حكم مصافحة المرأة الأجنبية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمصافحة المسلم للنساء الأجنبيات – مسلمات أو كافرات - من المنكرات التي تفشت بين الناس وأصبح المنكر لها ينظر إليه على أنه سيئ النية ومنزوع الثقة.
وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام الوعيد الشديد على فاعل ذلك فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له" أخرجه الطبراني، والبيهقي.
قَالَ المنذري: رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح.
وَقَالَ الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وقواه الألباني.
- الأدلة على التحريم كثيرة، منها:
(1) ورود النص النبوي القطعي بذلك
فحَدِيثُ مَعْقل بنِ يسار نص قاطع في الحكم بالتحريم، ووجه الاستدلال منه واضح، وهو ما فيه من الوعيد الشديد، على مس المرأة التي ليست بمحرم. وقد قال العلماء: أخفَ أنواع اللمس المصافحة.
قال الألباني: "وفي الحديث وعيد شديد لمن مسّ امرأة لا تحل له ، ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء ؛ لأن ذلك مما يشمله المسّ دون شك ، وقد بلي بها كثير من المسلمين في هذا العصر ، وفيهم بعض أهل العلم ، ولو أنهم استنكروا ذلك بقلوبهم لهان الخطب بعض الشيء ، ولكنهم يستحلّون ذلك بشتى الطرق والتأويلات".اهـ.
(2) وجوب اتباع هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد كان هديه ترك المصافحة
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قط إلا بما أمره الله تعالى وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط.
وعن أميمة ابنة رقيقة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا أصافح النساء ".
وقد قال الله تعالى: والله يقولُ:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ( الأحزاب:21 )، فيلزمنا ألا نصافح النساء اقتداءً به.
وأما صنيع بعض من ينتسب إلى العلم خلاف ذلك، فلا يدل على جواز مثل هذا المنكر أو يبرر التساهل فيه، وإنما لنا في رسول الله وصحابته الكرام الأسوة الحسنة.
(3) كونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة
عن عروة أن عائشة أخبرته عن بيعة النساء قالت: " ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط إلا أن يأخذ عليها فإذا أخذ عليها فأعطته ، قال: اذهبي فقد بايعتك ".
فهذا المعصوم خير البشرية جمعاء سيد ولد آدم يوم القيامة لا يمس النساء ، هذا مع أن الأصل في البيعة أن تكون باليد ، فكيف غيره من الرجال؟ .
فذلك دليلٌ واضحٌ عَلى أنَّ الرجلَ لا يصافح المرأة، ولا يمس شيء من بدنه شيئاً من بدنها، لأنَّ أخفَ أنواع اللمس المصافحة، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة دلّ ذلكَ على أنها لا تجوز، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره.
قَالَ الحافظ العراقيّ : "وفيه: أنّه عليه الصلاةُ والسلامُ لم تمس يدهُ قطّ يد امرأة غير زوجاته وما ملكت يمينه، لا في مبايعة، ولا في غيرها، وإذا لم يفعل هو ذلكَ مَعَ عصمته وانتفاء الريبة في حقه: فغيره أولى بذلك، والظاهرُ أنه كان يمتنع من ذلك لتحريمهِ عليهِ؛ فإنه لم يُعدَّ جوازه من خصائصه".
(4) المرأةَ كلها عورةٌ يجب عليها أن تحتجب
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: المرأةَ عورةٌ.
وعلى ذلك فمس الرجل ليدها أو نظره إليها بغير ضرورة الأصل فيه المنع.
والحكمة من ذلك ما هو معلوم من أن المفاسد المترتبة على اللمس والمصافحة للنساء الأجنبيات كثيرة، فمن ذلك تحريك الشهوة وضعف أو فقد الغيرة وذهاب الحياء، فإن من مدت يدها لمصافحة الرجال فلا تأمن أن تجرها المصافحة إلى الانبساط بالحديث والنظر المحرم ثم اللقاء المتكرر والصداقة بينهما ثم وقوع الفاحشة.
وهذا أمر واقع لا ينكره إلا قوم عمون.
