logo

شرك الطاعة والاتباع


بتاريخ : الأحد ، 17 ربيع الآخر ، 1446 الموافق 20 أكتوبر 2024
شرك الطاعة والاتباع

عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]، قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه» (1). 

فدل هذا على أن طاعة الأحبار والرهبان في تحريم الحلال وتحليل الحرام عبادة لهم، ويعتبر هذا من شرك الطاعة، لأن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى، فليست العبادة قاصرة على السجود والركوع والدعاء والذبح والنذر وغير ذلك مما يفعله الوثنيُّون، بل ويشمل طاعة المخلوقين في معصية الخالق سبحانه وتعالى ومخالفته في تشريعه، يدخل هذا في ضِمْن العبادة، فالعبادة عامة ليست مقصورة على نوع أو أنواع من العبادة؛ بل هي شاملة لكل ما هو من حق الله، ومن ذلك: التحليل والتحريم (2). 

بداية

لم يكن شرك العرب متمثلًا في إنكار الله سبحانه ولا في عدم معرفتهم الحقيقة، إنما كان يتمثل أكثر ما يتمثل، في عدم إخلاصهم العبودية له، وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره، وهو ما لم يكن متفقًا مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم لحقيقته. 

إنما كان شركهم الحقيقي يتمثل ابتداء في تلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غير الله، الذي يعرفونه ويعترفون به على هذا النحو، الأمر الذي يشاركهم فيه اليوم أقوام يظنون أنهم مسلمون- على دين محمد- كما كان المشركون يظنون أنهم مهتدون على دين أبيهم إبراهيم! حتى لكان أبو جهل- وهو أبو جهل- يستفتح على الله فيقول: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف (3). 

فأما تلك الأصنام التي عرف أنهم يعبدونها، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهية لها كألوهية الله سبحانه، ولقد صرح القرآن الكريم بحقيقة تصورهم الاعتقادي فيها، وبسبب تقديمهم الشعائر لها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهذا كان مبلغ تصورهم لها، مجرد شفعاء عند الله، وما كان شركهم الحقيقي من هذه الجهة، ولا كان إسلام من أسلم منهم متمثلًا في مجرد التخلي عن الاستشفاع بهذه الأصنام، وإلا فإن الحنفاء، الذي اعتزلوا عبادة الأصنام هذه وقدموا الشعائر لله وحده ما اعتبروا مسلمين؛ إنما تمثل الإسلام في الاعتقاد والشعائر وإفراد الله سبحانه بالحاكمية. 

والذين لا يفردون الله سبحانه بالحاكمية- في أي زمان وفي أي مكان- هم مشركون، لا يخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم أن لا إله إلا الله- مجرد اعتقاد- ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده.. فإلى هنا يكونون كالحنفاء الذين لم يعتبرهم أحد مسلمين- إنما يعتبر الناس مسلمين حين يتمون حلقات السلسلة، أي حين يضمون إلى الاعتقاد والشعائر، إفراد الله سبحانه بالحاكمية، ورفضهم الاعتراف بشرعية حكم أو قانون أو وضع أو قيمة أو تقليد لم يصدر عن الله وحده.. وهذا وحده هو الإسلام، لأنه وحده مدلول شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله كما عرف هذا المدلول في الاعتقاد الإسلامي وفي الواقع الإسلامي سواء؛ ثم أن يتجمع هؤلاء الذين يشهدون أن لا إله إلا الله على هذا النحو وبهذا المدلول في تجمع حركي بقيادة مسلمة وينسلخوا من التجمع الجاهلي وقيادته الجاهلية، وهذا ما ينبغي أن يتبينه الذين يريدون أن يكونوا «مسلمين» فلا تخدعهم عن حقيقة ما هم فيه خدعة أنهم مسلمون اعتقادًا وتعبدًا، فإن هذا وحده لا يجعل الناس «مسلمين» ما لم يتحقق لهم أنهم يفردون الله سبحانه بالحاكمية، ويرفضون حاكمية العبيد، ويخلعون ولاءهم للمجتمع الجاهلي ولقيادته الجاهلية. 

