إنا من المجرمين منتقمون
العدل أساس الملك، وعدل ساعة يعدل عند الله عبادة ثمانين عامًا، فلا تكن مع المجرمين، ولا تنصر الظالمين، ولا توال المستبدين؛ ولكن انصر المظلومين، فإن شعرت بالخطر، فالله حسبك، يتولَّاك وينقذك، يرعاك ويحفظك، فإيَّاك أن تقف مع الظالم، وإياك أن تعينه، وإياك أن تساعده، وإياك أن تُقِرَّه أو تعطيَه حتى إشارة تُظهِر أنك معه وتؤيده، واعلم أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن المجرم لا يملك لنفسه جلب نفع أو دفع ضر، فكيف لغيره، وقد توعد الله المجرمين بالانتقام الشديد والعذاب المهين، وقص علينا أمثلة من ذلك في كتابه الكريم، وبين لنا سمات المجرمين وصفاتهم، ومصيرهم يوم القيامة ومآلهم، ليعتبر العاقلون ويطمئن المظلومون.
وحينما يذكر الله سبحانه وتعالى المجرمين يركز على بيان الحالات الطارئة على وجوههم، وهذا من لطائف كلامه سبحانه، فالقرآن تارة يشير إلى يأسهم يوم القيامة أو تحيّرهم، يقول سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُبْلِسُ المُجْرِمُون} [الروم: 12]، أي ييأسون من رحمة الله ونعمه التي يفيضها على المؤمنين، أو يتحيرون وتنقطع حججهم بظهور جلائل الآيات الباهرة.
قال ابن عباس: ييأس المجرمون، وقال مجاهد: يفتضح المجرمون، وفي رواية: يكتئب المجرمون (1).
ومعنى {يُبْلِسُ المجرمون} [الروم: 12] أي: يسكتون سُكوتَ اليائس الذي لا يجد حجة، فينقطع لا يدري ما يقول ولا يجد مَنْ يدافع عنه، حتى قادتهم وكبراؤهم قد سبقوهم إلى العذاب، فلم يعُدْ لهم أمل في النجاة، كما قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الّقَيَامَةِ} [هود: 98]، ومن ذلك سُمِّي (إبليس)؛ لأنه يئس من رحمة الله.
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، أي: لما نسوا منهج الله أراد سبحانه أن يعاقبهم في الدنيا، وحين يعاقبهم الله في الدنيا لا يأخذهم على حالهم إنما يُرخي لهم العَنان، ويُزيد لهم في الخيرات، ويُوسِّع عليهم مٌتَع الدنيا وزخارفها، حتى إذا أخذهم على هذه الحال كان أَخْذه أليماً، وكانت سقطتهم من أعلى.
كما أنك مثلًا لا تُوقع عدوك من على الحصيرة، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون الانتقام أبلغَ، أمّا إنْ أخذهم على حال الضِّيق والفقر، فالمسألة إذن هيِّنة، وما أقرب الفقر من العذاب! (2).
وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين، لا أمل لهم في نجاة، ولا رجاء لهم في خلاص، ولا شفاعة لهم من شركائهم الذين اتخذوهم في الحياة الدنيا ضالين مخدوعين! هؤلاء هم حائرين يائسين لا منقذ لهم ولا شفيع (3).
قال السعدي: وذلك أنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام وهي الذنوب، من كفر وشرك ومعاصي، فلما قدموا أسباب العقاب ولم يخلطوها بشيء من أسباب الثواب، أيسوا وأبلسوا وأفلسوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه (4).