قَالَ الحافظ العراقيّ : "وقد قَالَ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إنه يحرم مس الأجنبية ولو في غير عورتها كالوجه، وإن اختلفوا في جواز النظر حيثُ لا شهوة ولا خوف فتنة، فتحريم المس آكد من تحريم النظر، ومحل التحريم ما إذا لم تدع لذلك ضرورة فإن كان ضرورة كتطبيب، وفَصْد، وحجامة، وقلع ضرس، وكحل عين ونحوها مما لا يوجد امرأة تفعله جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة".
(5) القرآن دال على حكم التحريم بقياس الأولى
قال الله تعالى: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون).
فإذا كان النظر حرامًا، وقد أمرنا بصرف النظر بعد نظرة الفجأة، فكيف تتصور أن تكون المصافحة مباحة؟
وإنما أمر بغض البصر خوف الوقوع في الفتنة، ولا شك أنَّ مسّ البدن للبدن أقوى في إثارة الغريزة، وأقوى داعيا إلى الفتنة من النظر بالعين، وكلُّ منصفٍ يعلمُ صحة ذلك.
ولا شك أنَّ ذلكَ ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية لقلة تقوى الله في هذا الزمان، وضياع الأمانة، وعدم التورع عن الريبة، والذريعة إلى الحرام يجب سدها.
فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها، ومن أكبرها لمس الرجل شيئا من بدن الأجنبية.
(6) اتفاق علماء الأمة قاطبة - إلَّا ما قال به بعض المعاصرين - على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية
فقد اتَّفق عامَّةُ عُلماء الأمَّة: من السَّلف والخَلَف؛ من الفُقَهاء والمُفسِّرين وأهل الحديث وغيرهم - على تحريم مُصافَحة المرأة الأجنبِيَّة، ولم يُعرَف لهم مُخالِف على مَرِّ العصور والأزمان، إلَّا ما قال به بعض المعاصرين من قول شاذٍّ: بجواز مُصافَحة المرأة الأجنبيَّة.
وسنَذكُر بعض أقوال عُلَماء المذاهب المُتَّبَعة في أرجاء المعمورة؛ ليَعلَم القارئ الكريم أنَّ غيرَها شذوذٌ لا يُلتَفت إليه:
أوَّلًا: مذهب الحنفية:
قال صاحب كتاب الهداية: "ولا يَحِلُّ له أن يَمَسَّ وجهها ولا كَفَّيها وإن كان يَأمَنُ الشَّهوة ".
وقال صاحب "الدُّرِّ المُختار": "فلا يَحِلُّ مَسُّ وجهها وكفِّها وإن أَمِن الشَّهوة".
وقال ابن نجيم : ولا يجوز له أن يمس وجهها ولا كفها وإن أمن الشهوة لوجود المحرم ولانعدام الضرورة.
ثانيًا: مذهب المالكية:
قال محمد بن أحمد ( عليش ): "ولا يجوز للأجنبي لمس وجه الأجنبية ولا كفيها ، فلا يجوز لهما وضع كفه على كفها بلا حائل".
وقال الإمام الباجِيُّ: "وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنِّي لا أُصافِح النساء" يريد: لا أباشر أيديهن بيدي، يريد - والله أعلم- الاجتناب؛ وذلك أنَّ حُكم مُبايَعة الرِّجال المُصافَحَةُ، فمَنَع ذلك في مُبايَعة النِّساء؛ لما فيه من مُباشَرَتهن".
ثالثًا: مذهب الشافعية:
قال الإمام النووي: "وقد قال أصحابُنا: كلُّ من حَرُم النَّظرُ إليه حَرُم مَسُّه، بل المسُّ أشدُّ؛ فإنه يَحِلُّ النَّظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يَتَزوَّجها، وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسُّها في شيء من ذلك".
وقال أيضًا في شرحه على "مسلم": "فيه أن بَيْعَة النِّساء بالكلام، وفيه أنَّ كلام الأجنبيَّة يُباح سماعُه عند الحاجة، وأنَّ صوتَها ليس بعورةٍ، وأن لا يَلمَس بَشَرة الأجنبيَّة من غير ضرورة؛ كتَطبيبٍ وفَصْد".
رابعًا: مذهب الحنابلة:
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية: "ويَحرُم النَّظر بشهوة إلى النساء والمُردان، ومن استحلَّه كَفَر إجماعًا، ويَحرُم النَّظر مع وجود ثَوَران الشَّهوة وهو مَنصوصُ الإمام أحمد والشافعي ... وكل قسم متى كان معه شهوةٌ كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوةً تُمتِّع النَّظر أو كانت شهوةَ الوَطء واللَّمسُ كالنَّظر وأَولى".