إن كثيرًا من المخلصين الطيبين تخدعهم هذه الخدعة.. وهم يريدون لأنفسهم الإسلام ولكنهم يُخدعون عنه، فأولى لهم أن يستيقنوا صورة الإسلام الحقيقية.. والوحيدة.. وأن يعرفوا أن المشركين من العرب الذين يحملون اسم «المشركين» لم يكونوا يختلفون عنهم في شيء! فلقد كانوا يعرفون الله بحقيقته- كما تبين- ويقدمون له شفعاء من أصنامهم، وكان شركهم الأساسي يتمثل- لا في الاعتقاد- ولكن في الحاكمية! وإذا كان ينبغي للطيبين المخلصين الذين يريدون أن يكونوا مسلمين أن يتبينوا هذه الحقيقة، فإن العصبة المسلمة التي تجاهد لإعادة نشأة هذا الدين في الأرض في عالم الواقع يجب أن تستيقن هذه الحقيقة بوضوح وعمق، ويجب ألا تتلجلج فيها أي تلجلج، ويجب أن تعرّف الناس بها تعريفًا صريحًا واضحًا جازمًا.. فهذه هي نقطة البدء والانطلاق.. فإذا انحرفت الحركة عنها- منذ البدء- أدنى انحراف ضلت طريقها كله وبنت على غير أساس مهما توافر لها من الإخلاص بعد ذلك والصبر والتصميم على المضي في الطريق (4). 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك، وأتباع القضاة، والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة.. فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرمه، والحلال ما حلله، والدين ما شرعه إما دينًا، وإما دنيا، وإما دينًا ودنيا، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك، وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئًا في طاعته بغير سلطان من الله (5). 

الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين؛ وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعًا مطلقًا لحاكمية الله المباشرة، الممثلة في شريعته، وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة (6). 

قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. 

الأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين.. وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصرف أمر هذا الكون كله بلا شريك (7). 

وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: ٦٠]. 

وهذا هو شرك الطاعة والاتباع، والذي كثر في هذا الزمان، حيث رفض فيه شرع الله عز وجل ونحي جانبًا، وحلت مكانه قوانين البشر ونحاتات أفكارهم وأنظمتهم الجائرة الكافرة الموصوفة بالجهل والظلم والهوى والنقص، وانطبق على هؤلاء المشرعين من دون الله عز وجل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى: ٢١].

أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة (8).

بما أنه سبحانه هو مبدع هذا الكون كله، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له، والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس، وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال، فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور. 

لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته. 

ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى، شرع في هذا كله أصولًا، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة (9). 

من الأمثلة على هذا النوع

1- الطاعة في تحكيم القوانين الوضعية بدلًا من الشريعة الإسلامية، والاحتكام إليها. 

2- الطاعة في تحليل ما علم تحريمه من دين الإسلام بالضرورة؛ مثل الربا، والزنا، والتبرج، والسفور، والقمار، ونحو ذلك من سائر المعاملات المنصوص على تحريمها، ولا مجال للاجتهاد فيها. 

3- الطاعة في تحريم ما أحل الله وأباحه؛ مثل أكل اللحوم، وتعدد الزوجات، والملكية الفردية، وغير ذلك (10). 

يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله؛ فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله -عند من يعتقد أنه مثله، أو خير منه-، كفر بواح، لا نزاع فيه (11).

وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا} لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته، ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلًا، محتويًا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة، كما أنه تضمن أحكامًا تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة.. وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة.. هذا ما يقرره الله سبحانه عن كتابه (12). 

متى تكون طاعة المخلوق شركًا مخرجًا من الملة:

قال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم (13). 

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله. فهذه عبادة للرجال، وتلك عبادة للأموال، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣١]، فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ} [الصافات: ٢٢- ٢٣]، فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا جميعًا معذبون. 

إذن فإن من الشرك الأكبر والظلم الأعظم رفض شرع الله تعالى وطاعة المشرعين من دون الله عز وجل أو اتباعهم فيما أحلوا وحرموا مما لم يأذن به الله تعالى. 

يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: أما استحقاق نفوذ الحكم؛ فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق عز وجل، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم، والسلطان، والسيد، والأب، والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا، لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم؛ لولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا، كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب؛ إذا ليس أحدهما أولى من الآخر. 

فإذا: الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله طاعته (14). 

ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين، دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها؛ وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة، ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه، ودون أن يتبع شهادة أن محمدًا رسول الله معناها وحقيقتها، وهي التقيد بالمنهج الذي جاء به من عند ربه للحياة، واتباع الشريعة التي أرسله بها، والتحاكم إلى الكتاب الذي حمله إلى العباد.

ولن يكون الإسلام إذن تصديقًا بالقلب بحقيقة الألوهية والغيب والقيامة وكتب الله ورسله.. دون أن يتبع هذا التصديق مدلوله العملي، وحقيقته الواقعية التي أسلفنا.. 

ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات، أو إشراقات وسبحات، أو تهذيبًا خلقيًا وإرشادًا روحيًا.. دون أن يتبع هذا كله آثاره العملية ممثلة في منهج للحياة موصول بالله الذي تتوجه إليه القلوب بالعبادات والشعائر، والإشراقات والسبحات، والذي تستشعر القلوب تقواه فتتهذب وترشد.. فإن هذا كله يبقى معطلًا لا أثر له في حياة البشر ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء (15). 

إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة... إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين. 

ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة «بالإنسان» إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها (16).

قال الشنقيطي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: ١٠]، ما نصه: ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده، لا إلى غيره، جاء موضحًا في آيات كثيرة. 

فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: ٢٦]، وفي قراءة ابن عامر من السبعة: {وَلَا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} بصيغة النهي. 

وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠]، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله. 

وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل والعمل به بدل تشريع الله –عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه-کفر بواح لا نزاع فيه. 

وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: ٤٠]، وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [يوسف: ٦٧]، وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: ٥٧]، وقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤]، وقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: ٢٦]، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: ٨٨]، وقوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: ٧٠] والآيات بمثل ذلك كثيرة . 

وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: ٣٦]، وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جدا، كقوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [ النحل: ١٠٠]، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: ١٢١]، وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: ٦٠]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا، كما تقدم إيضاحه في الكهف (17). 

صفات من له الحكم والتشريع:

اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر: هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع؟ سبحان الله وتعالى عن ذلك. 

فإن كانت تنطبق عليهم –ولن تكون– فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقينًا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية؛ سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.

فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه} [الشورى: ١٠]، ثم قال مبينًا صفات من له الحكم: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: ١٠– ١٢]. 

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما على غير مثال سابق وأنه الذي خلق للبشر أزواجًا، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية … وأنه له مقاليد السماوات والأرض وأنه هو الذي {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يضيق على من يشاء {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ولا تقبلوا تشريعًا من كافر خسيس حقير جاهل.. ومنها قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَٰذَا فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: ١٥٠]. 

فقوله: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} صيغة تعجيز؛ فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم، وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أو كونية قدرية، من خصائص الربوبية، كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعًا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربًا، وأشركه مع الله. 

ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئًا، يعلمون أن الله حرمه وحرموا شيئًا يعلمون أن الله أحله، فإنهم يزدادون كفرًا جديدًا بذلك، مع كفرهم الأول، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: ٣٧]، إلى قوله: {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: ٣٧]. 

وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله، في تشريع مخالف لما شرعه الله، فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: ١٣٧] فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد (18). 

التشريع من دون الله ظلم عظيم:

من خلال هذا الكلام النفيس وما قبله يتبين لنا عظم ظلم الطغاة الذين يشرعون للناس ما لم يأذن به الله تعالى، ويحكمون في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بأهواء البشر المليئة بالظلم والجهل والطغيان، فما أشد ظلم الطغاة، وما أشد شؤمهم على أنفسهم وأمتهم فلقد جمعوا كل أنواع الظلم –نعوذ بالله من الخذلان– حيث ظلموا أنفسهم بتبديلهم شرع الله عز وجل وهذا من الظلم الأعظم، وظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى وارتكابهم ما حرم الله عز وجل مما تفرزه تشريعاتهم الباطلة، وظلموا عباد الله سبحانه بما ألزموهم به من الأحكام الظالمة التي تلحق الضرر بدينهم وأنفسهم، وأموالهم وأعراضهم، وبما أحدثوه من السياسات الجائرة التي تمكن للمفسدين ليفسدوا في الأرض، وفي الوقت نفسه تبعد أهل الخير والصلاح عن مواطن التوجيه إن لم تزج بهم في غياهب السجون.

أقوال العلماء في التشريع العام:

قال الماوردي في ذكر أول ما يلزم الحاكم المسلم من الأمور العامة: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل (19).

قال ابن حزم: لا خلاف بين اثنين من المسلمين.... وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام (20). 

قال ابن تيمية: نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر (21). 

قال ابن القيم: قالوا: وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام (22). 

قال ابن كثير: من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال اللهُ تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (23). 

وقال أيضًا: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله.. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير (24).