قال الرازي: في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم، والإبلاس يأس مع حيرة، يعني يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو إحدى الراحتين، وهذا لأن الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمرًا غير ضروري يستريح الطامع من الانتظار، وإن كان ضروريًا بالإبقاء له بوونه ينفطر فؤاده أشد انفطار، ومثل هذا اليأس هو الإبلاس ولنبين حال المجرم وإبلاسه بمثال، وهو أن نقول مثله مثل من يكون في بستان وحواليه الملاعب والملاهي، ولديه ما يفتخر به ويباهي، فيخبره صادق بمجيء عدو لا يرده راد، ولا يصده صاد، إذا جاءه لا يبلعه ريقًا، ولا يترك له إلى الخلاص طريقًا، فيتحتم عليه الاشتغال بسلوك طريق الخلاص، فيقول له طفل أو مجنون إن هذه الشجرة التي أنت تحتها لها من الخواص دفع الأعادي عمن يكون تحتها، فيقبل ذلك الغافل على استيفائه ملاذه معتمدًا على الشجرة بقول ذلك الصبي فيجيئه العدو ويحيط به، فأول ما يريه من الأهوال قلع تلك الشجرة فيبقى متحيرًا آيسًا، مفتقرًا، فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللذات وأخبره النبي الصادق بأن الله يجزيه، ويأتيه عذاب يخزيه، فقال له الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إن هذه الأخشاب التي هي الأوثان دافعة عنك كل بأس، وشافعة لك عند خمود الحواس، فاشتغل بما هو فيه واستمر على غيه حتى إذا جاءته الطامة الكبرى فأول ما أرته إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق، ويحق عليه عذاب الحريق، فييأس حينئذ أي إياس ويبلس أشد إبلاس (5).
وتارة أخرى يشير القرآن إلى وجوههم وأنه يعلوها غبار الغم والحزن ثم يعلوها سواد من كثرة الغم، ويقول: {وَوُجُوهٌ يَومَئِذ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكُ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرة (42)} [عبس: 40- 42].
وثالثة إلى أنهم يعرفون بسيماهم وأنّهم يحشرون زرق العيون، يقول سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ} [الرحمن: 41]، قال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون (6).
والمعنى، أنه إذ يعرف المجرمون بسيماهم، تتولى زبانية جهنم أمرهم، فتأخذ بنواصيهم وأقدامهم، أخذًا عزيزًا متمكنًا، لا يدع لأحدهم أن يتحرك، فهو في هذا الوضع أشبه بحجر، أو حصاة في اليد، فيلقى به حيث يريد القابض عليه (7).
ويقول: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمينَ يَومَئِذ زُرقًا} [طه: 102]، زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال.
قال الماوردي: فيه ستة أقاويل: أحدها: عُميًا، قاله الفراء، الثاني: عطاشًا قد أزرقت عيونهم من شدة العطش، قاله الأزهري، الثالث: تشويه خَلْقِهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم، الرابع: أنه الطمع الكاذب إذ تعقبته الخيبة، وهو نوع من العذاب، الخامس: أن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف (8).
ورابعة إلى إشفاقهم عندما يواجهون صحيفة الأعمال، يقول سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَا لِهذَا الكِتَابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
فهذا هو سجل أعمالهم يوضع أمامهم، وهم يتملونه ويراجعونه، فإذا هو شامل دقيق، وهم خائفون من العاقبة ضيقو الصدور بهذا الكتاب الذي لا يترك شاردة ولا واردة، ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة: {وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَا لِهذَا الكِتَابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} وهي قولة المحسور المغيظ الخائف المتوقع لأسوأ العواقب، وقد ضبط مكشوفًا لا يملك تفلتًا ولا هربًا، ولا مغالطة ولا مداورة: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوْا حَاضِرًا} ولاقوا جزاء عادلًا: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا» (9).
خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون، وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق (10).
وخامسة إلى شقائهم الذي ربما يصير سببًا إلى نكوس رؤوسهم، يقول: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12].
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى، وهم ناكسو رؤوسهم خجلًا وخزيًا {عِندَ رَبِّهِم} الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا، ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان (11).
وعندما يتم حسابهم عند اللّه يجزون بالسحب في النار على وجوههم، يقول سبحانه: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)} [القمر: 47- 48].
ليعرفوا أين يكون الضلال وأين تكون السعر! وهم يسحبون في النار على وجوههم في عنف وتحقير، في مقابل الاعتزاز بالقوة والاستكبار، وهم يزادون عذابًا بالإيلام النفسي، الذي كأنما يشهد اللحظة حاضرًا معروضًا على الأسماع والأنظار (12).
وسادسة إلى تمنّيهم الخلاص من العذاب بفداء كلّ من كانوا يحبونه في الدنيا من الأولاد والأزواج، يقول سبحانه: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَو يَفْتَدي مِنْ عَذَابِ يَومَئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْيِهِ (13) وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجيهِ (14)} [المعارج: 11- 14].