وقال ابن مُفْلِح: "فتصافِحُ المرأةُ المرأةَ، والرَّجلُ الرَّجلَ والعجوز والبَرْزَة غيرُ الشابَّة فإنه يَحرُم مصافحتُها، ذكره في الفصول والرِّعاية".
وقال: "سُئل أبو عبد الله عن الرجل يُصافِح المرأة قال: "لا"، وشدَّد فيه جدًّا، قلت: "فيُصافِحها بثوبه؟" قال: "لا ".
ومن هذه النُّقول يَتبيَّن أن انتشار مُصافَحَة النساء الأجنبيَّات من المُنكَرات التي تَفشَّت بين الناس، وأن واجب العلماء تبيين الحق في ذلك بلا مواربة ولا مداهنة.
- الرد على شبهات البعض من المعاصرين:
أولا: قولهم: إن ترك المصافحة يتسبب في إحراج الآخرين، وهذا لا يجوز شرعا أو لا ينبغي ذوقا
والجواب: لا ترد الأحكام الشرعية بمثل هذا، ولم يقل بمثل ذلك طالب علم فضلا عن عالم، بل نصوا على أنه لا يجوز للمسلم أن يصافح امرأة أجنبية ولو كانت هي المبادرة بذلك، وذلك:
أولا: لأن أدلة التحريم عامة.
ثانيا: لورود الدليل الخاص بالمنع حتى في هذه الصورة.
فقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك المرأة التي مدت يدها إليه، وهو القدوة والأسوة.
وفي فعله صلَّى الله عليه وسلَّم بيان مشروعية هذا الفعل وإن ترتب عليه بعض الحرج، وبطلان قول من ادعى خلاف ذلك. وبيان ما هو جائز وواجب شرعا وذوقا.
ثالثا: هذا الأمر إنما يحصل لشيوع الجهل بأحكام الشريعة الغراء، فما المانع من السعي في توعية الناس بأمور دينهم، حتى لا يقدم الإنسان على فعل المحظور ثم يقع في الحرج؟
رابعا: قولكم هذا يتنافى مع قاعدة وجوب إنكار المنكر مع الاستطاعة، ويخالف قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: من رأى منكم منكرا فليغيره... الحديث.
والغرض: أن الشرع حاكم على أذواق الناس وعاداتهم، وليس العكس.
ثانيا: قولهم: الحديث الوارد في تحريم المس ضعيف، والمس لا يعني بالضرورة المصافحة، بل هو في القرآن لا يأتي إلا بمعنى الجماع، فيحمل هنا على فاحشة الزنا. وتكون المصافحة بشهوة هي محل الاتفاق على التحريم.
والجواب:
أولا: أن الحديث صحيح، وصريح في مُجرّد اللمسّ ، ويبين ذلك ويؤكده أن علماء السنة فسّروا الحديث بِمجرّد اللمس.
قال المناوي: "... وإذا كان هذا في مُجَرَّد المس الصادق بما إذا كان بغير شهوة، فما بَالك بما فَوقه مِن القُبْلة؟".
ووَرَد في السنة النبوية أحاديث فيها ذِكر اللمس ويُقصد بها المصافحة، فكان الْحَمل عليها أولى من تكلّف التأويل !
فعن أنس رضي الله عنه أنه قال : ولا مَسَسْت خَزَّة ولا حريرة ألْين مِن كَفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم: ولا مَسَست شيئا قط ديباجا ولا حريرا ألْين مَسًّا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها: " ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام قالت عائشة: والله، ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: «قد بايعتكن» كلاما ".
وقالتْ رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، وإني لَمُعْتَرِضَة بين يَديه اعْتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يُوتر مَسَّنِي بِرِجْله.
فهذه الأحاديث وغيرها جاء فيها ذِكْر ( الْمَسّ ) والمراد به مُجرّد اللمس، كما هو ظاهر غاية الظهور في هذه النصوص
وقد يكون المسّ باليد وقد يكون بالرِّجْل، كما في الأحاديث السابقة. بل جاء النهي عن الملامسة في البيع، ويُراد به اللمس دون غيره من المعاني.
