ذوبان الداعية في المجتمع
إن دعوة الإسلام تحذر من الانجراف وراء ألفاظ وسلوكيات وعادات يلتقطها الداعية من هنا وهناك، ويحاول تطبيقها كنوع من المحاكاة والتأثر، ومع الوقت وتكرار المواقف والأحداث سيجد الداعية نفسه قد فقد تميز شخصيته الإسلامية التي تستمد قوتها من الإسلام ذاته بعقيدته وتعاليمه وعاداته، وسيجد نفسه قد تجاوز الخط الفاصل بين أن يكون داعية مؤثرًا في المجتمع بقيمه وأخلاقه وسلوكه، وبين أن يتأثر هو بقيم وسلوك مجتمعه.
وفي خضم معايشة الداعية لمن يربيهم، ومخالطته إياهم، والسعي الجاد في تقديم النصح والتوجيه الذي يساهم في الارتقاء بهم، قد ينسى الداعية نفسه، وأن لها حقًا من الاهتمام والارتقاء بها، فمتى ما أهمل الداعية نفسه في جانب الارتقاء بالنفس فلربما قاده ذلك إلى فقدان رصيده في يوم من الأيام، حتى يصبح الداعية ليس عنده ما يعطي المدعو؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثَمَّ يفقد الداعية صفة هي من أهم الصفات؛ وهي صفة العطاء؛ فنحن لا نريد أن يكون الداعية كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، إنما نريده أن يكون كالشمس تضيء للآخرين مع حفاظها على خاصية التوهج في نفسها.
فينبغي للداعية التوازن بين معايشة المدعوين والارتقاء بهم، وبين الارتقاء بنفسه، والتزود بما فيه صلاحها وتزكيتها، وقربها من الله.
الداعية المؤثر:
الداعية الماهر هو الذي يؤثر في المجتمع ولا يتأثر بسلبياته، وهناك قانونان للتأثير في الآخرين قد أثبتت التجارب والاستقصاءات صحتهما وهما: الأول من الباطن إلى الظاهر، والثاني هو: من العالي إلى المنخفض.
فأما القانون الأول: وهو يعنى أن عمليات التأثير والتأثر تخضع لوجود علاقة بين ما هو ظاهر في شعورك وما هو باطن داخلك، وأن تقليد الباطن متقدم على تقليد الظاهر، وبمعنى آخر فإننا حينما نتأثر نبدأ بتقليد الأفكار والآراء والتشبع بها قبل تقليد السلوك ذاته، فالأمم التي تقلد الأمم الغربية في سلوكها مثلًا وملابسها وطريقة حياتها لا تقلدها إلا بعد اتصالها بها بشيء من الأمور المعنوية والتأثر بها فكريًا، ومن خلال التأثير في مبادئها واعتناق كثير من تصوراتها، لذلك فإنك تجد أن الشباب المسلم الذي يقلد الغرب في أحواله الظاهرة هو شباب قليل العلم بعيد عن الجادة الإسلامية قد تأثر قلبه بمبادئ الغرب وقيمه، وعلى الجانب الآخر فإنك تجد أن الشباب المسلم المتميز والفخور بقيمه والبعيد عن تأثر الغرب غير ملهوف في تقليده في مظاهر الحياة، ومن هنا كان على الدعاة بث معنى العزة والتميز للمسلم ولمبادئه وقيمه وثوابته؛ فإنها إن ثبتت في القلب صار آمنًا من السقوط في هوة التقليد الأعمى..
ونجد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك ووجه الدعاة إلى الله إليها بكل جلاء ووضوح، فهو يوجههم نحو طهارة الباطن قبل طهارة الظاهر ويوجههم إلى ابتغاء وجه الله تعالى من عملهم الدعوى وليس ابتغاء وجه الناس، حتى يتأثر الناس بهم؛ يتأثروا بطهارة باطنهم ونقاوة سريرتهم وشفافية شخصياتهم.
وإن الداعية الذي اتصف بذلك لهو الداعية الذي تجتمع الناس حوله ويتأثرون بقوله وفعله، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذرهم من الذين يعاملون الناس بوجه ظاهر حسن وقلوبهم خبيثة منكرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» (1).