ولكن ذلك لا ينجع، لأنّ سنّته جرت على ألا تزر وازرة وزر أُخرى، فيؤخذ المجرم ويعلّق بالأصفاد، يقول سبحانه: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَومَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [إبراهيم: 49]، ولا يقتصر على ذلك فيلبسون سرابيل من قطران مع غشاء الوجوه بالنار، يقول سبحانه: {سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّار} [إبراهيم: 50].
سمات المجرمين في القرآن:
إنّ الذكر الحكيم يعرّفهم بميزات كثيرة:
السخرية من المؤمنين، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون} [المطففين: 29].
التكذيب بيوم الدين، قال سبحانه: {هذِهِ جَهَنَّمُ الّتي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُون} [الرحمن: 43].
وقد عرّف المجرمون أنفسهم عند السؤال عن سبب إقحامهم في النار، بالأُمور التالية: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ (46)} [المدثر: 43- 46].
وعلى كلّ حال فالمجرم في مقابل المسلم، فالثاني يسلم الأمر إلى اللّه سبحانه، والآخر يسلم الأمر إلى هواه، يقول سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمينَ كَالْمُجْرِمينَ} [القلم: 35].
ولأجل غرورهم وتكبّرهم على الأنبياء والمؤمنين عادوهم، يقول سبحانه: {وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31].
وقال سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَونَ وَمَلائِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَومًا مُجْرِمِين} [يونس: 75].
فالمجرم ليس هو الضال بل يكون مضلًا أيضًا، وثمة طائفة من الظالمين ينسبون ضلالهم إلى المجرمين يقول سبحانه: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُون} [الشعراء: 99].
قال الفيروز أبادي: وقد ورد في القرآن على ستَّة أَوجه:
الأول: الْجُرْم بمعنى الشرك، والمجرم بمعنى المشرك {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} [المعارج: 11]، وقيل المراد أبو جهل وأصحابه.
قال الصابوني: أي يتمنى الكافر مرتكب جريمة الجحود والتكذيب لو يفدي نفسه من عذاب الله، بأعز من كان عليه في الدنيا من ابنٍ، وزوجةٍ، وأخٍ {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} أي وعشيرته التي كانت تضمه إِليها، ويتكل في نوائبه عليها، وليس هذا فحسب بل يتمنى لو يفتدي بجميع أهل الأرض {وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} أي وبجميع من في الأرض من البشر وغيرهم ثم ينجو من عذاب الله، ولكن هيهات أن ينجو المجرم من العذاب، أو ينقذه ذلك من شدة الكرب، وفادح الخطب، قال الإِمام الفخر: {ثُمَّ} لاستبعاد الإِنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعًا تحت يده، وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه {كَلَّا إِنَّهَا لظى} {كَلَّا} أداة زجر وتعنيف أي لينزجر هذا الكافر الأثيم وليرتدع عن هذه الأماني، فليس ينجيه من عذاب الله فداء، بل أمامه جهنم، تتلظَّى نيرانها وتلتهب {نَزَّاعَةً للشوى} أي تنزعٍ بشدة حرها جلدة الرأس من الإِنسان كلما قلعت عادت كما كانت زيادة في التنكيل والعذاب، وخصَّها بالذكر لأنها أشد الجسم حساسيةً وتأثيرًا بالنار {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} أي تنادي جهنم وتهتف بمن كذب بالرحمن، وأعرض عن الإِيمان، قال ان عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح تقول: إِليَّ يا كافر، إِليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب (13).
الثاني: الْجُرم بمعنى اعتقاد أَهل القَدَر، والمجرم القَدَريّ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]، قال محمد بن كعب: هم القَدَريّة.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: ما نزلت هذه الآيات: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ...}، إلا في أهل القدر (14).
الثالث: بمعنى الفاحشة أي اللِّواطة، والمجرم اللوطي {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84]، أي المشتغلين بها.
الرّابع: بمعنى حمل العداوة {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} [هود: 89]، أي لا يحملنَّكم خلافي، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8].
قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد في كل حال (15).