ثانيا: يلزم مِن قولهم في حمل المس على الزنا أن يُجيزوا كل ما هو دون ذلك مِن قُبْلَة وضمّ ومسّ لِجميع الجسد!. وهذا لا يقول به عاقل فضلا عن مسلم، فضلا عن طالب علم!
ثم إن قائل هذا القول يناقض نفسه بِقوله: (أما المصافحة بشهوة فهي حرام بالاتفاق)! فنقول له: كيف تقول بِحرمتها، مع أنه رجّح أن المراد بالمس في الحديث هو الْجِماع ؟!. وإذا كان ثمت فَرَّق بين المسّ بشهوة وبِغير شهوة فأين الدليل على هذا التفريق.
ثالثا: أن أهل الاختصاص صَحّحوا حديث " واليد زناها اللمس"، فقد صححه غير واحد من أهل العلم.
قال ابن كثير في تفسيره: وفي الحديث الصحيح: واليد زناها اللمس.
فهذا دليل واضح وظاهر على تحريم اللمس الذي هو محل النزاع هنا.
قال الألباني: "وفي الحديث دليل واضح على تحريم مصافحة النساء الأجنبيات، وأنها كالنظر إليهن وأن ذلك نوع من الزنا، ففيه رد على بعض الأحزاب الإسلامية الذين وزعوا على الناس نشرة يبيحون لهم فيها مصافحة النساء غير عابئين بهذا الحديث فضلا عن غيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب".
ثالثا: قولهم: ترك الرسول للمصافحة قرار شخصي، وليس كل ما ورد عنه من هدي من قبيل التشريع، ولا كل ما امتنع عنه يكون على سبيل التحريم، وغاية ما في الأمر أنه كما ورد في امتناعه عن أكل الثوم والبصل، مع أنهما مباحان.
فليس على المسلمين التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تركه للمصافحة لأن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إني لا أصافح النساء) ليس فيه إلا الامتناع عن الفعل، والتأسي لا يكون إلا بأفعاله وهو لم يفعل شيئاً في هذه الحادثة سوى الامتناع عن الفعل.
والجواب:
أولا: أن هذا خطأ كبير في الاستدلال؛ فإنه ينبغي أن يعلم أن الترك، وهو المعروف عند الأصوليين بالكف يعد فعلاً لقوله تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، فقد ذمهم الله تبارك وتعالى على ترك النهي عن المنكر، وسمي تركهم لذلك فعلاً: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
يقول الشيخ علي محفوظ: "فاعلم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات كذلك طالبنا في تركه فيكون الترك سنة، وكما لا نتقرب إلى الله بترك ما فعل لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فلا فرق بين الفاعل لما ترك والتارك لما فعل".
وقال ابن النجار الحنبلي: "التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلك كما فعل، لأجل أنه فعل، وأما التأسي في الترك فهو أن تترك ما تركه لأجل أنه ترك".
ثانيا: لو كانت مُصافحة النساء جائزة لصافحهنّ لتثبيت المبايعة، كما هو الأصل في المبايعة، وكما بايع الرجال بالمصافحة.
قال ابن عبد البر : وأما مَدّ اليد والمصافحة في البيعة، فذلك مِن السنة المسنونة، فَعَلَها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُصَافِح النساء. اهـ . فعُلِم أن تركه عليه الصلاة والسلام مصافحة النساء لم يَكن لِمجرّد الترك، بل لأنه كان إثما.
ثالثا: من الثابت في السنن، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يَكْره أن يُواجِه الناس بِأمْر فيه سَعَة، فلم يكن رسول الله لِيَرُدّ أيدي نساء الأمة ويَكفّ يده عن مصافحتهن لِمُجرّد ترك الفعل، مع ما في ذلك مِن كسر لنفوسهن، فلو كان في المصافحة سَعة لَما كَفّ يَده صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء.
رابعا: إن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مُصافحة النساء، دليل على التحريم، وليس مُجرّد ترك، كما قال؛ لأن مصافحته عليه الصلاة والسلام شَرف وفَخْر. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفتخرون بِمصافحة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال عبد الله بن بُسْر: تَرون يَدي هذه ؟ صَافَحْتُ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بايعته.