وقد وَصَف اللهُ الحاكِمينَ بغيرِ ما أنزل اللهُ بثلاثةِ أوصافٍ:

فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

وقال سبحانَه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

واختلف أهل العلم في ذلك:

فقيل: إن هذه الأوصاف لموصوف واحد؛ لأن الكافر ظالم؛ لقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وفاسق؛ لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: 20]، أي: كَفَروا. 

وقيل: إنها لموصوفَينِ متعددين، وإنها على حسب الحكمِ، فيكون كافرًا في ثلاثة أحوال:

1- إذا اعتقد جوازَ الحكم بغير ما أنزل الله، بدليل قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]، فكل ما خالف حكم الله، فهو من حكم الجاهلية، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، فالمحل للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حل الزنا أو الخمر، أو تحريم الخبز أو اللبن.

2- إذا اعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله. 

3- إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام.

قال الله مقرِّرًا ذلك: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكامًا، وهو أحكم الحاكمين؛ فمن ادعى أن حكم غير الله مثل حكم الله أو أحسن، فهو كافر؛ لأنه مكذب للقرآن. 

ويكون ظالمًا: إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله، فهو ظالم.

ويكون فاسقًا: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوًى في نفسه، مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه، أي: محبة لما حكم به، لا كراهية لحكم الله، ولا ليضر أحدًا به، مثل: أن يحكم لشخص؛ برشوة رُشِي إياها، أو لكونه قريبًا أو صديقًا، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك، مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق، وإن كان أيضًا ظالمًا، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم. 

قال ابن القيم: والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانًا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ، له حكم المخطئين (25). 

وقال ابن أبي العز: وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرًا: إما مجازيًا، وإما كفرًا أصغر، على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله: فهذا كفر أكبر. 

وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويسمى كافرًا كفرًا مجازيًا، أو كفرًا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور (26).

وقال السعدي: فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرًا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد (27).

وقال الشنقيطي: الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، نازلة في المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبلها مخاطبًا لمسلمي هذه الأمة: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44]، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلًا له، أو قاصدًا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها. 

أما من حكم بغير حكم الله، وهو عالم أنه مرتكب ذنبًا، فاعل قبيحًا، وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين، وسياق القرآن ظاهر أيضا في أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، في اليهود؛ لأنه قال قبلها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضًا في أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في النصارى؛ لأنه قال قبلها: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. 

واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر، والظلم، والفسق، كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مرادًا به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى، ومن لم يحكم بما أنزل الله، معارضة للرسل وإبطالًا لأحكام الله، فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، ومن لم يحكم بما أنزل الله معتقدًا أنه مرتكب حرامًا، فاعل قبيحًا، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت، والعلم عند الله تعالى (28). 

فمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله، وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله، فقد بدل الشريعة بهذه القوانين، ومن سن قوانين تخالف الشريعة، وادعى أنها من المصالح المرسلة، فهو كاذب في دعواه؛ لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها، فهي من الشرع، وما نفاه فليس بمصلحة، وما سكت عنه فهو عفو. 

قال ابن تيمية: الحكم بالعدل واجب مطلقًا، في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر (29). 

وقال ابن تيمية أيضًا: الإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافرًا مرتدًّا باتفاق الفقهاء (30).

وقال أحمد شاكر: إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائنًا من كان في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيَّابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير متوانين ولا مقصرين، سيقول عني عبيد هذا الياسق العصري وناصروه: إني جامد، وإني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويلِ، ألا فليقولوا ما شاءوا، فما عبأت يومًا ما بما يقال عني، ولكني قلت ما يجب أن أقول (31). 

وقال محمد حامد الفقي: من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء، والفروج، والأموال، ويقدمها على ما علم وتبيَّن له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو بلا شك كافر مرتد، إذا أصر عليها، ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها (32). 

وقال محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إن من الكفر الأكبر المستبين، تنْزيل القانون اللعين منْزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم بين العالمين؛ والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. 

وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال أيضًا: لو قال من حكَّم القانون: أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان، وأعتقد أنها باطل (33).

وقال محمد الأمين الشنقيطي: وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم (34).

وقال ابن عثيمين: إن الذين يحكمون القوانين الآن، ويتركون وراءهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما هم بمؤمنين؛ ليسوا بمؤمنين، لقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، ولقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وهؤلاء المحكمون للقوانين لا يحكمونها في قضية معينة خالفوا فيها الكتاب والسنة، لهوى أو لظلم، ولكنهم استبدلوا الدين بهذا القانون، وجعلوا هذا القانون يحل محل شريعة الله، وهذا كفر؛ حتى لو صلوا وصاموا وتصدقوا وحجوا، فهم كفار ما داموا عدلوا عن حكم الله -وهم يعلمون بحكم الله- وإلى هذه القوانين المخالفة لحكم الله.

