logo

سعار الشهرة


بتاريخ : الأحد ، 23 صفر ، 1447 الموافق 17 أغسطس 2025
بقلم : تيار الإصلاح
سعار الشهرة

 للأضواء بريق خاص يصعب على الإنسان تجاهله، وقد ينحني بأي لحظة لهذه الأضواء، ويقوم باسترخاص نفسه والتهريج بذاته أمام الملأ، من أجل أن يكون شخص معروف ومرموق في المجتمع، مهما كانت نوعية الرسالة التي يقدمها.

 

وحب الشهرة والسعي لها من المهلكات والشهوات مهما كانت وسائلها، حتى ولو كانت بأبسط الأمور مثل التصوير، ونقل الأخبار أو القصص والتنكيت، وإضحاك الناس، حتى لو كان ذلك باللباس والأشكال والأزياء، وموضات الحلاقة، أو كيفية الأكل والشرب والمشي؛ فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارًا» (1).

 

أي ثوب تكبر وتفاخر وتجبر، أو ما يتخذه المتزهد ليشهر نفسه بالزهد، أو ما يشعر به المتسيد من علامة السيادة كالثوب الأخضر، أو ما يلبسه المتفقهة من لبس الفقهاء، والحال أنه من جملة السفهاء.

 

قال القاضي: الشهرة ظهور الشيء في شيئه بحيث يشهر به صاحبه، والمراد بثوب شهرة ما لا يحل لبسه، وإلا لما رتب الوعيد عليه، أو ما يقصد بلبسه التفاخر والتكبر على الفقراء والإذلال بهم وكسر قلوبهم، أو ما يتخذه المساخر ليجعل به نفسه ضحكة بين الناس، أو ما يرائي به من الأعمال، فكني بالثوب عن العمل وهو شائع، قال الطيبي: والوجه الثاني أظهر لقوله: ألبسه الله ثوب مذلة وفي النهاية: أي أشمله بالذل كما يشمل الثوب البدن (2).

 

ثوب شهرة، شكل غريب، لون مقزز، حجم ومقاس لافت مغاير لما عليه الناس، مغاير للمألوف من أجل الاشتهار، من أجل الشهرة، يلبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة ثم يحترق بالنار.

 

والحديث يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة، وليس هذا الحديث مختصًا بنفيس الثياب؛ بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبًا يخالف ملبوس الناس من الفقراء؛ ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه (3).

 

قال الشوكاني: والمراد بقوله: «ثوب مذلة» ثوب يوجب ذلته يوم القيامة كما لبس في الدنيا ثوبًا يتعزز به على الناس ويترفع به عليهم (4).

 

روى الإمام ابن الجوزي حادثة وقعت أثناء الحج في زمانه؛ إذ بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم، قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم (5).

 

ومع شناعة هذا الفعل وغرابته في آن واحد إلا أن هذا الأعرابي قد سطر اسمه في التاريخ رمزًا للسخافة والخَرَق، وإلا فما الداعي لهذه الفعلة الشنيعة إلا الحرص الشديد على بلوغ المجد والشهرة، ولو كان بالدخول من أحط الأبواب وأنتنها، خصوصًا أن الأمر لا يحتاج إلى مال يُنفق أو جهد يُبذل، ولكنه البحث عما يثير اهتمام الناس بالغريب المحدث من الأقوال أو الأفعال.

 

والناظر في حال الكثير من هواة الصعود إلى قمم الشهرة والإثارة والمتابعة الإعلامية يعمدون إلى الاستفادة من مدرسة ذاك الأعرابي، والاعتبار بمنهجه البراغماتي في الدوس على القيم المحترمة، والمبادئ المعتبرة، والفطر السليمة بغية أن يقول الناس: هذه فعلة فلان المعروف، أو من هنا مرّ فلان المشهور، ولا يبالي بعدها بالدعاء أو الشتم أو التأسف أو الحوقلة أو غيرها من أساليب العجب والاستغراب، فالاستهانة والذم قد تهون أمام الذكر والمغالبة على حديث الناس.

 

وطلاب الشهرة يأتون بالعجائب لنيلها، ولا يعلمون أنها باب شقائهم، ولما صنف الخطيب البغدادي تاريخه، وترجم لجملة من الأعلام، سأل أحد المولعين بالشهرة آنذاك، فقال: هل ذكرني الخطيب في (تاريخ بغداد) في الثقات أو مع الكذابين؟ قيل: ما ذكرك أصلًا، فقال: ليته ذكرني ولو مع الكذابين (6).

