logo

صفات جيل التغيير


بتاريخ : الأحد ، 25 ذو القعدة ، 1440 الموافق 28 يوليو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
صفات جيل التغيير

إن جيل التغيير هو الجيل الذي يحمل الهم، ويتولى المسئولية، ويحمي القضية، ويعيش لدينه، ويسعى لهدفه بخطًا وثيقة، وخطة محكمة، وثقة عالية، وهمة تناطح الجبال.

جيل لا يعرف الكسل ولا التواني، وإنما يعرف العزم والجد والاجتهاد، ولا يغفل عن الله تعالى، وإنما يستمد منه تعالى السند والعون.

قال الله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

فالتمكين: هو جعل هذا الدين ممكنًا في الأرض بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه(1).

هذا وعد من الله تعالى، ومن أوفى بعهده من الله، إذا قال فقوله الحق، ووعده حق وصدق، وهذا واجب على المسلم اعتقاده، والعمل من خلاله، والاطمئنان لوعده، والركون لجنبه.

قال السعدي: «هذا من أوعاده الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يُمَكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فاق الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأمة لفضلها وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة، في أنفسهم وفي غيرهم، لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلين جدًا بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة، وبغوا لهم الغوائل.

فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئًا، ولا يخافون أحدًا إلا الله، فقام صدر هذه الأمة، من الإيمان والعمل الصالح، بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح.

{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} التمكين والسلطنة التامة لكم، يا معشر المسلمين، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الذين خرجوا عن طاعة الله، وفسدوا، فلم يصلحوا لصالح، ولم يكن فيهم أهلية للخير؛ لأن الذي يترك الإيمان في حال عزه وقهره، وعدم وجود الأسباب المانعة منه، يدل على فساد نيته، وخبث طويته؛ لأنه لا داعي له لترك الدين إلا ذلك.

ودلت هذه الآية أن الله قد مكن من قبلنا، واستخلفهم في الأرض، كما قال موسى لقومه: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]، وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ} [القصص:5]»(2).

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة:54–56].

وقوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:54]؛ أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل(3).

ومن صفات جيل التغيير:

لن يكون التغيير إلا إذا توفرت مواصفات وأخلاق لإمكانية التغيير، ومن هذه المواصفات:

أولًا: تحقيق الإيمان:

جيل يوحد الله ويعبده وحده لا شريك له، وينبذ الشرك وعبادة الطاغوت، ويتمسك بالسنة، ويحارب البدعة والخرافة، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، فإذا ما وجد الإيمان الصادق والعمل الصالح فإن النصر والتمكين سيوجد؛ لأن الله علق النصر والتمكين بالإيمان، ولكن ليس أي إيمان؛ بل إيمان حقيقي كما يقول سيد: «إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله، فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله.

فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعًا؛ يتوجه بهذا كله إلى الله»(4).

ويتجلى تحقيق الإيمان في دراسة التوحيد، وتقوية الاعتقاد بمعرفة أسماء الله تعالى، وما تدل عليه من الصفات والأفعال، والتوكل على الله والإيمان بالقدر، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15].

وتحقيق الإيمان بالعلم بما نزل من الوحي والعمل به، فالإيمان بمختلف شعبه يجلب للقلب الطمأنينة، فإذا تغذى القلب من العلم المستقى من الكتاب والسنة، وانصبغت عقائده وعواطفه وانفعالاته وإراداته بذلك اطمأن وسكن، وكلما زاد الإيمان زادت الطمأنينة، واستغنى القلب، وعظم انفكاكه وابتعاده عن أفكار الجاهلية وأعمالها(5).

ثانيًا: حب الله ودوام ذكره تعالى:

والذكر، كما طلب الله تعالى، يكون دائمًا وبكثرة؛ لأنه أداة الفلاح؛ إذ هو وسيلة الخشية، ومتى وجدت الخشية وجدت الطاعة واجتنبت المعصية، وذلك هو الفوز والسعادة(6).

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، أي وأكثروا من ذكر الله في أثناء القتال في قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين، ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبأن النصر بيده ومن عنده يؤتيه من يشاء، وبألسنتكم بالتكبير ونحوه وبالدعاء والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شيء(7).

إننا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يدل على ذلك السياق، فأجدر بأن نؤمر به في حال السلم؛ لأن المؤمنين في جهاد مستمر وحروب دائمة، فهم تارة يجاهدون الأعداء، وأخرى يجاهدون الأهواء، ومن ثم أمرهم الله بالذكر في كثير من الآي، كقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ} لما في ذلك من تربية النفس وصفاء الروح وتذكر جلال الله وعظمته، وأن كل شيء هين في سبيله وابتغاء مرضاته(8).

إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى؛ إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه، وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتقرير ألوهيته في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية؛ وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا؛ لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي، كما أنه توكيد لهذا الواجب، واجب ذكر الله، في أحرج الساعات وأشد المواقف، وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة، يحققها هذا التعليم الرباني(9).

ثالثًا: حسن الخلق:

قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هذه صفات المؤمنين الكُمَّل؛ أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال؛ فهو ضحوك لأوليائه، قتال لأعدائه(10).

وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكًا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن(11).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله سئل: «أي المؤمنين أفضل؟»، قال: «أحسنهم خلقًا»(12).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تقوى الله، وحسن الخلق)»(13).

وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون»(14).

وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: «هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى»(15).

رابعًا: الجهاد المتواصل:

لا يصح للمؤمنين المجاهدين أن يضجروا من مكافحة الأعداء، ولا ييأسوا من الحظوة بمظلة الإيمان، والبعد من الخوف على أنفسهم، حتى وإن استمروا في حمل السلاح؛ لأنه في النهاية ستتحقق لهم الثمرة اليانعة، وهي الاستخلاف في الأرض، فقد وعد الله الذين آمنوا بحق وعملوا صالح الأعمال أن يستخلفهم في الأرض، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد، ويجعلهم أهلها، كما جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب، بدءًا من خلافة الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات.

وذلك كاستخلاف الذين سبقوهم في الإيمان والصلاح على الأرض، كداود وسليمان عليهما السلام، وقد تحقق هذا الوعد الإلهي؛ لأن وعد الله منجز، ففتحت الفتوحات الواسعة، في البلاد المختلفة، في مسيرة الفتح الإسلامي الظافر، ووعد الله المؤمنين أيضًا التمكين لدينهم الذي ارتضاه لهم، وهو جعل دين الإسلام مكينًا ثابتًا في الأرض، قويًا عزيزًا، مهيبًا في كل مكان، مرهوب الجانب من الأعداء، منصورًا على الأعداء(16).

قال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:54]، قال ابن كثير: «أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل»(17).

والله تبارك وتعالى قد اشترى من المؤمنين أنفسهم من أجل الجهاد في سبيله، ونصر دينه؛ قال جل شأنه: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].

أما من ترك الجهاد وركن إلى الدنيا وطيب العيش، ورضي بالزرع واتبع أذناب البقر فإن العذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده؛ فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين واستغلالها للمعادين، وهم كذلك يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون من الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب عليها الذل؛ فدفعت، مرغمة صاغرة، لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء(18).

وقد مثل جيل الصحابة رضوان الله عليهم النموذج الفذ في تطبيق متطلبات الجهاد والشوق إلى ما عند الله؛ وذلك لأن جيل الصحابة جيل فريد، جيل أحب الله وأحب لقاءه، فكان يبحث عن أيسر السبل التي توصله إلى محبوبه، فوجد في حب الشهادة والاستشهاد وامتطاء صهوة جوادها الوسيلة المثلى لتحقيق هذا المبتغى.

فكانت تحيتهم هذه نقيض ما قاله مَن كانوا مع موسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]؛ بل قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون؛ فماذا نحن قائلون؟!

خامسًا: الاستقامة على الطاعة:

لما كانت القرون الثلاثة، الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سفال وخسار، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام فأخذوا من الأطراف بلدانًا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد.

فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله.

والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم(19).

قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء:105-106]، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.

من خلال هذه الآيات نجد أن العبادة والصلاح لا بد وأن يكونا من صفات جيل التغيير.

سابعًا: اليقظة والاستعداد:

قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]؛ أي: ذلكم الذي أُمِرْتم به من النَّفْرِ والجهاد، الذي هو أبعد مرامي الأمم؛ حَفِظ حقيقتها وعلو كلمتها وتقرير سياستها، خير لكم في دنياكم وآخرتكم؛ أي: خير في نفسه، بصرف النظر عن مقابله، أو خير من القعود والبخل عنه، أما الدنيا فلا حياة للأمم فيها، ولا عز ولا سيادة إلا بالقوة الحربية، والقعود عن القتال عند الحاجة إليه يغري الأعداء بالقاعدين العاجزين، وحب الراحة يجلب التعب، وأما الآخرة فلا سعادة فيها إلا لمن ينصر الحق، ويقيم العدل، ويتحلى بالفضائل، ويتخلى عن الرذائل، باتباع الدين القويم، والعمل بالشرع العادل الحكيم، ولا يمكن هذا كله إلا باستقلال الأمة بنفسها، وقدرتها على حفظ سيادتها وسلطانها بقوتها(20).

