع الفرد إلى بلوغ ذروته في علاقته مع الله، وتدفع المجتمع إلى تحصين قوائمه من الشوائب والعاهات.

- يربي المؤمن على الزهد وعدم التعلق بالدنيا:

الإنسان بطبعه إذا أُعطي المال والنعمة مال قلبه إليها، وربما انشغل بها عن ربه، فجاءت البأساء لتعيده إلى أصل العبودية، فيدرك أن الرزق بيد الله، وأن ما عند الله خير وأبقى.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه» (6)، أي ما يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يلحقه بأهل الترفهات.

قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية «وقنعه الله بما آتاه» بمد الهمزة أي جعله قانعًا بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له، والفلاح الفوز بالبغية في الدارين، والحديث قد جمع بينهما، والمراد بالرزق الحلال منه، فإن المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين، وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافًا وقنعه الله بالكفاف فلم يطلب الزيادة، وأطلق الأول ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام، ذكره الطيبي، وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء؛ لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة (7).

وفي الحديث الآخر: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس» (8).

تربية النفس على الصبر عند البلاء:

عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (9).

واعلم أن الرضا والسخط حالان متعلقان بالقلب، فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض وقلبه مشحون من الرضا والتسليم لأمر الله.

قال ميرك: أقول: وللحديث محمل آخر، وهو أن نزول البلاء علامة المحبة فمن رضي بالبلاء صار محبوبًا حقيقيًا له تعالى، ومن سخط صار مسخوطًا عليه، تأمل، ثم قال الطيبي: فهم منه أن رضا الله مسبوق برضاء العبد، ومحال أن يرضى العبد عن الله تعالى إلا بعد رضاء الله تعالى كما قال تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] ومحال أن يحصل رضاء الله، ولا يحصل رضا العبد في الآخرة كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّ (28)} [الفجر: 27- 28]، فعن الله الرضا أزلًا وأبدًا، سابقًا ولاحقًا (10).

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» (11).

إدراك حقيقة الضعف البشري وحاجة العبد إلى ربه:

قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، والفقر المذكور هنا هو الفقر الذاتي في الناس إلى الله تعالى، يستوي فيه الغني منهم لكثرة العرض، مع الفقير لقلة العرض.

فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.

فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم وتفريجه لكرباتهم وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.

فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية وأجناس التدبير، فقراء إليه في تألههم له وحبهم له، وتعبدهم وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم.

فقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعلمهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه لم يتعلموا ولولا توفيقه، لم يصلحوا.

وما دام العبد في هذه الدنيا وروحه في جسده فهو في حاجة دائمة أيضًا إلى الله تعالى واللجوء إليه، حتى ولو لم تكن له حاجة دنيوية فهو بحاجة إلى دوام العافية وبحاجة إلى مغفرة الذنوب والعفو من الله تعالى، كما أنه بحاجة إلى أن يدعو لصلاح آخرته ودخول الجنة والنجاة من النار، ونحو ذلك فأسباب الدعاء لا تنقطع، وقد قال الله تعالى في بعض أنبيائه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، قال الثوري: رغبًا فيما عندنا ورهبًا مما عندنا.. فالعبد المؤمن دائمًا في رغب فيما عند الله من خيري الدنيا والآخرة وفي رهب مما عنده من عذاب الدنيا والآخرة (12).

تكفير الذنوب ورفع الدرجات:

الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، وبالشدة والرخاء، وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم ومضاعفة حسناتهم، كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصلحاء من عباد الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» (13)، وتارة يفعل ذلك سبحانه بسبب المعاصي والذنوب، فتكون العقوبة معجلة كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، فالغالب على الإنسان التقصير وعدم القيام بالواجب، فما أصابه فهو بسبب ذنوبه وتقصيره بأمر الله، فإذا ابتلي أحد من عباد الله الصالحين بشيء من الأمراض أو نحوها فإن هذا يكون من جنس ابتلاء الأنبياء والرسل رفعًا في الدرجات وتعظيما للأجور، وليكون قدوة لغيره في الصبر والاحتساب، فالحاصل أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات وإعظام الأجور كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار، وقد يكون لتكفير السيئات كما في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» (14)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يصب منه» (15)، وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي وعدم المبادرة للتوبة؛ كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة» (16).