 

وفي عصرنا الراهن أصبح فعل الأعرابي في زمزم سُنّة يحتذي بها بعض من استحسن فكرته، بل ربما ظاهرة لدى جمهور من الصحفيين والكتاّب والروائيين فمع كثرة وسائل النشر التقليدية أو الإلكترونية أصبح لفت الانتباه وإثارة الغبار على المعتاد فرصة أولئك الصاعدين لبلوغ الشهرة والوصول إلى رغبات القراء الجامحة نحو المغيّب من الأمور والخارق للعادة والمخفي من أحوال الناس.

 

قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخَلْق، مشغوفًا بالتودُّد إليهم، والمراءاة لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتًا إلى ما يُعَظِّم منزلته عندهم، وذلك أصل الفساد، ويجرُّ ذلك لا محالة إلى التساهُل في العبادات، وإلى اقتحام المحظورات (7).

 

وعالمنا العربي يحوي الكثير من المشاهد المكررة التي تؤكد نظرية التفوق الهامشي للزبد والعلو الوقتي للدخان الأسود.

 

وكم آسى على حال ذاك الأعرابي الذي ذاق أشد الضربات وأبشع الأوصاف على فعلته في زمزم، بينما أبناء مدرسته ينالون أعلى الأوسمة وأشرف الألقاب أمام مرأى الجميع ومرارات أهل المكابدة في البحث والإبداع في الفن، لذا أتساءل أحيانًا وبصمت معتاد: هل مكمن الخلل في أذواقنا أم في قيمنا أم في الأعرابي الذي سجّل التاريخ نكبته وحمّلنا تبعة بولته النكدة في مشارب الناس؟!

 

فإذا كان المرء من أهل الدين فأمامه للشّهرة ثلاث طرق:

الأول: طريق (أبي حنيفة، ومالك، والشّافعيّ، وأحمد)، ومن سلك سبيل العلماء الربانيين من المتأخرين كـ(أحمد شاكر، والألباني، وابن باز، وابن عثيمين)، واللائحة طويلة لا يتسع المقام لعدّها، هربوا من الشهرة والأضواء فتبعتهم منقادة وهؤلاء لم يخلُ منهم زمان قط.

 

والطّريقُ الثاني: طريق "خالف تعرف" عن طريق الفتاوى الشّاذة، والآراء الغريبة باسم الدين تحت غطاء الشهادات وأصحاب الدال المهملة مع الأسف! كأمثال محمد عابد الجابري، وعلي عبد الرازق، وعلي جمعة، وخالد الجندي، وسعد الهلالي.

 

والطريق الثالث: طريق الأدعياء من بعض حدثاء الأسنان ومستكثري الإجازات والتشبع بما لم يعط، والتزبب قبل التحصرم، ويريد أن يطير ولما يريش، والإغراق في تصوير نفسه وتبجيل شخصه ومدح عمله، وهذا حال بعض شبابنا هداهم الله طريق الرشاد.

 

وأما إن لم يكن له في الدّين ناقة ولا جمل، سلكَ طريق أعرابي زمزم، وأخذ يقيء عفن كتب الزندقة والإلحاد على بني جلدته، فهو مستعد للطعن في القرآن والسنة كي يشتهر، فتجد أحدهم "طرطورًا" وببغاء يردد إلحاد من تقدمه من رؤوس الزندقة في العالم وحاله كما يقول المغاربة: "اللي رضع من الكلبة ينبح".

 

السعي للشهرة بأي ثمن شهوة مستعارة، تجد أحدهم على استعداد أن يفسد دين الملايين لأجل مقابلة تليفزيونية أو لقاء صحفي، هؤلاء يعرفهم الناس برهة ثم سريعًا تطوى صحفهم ويتلاشى ورقهم، ذاك أن الأشياء الجميلة تُعمر والأشياء القبيحة يذهب أهلها ويبقى عارها! وما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.

 

ومن نظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه رضي الله عنهم، وأخبار سلف الأمة رحمهم الله تعالى، وجد أنهم يكرهون الشهرة، ويبتعدون عن الأضواء، ولا يحبون أن يُذكروا، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يعرف من بين أصحابه، فيأتي الغريب فلا يعرفه؛ لأنه لم يتميز عليهم بلباس أو مكان أو هيئة تدل عليه.

 

عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فانتهينا إلى موضع من الطريق فأتاه أعرابي فصوّت بصوت جهوري: أفيكم محمد؟ قلنا: نعم (8).

 

ولما طعن عمر رضي الله عنه، وحضرته الوفاة؛ واساه ابن عباس بمناقبه التي عرفها عنه، وبذكره الحسن في الناس، عن بن عباس أنه دخل على عمر حين طعن، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ولم يختلف في خلافتك رجلان، وقتلت شهيدًا، فقال: أعد، فأعاد، فقال: المغرور من غررتموه، لو أن ما على ظهرها من بيضاء وصفراء، لافتديت به من هول المطلع (9).

 

وحين ثارت الفتنة اعتزلها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان حينها من أحق الناس بالخلافة، فجاءه ابنه عمر فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك، وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره، فقال: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي» (10).

 

ما أعظمه من جواب يتضمن فضل التخفي؛ ولذا تخفى سعد في إبله وغنمه عن الفتنة والشهرة والأضواء، فلم يندم حين ندم غيره.

 

الغني: الذي استغنى بنفسه عن الناس، غني الله عز وجل عمن سواه، لا يسأل الناس شيئًا، ولا يتعرض للناس بتذلل؛ بل هو غني عن الناس، عارف نفسه، مستغن بربه، لا يلتفت إلى غيره.

 

الخفي: هو الذي لا يظهر نفسه، ولا يهتم أن يظهر عند الناس، أو يشار إليه بالبنان، أو يتحدث الناس عنه، تجده من بيته إلى المسجد، ومن مسجده إلى بيته، ومن بيته إلى أقاربه وإخوانه خفي، يخفي نفسه.

 

ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان إذا أعطاه الله علمًا أن يتقوقع في بيته ولا يُعلم الناس، هذا يعارض التقى، فتعليمه الناس خيرٌ من كونه يقبع في بيته ولا ينفع الناس بعلمه، أو يقعد في بيته ولا ينفع الناس بماله.

 

لكن إذا دار الأمر بين أن يلمَّع نفسه ويظهر نفسه ويبين نفسه، وبين أن يخفيها، فحينئذٍ يختار الخفاء، أما إذا كان لا بد من إظهار نفسه فلا بد أن يظهرها، هذا ممن يحبه الله عز وجل، وفيه الحث على أن الإنسان يكون خفيًا، يكون غنيًا عن غيره عن غير الله عز وجل، يكون تقيًا لربه سبحانه وتعالى حتى يعبد الله سبحانه وتعالى في خير وعافية (11).

 

ولنتأمل صفة الأخفياء الذين يباعدون عن الشهرة والأضواء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع» (12).

 

وجسد هذا الحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه حين عزله عمر رضي الله عنه عن قيادة الجيوش وولى أبا عبيدة، فعاد خالد جنديًا بعد أن كان قائدًا، ولم يعترض على ذلك أو ينشق عن الجيش.

 

وفي معركة للمسلمين مع الروم كان الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى مع عامة الجيش، فبرز شجاع من الرومان يطلب المبارزة، فصرع ستة من المسلمين الواحد تلو الآخر، فبرز إليه ابن المبارك متلثما فصرع الرومي وخمسة آخرين متتابعين حتى خاف الروم منه، وأحجموا عن المبارزة، ثم رجع ابن المبارك إلى صفوف المسلمين بلثامه؛ لئلا يعرف، وهدد من بجواره أن يكشف أمره.

 

حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنًا، وأصابهم فيه جهد عظيم، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من الجند فدخله، ففتح الله عليهم، فنادى منادي مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاء أحد حتى نادى مرتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فجاء في الرابعة رجل، فقال: أنا أيها الأمير صاحب النقب، آخذ عهودًا ثلاثًا: لا تسودوا اسمي في صحيفة، ولا تأمروا لي بشيء، ولا تشغلوني عن أمري، قال: فقال له مسلمة: قد فعلنا ذلك بك، قال: فغاب بعد ذلك؛ فلم ير، قال: فكان مسلمة بعد ذلك يقول في دبر صلاته: اللهم اجعلني مع صاحب النقب (13).

 

فكانوا يتخفون في أعظم المواقف التي يُطلب فيها الذكر والشهرة، وكان تخفيهم حرصا على الإخلاص، وطلبًا للذكر عند الله تعالى لا عند الناس. 