الخامس: لا جرم بمعنى حَقًا {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود: 22]، و{لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [النحل: 62]، أي ليس بجُرْم لنا أَنَّ لهم النَّار، تنبيهًا أَنَّهم اكتسبوها بما ارتكبوه.
السّادس: بمعنى الإِثم والذنب والزَّلَّة {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35]، أي فعلى إثمي، وأصل الجَرْم قطع الثمرة عن الشجرة (16).
أنواع الانتقام:
1- الانتقام المحمود: هو الانتقام الذي يردع الظالم فلا يعود للظلم والعاصي فلا يعود للمعصية، فيستريح العباد وتأمن البلاد، وهذا الانتقام يكون بالحدود والتعزيرات والعقوبات التي حددها الشرع، وأحيانًا يكون العفو أوجب للتهذيب وأمضى من العقوبة والردع.
عن عنان بن خريم أنه دخل على المنصور، وقد قدم بين يديه جماعة -كانوا قد خرجوا عليه- ليقتلهم، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين مَن انتقم فقد شَفَى غَيْظه وأخذ حقه، ومن شَفَى غَيْظه وأخذ حقه لم يجب شُكره، ولم يَحُسن في العالمين ذِكْرُه، وإنَّك إن انتقمت فقد انتصفت، وإذا عفوت فقد تفضَّلت، على أن إقالتك عِثار عباد الله موجبة لإقالته عثرتك، وعفوك عنهم موصول بعفوه عنك، فقبل قوله، وعفا عنهم (17).
عن الأصمعي قال: أُتي المنصور برجل يعاقبه، فقال: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتَّجاوز فضل، ونحن نُعِيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأَوْكَس النَّصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين، فعفا عنه (18).
قال المنصور لولده المهدي: لذة العفو أطيب من لذة التشفي؛ وذلك أن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم (19).
2- الانتقام المذموم: هو الانتقام الذي يكون بقصد التشفي والتنكيل والتجاوز أو الانتقام بما لم يبيحه الشرع.
ومن رسالة للبديع الهمداني يصف ملكًا عظيم الشأن يحسبه المتأمل إنسانًا وهو شيطان... إلى أن قال: لا يعرف من العقاب إلا ضرب الرقاب، ولا من التأديب غير إراقة الدماء، ولا يهتدي إلا إلى إزالة النعماء ولا يحلم عن الهفوة كوزن الهبوة، ولا يغضي عن السقطة بجرم النقطة، ثم إن النقم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، فلا يلقاه الولي إلا يغمه، ولا العدو الا يذمه، فالأرواح بين حبسه واطلاقه، كما أن الأجسام بين حله ووثاقه (20).
ثانيًا: الانتقام كما ورد في القرآن الكريم: لقد وردت العديد من الآيات التي تحدثت عن انتقام الله تعالى وبطشه بالظالمين والمعتدين ومن يحادون الله تعالى ورسله الكرام.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [آل عمران: 4].
قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (136)} [الأعراف: 135- 136].
قال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47].
قال تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79)} [الحجر: 78– 79].
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
هذه الآيات وغيرها تثلج صدر المظلوم، وتبعث فيه الأمل وحسن الظن بالله تعالى بأنه سبحانه سينتقم له، وسيعيد له حقه إن عاجلًا أو آجلًا، كما أنها تقع على مسامع الظالم المُعتدي فترتعد فرائسه وتنغص معيشته؛ لأنه يظل طوال حياته مُترقبًا ينتظر انتقام الله تعالى منه.
ثالثًا: الانتقام في السنة النبوية المطهرة:
إن الأحاديث التي ذكرت في هذا الجانب فحواها أن المسلم لا يجب عليه أن يغضب ولا ينتقم لنفسه؛ بل يكون غضبه وانتقامه إذا انتهكت حرمات الله تعالى دون تجاوز أو إفراط، ولكن وفق ما حدده الشرع الحنيف.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها (21).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: يدخلني الضعفاء والمساكين، وقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، فقال للنار: أنت عذابي أنتقم بك ممن شئت، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من شئت» (22).
نماذج من انتقام الله تعالى من المجرمين:
إن انتقام الله تعالى من الظالمين على مر العصور أثبته القرآن الكريم وأثبتته السنة النبوية المطهرة، فكم أهلك الله تعالى من نماريد وفراعين وهامانات وقوارين وطغاة وجبابرة وظالمين ليكونوا عِبرة لكل مُعتبر وسلوى لكل مظلوم.