قال السعدي: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر، فلم ينقادوا له: إلا ابتلاهم الله {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} أي: بالفقر والمرض وأنواع البلايا {لَعَلَّهُمْ} إذا أصابتهم، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق، {ثُمَّ} إذا لم يفد فيهم، واستمر استكبارهم، وازداد طغيانهم، {بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} فَأدَرَّ عليهم الأرزاق، وعافى أبدانهم، ورفع عنهم البلاء {حَتَّى عَفَوْا} أي: كثروا، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة الله وفضله، ونسوا ما مر عليهم من البلاء (17).

يربي على الشجاعة والثبات:

يقول ابن القيم: إذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته وجدت أنه ساقهم به إلى أجلّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان، فتأمل حال أبينا آدم عليه السلام وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنة التي جرت عليه وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك لما وصل إلى ما وصل إليه...(18).

فرق كبير بين حال آم عليه السلام قبل الابتلاء وبعده؛ فقبل الابتلاء: {إنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118- 119]، أكل وشرب وتمتع، وبعد الابتلاء وقد أخبر عنه المولى بقوله: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} [طه: 122]، وهذه الحالة الثانية حال اجتباء واصطفاء وهداية.

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ} [البقرة: 155].

وهنا أقول بقلب مكلوم: إننا لم نفهم هذه السنة الكونية لإصلاح أنفسنا ومجتمعنا، ونحن في أشد الحاجة لمعرفتها وتطبيقها في زماننا هذه، حيث تبدلت أحوال المسلمين وانحدرت القيم الإسلامية للقاع في مجتمع كالطفل الرضيع يحبو تارة ويمشي تارة ثم يعود هكذا دواليك في روتين ممل، فلم يتجه القلب لإصلاح أنفسنا، ولم يرتقي المجتمع لإصلاح أبناءنا وبناتنا.

أصبحنا للأسف كفقراء اليهود لا دنيا ولا آخرة، مع أننا نرى بأم أعيننا البأساء والضراء في جنبات نفوسنا وأركان مجتمعنا، فلم نتضرع له ولم نبكي شوقًا لعصر جديد مجيد ينتصر فيه الإسلام بقيمه وتعاليمه على المناهج الغربية والرأسمالية.

لم يعد هناك من يبكي من المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات على القدس الشريف الذي توغل في ادغال اليهود الغاصبين.

مر قريبًا من القرن ولم تتحرك الحكومات ولا الجامعات ولا المربين لانتزاع حقًا من حقوق المسلمين ورده إلى موطنه الأساس الإسلام، ناهيك عن أسبانيا وغيرها المعروفة في إسلامنا بالأندلس.

نريد فعلًا أن نبكي ونتضرع لله عز وجل والابتهال بين يديه بخشوع وسكينة ونسأله بصدق رجوع أقصانا وأندلسنا، وأن يصلح أحوال المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.

إن البأساء والضراء منهج تربية وطريق معبد بالجميل من الأقوال والأفعال والأحاسيس، فيلزم منا أن نطبقه ونستعين به في كشف ملماتنا، فهو تفريج لكرباتنا من الضعف والعجز، فما أجمله من منهج نهره جاري وسلوكه منحة من الباري (19).

***

-----------------

(1) تفسير ابن كثير (1/ 488).

(2) تفسير المنار (2/ 98).

(3) في ظلال القرآن (1/ 161).

(4) في ظلال القرآن (1/ 219).

(5) زهرة التفاسير (1/ 528).

(6) أخرجه مسلم (1054).

(7) شرح النووي على مسلم (7/ 145).

(8) أخرجه ابن ماجه (4102).

(9) أخرجه الترمذي (2396).

(10) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 1142).

(11) أخرجه الترمذي (2399).

(12) تفسير ابن كثير (5/ 370).

(13) أخرجه النسائي (7440).

(14) أخرجه البخاري (5641).

(15) أخرجه البخاري (5645).

(16) أخرجه الترمذي (2396).

(17) تفسير السعدي (ص: 297).

(18) مفتاح دار السعادة (1/ 299).

(19) البأساء والضراء في القرآن الكريم/ طريق الإسلام.