وكان التابعون يحرصون أيما حرص على مُصافحة الأيدي التي صافَحْت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو هرمز: قلنا لأنس: صَافِحْنا بِالكَفّ التي صَافَحْتَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَصَافَحَنا. فإذا كان ذلك كذلك فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحرِم نساء ذلك الجيل ذلك الشرف، لِمجرّد الـتَّرْك؟ مع أنه عليه الصلاة والسلام ما خُيِّر بين أمْرين إلاَّ اختار أيسرهما ، ما لم يَكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
رابعا: قولهم: حكم المصافحة يدور بين الكراهة والإباحة، ليس إلا، وذلك حسب حال الشخص (سنه، وقوة شهوته)، وهناك فرق بين المصافحة مع وجود الشهوة وعدم أمن الفتنة، ومع عدم وجودها وأمن الفتنة.
والجواب: نقول لهذا القائل، عارضين عليه هذه التساؤلات طالبين منه الجواب عليها بتعقل وإنصاف:
- كيف يُمكن معرفة وقوع الفتنة للطرف الآخر أو وجدانه للشهوة؟ وهل يمكن أن يعلق الحكم الشرعي على أمر يستحيل التأكد منه؟
- هل يجوز تقبيل الرجل لخد الأجنبية عند أمن الفتنة؟ فإن قلت: لا، فما الدليل على التحريم عند أمن الفتنة؟
- متى تأتي الفتنة أو الشهوة؟ قبل السلام أم بعده؟ وهل يعني ما تقول أن أصافح مثلاً بنت خالتي يوم السبت، ثم يوم الأحد أمتنع وأقول: لأنني شعرت بشهوة أمس أثناء مصافحتك.
- لنفترض أن أحدًا أخذ بتلك الفتوى، وهو يعلم من نفسه أنه يشتهي فلانة ويفتتن بها، فحضرت فلانة هذه بين مجموعة من النسوة، فهل يصافحهن ثم يأتي عندها ويمتنع، ويقول: (لا أصافحك لأني سأشعر بالشهوة)؟! أيقول بهذا عاقل؟.
- كيف يحمل حال الرسول في تركه المصافحة مع كونه لا يخشى عليه الفتنة أو اشتهاء المحرم؟ إن قيل: إنما امتنع من المصافحة من باب الخصوصية في ذلك فعليه الدليل؛ ذلك أن الخصوصية لا تثبت بِمُجرّد الدعوى. كما قال أهل العِلم.
بل إنه عليه الصلاة والسلام معصوم من الزلل، ولذلك يجوز له ما لا يجوز لغيره، فلو قيل بالعكس لكان أولى. لكنه يريد التشريع لأمته صلى الله عليه وسلم.
إذن، يظهر لنا جليا، ونخلص مما سبق إلى أمور:
الأول: الصحيح: أنه لا فَرْق بين أن يكون مس المرأة الأجنبية بِشهوة أو بِغير شهوة، من حيث أصل الحكم بالتحريم.
الثاني: هنالك من اللوازم الباطلة التي تلزم القائل بالجواز عند أمن الفتنة، ما هو كفيل برد هذه الشبهة.
الثالث: مجرد تأمل القول بجواز المصافحة بين الجنسين يجعل المنصف يقطع بالمنع والتحريم وإن لم توجد الشهوة! فما بالك وهناك من الأدلة ما يؤكد التحريم؟
خامسا: هذا الأمر خلافي ليناسب كل زمان ومكان ويتماشى مع ظروف المجتمعات وعادات الأسر والناس.
والجواب:
أولا: ليس كل خلاف جاء معتبرا، إلا خلاف له حظ من النظر.
والخلاف في هذه المسألة غير معتبر، بل هو من الخلاف الشاذ، وهنالك – كما أسلفنا – اتفاق، يشبه الإجماع على حكم تحريم مس أي شيء من بدن الأجنبية بلا ضرورة.
ثانيا: شرع الله ثابت لا يتغير، وإنما قد تتغير الفتوى لعدة اعتبارات مذكورة في مظانها من كتب الأصول، وليست لها علاقة بهذا الباب من قريب ولا بعيد.
ورحم الله الشاطبي إذ يقول: "من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض، فيوشك أن يزل، وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه".
أخيرا: ننبه إلى أمور هامة للباحث في تلك المسألة:
الأول: أن يكون هدفه هو الوصول إلى الحق، وليس تقرير ما ذهب إليه مِن قول ، أو نَصْر ما يَراه مِن رأي.