فهذا لا أثر لفعله في الناس إذ إن فعله الظاهر قد خرج من باطن خبيث فكان مآله كباطنه ولم ينفعه ظاهره شيئًا.
وأما القانون الثاني: فهو أن التأثر إنما يكون من العالي إلى المنخفض، وهو يشير إلى أن التأثر غالبًا ما يكون من الشخص ذي القيمة والمقدار والعلم والخبرة، في الآخر الذي هو أقل، سواء كان ما يؤثر به معنويًا أو ماديًا، وينطبق هذا القانون على تقليد الصغير للكبير، وتقليد الضعيف للقوى، وتقليد الفقير للغني، والتلميذ للأستاذ، والتاجر الصغير للتاجر الكبير.
فمن هنا حرص الإسلام على عدة جوانب هامة في فن التأثير في الآخرين، فقد حرص على أن يتمتع الدعاة إلى الله بالعلم، وأمر بالعلم حتى يؤثر الداعية في غيره، فلا بد أن يعلوه بالعلم الذي يعلمه إياه، أما الداعية إن كان جاهلًا فلم يستطيع التأثير في غيره.
كما حرص الإسلام على تميز الداعية بالصبر والثبات، إذ إن الناس يفتقدون الصبر والثبات في بداية طريقهم، وصبر الداعية وثباته له أكبر الأثر في غيره ليقتدوا به، كذلك حرص الإسلام على تميز الداعية بالورع والقرب إلى الله سبحانه، وجعله له ركنًا ركينًا يستند عليه، وقد يعلم الداعية بإيمانه ويقينه وورعه من فاقه علمًا وخبرة في بعض الأحيان، قال الإمام أحمد رحمه الله: لقيني في طريقي إلى السجن أعرابي فأوقف الدابة، وقال: يا أحمد إن تعش تعش حميدًا، أو تمت، تمت شهيدًا، قال الإمام أحمد: فقوي قلبي... والله الهادي إلى سواء السبيل (2).
وتبقى المشكلة الرئيسية في هذا الأمر، وهي مشكلة يمكن وصفها بالخطيرة، اسمها: الذوبان في المجتمع؛ فعندما يذوب الداعية في المجتمع تصبح هويته مهددة، وتصبح شخصيته أضعف، وينتقل هذا الضعف تلقائيًا إلى دعوته نفسها، فيصبح أقل مصداقية وأقل تأثيرًا وأقل نجاحًا.
يقول الدكتور سلمان العودة حفظه الله: هناك العزلة القلبية التي يقصد بها أن المؤمن الملتزم بالمنهج الصحيح، وإن خالط الناس وعاشرهم ببدنه؛ فإنه مزايل لهم بعلمه وقلبه، مفارق ما هم عليه من التعلق بالبدع، أو الولع بالدنيا، أو اتباع الهوى، ساع لنقلهم عما هم فيه إلى حيث السلامة والأمان، فهو يخالط الناس لغاية واضحة، هي العمل على انتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنَّة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يستطيع أن يؤدي ذلك بصورة صحيحة مؤثرة إلا من دَاخَلَ الناس وعاشرهم، وعرف أحوالهم، وأحسن إليهم بلسانه ويده ما استطاع سبيلًا.
وهذه المخالطة المقصودة تجعل في قلب المخالط شعورًا متميزًا يحميه من التأثر بأعمال الناس وأهوائهم وانحرافاتهم إلى حد بعيد، وبذلك يتمكن من اكتساب الخصائص الخيرة الجميلة التي قد تنقصه، ومن الانتفاع بالتجارب التي تزكي العقل الغريزي وتنميه، ومن الاطلاع على أحوال الزمان وأهله، ومعرفة حقيقة الانحرافات وأبعادها، ليقوم بعدُ بمدافعتها، وعلاجها بالأسلوب الأمثل، دون أن يؤدي به ذلك إلى الذوبان في المجتمع المحيط به، أو التخلي عن علمه، ونيته ودعوته.