انتقام الله تعالى من أبرهة وجيشه: ورد في مختصر تفسير ابن كثير للشيخ الصابوني رحمه الله: فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه عليهم (طيرًا أبابيل) أي قطعًا قطعًا صُفرًا دون الحمام وأرجلها حُمر، ومع كل طائر ثلاثة أحجار، وجاءت فحلّقت عليهم، وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا، قال عطاء: ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة، بل منهم من هلك سريعًا، ومنهم من جعل يتساقط عضوًا عضوًا، وهم هاربون، وكان أبرهة ممن تساقط عضوًا عضوًا حتى مات ببلاد خثعم (23).
انتقام الله تعالى من أكابر كفار قريش: عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم، فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا»، فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا؟ قال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا»، ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في قليب بدر (24).
انتقام الله تعالى من القرامطة: عندما هجم القرامطة على بيت الله الحرام عام 317 هـ واستباحوا حرمته وقتلوا من فيه وسرقوا الحجر الأسود الذي ظل عندهم 22 عامًا: جاء في كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة قال: فلما عاد القرمطي إلى بلاده رماه الله في جسده حتى طال عذابه وتقطعت أوصاله وأطرافه، وهو ينظر إليها وتناثر الدود من لحمه (25).
انتقام الله تعالى من كمال أتاتورك: ألغى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية، وكان معاديًا للإسلام، ومنع الأعياد والحج والأذان واللغة العربية، وأصدر أمرًا بتحويل مسجد أيا صوفيا إلى متحف، وكان سكيرًا عربيدًا ماجنًا فاحشًا، ابتلاه الله بكائنات دقيقة لا ترى بالعين، فذاق مر العذاب ثلاث سنوات حتى قبضت روحه.
والنماذج في هذا الجانب كثيرة لم تنته، ولن تنتهي إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، فالمعركة سِجال، والأيام دُول بين الحق والباطل، وإن تأخر انتقام الله تعالى من بعض الظالمين فإنما يكون ذلك استدراجًا لهم وإمهالًا، فإن الله تعالى يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
إن انتقام الله تعالى ممن يُخالف أمره -بعد إمهاله وإقامة الحجة عليه- سُنة ماضية ليستقيم الكون ولتستقر الحياة وليعلم الخلق أن للكون إله يُدبر أمره بما يقومه ويصلحه، ولقد وضع الله تعالى للعباد أيضًا من الضوابط والأحكام والحدود بشأن المعتدين ما يمكنهم من ردع الظالمين وتقويم المتجاوزين دون تجاوز أو إجحاف لأن من استمرأ الانتقام قسى قلبه وذهبت مروءته وصار في عِداد الظالمين (26).
--------
(1) تفسير ابن كثير (6/ 306).
(2) تفسير الشعراوي (18/ 11332).
(3) في ظلال القرآن (5/ 2761).
(4) تيسير الكريم الرحمن (ص: 638).
(5) مفاتيح الغيب (25/ 84).
(6) تفسير ابن كثير (7/ 499).
(7) التفسير القرآني للقرآن (14/ 688).
(8) النكت والعيون (3/ 424).
(9) في ظلال القرآن (4/ 2274).
(10) مفاتيح الغيب (21/ 470).
(11) في ظلال القرآن (5/ 2811).
(12) في ظلال القرآن (6/ 3436).
(13) صفوة التفاسير (3/ 420).
(14) تفسير ابن كثير (7/ 483).
(15) تفسير ابن كثير (2/ 12).
(16) بصائر ذوي التمييز (6/ 98)، بتصرف شديد.
(17) غرر الخصائص الواضحة (ص: 498).
(18) تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: ٢٢٩).
(19) الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 242).
(20) غرر الخصائص الواضحة (ص: 505).
(21) أخرجه البخاري (3560).
(22) أخرجه الترمذي (2561).
(23) تفسير ابن كثير (8/ 486).
(24) أخرجه مسلم (2874).
(25) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (3/ 224).
(26) أليس الله بعزيز ذي انتقام/ الألوكة.