وما غُلِب المسلمون في العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدى دينهم، وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات، وذلك ما لم يشرعه الله ولم يعمل به رسوله، ولأنهم تركوا العدل والفضائل وسنن الله في الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فيما حرم الله عليهم من الإسراف في شهواتهم(21).

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ} أمر الله المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة، ويكون ذلك بأمرين:

1- إعداد المستطاع من القوة، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين في هذا العصر صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات، وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء، وغيرها من قوى الحرب، وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وغيرها.

2- مرابطة الفرسان في ثغور البلاد وحدودها؛ إذ هي مداخل الأعداء، ومواضع مهاجمتهم للبلاد.

والحكمة في هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرة، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال، وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عَظَّم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها، ولا يزال للفرسان نصيب كبير في الحرب في هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية في الدول الحربية.

إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يُرهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء؛ فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعًا ويمنعهم من الإقدام على القتال، وهذا ما يسمى في العصر الحديث (السلام المسلح)(22).

تاسعًا: الصبر والثبات:

جيل تربى على الصبر والثبات على المبدأ مهما ادلهمت الخطوب، قال تعالى عن يوسف عليه السلام لما مكن الله له في الأرض: {قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، فقد ابتلي يوسف فصبر، ولم يَحِد عن مبادئه قيد أَنْمَلَة، فكان أن مكنه الله في هذه الأرض(23).

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} الثبات هو بدء الطريق إلى النصر، فأَثْبَتُ الفريقين أغلبُهما، وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار، وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا، وهو حريص على هذه الحياة، التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟!

وأما ذِكْرُ الله كثيرًا عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن، كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي.

ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي، قولهم: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جَاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126].

ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل، وهي تواجه جالوت وجنوده: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} [البقرة:250].

ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)} [آل عمران:146-147].

ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدوًا، وقد حكى الله، فيما بعد، عن العصبة التي أصابها القرح في أُحُد، فلما دُعِيَت إلى الخروج ثاني يوم كان هذا التعليم حاضرًا في نفوسها: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173](24).

عن عبد الله بن أبي أوفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: «يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم»(25).

إن المسلمين اليوم يتطلعون ويترقبون هذا الجيل الفريد من نوعه وصفاته، ذلك الجيل الذي سيكون التمكين له بإذن الله، فإن لم نكن نحن ذلك الجيل فلنكن سببًا في إيجاده، ولنهيئ الجو له، وذلك بتربية أولادنا على حب الله، وعبادته وحده لا شريك له، والجهاد في سبيل الله، بكافة أنواع وأساليبه؛ بالبنان، واللسان، والسنان، والصبر والثبات على المبادئ الإسلامية والأخلاق المحمدية(26).

***

________________

(1) التفسير المنير، للزحيلي (18/ 281).

(2) تفسير السعدي، ص573.

(3) تفسير ابن كثير (3/ 136).

(4) في ظلال القرآن (4/ 2528).

(5) أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة (2/ 685).

(6) التفسير المنير، للزحيلي (5/ 251).

(7) تفسير المراغي (10/ 10).

(8) المصدر السابق (5/ 143).

(9) في ظلال القرآن (3/ 1528).

(10) تفسير ابن كثير (3/ 136).

(11) المصدر السابق (7/ 360).

(12) أخرجه أبو داود (4682).

(13) أخرجه الترمذي (2004).

(14) أخرجه الترمذي (2018).

(15) تفسير القرطبي (18/ 228).

(16) التفسير الوسيط، للزحيلي (2/ 1768).

(17) تفسير ابن كثير (3/ 136).

(18) في ظلال القرآن (3/ 1655).

(19) تفسير ابن كثير (4/ 239).

(20) تفسير المنار (10/ 399).

(21) تفسير المراغي (9/ 208).

(22) المصدر السابق (10/ 26).

(23) مواصفات جيل التمكين، موقع: إمام المسجد.

(24) في ظلال القرآن (3/ 1528).

(25) أخرجه مسلم (1742).

(26) مواصفات جيل التمكين، موقع: إمام المسجد.