وبذلك يجمع بين الخلطة والعزلة، الخلطة بجسده ومدخله ومخرجه، والعزلة بقلبه وعمله ومشاعره، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خالطوا الناس، وزايلوهم، وصافحوهم، ودينكم لا تَكْلَمُوه (3).
ورغم قلة عدد المسلمين في بداية الدعوة، ورغم أنه يمكن وصف كل المسلمين بعد مرور ثلاث عشرة سنة في مكة بأنهم «أقلية مسلمة»، إلا أنهم كانوا من الحنكة والمهارة الدعوية والذكاء الاجتماعي والفهم لمضمون الرسالة وجوهرها؛ بحيث يظلون محتكين بالمجتمع متعايشين معه، يتعاملون في كل شئون الحياة في البيع والشراء والتواصل الاجتماعي، حتى الزواج (قبل أن تنزل التشريعات المحددة للزواج من غير المسلمين)؛ فكان الصحابي يعيش مع أب كافر وأم كافرة وإخوة كافرين؛ لكنه يبر والديه، ويعامل إخوته بالحسنى، ويدعو أصدقاءه وأقاربه، ولكنه من قوة العقيدة والإيمان، ما يجعله لا ينساق إلى تصرف يتنافى مع إيمانه تحت أي مسمى أو مبرر، ومن الشجاعة وقوة الشخصية ما يجعله لا يذوب في مجتمع هو مسئول عن دعوته وتغييره والارتقاء به.
والأصعب من ذلك موقف المسلمين المهاجرين للحبشة، والذين كانوا يتعرضون لغربة الأهل بالإضافة إلى غربة العقيدة، وفى الغربة يضعف الإنسان وتفتر همته وتتغير مفاهيمه وقناعاته، فيبدأ في قبول التنازلات واحدًا تلو الآخر، لكن السنوات الطوال في الحبشة، لم تنجح في أن تغير المسلمين، أو تشوه عقيدتهم، أو تبلبل أفكارهم، لأنهم كانوا يتذكرون دائماً أنهم أصحاب رسالة إلى العالم، جاءوا ليغيروا الدنيا لا لتغيرهم الدنيا، وظلوا كذلك حتى أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة.
أنواع الذوبان:
لا ينتبه البعض للخط الفاصل بين الانفتاح على المجتمع والذوبان فيه، فيفاجئ من حوله، ويفاجأ هو نفسه بأنه يكتسب سلوكيات وأفكارًا، المفروض أنها لا تتفق مع دعوته وهويته، وربما تأخذ هذا الأخطاء الأشكال الآتية:
أولًا: الألفاظ:
هناك فئات من المجتمع ضحلة الثقافة وبعيدة عن التدين، لديها هواية بين الحين والآخر أن تخرج على المجتمع بألفاظ غريبة، تهين الذوق واللغة العربية وتجرح الفطرة، وأحيانًا تخدش الحياء، وللأسف يأخذ جهابذة الفن هذه الألفاظ ليسوقوها عبر أفلام لا تقل ضحالة وتفاهة عن مخترعيها، لتخرج للعالم كله، فيسمعها الكبير والصغير، ونفاجأ أنها انطلقت في الشوارع كفيروس يصعب السيطرة عليه، وتنتقل هذه الألفاظ الغريبة من الفئات الضحلة الثقافة إلى الفئات المتعلمة من شباب الجامعات.
والمفاجأة المحزنة، هو أننا نجد عددًا من الدعاة الشباب، ممن ينطق بهذه الألفاظ، ويتناولها في أحاديثه، وبمرور الوقت، سيجد هذا الداعية الشاب نفسه قد اعوج لسانه، وانحط مستوى مفرداته.
ثانيًا: السلوكيات:
لا يتصور أبدًا أن يقبل شاب ملتزم دعوة أصدقاء له يدعونه لفيلم في إحدى دور السينما مثلًا، أو الجلوس معه في مقهى مشبوه بدعوى التقارب والألفة بينهم، فهنا لا بد أن تظهر الخطوط الفاصلة، وأن تتضح بشجاعة ولطف في الوقت نفسه، دون أن تقطع روابط الصداقة والود بين الأطراف.