 

جاء في ترجمة الإمام القدوة الرباني أحمد بن حنبل أبي عبد الله الشيباني رحمه الله تعالى، عن المروزي أنه قال: أدخلت نصرانيًّا على أبي عبد الله– يعني أحمد بن حنبل– فقال له: إني لأشتهي أن أراك منذ سنين، ما بقاؤك صلاح للإسلام وحدهم، بل للخلق جميعًا، وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك، فقلت لأبي عبد الله: إني لأرجو أن يكون يُدعى لك في جميع الأمصار، فقال: يا أبا بكر، إذا عرف الرجل نفسه، فما ينفعه كلام الناس (14).

 

إن التماس الشهرة والحرص عليها من أعظم أسباب فساد القلب، قال صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» (15).

 

ومعناه ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفسادًا لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه، فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها، أما المال فإفساده أنه نوع من القدرة يحرك داعية الشهوات، ويجر إلى التنعيم في المباحات، فيصير التنعم مألوفًا، وربما يشتد أنسه بالمال، ويعجز عن كسب الحلال، فيقتحم في الشبهات مع أنها ملهية عن ذكر الله تعالى، وهذه لا ينفك عنها أحد، وأما الجاه فكفى به إفسادًا أن المال يبذل للجاه، ولا يبذل الجاه للمال وهو الشرك الخفي، فيخوض في المراءاة والمداهنة والنفاق، وسائر الأخلاق الذميمة، فهو أفسد وأفسد (16).

 

وأول من تضرم به النار يوم القيامة مبتغي الشهرة بالعمل الصالح، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار» (17).

 

ومن التمس ثناء الناس بعمل الطاعة فإنه يعاقب بنقيض قصده، بأن يفضحه الله، ويطلق ألسنة الخلق بذمه وشينه، قال صلى الله عليه وسلم: «من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به» (18)، قال الخطابي: من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه (19).

 

وقال ابن حجر: وقيل معنى سمع الله به: شهره، أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة (20).

 

وفي زمننا صارت الشهرة تدر أموالًا على أصحابها بدعايات لمنتجات في وسائل التواصل الجماعي، وأصبح التهافت على الشهرة ظاهرة اجتماعية، يسعى إليها الكبار والصغار، والرجال والنساء.

 

ومنهم من يستميت في طلب الشهرة باستجداء المشاهير أن يعلنوا لحسابه، ومنهم من يطلبها بخفة عقله وسخف قوله، ومنهم من يطلبها بحكايات وقصص يرويها أو يخترعها، ونساء يطلبن الشهرة بكشف مفاتنهن، ومنهن من تطلبها بعرض حياة أسرتها وأطفالها على الناس، ولا يزال طلاب الشهرة يسعون إليها بكل سبيل، ويبذل بعضهم في نيلها دينه ومروءته وشرفه وأخلاقه وراحة أهله وولده، وللفضيل بن عياض جملة متينة ينبغي لكل طالب شهرة أن يعيها، يقول: من أحب أن يذكر لم يذكر ومن كره أن يذكر ذكر (21).

 

وصدق الفضيل رحمه الله تعالى؛ فمن اجتهد من أهل العلم والشأن في التخفي أعلى الله تعالى مقامه، ورفع في الأنام ذكره، ومن بذل في سبيل الشهرة دينه ومروءته لم يذكر بخير، وكان عاقبة أمره خسرًا، فأخلصوا لله تعالى في أعمالكم، واطلبوا ذكره عن ذكر الناس، واذكروه يذكركم {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

***

---------------

(1) أخرجه ابن ماجه (3607).

(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2782).

(3) عون المعبود وحاشية ابن القيم (11/ 51).

(4) نيل الأوطار (2/ 131).

(5) أرشيف ملتقى أهل التفسير (ص: 0).

(6) سير أعلام النبلاء (18/ 381).

(7) إحياء علوم الدين (3/ 287).

(8) شرف المصطفى (3/ 402).

(9) أخرجه ابن حبان (6891).

(10) أخرجه مسلم (2965).

(11) شرح رياض الصالحين (3/ 511).

(12) أخرجه البخاري (2886).

(13) المجالسة وجواهر العلم (4/ 201).

(14) سير أعلام النبلاء (11/ 211).

(15) أخرجه الترمذي (2376).

(16) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3243).

(17) أخرجه مسلم (1905).

(18) أخرجه البخاري (6499)، ومسلم (2986).

(19) فتح الباري لابن حجر (11/ 336).

(20) فتح الباري لابن حجر (11/ 337).

(21) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 88).