الثاني: أن يَتجرّد لله عزّ وَجَلّ، وأن لا يَلوي أعناق الأدلّة، أو ينتصر لِقول شيخ، أو التأثّر بِما يُسمى " مُقرر سابق"، وهو أن يبني المسألة على ما تقرر عنده وترسّخ مِن فَهْم؛ فإنه إذا بحث مسألة وهو متأثّر بِمقرر سابق أو حُكم مُعيّن جَانَب الصَّواب غالبا؛ لأنه سوف يلوي أعناق النصوص، ويجعل كل دليل يصبّ في ما تقرر عنده! بِخلاف ما إذا بحث المسألة بِتجرّد، واستدلّ بالأدلة في مواضعها، وجَمَع بين النصوص، فإنه يستبين له وجه الحق.
الثالث: أن لا يأتي بِقول لم يُسبق إليه، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يقول : إياك أن تتكلّم في مسالة ليس لك فيها إمام
وأن لا يتَّبِع المسائل الشَّاذَّة. ولا يتتبّع رُخص العلماء، فإن فَعَل الباحث ذلك فقد يَجتمع فيه الشرّ كله !
الرابع: لينتبه إلى أن صنيع بعض من ينتسب إلى العلم لا يدل على جواز مثل هذا المنكر أو يبرر التساهل فيه، وإنما لنا الأسوة الحسنة في رسول الله وصحابته الكرام.
الخامس: ليعلم أنه لا تجوز مصافحة المرأة الأجنبية ولو بحائل من تحت ثوب وما أشبهه والذي ورد بذلك من الحديث عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يصافح النساء من تحت الثوب ". ضعيف.
قال الشيخ ابن باز: الأظهر المنع من ذلك ( أي مصافحة النساء من وراء حائل ) مطلقا عملا بعموم الحديث الشريف، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إني لا أصافح النساء "، وسدّاً للذريعة.
ومثل ذلك مصافحة العجائز، فهي حرام لعموم النصوص في ذلك، وما ورد في ذلك من الإباحة فهو ضعيف.
قال الزيلعي: قوله: " وروي أن أبا بكر كان يصافح العجائز " ، قلت : غريب أيضاً ". وقال ابن حجر: لم أجده.
وقال الإمام ابن العربي عند قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12]:
"عن عروة عن عائشة قالت: "ما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَمتَحِن إلا بهذه الآية: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ}"، قال مَعمَر: "فأخبرني ابن طاووس عن أبيه قال: "ما مَسَّت يده يد امرأة إلا امرأة يَملِكُها".
وعن عائشة أيضًا في "الصحيح": "ما مَسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأةٍ، وقال: "إنِّي لا أُصافِح النِّساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة". وقد رُوي أنَّه صافَحهُن على ثوبه. ورُوِي أن عمر صافَحهُن عنه، وأنه كَلَّف امرأة وَقَفَت على الصَّفا فبايَعَتهُن، وذلك ضعيف وإنما يَنبغي التَّعويل على ما رُوِي في الصحيح".
وقال ولي الدين العراقي: " قولها رضي الله عنها " كان يبايع النساء بالكلام " أي: فقط من غير أخذ كف ولا مصافحة ، وهو دال على أن بيعة الرجال بأخذ الكف والمصافحة مع الكلام وهو كذلك ، وما ذكرته عائشة رضي الله عنها من ذلك هو المعروف.
وذكر بعض المفسرين أنه عليه الصلاة والسلام دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ثم غمس فيه أيديهن! وقال بعضهم: ما صافحهن بحائل وكان على يده ثوب قطري! وقيل: كان عمر رضي الله عنه يصافحهن عنه ! ولا يصح شيءٌ من ذلك، لا سيما الأخير، وكيف يفعل عمر رضي الله عنه أمرا لا يفعله صاحب العصمة الواجبة؟".
انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/ 401).
الحديث رواه الطبراني في الكبير ( 486 )، وقال الألباني عنه في صحيح الجامع ( 5045 ): صحيح. وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/ 401)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 447).
رواه النسائي ( 4181 )، ابن ماجه (2874). وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 2513 ).
رواه مسلم ( 1866 ).
طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 44).
رواه الترمذى من طريق همام عن قتادة عن مورق عن أبى الأحوص عن عبد الله عن النبى صلى الله عليه وسلم به وتمامه: " فإذا خرجت استشرفها الشيطان ". وصححه الألباني. انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 303).
طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 45).
من هؤلاء: الشيخ يوسف القرضاوي، بشرط أمن الشهوة.
الهداية في شرح بداية المبتدي (4/ 368).
الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (6/ 367).
انظر: ، والبحر الرائق ( 8 / 219 ).
منح الجليل شرح مختصر خليل (1/ 222).
المنتقى شرح الموطإ (7/ 308).
المجموع شرح المهذب (4/ 635).
شرح النووي على مسلم (13/ 10).
المستدرك على مجموع الفتاوى (4/ 141).
الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 257).
انظر: فتوى بعنوان: هل سلام المرأة باليدِ على الرِّجال حرام؟ لخالد عبد المنعم الرفاعي – موقع طريق الإسلام.
وسبق بيان ذلك.
فيض القدير (5/ 258). ونقل الشيخ عبد الرحمن السحيم أيضا عن ابن حجر أنه قال: باب ترك مُلامسة المرأة الأجنبية، قال: ثم أورد تحته أحاديث في ترك مبايعته صلى الله عليه وسلم للنساء مُصافحة.اهـ. انظر: سؤال وجوابه حول شُبهات متعلقة بالمصافحة بين الجنسين - لعبد الرحمن بن عبد الله السحيم. موقع صيد الفوائد.
رواه البخاري (1973)، ومسلم (2330).
صحيح البخاري (7/ 49)، صحيح مسلم (3/ 1489)، واللفظ لمسلم.
رواه الإمام أحمد والنسائي، وقال الألباني: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. صحيح أبي داود - الأم (3/ 297).
تفسير ابن كثير ت (2/ 315)، والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 721). وانظر: سؤال وجوابه حول شُبهات متعلقة بالمصافحة بين الجنسين - لعبد الرحمن بن عبد الله السحيم. موقع صيد الفوائد.
سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 721).
قال حجة الإسلام الغزالي: [والكف فعل يثاب عليه]. (المستصفى 1/ 90)، وقال الآمدي: [أما التأسي بالغير فقد يكون بالفعل والترك]، وقال أيضاً: [أما التأسي في الترك فهو ترك أحد الشخصين مثل ما ترك الآخر في الأفعال على وجهه، وصفته من أجل أنه ترك]. ((الأحكام للآمدي 1/ 158)، وقال الشوكاني: [تركه - صلى الله عليه وسلم - للشي كفعله له في التأسي به]، وقال ابن السمعاني: [إذا ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم الضب فأمسك عنه وترك أكله أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه وأذن لهم في أكله]. (إرشاد الفحول ص 42)، وقال العلامة ابن القيم تحت عنوان: [فصل: نقل الصحابة ما تركه - صلى الله عليه وسلم -: وأما نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - فهو نوعان وكلاهما سنة]، ثم قال: [ ... فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة]. (إعلام الموقعين 2/ 389). نقلا عن بحث لحسام الدين عفانة، بعنوان: الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية.(على موقع المكتبة الشاملة).
الإبداع في مضار الابتداع ص 34 - 35.
شرح الكوكب المنير 2/ 196.
قال المناوي عن ما رُوي من مُصافحته للنساء مِن وَرَاء ثوب: قيل: هذا مخصوص به لِعِصْمَته، فغيره لا يجوز له مصافحة الأجنبية لِعَدم أمْن الفتنة.اهـ. فيض القدير (5/ 221).
الاعتصام للشاطبي (1/ 285).
انظر: سؤال وجوابه حول شُبهات متعلقة بالمصافحة بين الجنسين - لعبد الرحمن بن عبد الله السحيم. موقع صيد الفوائد.
رواه الطبراني في المعجم الأوسط ( 2855 ). قال الهيثمي: رواه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، وفيه عتاب بن حرب، وهو ضعيف. " مجمع الزوائد " ( 6 / 39 ). وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (4/ 337): "قلت: وهذا إسناد ضعيف جدا".اهـ.
انظر: حاشية مجموعة رسائل في الحجاب والسفور صفحة " 69 " بتصرف. (منقول).
نصب الراية " ( 4 / 240 ).
الدراية في تخريج أحاديث الهداية ( 2 / 225 ).
أحكام القرآن لابن العربي (4/ 234).
طرح التثريب ( 7 / 45 ).