كما لا يتصور أيضًا أن يشاهد أحد سائقي التاكسي الملتزمين وهو يتعارك مع زملائه السائقين وزبائنه من الركاب بنفس الألفاظ ونفس التصرفات التي يراها من زملائه غير الملتزمين.
ثالثًا: الأفكار:
في عصر الفضائيات والسماوات المفتوحة والإنترنت، والعالم الذي تحول إلى قرية صغيرة، انطلقت الأفكار –كل الأفكار- بلا قيود أو حدود، وأصبح لزامًا علينا أن نمرر ما يرد إلينا من أفكار وبسرعة على الإسلام بأصوله وثقافته وحدوده، دون أن ننبهر بأفكار وافدة، قبل أن نغربلها وندرك تأثيرها وخطورتها، ولعل فكرة الحرية والتي ضغطت بقوه على المجتمع العربي في العشر سنوات الأخيرة، والتي تدخلت فيها السياسة الأمريكية بشكل رئيس؛ هي من أكثر الأفكار التي تثير الجدل والبلبلة، وهى فكرة عدم فهمها جيدًا في إطار الإسلام، وعدم دراستها بعلم وروية، سيجنح بنا إلى مشكلات أخرى.
كيف نواجه الذوبان في المجتمع؟
على الداعية أن يتسلح بأسباب هامة ووسائل مهمة؛ تجعله قادرًا على التواصل مع المجتمع دون أن يـتأثر سلبيًا به، وهي:
أولًا: الروح الإيمانية العالية:
تمثل قوة الإيمان والاتصال بالله، الحصن الحصين ضد الذوبان السلبي في المجتمع، فالالتزام بالعبادات؛ من الصلاة في جماعة، وصلاة النوافل، وقراءة الأذكار والورد القرآني، وصيام السنن؛ هو الذي يعطى مناعة للمسلم ضد أي أفكار سلبية تفد إليه، فيسهل عليه مقاومتها بما لديه من رصيد إيماني، يجعله يرى الله في كل شيء، ويجعله دائمًا على بصيرة بما يرى أو يسمع، ويرزقه الله الهداية فلا يضل ولا يشقى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
ثانيًا: قوة الشخصية:
لا يمكن أن يؤثر الداعية فيمن حوله إلا إذا كان متمتعًا بشخصية قوية، لا تقبل التنازلات ولا تنقاد لأفعال خاطئة تحت دعوى الإحراج والخجل، أو تحت مبرر أن الكثرة تغلب الشجاعة، وقوة الشخصية لا تعني العصبية ولا المشاجرات المستمرة؛ بل تعني إبداء وجهة نظرك بثقة وهدوء، وعن علم وقدرة على الحوار، والتمسك بما تراه صحيحًا رغم ما تواجهه من ضغوط، وأن تفهم الطرف الآخر بأن لديك خطوطًا حمراء في التعامل لا يمكن تخطيها، لأنها تخالف ما تؤمن به من أوامر الإسلام، وأن رضا الله مقدم لديك على رضا الأصدقاء.
وذكاء الداعية يجعله يرسل هذه الرسالة لمن حوله في ود ولطف وهدوء، بما يحافظ على استمرار العلاقة بينهم، فلا يقطعها فيفشل في دعوته.
ثالثًا: العلم والثقافة:
لكي تستطيع أن تتواصل مع المجتمع بكل أطيافه وتعدد آرائه، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على هويتك وشخصيتك الملتزمة التي لا تقبل تهاونًا في حق الله، لا بد أن تتسلح بالعلم الشرعي أولًا، ثم تصقل هذا العلم بالقراءة الحرة في كل المجالات، والثقافة التي تجعلك تستطيع أن تقف على أبواب أي موضوع؛ فتستطيع فتحه والحوار حوله بثقة واتزان، وهو شيء سيجعل الآخرين يقبلون آرائك حتى لو خالفتهم؛ لأنك تتحدث عن علم ودراية، فيحترمون اختلافك معهم في الوقت الذي يستمرون في الاستماع إلى دعوتك دون ضجر، قال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
إن الداعية الماهر هو الذي يصنع لديه مناعة تحصنه من فيروسات المجتمع؛ فهو كالطبيب الذي يعالج المجتمع من وباء منتشر، في الوقت الذي يحرص فيه جيدًا على ألا يصاب بالمرض (4).