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فلا تستغرب إذا قلنا: إن من استبدل شريعة الله بغيرها من القوانين فإنه يكفر ولو صام وصلى؛ لأن الكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله، فالشرع لا يتبعض، إما تؤمن به جميعًا، وإما أن تكفر به جميعًا، وإذا آمنت ببعض وكفرت ببعض، فأنت كافر بالجميع، لأن حالك تقول: إنك لا تؤمن إلا بما لا يخالف هواك، وأما ما خالف هواك فلا تؤمن به؛ هذا هو الكفر، فأنت بذلك اتبعت الهوى، واتخذت هواك إلهًا من دون الله.

فالحاصل أن المسألة خطيرة جدًا، من أخطر ما يكون بالنسبة لحكام المسلمين اليوم، فإنهم قد وضعوا قوانين تخالف الشريعة وهم يعرفون الشريعة، ولكن وضعوها -والعياذ بالله- تبعًا لأعداء الله من الكفرة الذين سنوا هذه القوانين ومشى الناس عليها، والعجب أنه لقصور علم هؤلاء وضعف دينهم، أنهم يعلمون أن واضع القانون هو فلان بن فلان من الكفار، في عصر قد اختلفت العصور عنه من مئات السنين، ثم هو في مكان يختلف عن مكان الأمة الإسلامية، ثم هو في شعب يختلف عن شعوب الأمة الإسلامية، ومع ذلك يفرضون هذه القوانين على الأمة الإسلامية، ولا يرجعون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين الإسلام؟ وأين الإيمان؟ وأين التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول إلى الناس كافة؟ وأين التصديق بعموم رسالته وأنها عامة في كل شيء؟ 

كثير من الجهلة يظنون أن الشريعة خاصة بالعبادة التي بينك وبين الله عز وجل فقط، أو في الأحوال الشخصية من نكاح وميراث وشبهه، ولكنهم أخطئوا في هذا الظن، فالشريعة عامة في كل شيء، وإذا شئت أن يتبين لك هذا؛ فسال ما هي أطول آية في كتاب الله؟ سيقال لك إن أطول آية هي: آية الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ....} [البقرة: 282]، كلها في المعاملات، فكيف نقول إن الشرع الإسلامي خاص بالعبادة أو بالأحوال الشخصية، هذا جهل وضلال، إن كان عن عمد فهو ضلال واستكبار، وإن كان عن جهل فهو قصور، والواجب أن يتعلم الإنسان ويعرف، نسأل الله لنا ولهم الهداية (35).

------------

(1) أخرجه الترمذي (3095).

(2) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 116).

(3) سيرة ابن هشام (1/ 628).

(4) في ظلال القرآن (3/ 1491- 1493).

(5) مجموع الفتاوى (1/ 98).

(6) في ظلال القرآن (2/ 1018).

(7) في ظلال القرآن (2/ 1019).

(8) تفسير ابن كثير (7/ 198).

(9) في ظلال القرآن (5/ 3152).

(10) المفيد في مهمات التوحيد (ص: 122).

(11) أضواء البيان للشنقيطي (7/ 162).

(12) في ظلال القرآن (3/ 1194).

(13) تفسير الطبري (14/ 212).

(14) المستصفى لأبي حامد الغزالي (1/ 83).

(15) في ظلال القرآن (1/ 423).

(16) في ظلال القرآن (4/ 1903).

(17) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 47).

(18) أضواء البيان (٧/ ١٦٢-١٧٣).

(19) الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 40).

(20) الإحكام في أصول الأحكام (5/ 173).

(21) مجموع الفتاوى (35/ 200).

(22) أحكام أهل الذمة (1/ 259).

(23) البداية والنهاية (13/ 119).

(24) شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص: 283).

(25) مدارج السالكين (1/ 346).

(26) شرح الطحاوية (ص: 323).

(27) تيسير الكريم الرحمن (ص: 233).

(28) أضواء البيان (1/ 407-408).

(29) منهاج السنة النبوية (5/ 131).

(30) مجموع الفتاوى (3/ 267).

(31) عمدة التفسير لأحمد شاكر (4 / 47).

(32) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 183).

(33) تحكيم القوانين (ص: 1).

(34) أضواء البيان (3/ 259).

(35) شرح رياض الصالحين (2/ 262- 263).