رابعًا: أن تكون العلاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء، فالعلاقة بين الداعية والمدعو لا بد أن يكون فيها نوع من العاطفة والجمود من الخلل، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان انقلاب العلاقة عن حد الاعتدال والوقار، لتنقلب إلى سعار لا يهدأ من العواطف الجياشة المتلفة لنفسية الطرفين، فهذه ألفاظ تغدق بغير حساب، وهذه أحاسيس تنقل ومشاعر تسطر، وأبيات من الشعر وإعجابات مكتوبة، وأحلام يعقبها حسرة وآلام، حتى أنه ربما يفكر إذا ترك المدعو تركه أن يذهب وراءه إلى آخر الأرض، فهذا الداعية تذهب نفسه حسرات ويتقطع.
وعند ذلك نقول: صحح علاقتك يا أخي، لا تقصر نفسك على شخص معين أو تقيم هذه العلاقة الهوجاء غير الشرعية التي ربما تؤدي إلى أوامر غير محمودة العواقب من الأمور المحرمة.
خامسًا: ينبغي أن تكون العلاقة بين الداعية والمدعو علاقة هداية وتعليم:
إن الداعية الحريص على المدعو يقتدي بحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعية العظيم الذي يقول الله في شأنه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم حريص عليكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
وهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما جاءته البشرى وجاءته الملائكة يبشرونه بإسحاق وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم، ما نسي إبراهيم قوم لوط: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، يجادل الملائكة في قوم لوط، لو بقي منهم كذا مسلمين تهلكونهم؟ لو فيهم كذا مسلمين تهلكونهم؟ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 75].
وهذا الحرص يقتضي أن الداعية يحس أنه ينبغي أن يحاول في هذا الرجل أو هذه المرأة إذا كانت امرأة تدعو امرأة أخرى مثلًا أن تهتدي إلى الحق، وأن تبصر الحق مثلما أبصره هو هذا الداعية.
ثم تكون هذه العلاقة فيها تعليم؛ لأن الحرص معناه أنك ينبغي أن تثقفه وتزوده وتبصره وتقدم له المفهومات الإسلامية والتصورات الدينية التي يحتاجها هذا المدعو.
ولذلك فإننا نذكر هؤلاء الناس الذين قد يشتغلون بالدعوة، لكن إذا تأملت في علاقتهم بالمدعوين وجدت علاقة استئناس وقصص وسوالف، ويظنون أنهم يقومون بالدعوة، ولو سألت هذا المدعو: ماذا استفدت من هذا الشخص الذي جلس معك؟ لما استطاع أن يأتي إلا بأمور يسيرة جدًا لا تكاد تذكر، ذلك أن هذا الداعية يخدع نفسه، فيظن أنه يدعو، والحقيقة أنه يقيم علاقات اجتماعية فقط، يتعرف، يقيم علاقات اجتماعية، ويتداخل مع الناس، لكن في النهاية ماذا استفاد الناس؟ لا شيء، ولأجل ذلك ينبغي أن يعد كل داعية في نفسه قبل أن يذهب إلى المدعو، ماذا يريد أن يقول له؟ ما هو المفهوم الذي سيوضحه؟ وما هو التصور الذي سيقدمه؟ وما هي الأحكام التي سيبينها؟ فإذا رجع من عنده حاسب نفسه، فقال في نفسه: يا ترى ماذا أفدته؟ ماذا قدمت له؟ هل قمت بما كنت أفكر القيام به قبل أن أزوره؟ وهكذا (5).
__________________
(1) أخرجه البخاري (3267).
(2) الشخصية الدعوية المؤثرة/ موقع المسلم.
(3) العزلة والخلطة (ص:50- 51).
(4) حتى لا يذوب الداعية في المجتمع/ ملتقى الخطباء.
(5) قواعد علاقة الداعية بالمدعو/ الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد.