logo

حكم الحاكم هل يرفع الخلاف؟


بتاريخ : الخميس ، 24 ربيع الآخر ، 1439 الموافق 11 يناير 2018
بقلم : خالد بن محمد آل العبد
حكم الحاكم هل يرفع الخلاف؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 فمن المسائل الهامة التي يترتب عليها تيسير أمور الناس وتسيير شئون الدولة الإسلامية ما أصله فقهاء المسلمين، وقعده علماء الأصول منهم بقولهم: «إن حكم الحاكم يرفع الخلاف».

لكن لما كانت تلك القاعدة واسعة المعاني، محتملة لصور عدة، ومع تنوع وتعدد صور الخلاف فمنه ما هو في مسائل الاعتقاد، ومنه ما هو في مسائل الفقه، ومنه ما هو من النوازل المعاصرة, ومع تغير واختلاف الوسط الذي نشأت فيه تلك القاعدة، من وسط يحكمه الشرع الإسلامي، ويتولى شئون  الدولة فيه حاكم مسلم غيور على دينه؛ إلى وسط تحكمه القوانين الوضعية المستوردة من أعداء الدين، ويترأس المسلمين فيه غصبًا وغلبة على أمرهم من يكون في كثير من الأحيان صنيعة عدو ماكر، كاره للدين، محارب لمن ينادي بتطبيق الإسلام وتحكيم شريعته.

أقول: لما كان الحال كذلك، فإن الأمر يحتاج، ولا شك، إلى مزيد بيان للمراد بتلك المقولة، وهل هي قاعدة متفق عليها؟ وما تأصيل تلك القاعدة؟ وما المراد بالخلاف المذكور؟ وهل حكم الحاكم يقتصر على قوله أو يشمل ما هو أعم من ذلك؟

كل هذه المسائل وغيرها مما ينتج عنه البحث، ويتفرع له الفقه، ويتسع له المقام، هو ما نحاول أن نعرض له في هذه الصفحات، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

وقد بدا لي أن أقسم هذا البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث.

فالمبحث الأول: في بيان مصطلحات الموضوع محل البحث؛ وهي: الحكم ، الحاكم ، الرفع، الخلاف،  وبيان معنى تلك المقولة، والمراد بها عند أهل العلم.

والمبحث الثاني: في أقسام الاختلاف، ورد ما خالف الحق الواضح من الأحكام.

والمبحث الثالث: في تقرير القاعدة، والأدلة عليها، وصورها عند فقهاء الشريعة.

***

 

المبحث الأول

التعريف بمفردات عنوان البحث وبيان مترادفاته

حكم: مصدر حَكَم يحكم، وهي كلمة تدور معانيها حول العلم والفقه والقضاء والمنع، يقال: حكم له وحكم عليه بالأمر يحكم حكمًا وحكومة، وحكم بينهم كذلك؛ أي: قضى، والحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل(1).

والحكم: القضاء، وأصله المنع، يقال: حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك، وحكمت بين القوم فصلت بينهم فأنا حاكم، وحَكَم بفتحتين، والجمع حكام(2)، و(المحكمة) هيئة تتولى الفصل في القضاء، ومكان انعقاد هيئة الحكم(3).

و(القضاء) الحكم والأداء، وعمل القاضي ورجال القضاء، الهيئة التي يوكل إليها بحث الخصومات للفصل فيها طبقًا للقوانين(4)، وفي التنزيل: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}؛ أي: العلم والفقه.

الحاكم: اسم يطلق ويراد به عدة معان، أهمها:

  • السلطان ورئيس الدولة وولي الأمر والخليفة.
  • القاضي الذي يعينه الإمام ليفصل بين الناس(5).
  • الشخص الذي يُحَكِّمه الناس فيما بينهم.
  • كما يطلق ويراد به الله أحكم الحاكمين.

يقال: حكمتُ بين القوم: فصلت بينهم، فأنا حاكم، وحَكَم بفتحتين، والجمع حكام(6).

و(القاضي) القاطع للأمور المحكم لها، ومن يقضي بين الناس بحكم الشرع، ومن تعينه الدولة للنظر في الخصومات والدعاوى وإصدار الأحكام التي يراها طبقًا للقانون، ومقره الرسمي إحدى دور القضاء، والجمع قضاة(7).

وفي التنزيل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:٢٦]، وفيه أيضًا: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:٣٥].

قال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق(8).

وفي أسماء الله تعالى الحكم والحكيم، وهما بمعنى الحاكم، وهو القاضي، فهو فعيل بمعنى فاعل، والحاكم: منفذ الحكم، والجمع حكام(9).

وفي التنزيل: {لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: ٦٢]، وفيه أيضًا: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:٤٥].

والمراد بحكم الحاكم أي: فصله وقضاؤه، وما حكم به.

يرفع: من الرفع، والمراد به هنا الإزالة.

ورفع الشيء حمله ونقله، يقال: ارفع هذا: خذه واحمله، و(ارتفع): علا وتقدم وانتقل وزال، و(ترافعا) إلى الحاكم: تحاكما، والمحامي عن المتهم أمام القضاء: دافع عنه بالحجة.

و(المرافعة) إجراءات مقررة لتصحيح الدعوى والسير فيها، وقانون المرافعات: قانون ينظم الإجراءات التي تتبع في رفع الدعوى أمام المحاكم(10).

الخلاف: ضد الاتفاق؛ يقال: خالفته مخالفة وخلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، والاسم: الخلف، بضم الخاء.

والخليفة بمعنى السلطان الأعظم، فيجوز أن يكون فاعلًا؛ لأنه خلف من قبله أي جاء بعده، ويجوز أن يكون مفعولًا لأن الله تعالى جعله خليفة، أو لأنه جاء به بعد غيره، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [فاطر:39]، قال بعضهم: ولا يقال: خليفة الله (بالإضافة) إلا لآدم وداود؛ لورود النص بذلك، وقيل: يجوز، وهو القياس؛ لأن الله تعالى جعله خليفة كما جعله سلطانًا(11).

 

المبحث الثاني

أقسام الاختلاف، ورد ما خالف الحق الواضح من الأحكام

تمهيد:

قدر الله، قدرًا كونيًا، على جميع البشر الاختلاف في الأفهام, والاختلاف في الآراء، والتباين في الميول والأهواء؛ لحكمة يعلمها، ومشيئة يريد أن ينفذها، ومما نتج عن ذلك اختلاف علماء المسلمين في كثير من مسائل الدين، وأكثرها بحمد الله في الفروع وليس في أبواب الاعتقاد؛ بل هذه الأخيرة متفق فيها على أصول المسائل وكبارها.

ورغم هذا القدر المكتوب إلا أن الله سن للمسلمين درء هذا الاختلاف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ فالخلاف سنة كونية نعم؛ لكن دفعه فريضة شرعية: يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119].

وقد اختلف المفسرون إلى أي شيء يعود اسم الإشارة في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فمنهم من قال: إنه يعود إلى الاختلاف؛ أي: خلقهم ليختلفوا، وذهب إلى هذا الحسن البصري، وذهب بعض المفسرين، ومنهم عطاء، إلى أن اسم الإشارة يعود إلى الرحمة أي خلقهم ليرحمهم، وبعضهم قال: اسم الإشارة يعود إلى الاثنين معًا؛ أي خلقهم ليختلفوا، وليرحم من سلك الصراط المستقيم، وممن ذهب إلى هذا القول ابن جرير الطبري، وابن كثير، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله(12).

أنواع الخلاف:

هذا، وقد بين العلماء لنا في هذا المقام أنه ليس كل خلاف يكون سائغًا؛ بل الخلاف منه السائغ المقبول، ومنه غير السائغ المردود.

أولًا: الخلاف غير السائغ: وهو في الجملة غير المبني على دليل معتبر.

ومن صوره ما يلي:

(1) الخلاف الذي خالف فيه المشركون والكفارُ الحقَ، ومنه قول الله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19]، وهذا الخلاف منشؤه الهوى والتقليد الأعمى للموروثات الفاسدة، وهو أيضًا يكون بين المنتسبين للإسلام في قطعيات العقيدة والفقه (الأصول).

(2) ومنه خلاف الخوارج والرافضة والمعتزلة والقرآنيين، وقد يصل في بعض صوره إلى الكفر.

والمخالفون فيه خالفوا جمهور المسلمين في أصول المسائل التي يقوم عليها المعتقد والأحكام، فأصولهم فاسدة، ومن ذلك تقديم العقل على النقل، أو القول بعصمة الأولياء أو أئمة أهل البيت، أو ترك الاحتجاج بالسنة.

وهذا النوع هو الذي يؤدي إلى فرقة الأمة وتشرذمها، وجاءت النصوص القرآنية والنبوية في التحذير منه، ومن ذلك: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119].

قال الرازي: «المراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال»، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].

{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105].

 (3) ومن الخلاف الذي لا يسوغ خلاف الجاهل للعالم، أو بالجملة خلاف من لا يملك أهلية الاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية، فليس من الخلاف المعتبر اجتهاد من ليس له بأهل.

وفيه قصة الرجل الذي أصابته جنابة في سفر وقد شج، فأمره بعضهم بالاغتسال فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: »قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال«(13).

 قال ابن تيمية: «أخطئوا بغير اجتهاد، إذ لم يكونوا من أهل العلم»(14).

وفي الاجتهاد من غير أهلية يقول صلى الله عليه وسلم:» القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضي في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل علم فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل، ورجل علم الحق وقضى بخلافه«(15).

ثانيًا: الخلاف السائغ: وهو في الجملة ما له دليل معتبر، لكن يختلف أهل العلم في قبوله أو رده وفي استنباط الحكم منه من عدمه.

ويكون في فروع العقيدة والفقه.

ومنه خلاف المذاهب الفقهية، وخلاف الدعاة على بعض الوسائل الحديثة للدعوة، وكذلك فروع العقيدة كرؤية الرسول ربه ليلة المعراج، وكنه المعراج بنبينا، هل هو بالروح أم بالجسد.

وهذا النوع من الخلاف هو محل بحثنا، وهو أيضًا على مراتب بعضها دون بعض:

(أ) الخلاف الشاذ:

ومن صوره إباحة ربا الفضل، ومنه إباحة إتيان النساء في الدبر، ومنه إباحة شرب غير نبيذ العنب، ومنه تحليل نكاح المتعة، ومنه تجويز حلق اللحى للرجال، وإباحة الموسيقى والمعازف(16).

وجميع صور هذا الخلاف قام الدليل القوي والصريح على خلافها، وإنما وقع من وقع في الخلاف لعدم معرفته بدليل المسألة أو تأوله البعيد له.

(ب) الخلاف الضعيف:

ومن صوره: قتل المسلم بالكافر، وإيجاب الأضحية، وسفر المرأة بدون محرم.

(ت) الخلاف القوي:

 مثل الاختلاف في وقوع طلاق الثلاث واحدة، والقنوت في صلاة الفجر، ورفع اليدين في الصلاة، وما يجب تغطيته من المرأة، وميراث الجد مع الأخوة، ونحو ذلك.

 التفريق بين الخلاف السائغ وغيره:

 وخلاصة ما سبق أن الاختلاف غير السائغ يكون في حالات:

الحال الأولى: الاختلاف في مسائل العقيدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة:

فهذا اختلاف مذموم؛ لأن العقيدة ثابتة بنصوص قطعية في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليها الصحابة؛ فلا يصح أن يكون فيها اختلاف بين المسلمين.

الحال الثانية: الاختلاف في الأدلة القطعية:

والمقصود بها المسائل التي تكون قطعية الثبوت وقطعية الدلالة؛ مثل وجوب الصلاة والصيام والزكاة، وقطع يد السارق، ورجم الزاني، ووجوب الحجاب، وتحريم الخمر، ونحو ذلك.

فالاختلاف في هذه المسائل غير سائغ؛ لأنه لو قُبِل الخلاف فيها لما بقي شيء من مسائل الدين إلا وأصبح قابلًا للأخذ والرد.

الحال الثالثة: الاختلاف الناشئ عن تعصبٍ أو هوى لا عن حجةٍ وبرهان:

فقد ذم الله تعالى الذين يجادلون في آياته بغير حجة ولا برهان، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56].

وقوله: سلطان؛ أي حجة وبرهان.

 الحال الرابعة: مخالفة ما أجمعت عليه الأمة:

ففي هذه الحالات الأربع يكون الاختلاف مذمومًا، وهو ما يطلق عليه الشارع الافتراق، كما في حديث الافتراق المشهور(17).

وأما الاختلاف السائغ فهو الاختلاف في المسائل الظنية؛ مثل الاختلاف في وقوع طلاق الثلاث واحدة، والقنوت في صلاة الفجر، ورفع اليدين في الصلاة، وما يجب تغطيته من المرأة، ونحو ذلك.

فمثل هذه المسائل يسوغ فيها الخلاف إذا لم يكن عن تعصب وهوى، وإنما عن اجتهاد وتحرٍ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد»(18)، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم على اختلافهم في الاجتهاد في صلاة العصر في غزوة بني قريظة(19).

هذا؛ وإن من أهم أسباب درء الاختلاف عدم معارضة القرآن والسنة برأي أو عقل أو قياس.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن؛ لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به.

 ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، ولا فيهم من يقول إن له ذوقًا أو وجدًا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث، فضلًا عن أن يدعي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول، وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد والأنبياء، كلهم يأخذون عن مشكاته»(20).

التحذير من طاعة الأئمة المضلين وحكام السوء الذين يحلون ويحرمون على خلاف حكم الله:

والأئمة المضلون هم علماء وقادة السوء الذين يحلون ويحرمون على خلاف حكم الله، متذرعين أحيانًا بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، أو بأنهم ولاة الأمر الذين أوجب الله طاعتهم، أو بغير ذلك من الحجج المختلقة والمتكلفة، وقد سمى الله طاعتهم في ذلك عبادة، فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة:31]؛ لذلك وجب التحذير من طاعتهم فيما حرم الله تعالى.

يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: «وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما قرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة:٣١]، فقال: «يا رسول الله، ما عبدوهم»، فقال: «ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم»(21).

 فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرمه، والحلال ما أحله، والدين ما شرعه، إما دينًا، وإما دنيا، وإما دنيا ودينًا، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئًا في طاعته بغير سلطان من الله، وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك»(22).

المبحث الثالث:

تقرير القاعدة، وبيان معناها، ومدى اعتبارها عند أئمة المسلمين وفقهاء الشريعة، ومتى يعمل بها؟ والخلاف في ذلك والترجيح

تمهيد:

قرر كثير من فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم من علماء وأئمة المسلمين في غير موضع من كتبهم، خاصة في باب القضاء، أن حكم الحاكم يرفع الخلاف؛ بل لا يكاد كتاب فقهي من المراجع المشهورة يخلو من هذا، بما نستطيع معه القول بأن تقرير هذه القاعدة مما حصل عليه الاتفاق بين العلماء في الجملة وبضوابط، وإن اختلفت أقوالهم أحيانًا عند التطبيق على المسائل المعينة.

ومن هؤلاء الفقهاء من ينص على التفريق بين مسائل (أبواب) العبادات، ومسائل (أبواب) المعاملات، ومنهم من لم ينص على ذلك، لكنهم متفقون على كون هذه المسائل يشترط فيها ألا تكون من مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف.

وأكثر إيرادهم لهذه القاعدة هو في مسائل المنازعات المرفوعة للقضاء؛ كمسائل تتعلق بالنكاح والرضاع والطلاق والعدد، وسائر الأحوال الشخصية، وفي مسائل المعاملات المختلفة من بيوع ووقف وشركة وإجارة، وأحيانًا في مسائل تتعلق بالعبادات؛ كأوقات الصلوات، ودخول شهر رمضان، ومسائل في الحج، وبيان ذلك فيما يلي:

أولًا: الفقه الحنفي:

فعلى سبيل المثال ذكر فقهاء الأحناف هذه القاعدة في كلامهم عن مسائل تتعلق بيمين الطلاق، وأجرة المثل إذا حكم بهما حاكم أنه يرتفع بحكمه الخلاف، فقال ابن عابدين: «وليس المراد أنه لا يفتيه بفسخ اليمين إذا فعل صاحب الحادثة شيئًا من ذلك، لما علمت من أن الجاهل يلزمه اتباع رأي القاضي والمفتي، على أن قضاء القاضي في محل الاجتهاد يرفع الخلاف»(23).

وفي فتاوى ابن نجيم: «ولا يمنع قبولها؛ أي الزيادة حكم الحنبلي بالصحة؛ لأنه غير صحيح، قال في الحامدية: وفيه نظر؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف»(24).

وقال الزيلعي: «فحاصله أن الذي قضى به الأول لا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يكون موافقًا للدليل الشرعي؛ كالكتاب والسنة والإجماع، فلا كلام فيه، وإما أن يكون مختلفًا فيه اختلافًا يستند كل واحد إلى دليل شرعي؛ فكذلك حكمه لا يتعرض له بنقض بعد ما حكم به حاكم، مثاله إذا رفع إلى حاكم من أصحاب الشافعي رحمه الله اليمين بالطلاق المضاف فأبطل اليمين نفذ، ولا يقع الطلاق بتزوجها بعده»(25).

ويؤخذ من كلام الأحناف هذا أمور:

الأول: تقريرهم للقاعدة؛ أن حكم الحاكم يرفع الخلاف.

الثاني: تفريقهم بين المسائل المتفق عليها والمختلف فيها، وأن ذلك يسري في المسائل الاجتهادية.

الثالث: أن ذلك يتعلق بمسائل القضاء والتي فيها دعوى صحيحة.

وإلى كل ذلك أشار ابن عابدين بقوله: «قضاء القاضي في محل الاجتهاد يرفع الخلاف»(26).

ثانيًا: في الفقه المالكي:

وكذلك فقهاء المالكية في كلامهم عن مسألة ثبوت التحريم برضاع الكبير، وحصول الفسخ بحكم حاكم، ومسألة وطء الصغير لمن بت طلاقها، وحكم بذلك حاكم، هل تحل بذلك؟

جاء في الشرح الكبير: «وليس له بعد فسخ النكاح الأول أن يرفع الأمر لمن يرى أن رضاع الكبير لا يحرم فيحكم بصحته؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف كما مر»(27).

وقال الدسوقي: «إذا حكم الشافعي بحل مبتوتة مالكي بوطء صغير فإن هذا الحكم رافع للخلاف، فليس للقاضي المالكي نقضه والحكم بعدم الحل، ومحل للحرام على مذهب الزوج».

كما نص بعضهم، وخالفه غيره، على أن ذلك مختص بأبواب المعاملات، ولا يدخل في باب العبادات إلا تبعًا.

جاء في شرح مختصر خليل للخرشي: «فحاصله أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ولو كان الحكم بطريق اللزوم لحكم آخر تبعًا، والحاصل أن حكم الحاكم لا يدخل العبادات إلا تبعًا، وحققه القرافي، وخالفه تلميذه ابن راشد؛ فجوز دخوله فيها».

وصرح القرافي المذكور بأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، سواء كان بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام(28).

كما ذكروا شروطًا وضوابط لذلك؛ ففي الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: «(ورفع) حكم العدل العالم (الخلاف) الواقع بين العلماء، وكذا غير العدل العالم إن حكم صوابًا، كما يعلم مما تقدم، فإنه يرفع الخلاف ولا ينقض، وكذا المحكم، والمراد أنه يرتفع الخلاف في خصوص ما حكم به؛ أخذًا من قوله الآتي: ولا يتعدى لمماثل»(29).

وفيه: «وتقدم أن العدل العالم لا تتعقب أحكامه، لكن إن ظهر منها شيء مما تقدم نقض، وأما الجائر والجاهل فتتعقب أحكامهما، وينقض منها ما ليس بصواب، ويمض ما كان صوابًا، والصواب: ما وافق قولًا مشهورًا أو مرجحًا، ولو كان الأرجح خلافه، (و) إذا نقض (بين) الناقض (السبب) الذي نقض الحكم من أجله؛ لئلا ينسب الناقض للجور والهوى بنقضه الأحكام التي حكم بها القضاة.

ثم بين أن حكم الحاكم لا يتوقف على قوله: حكمت؛ بل كل ما دل على الإلزام، فهو حكم، بقوله، (و) قول الحاكم: (نقلت الملك) لهذه السلعة لزيد أو ملكتها لمدعيها ونحو ذلك، حكم، (وفسخت هذا العقد) من نكاح أو بيع أو أبطلته أو رددته (أو قررته) ونحوها، ومن الألفاظ الدالة على نفي أو إثبات بعد حصول ما يجب في شأن الحكم من تقدم دعوى وإقرار، أو ثبوت بينته وإعذار وتزكية- وهو معنى قولهم: لا بد للحكم من تقدم دعوى صحيحة، وصحتها لكونها تقبل وتسمع، ويترتب عليها مقتضاها؛ من إقرار أو بينة عدول إلى غير ذلك: (حكم) وإن لم يقل: حكمت، ومن ذلك: خذوه فاقتلوه، أو: حدوه، أو: عزروه، (لا) إن قال في أمر رفع إليه؛ كتزويج المرأة نفسها بلا ولي، وكبيع وقت نداء الجمعة: (لا أجيزه): فلا يكون حكمًا ولا يرفع خلافًا؛ لأنه من باب الفتوى، كما قاله ابن شاس، فلغيره الحكم بما يراه من مذهبه.

(أو أفتى) بحكم سئل عنه بأن قيل له: يجوز كذا؟ أو: يصح أو لا؟ فأجاب بالصحة أو عدمها فلا يكون إفتاؤه حكمًا يرفع الخلاف؛ لأن الإفتاء إخبار بالحكم لا إلزام، والحق أن قول الحاكم: لا أجيزه، إن كان بعد تقدم الدعوى، فهو حكم يرفع الخلاف، وإن كان بمجرد إخبار، كما لو قيل له: إن امرأة زوجت نفسها بلا ولي؟ فقال: لا أجيزه، فهو من الفتوى، وعبارة الخرشي تشير إلى ذلك؛ وقال ابن عرفة: مقتضى جعله فتوى أن لمن ولي بعده أن ينقضه»(30).

ويؤخذ من كلام فقهاء المالكية هذا أمور:

الأول: اعتبارهم للقاعدة، كما عند الأحناف.

الثاني: اختلافهم في مجال تطبيقها، وهل تشمل أبواب العبادات أم تقتصر وتختص بالمعاملات.

الثالث: تفريقهم بين باب الإفتاء وباب القضاء.

الرابع: شمول الحكم لقول الحاكم وفعله الملزم.

الخامس: اعتبارهم صدور الحكم من العادل لا الجائر, وأن الأخير تتعقب أحكامه بالنقض إذا خالف الحق وجار في المسألة المعينة التي يحكم فيها.

السادس: ارتباط ما ذكروه من تطبيقات بباب القضاء، كما بين ذلك في قولهم: لا بد للحكم من تقدم دعوى صحيحة، وصحتها لكونها تقبل وتسمع، ويترتب عليها مقتضاها من إقرار أو بينة عدول...اهـ.

ثالثًا: في الفقه الشافعي:

وكذلك ما ذكره فقهاء الشافعية في كلامهم عن ثبوت دخول رمضان عند الحاكم، وحكمه بذلك، وتقديم أو تأخير وقت صلاة الجمعة، وحكمه بصحة النكاح مع فسق الولي أو الشهود.

قال في تحفة المحتاج: «مراده حكمٌ بقرينة استشهاده بكلام المجموع؛ لأن الثبوت ليس بحكم، والحكم هو الذي يرفع الخلاف، لكن يتردد النظر هل يكفي قوله: حكمتُ بأن أول رمضان يوم كذا، وإن لم يكن حكمًا حقيقيًا كما تقدم في كلام الشارح، أو لا بد من حكم حقيقي، كأن ترتب عليه حق آدمي محل تأمل، ثم محل ما ذكر حيث صدر الحكم من متأهل أو غير متأهل نصبه الإمام عالًما بحاله»(31).

وفيه أيضًا: «وقولهم حكم الحاكم يرفع الخلاف معناه أنه يمنع النقض بشرطه اصطلاحًا لا غير؛ وإلا فلشافعي وقف على نفسه بيع الوقف، وإن حكم به حنفي»(32).

وفيه أيضًا: «(ولصحتها مع شرط) أي شروط (غيرها) من الخمس (شروط) خمسة (أحدها وقت الظهر)، (قوله: ولو أمر الإمام بالمبادرة... إلخ) كان المراد بالمبادرة فعلها قبل الزوال، وَبِعَدَمِهَا تأخيرُها إلى وقت العصر؛ كما قال بكل منهما بعض الأئمة ولا بعد فيه، وإن لم يقلد المصلي القائل بذلك؛ لما سيأتي أن حكم الحاكم يرفع الخلاف ظاهرًا وباطنًا.

وقوله: ولا بعد فيه إلخ، فيه وقفة ظاهرة؛ فإنهم صرحوا بأنه لا يجوز للإمام أن يدعو الناس إلى مذهبه، وأن يتعرض بأوقات صلوات الناس، وبأنه إنما يجب امتثال أمر الإمام باطنًا إذا أمر بها أو عدمها، فالقياس وجوب امتثاله»(33).

وفي حاشية الجمل: «وأما القاضي فيجب عليه أن يفرق بينهما، والأصل في العقود الصحة، فلا يجوز الاعتراض في نكاح ولا غيره على من استند في فعله إلى عقد ما لم يثبت فساده بطريقه، وهذا كله حيث لم يحكم حاكم بصحة النكاح الأول ممن يرى صحته مع فسق الولي أو الشهود، أما إذا حكم به فلا يجوز له العمل بخلافه، لا ظاهرًا ولا باطنًا؛ لما هو مقرر أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ولا فرق فيما ذكر بين أن يسبق من الزوج تقليد لغير إمامنا الشافعي ممن يرى صحة النكاح مع فسق الشاهد والولي أم لا»(34).

وفي حاشية البجيرمي: «وصرح الأصحاب بأن حكم الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف، ويصير الأمر متفقًا عليه، وقوله: (بأن حكم الحاكم) لو حاكم ضرورة، ومحل ذلك كله حيث صدر حكم صحيح مبني على دعوى وجواب»(35).

ويؤخذ من كلام الشافعية أمور:

الأول: تقريرهم للقاعدة.

الثاني: بيان معنى القاعدة وما يترتب على تطبيقها، وهو أنه يرتفع الخلاف ويصير الأمر متفقًا عليه، وأنه لا يجوز العمل بخلاف الحكم الصادر، لا ظاهرًا ولا باطنًا، وأنه؛ أي: قضاء القاضي، يمنع النقض بشرطه(36).

الثالث: أن تطبيقها يختص بالمسائل الخلافية القضائية، وهو قولهم: ومحل ذلك كله حيث صدر حكم صحيح مبني على دعوى وجواب، وقولهم: وإلا فلشافعي وَقَف على نفسه بيعُ الوقف، وإن حكم به حنفي.

الرابع: اختلافهم في صفة الحكم الصادر؛ هل يكفي قوله: حكمتُ بأن أول رمضان يوم كذا، وإن لم يكن حكمًا حقيقيًا، أو لا بد من حكم حقيقي كأن ترتب عليه حق آدمي.

الخامس: اعتبارهم صدور الحكم ممن هو أهل لذلك، أو غير متأهل لكن الإمام نصبه عالًما بحاله(37).

السادس: شمول القاعدة لباب العبادات كأبواب العقود والأحوال الشخصية والمعاملات.

السابع: تصريحهم بأنه لا يجوز للإمام أن يدعو الناس إلى مذهبه.

رابعًا: الفقه الحنبلي:

وكذلك ما ذكره فقهاء الحنابلة في كلامهم عن مسائل في النكاح بلا ولي، والنفقة، والشفعة، وبعض مسائل الجوار.

قال مرعي بن يوسف: «وحكم الحاكم يرفع الخلاف؛ لكن لا يزيل الشيء عن صفته باطنًا، فمتى حكم له ببينةِ زورٍ بزوجيةِ امرأةٍ ووَطِئَ مع العلم؛ فكالزنا، وإن باع حنبلي متروك التسمية فحكم بصحته شافعي نفذ.

ومن قلد في صحة نكاح صح، ولم يفارق بتغير اجتهاده كالحاكم بذلك»(38).

وقال الرحيباني في المطالب: «(وعقد نكاح بلا ولي) حيث رآه وفسخ لعنة وعيب؛ فهو حكم يرفع الخلاف إن كان، قال في (المغني) وغيره في بيع ما فتح عنوة: إن باعه الإمام لمصلحة رآها صح؛ لأن فعل الإمام كحكم الحاكم، وفيه أيضًا لا شفعة فيها إلا أن يحكم ببيعه حاكم أو يفعله الإمام أو نائبه، وفيه أيضًا أن ما فعله الأئمة ليس لأحد نقضه»(39).

وفيه أيضًا: «(فإطلاقه)؛ أي المحبوس، أو إذنه؛ أي: القاضي (ولو في قضاء دين وفي نفقة ليرجع) قاضي الدين والمنفق حكم، (وقرعته حكم يرفع الخلاف) إن كان ثم خلاف؛ لصدوره عن رأيه واجتهاده، كما لو صرح بالحكم»(40).

ويقول منصور البهوتي: «(وإذنه) أي القاضي (ولو في قضاء دين و) في (نفقة ليرجع) قاضي الدين والمنفق حكم.

(و) إذنه في (وضع ميزاب و) وضع (بناء) من جناح وساباط بدرب نافذ بلا ضرر حكم، فيمنع الضمان؛ لأنه كإذن الجميع، (و) إذنه (في غيره) كوضع خشب على جدار جار بشرطه حكم، (وأمره)؛ أي القاضي (بإراقة نبيذ) حكم ذكره في الأحكام السلطانية في المحتسب، (وقرعته)؛ أي القاضي (حكم يرفع الخلاف إن كان) ثم خلاف، وذكر الشيخ تقي الدين أنه لو أذن أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ فعقد أو فسخ لم يحتج بعد ذلك إلى حكمه بصحته بلا نزاع.

(وكذا نوع من فعله)؛ أي الحاكم (كتزويجه يتيمة) بالولاية العامة (وشراء عين غائبة) موصوفة بما يكفي في سلم لقضاء دين غائب وممتنع»(41).

ويؤخذ من كلام الحنابلة أمور:

الأول: تقريرهم للقاعدة؛ أن حكم الحاكم يرفع الخلاف إن وجد، وأن ذلك في مسائل الاجتهاد.

الثاني: أنه؛ أي الحكم، لا يزيل الشيء عن صفته باطنًا، بمعنى أنه لا يقلب الحلال حرامًا في حقيقة الأمر، ولا العكس.

الثالث: أن فعل الإمام كحكم الحاكم(42)، وأن ما فعله الأئمة ليس لأحد نقضه.

الرابع: أن نائب الإمام يقوم مقام الإمام.

خلاصة ما سبق:

يتضح مما سبق عرضه أن تلك المقولة (حكم الحاكم يرفع الخلاف)؛ قاعدة متفق عليها عند فقهاء الشريعة من أئمة المذاهب الأربعة، ومن تبعهم، وأن ذلك مختص بمسائل الاجتهاد، سواء كان ذلك في باب العبادات أو أبواب المعاملات، في اختيار طائفة من العلماء.

وقد يقع ذلك من جهة الحاكم نفسه؛ فيكون له في المسألة حكم سابق، ثم يتغير اجتهاده في المسألة ذاتها فيرى رأيًا آخر؛ فحينئذ يقضي به ولا ينقض حكمه ورأيه السابق.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام بن تيمية: «وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم؛ كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: (تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي)، وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم»(43).

فإذا حكم في نحو هذه المسائل الخلافية قاض شرعي بحكم ما مبني على دعوى صحيحة؛ فإن الحكم ملزم للمحكوم عليه؛ إما ظاهرًا وباطنًا، وإما ظاهرًا فقط، لكن هذا الحكم لا يتعدى ولا يلزم غير المحكوم عليهم، كما بين ذلك وقرره ابن تيمية؛ فقال: وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق (حكم الحاكم) ولو كان أفضلَ أهل زمانه؛ بل حكم الحاكم العالم العادل يُلزمُ قومًا معينين تحاكموا إليه في قضيةٍ معينة، لا يُلزم جميع الخلق»(44).

ثم نقول: إن الظاهر أن الإمام قوله أو فعله أو إذنه أو تقريره، ومثله نائبه الذي يتصرف بإذنه ويأتمر بأمره ؛ حكمه كذلك يرفع الخلاف كما نص عليه فقهاء الحنابلة.

وكذلك هو قول فقهاء المالكية؛ بل إنهم أدخلوا في ذلك حكم المحكم إذا وافق الحق فإنه يكون ملزمًا عندهم؛ ولا يجوز لأحد المتنازعين ولا القاضي نقضه.

يقول د. محمد رأفت عثمان: «وقرر المالكية أن كل الأمور التي لا يجوز التحكيم فيها إذا حدث فيها تحكيم، وكان حكم المحكم صوابًا فإنه يمضي، وليس لأحد الخصمين، ولا للقاضي حق نقضه؛ لأن حكم الحكم عندهم يرفع الخلاف كحكم القاضي»(45).

وكذلك نص عليه بعض الفقهاء من المتأخرين من الحنفية والشافعية، وغيرهم، كما سيأتي في كلام السيوطي.

لكن يبقى لنا أن نذكر مسألة هامة هي في الحقيقة لب وأصل بحثنا، وهي أن الحكم أو القانون الصادر من الإمام ابتداءً، وبدون دعوى قضائية، ومن غير منازعة بين خصوم معينين؛ هل يكون لذلك القانون قوة الإلزام؟ وهل يرتفع الخلاف في المسألة فيلزم جميع المسلمين الطاعة والامتثال لما قرره ولي الأمر؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين(46):

القول الأول: لا يجوز للحاكم أن يلزم الناس بقولٍ من الأقوال إلا إذا رفعت إليه دعوى في قضية خاصة ليحكم فيها؛ فالقضاء بما يترجح عند القاضي ملزم لكلا الطرفين.

وهذا القول عبر عنه وقرره ومثل واستدل له شيخ الإسلام بقوله: «والأمة إذا تنازعت في معنى آية، أو حديث، أو حكم خبري، أو طلبي ـ لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتًا بمجرد حكم حاكم، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة.‏

ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ‏[البقرة‏:‏228‏]‏ هو الحيض والأطهار، ويكون هذا حكمًا يلزم جميع الناس قوله، أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى‏:‏ {أَوْ لَامَسْتُمُ} ‏[‏النساء:43‏]‏ هو الوطء، والمباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج، أو الأب، والسيد، وهذا لا يقوله أحد‏.

وكذلك الناس إذا تنازعوا في قوله‏:‏ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه‏:‏5‏]‏، فقال‏:‏ هو استواؤه بنفسه وذاته فوق العرش، ومعنى الاستواء معلوم، ولكن كيفيته مجهولة‏، وقال قوم‏:‏ ليس فوق العرش رب، ولا هناك شيء أصلًا، ولكن معنى الآية‏:‏ أنه قدر على العرش، ونحو ذلك‏،‏ لم يكن حكم الحاكم لصحة أحد القولين وفساد الآخر مما فيه فائدة‏.

ولو كان كذلك لكان من ينصر القول الآخر يحكم بصحته إذ يقول‏:‏ وكذلك باب العبادات؛ مثل كون مس الذكر ينقض أو لا، وكون العصر يستحب تعجيلها أو تأخيرها، والفجر يقنت فيه دائمًا أو لا، أو يقنت عند النوازل ونحو ذلك»(‏47).

ويقول: «وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك؛ إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها، فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم»(‏48).‏

وسئل رحمه الله عمن ولي أمرًا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز ‏[شركة الأبدان‏]‏ فهل يجوز له منع الناس‏؟

فأجاب‏:‏ «ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك ؛ لاسيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار‏.‏

وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكًا أن يحمل الناس على ‏[‏موطئه‏]‏ في مثل هذه المسائل منعه من ذلك‏،‏ وقال:‏ إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.‏

وصنف رجل كتابًا في الاختلاف؛ فقال أحمد‏:‏ (لا تسمه [كتاب الاختلاف]‏ ولكن سمه [كتاب السنة]).‏

ولهذا كان بعض العلماء يقول‏:‏ إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة ‏،‏ وكان عمر بن عبد العزيز يقول ‏:‏ ما يسرني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا ؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالًا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة،‏ وكذلك قال غير مالك من الأئمة ‏:‏ ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه‏.‏

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره‏:‏ إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه»(49).

ويؤخذ من كلام شيخ الإسلام أمور:

الأول: أن هذا القول موضع اتفاق بين الأئمة.

الثاني: أن هذا يشمل مسائل المعاملات كما يشمل مسائل العبادات.

الثالث: أن ذلك يختص بما يكون محلًا للاجتهاد في المسائل الخلافية.

 فإن قيل: فما هي وظيفة الإمام إذن؛ مع نص العلماء أن وظيفته الأساسية هي إقامة الدين وسياسة الدنيا به؟

فالجواب ما ذكره ابن تيمية بعد ذلك بقوله: «والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين، إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:٥٩]، وإذا تنازعوا فهم كلامهم: إن كان ممن يمكنه فهم الحق، فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه، وأن يقر الناس على ما هم عليه، كما يقرهم على مذاهبهم العملية، فأما إذا كانت البدعة ظاهرة، تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية؛ فهذه على السلطان إنكارها؛ لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة ونحو ذلك»(50).

ومما استدل به أصحاب هذا الاتجاه أيضًا:

(1) قصة اجتهاد أبي بكر وعمر في حج التمتع، وقول ابن عباس: «أُراهم سيهلكون! أقول: قال النبي، ويقول: نهى أبو بكر وعمر».

(2) أن معاوية لمَّا قَدِمَ المدينة، وهو ولي أمر المسلمين، قال: أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك، وخالف في ذلك أبو سعيد الخدري.

مع أنَّ ظاهر هذا الخبر وغيره موافقة أكثر الصحابة لقول معاوية، اختيارًا منهم لا إلزامًا منه لهم.

(3) مخالفة شيخ الإسلام بن تيمية لأغلب علماء عصره؛ بل امتحن في مسألة الطلاق ثلاثًا هل يقع واحدة أم لا؟ وغيرها من المسائل، ولم يُلزم أحدٌ من العلماء شيخَ الإسلام بالرجوع عن قوله أو، على الأقل، عدم الإفتاء في هذه المسألة بحجة أن حكم الحاكم يرفع الخلاف!

(4) أيضًا قالوا: إنَّ القول بأن حكم الحاكم يرفع الخلاف قولٌ فاسدٌ؛ لأنه يلزم على هذا القول تتبع أحكام الحكام والسلاطين مع ما هم فيه من الفسق والفجور، وترك كلام الأئمة والسلف؛ فضلًا عن الأدلة الشرعية.

القول الثاني: جواز إلزام الحاكم في الأمور العامة بما ظهر له.

وهذا القول في الجملة يقول به متأخرو الفقهاء من علماء المذاهب الأربعة، ويفتي به أكثر المعاصرين.

قال السيوطي: «وأمر ثالث: وهو أن بعض المتأخرين ذكر أن أمر الإمام الأعظم وفعله يرفعان الخلاف؛ كحكم الحاكم، تفخيمًا لشأنه، ونص العلماء على أن السلطان صلاح الدين ما وقف الذي وقفه حتى أفتاه بذلك علماء عصره من الشافعية، والحنفية، والحنابلة، ولولا إرادة الاختصار لسقت عباراتهم في ذلك»(51).

وبين القائلين بهذا القول بعض الاختلاف؛ فقد اتفقوا أنَّ غير باب العبادات وما يتعلق بها يدخله الإلزام من ولي الأمر بما تبيَّن له، واختلفوا في باب العبادات، وأسبابها، وشروطها، وموانعها على قولين:

القول الأول: أنَّ باب العبادات، وأسبابها، وشروطها، وموانعها لا يدخله الحكم البتة؛ إلا إن كان هناك صورة مشاقة للسلطان، وأُبَهة الولاية، وإظهار العناد والمخالفة، فيمتثل أمره لا لأنه موطن خلافٍ اتصل به حكم حاكم؛ بل درءًا للفتنة، واختلاف الكلمة؛ وهذا ما قرره القرافي في القاعدة الرابعة والعشرون بعد المائتين(52).

القول الثاني: أنَّ حكم الحاكم ملزم في باب العبادات.

وهذا ما يظهر من تعليقات ابن الشاط على فروق القرافي.

وهو ظاهر اختيار الشيخ ابن عثيمين؛ حيث قال في مسألة الرؤية هل تلزم جميع البلاد أم لا؟

أجاب: «... إذا كان البلد تحت حكمٍ واحدٍ، وأمر حاكم البلاد بالصوم أو الفطر وجب امتثال أمره ؛ لأن المسألة خلافية، وحكم الحاكم يرفع الخلاف»(53).

وهو أيضًا ما تفتي به اللجنة الدائمة، ويفتي به من قبل العلامة محمد بن إبراهيم.

ففي فتاوى اللجنة الدائمة: «وحيث اختلف السابقون من أئمة الفقهاء في هذه المسألة، وكان لكل أدلته، فعليكم إذا ثبت لديكم بالإذاعة أو غيرها ثبوت الرؤية في غير مطلعكم؛ أن تجعلوا الأمر بالصيام أو عدمه إلى ولي الأمر العام لدولتكم، فإن حكم بالصيام أو عدمه وجبت عليكم طاعته، فإن حكم الحاكم يرفع الخلاف في مثل هذا، وعلى هذا تتفق الكلمة على الصيام أو عدمه تبعًا لحكم رئيس دولتكم وتنحل المشكلة»(54).

وفيها أيضًا: «فموضوع الاستفتاء في المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، ولهذا اختلف فيه الفقهاء قديمًا وحديثًا، ولا حرج على أهل أي بلد إذا لم يروا الهلال ليلة الثلاثين أن يأخذوا برؤيته في غير مطلعهم متى ثبت ذلك لديهم، فإذا اختلفوا فيما بينهم أخذوا بحكم الحاكم في دولتهم؛ إن كان الحاكم مسلمًا، فإن حكمه بأحد القولين يرفع الخلاف، ويلزم الأمة العمل به، وإن لم يكن مسلمًا أخذوا بحكم مجلس المركز الإسلامي في بلادهم؛ محافظة على الوحدة في صومهم رمضان وصلاتهم العيد في بلادهـم»(55).

ويقول محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ(56): «وعلى فرض أنها من حكم الحاكم بعلمه؛ فالاختلاف في جوازه وعدمه موجود بين العلماء، وفيه روايتان عن الإمام أحمد، وإن كانت الرواية القائلة بجوازه ضعيفة إلا أنها حاكم وحكم يرفع الخلاف».

أما مسألة حكم الحاكم في غير باب العبادات وما يتعلق بها، فقد ذهب أصحاب هذا القول إلى أنَّ إلزام الحاكم فيها لازم لجميع الناس، واستدلوا على ذلك بما يلي:

الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].

وجه الدلالة: أنَّ الله قد أمر في هذه الآية بطاعة أولي الأمر، وحق طاعتهم خاص بالمعروف وفيما وافق الكتاب والسنة، وأيضًا فيما لم يكن فيهما ولم يتعارض معهما إذا أمروا به رعايةً للمصلحة.

ونوقش هذا الاستدلال: أن طاعتهم تكون فيما وضح حكمه، واتفقت عليه الأمة ؛ أما ما اشتبه أمره واختلف فيه العلماء فالمرجع في فصل النزاع فيه الكتاب والسنة فقط، بدليل قوله تعالى في نفس الآية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:٥٩]، فكونها دليلًا للقول الأول أقوى من كونها دليلًا للقول الثاني.

الدليل الثاني: فعل عثمان؛ حيث جمع الأمة على حرفٍ واحدٍ من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن، وقصر الناس على القراءة بها دون غيرها، وأمر بتحريق المصاحف الأخرى التي تخالف المصحف الإمام.

وجه الاستدلال: أنَّ عثمان لم يقم بهذا إلا بعد علمه بأنه يسوغ للحاكم أن يقصر الأمة على قولٍ أو حرفٍ من أحرف القرآن، وكذلك لم يُعْلَمْ أنه قد أُنْكِرَ عليه هذا الفعل.

ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:

(1) أن عثمان ومن وافقه من الصحابة وفقهاء التابعين استندوا إلى مصلحةٍ شهدت لها أصول الشريعة؛ حيث إنَّ في حفظ القرآن من الاختلاف فيه حفظًا للدين.

(2) أنَّ عثمان لم يمنع إلا من القراءة من غير مصحفه؛ أما الاحتجاج بما صح من الأحرف فلم يمنع منه.

(3) أن القراءة بالأحرف السبعة كانت على التخيير لا الإلزام في أصل الشرع؛ تيسيرًا للقراءة على الناس لاختلاف ألسنتهم، فقصر الناس على حرفٍ منها لمصلحة كبرى ظاهرة مع موافقة أهل العلم والمشورة ليس مما يُمنع منه الإمام، بخلاف مسألتنا.

الدليل الثالث: أنَّ إطلاق القول بأنَّ حكم الحاكم لا يرفع الخلاف يؤدي إلى الفُرْقَة والشقاق بين المسلمين، والافتيات على ولي الأمر؛ فالمصلحة تقضي بأن يكون حكمه رافعًا للخلاف وملزمًا للأمة.

ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:

أولًا: الخير كلُّ الخير في اتباع الكتاب والسنة وهدي سلفنا الصالح، ولا عبرة بالمصالح والمفاسد المتوهمة.

ثانيًا: أنَّ الناظر إلى الضوابط والشروط المذكورة في ثنايا القول الأول يرى أنَّ الأمر منضبط لا يخشى منه فرقة ولا نزاع.

ثالثًا: أنَّ هذه المصالح والمفاسد المدعاة، مقابلة بمصالح ومفاسد أخرى؛ فالاحتكام عند اختلافها إلى النصوص الشرعية، وهي تؤيد القول الأول.

الترجيح:

بالنظر في المقاصد الشرعية من تنصيب الولاة والحكام، والمصالح والمفاسد التي تنبني عليه هذه المسألة يتضح لنا أن القول بأحد القولين؛ أي أن حكم الحاكم يرفع الخلاف أو لا يرفع الخلاف، على إطلاقه مجانب للصواب، مخالفٌ للمقاصد الشرعية في هذا الباب، والراجح أنه يجب الجمع بين القولين، ووضع الضوابط التي تضبط المسألة؛ وهي:

أولًا: المسائل الشرعية التي وقع عليها إجماعٌ صحيح من العلماء؛ فهذه لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء في الإجماع.

ثانيًا: المسائل الشرعية التي دلَّ عليها النص الصحيح الصريح ووقع فيها خلاف ضعيفٌ أو شاذ؛ فهذه لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء به النص، وهذا باتفاق المسلمين كما حكاه شيخ الإسلام رحمه الله.

ثالثًا: المسائل الشرعية التي جاءت فيها نصوص شرعية لكن الخلاف فيها قوي فهذه ليس لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بقولٍ من الأقوال؛ إلا إذا رأى المصلحة الشرعية تقتضي إلزام الناس بأحد الأقوال، وبشرط ألا يكون هذا القول يوقع القائلين بالقول الآخر في حرجٍ شرعي، من تأثيم أو بطلان ونحو ذلك، كما في مسألة إلزام النساء بتغطية الوجه، ومسألة اشتراط الولي في النكاح.

رابعًا: المسائل التي لم يأت فيها نصٌ شرعي، وإنما هي اجتهادات من الفقهاء، ومبناها على اعتبار المصالح ودرء المفاسد وسد الذرائع ونحو ذلك؛ فللإمام أن يُلزم الناس بما رآه.

وهذا مبني على قواعد معتبرة عند العلماء؛ مثل: (تصرف الإمام على الرعية منوط بمصلحتها)، و(تبدل الأحكام، بتبدل الزمان والمكان )، و(سلطة ولي الأمر في تقييد المباح في بعض الأحيان).

ويجب في كل الحالات أن يقيد هذا بما كان فيه مصلحة للمسلمين، لا على حسب أهواء الحاكم ومصالحه الخاصة.

خامسًا: يشترط فيما تقدم أن يكون الإمام عالمًا مجتهدًا عادلًا، وإن لم يكن كذلك فيجمع علماء بلده، وأهل الحل والعقد، ويستشيرهم، ويعمل بقولهم.

أما إذا كان الإمام فاسقًا جائرًا مراعيًا مصالح كرسيه؛ فالحكم فيه ما قاله شيخ الإسلام: «والإمام العدل وجبت طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وإذا كان غير عدل فتجب طاعته فيما عُلِمَ أنه طاعة؛ كالجهاد»(57).

وقال شيخ الإسلام: «فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمرٍ أن ينظر: هل أمر الله به أم لا؟ بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله، فليس كل من أطاعهم مطيعًا لله ؛ بل لا بد فيما يأمرون به أن يُعْلَمَ أنه ليس بمعصية لله، وينظر هل أمر الله به أم لا»(58).

وكذلك يجب أن يكون أهل العلم وأهل الحل والعقد، الذين تتم استشارتهم، محلَّ تقدير عند عموم الأمة، وعليهم أن يبينوا الحجة الشرعية في ذلك، كما قال شيخ الإسلام: «فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك، إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم»(59).

سادسًا: أن يكون هذا من الناحية العملية، أما من الجهة العلمية فليس حكم الحاكم وإلزامه مغيرًا للأحكام الشرعية، ولا مرجحًا لقولٍ على آخر.

يقول الخرشي المالكي: «... ورفع الخلاف لا أحل حرامًا، يعني أن حكم الحاكم إذا وقع على وجه الصواب يرفع العمل بمقتضى الخلاف؛ بمعنى أنه إذا رفع لمن لا يراه ليس له نقضه، وإلا فالخلاف بين العلماء موجود على حاله، فمن لا يرى وقف المشاع إذا حكم حاكم بصحته ثم رفع لمن كان يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه، ولا يحل له نقضه، وكذلك إن قال شخص لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها، وحكم حاكم بصحة هذا النكاح، فالذي يرى لزوم الطلاق له أن ينفذ هذا النكاح ولا يحل له نقضه»(60).

ولعله بهذه الضوابط المذكورة تكون المسألة متزنة؛ فلم تسلب الإمام صلاحياته التي أعطته إياها الشريعة الإسلامية، ولم تعطه صلاحياتٍ تجعله في منزلة المشرع للأحكام.

هذا وقد أفتى بذلك، أي بأن حكم الحاكم ملزم في المسائل الاجتهادية العامة، كثير من المعاصرين، بما في ذلك هيئات الفتوى الشرعية، ومؤلفو الكتب والموسوعات الفقهية، ومواقع الإفتاء على الشبكة العنكبوتية، وعُد ذلك من مقتضى قواعد الشريعة.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: «لو طلب الإمام العادل الزكاة فإنه يجب الدفع إليه اتفاقًا، وسواء كان المال ظاهرًا أو باطنًا، والخلاف في استحقاقه جمع زكاة المال الباطن لا يبيح معصيته في ذلك إن طلبه؛ لأن الموضع موضع اجتهاد، وأمر الإمام يرفع الخلاف كحكم القاضي، كما هو معلوم من قواعد الشريعة»(61).

* * *

 
الخاتمة

خلاصة البحث: انتهى بحثنا في هذه المسألة إلى عدة نتائج:

الأولى: الاختلاف سنة كونية قدرية، وينبغي العمل على تقليله بين المسلمين ما أمكن ذلك.

الثانية: ليست مسائل الخلاف على درجة واحدة؛ فهناك الخلاف السائغ المقبول فيه الاجتهاد وغير السائغ المردود فيه الاجتهاد، وفي المقابل هناك مسائل الإجماع، والمسائل المنصوص عليها في الكتاب والمقطوع بها من السنة الصحيحة.

الثالثة: لا يجوز رد الحق الواضح الصريح، لكون الحاكم حكم بذلك؛ فلا طاعة لأحد، مهما كان، في معصية الله، ومحل بحثنا يختص بالحاكم الذي يفصل في مسائل اجتهادية، ولا يخالف شرع الله المقطوع به، أو ما أجمع عليه العلماء في بابه.

الرابعة: القضاة وهيئات الحكم الشرعية، من محاكم ونحوها ممن يوليهم الحاكم، يقومون مقامه من جهة اعتبار ما يصدر عنهم من  أحكام – حتى لو كان أحد منهم غير مستوف لشروط القاضي أو الحاكم، لكن وافق حكمه الحق، فإن جار وخالف الشرع الواضح فإنه تتعقب أحكامه بالنقض في المسألة المعينة التي يحكم فيها.

الخامسة: قول الفقهاء: «إن حكم الحاكم يرفع الخلاف» يعتبر قاعدة متفق عليها في الجملة، وإن اختلفوا في مجال تطبيقها، هل يشمل كل أبواب الفقه أم يختص بأبواب المعاملات؟ وأكثرهم على عدم التفريق.

السادسة: بالنسبة لولي الأمر أو السلطان أو أمير البلاد هل له إلزام المسلمين تحت ولايته بحكم يراه في مسألة ما؟ أو لا ليس له ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين، والراجح، باعتبار المقصد الشرعي من تنصيب الولاة والحكام  واعتبار المصالح والمفاسد التي تنبني عليه هذه المسألة،  أن القول بأحد القولين على إطلاقه مجانب للصواب،  مخالفٌ للمقاصد الشرعية في هذا الباب، وأنه يجب الجمع بين القولين، ووضع الضوابط التي تضبط المسألة، فيفرق بين المسائل ذات الخلاف الشاذ والخلاف الضعيف والخلاف القوي، وتفصيل ذلك في محله من البحث.

السابعة: يجب أن يكون مجال العمل بهذه القاعدة مقيدًا بالناحية العملية،  أما من الجهة العلمية فليس حكم الحاكم وإلزامه مغيرًا للأحكام الشرعية،  ولا مرجحًا لقولٍ على آخر.

والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

_________________

(1) لسان العرب (12/ 141).

(2) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 145).

(3)  المعجم الوسيط (1/ 190).

(4) السابق (2/ 743).

(5) والحاكم بهذا المعنى هو محل بحثنا؛ فالمراد به: القضاة وهيئات الحكم الشرعية من محاكم ونحوها ممن يوليهم الحاكم الرسمي للبلاد.

(6) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 145).

(7) المعجم الوسيط (2/ 743).

(8) تفسير ابن كثير، ط العلمية (2/ 259).

(9) لسان العرب (12/140- 142).

(10) المعجم الوسيط (1/ 360-361).

(11) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 179).

(12) انظر: تفسير الطبري (15/ 535)، وتفسير ابن كثير (4/ 311)، وقال السعدي في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (ص392): «وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}؛ أي: اقتضت حكمته أنه خلقهم ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة؛ ليتبين للعباد عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء».

(13) رواه أبو داود (336)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

(14) انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية، ص51-61.

(15) رواه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2351)، وصححه الألباني في صحيح الجامع.

(16) القول الصحيح، الذي كان عليه السلف في القرون المفضلة، هو تحريم الغناء المصحوب بالمعازف وآلات اللهو، إلا ما استثني من إباحة الدف في العيدين والأعراس ونحوهما، وأن هذا هو قول الأئمة الأربعة، وأن قول ابن حزم ومن نحا نحوه في إباحة المعازف هو من الأقوال الضعيفة الشاذة، التي ينبغي عدم اعتبارها، وقد حاول الإمام الشوكاني في نيل الأوطار (8/ 100) أن يثبت وجود خلاف معتبر في هذه المسألة فقال: وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها، فذهب الجمهور إلى التحريم، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع.

لكن كلام الشوكاني رحمه الله فيه نظر من وجوه: منها: أن الصحيح أن أهل المدينة الذين يعتد بقولهم وفعلهم لم يكن من شأنهم سماع الغناء، قال شيخ الإسلام بن تيميه في مجموع الفتاوى (11/ 577): «وإنما وقعت الشبهة فيه لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع، إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم؛ بل قال إسحاق بن عيسى الطباع: (سألت مالكًا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق)، وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك وهم أعلم بمذهبه».

ومنها: أنه لا عبرة بمخالفة جماعة الصوفية الذين أشار إليهم الشوكاني؛ لأنا نعلم أن غالبية مناهج الصوفية قد داخلها كثير من البدع والضلالات، فلا عبرة لقولهم مع مخالفته لقول السلف رضوان الله عليهم.

 وأما أهل الظاهر فبطلان قول ابن حزم ظاهر، وهو محجوج بإجماع من سبقه من السلف على تحريم المعازف، والذي نقله شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، والله أعلم (بتصرف من فتوى بعنوان: هل الخلاف في مسألة سماع الغناء المصحوب بالموسيقى من الخلاف المعتبر الذي لا ينكر فيه على المخالف؟ موقع الشيخ عبد الآخر حماد الغنيمي (موقع الرحمة)، قسم: فتاوى، عادات، اللهو).

(17) فقه الخلاف، ليوسف الشبيلي، ص5.

(18) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716).

(19) رواه البخاري (946)، ومسلم (1770).

(20) مجموع الفتاوى (13/ 29).

(21) رواه الترمذي (3095)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (7/ 95)، وقال في سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 865): وقد أشار ابن كثير في تفسيره (2/ 348) إلى تقويته، ولكنه عزاه لأحمد أيضًا، ولعله يعني في غير (مسنده)؛ فإني لم أره فيه، ولا عزاه إليه غيره.

(22) مجموع الفتاوى (1/ 98).

(23) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (3/ 347).

(24) المصدر السابق (6/ 27).

(25) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (4/ 189).

(26) رد المحتار على الدر المختار (3/ 347).

(27) الشرح الكبير، للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 158).

(28) شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 75).

(29) حاشية الصاوي على الشرح الصغير = بلغة السالك لأقرب المسالك (4/ 221).

(30) السابق (4/ 227).

(31) تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (3/ 383).

(32) السابق (7/ 239).

(33) السابق (2/ 419).

(34) حاشية الجمل على شرح المنهج = فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب (4/ 142).

(35) حاشية البجيرمي على الخطيب - تحفة الحبيب على شرح الخطيب (3/ 248).

(36) تنبيه: جاء في الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 501): «هل يشترط حكم الحاكم في الصوم؟ لا يشترط في ثبوت الهلال ووجوب الصوم بمقتضاه على الناس حكم الحاكم، ولكن لو حكم بثبوت الهلال بناءً على أي طريق في مذهبه وجب الصوم على عموم المسلمين، ولو خالف مذهب البعض منهم؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهذا متفق عليه، إلا عند الشافعية».

(37) وهذا مقيد عند العلماء بموافقة الحق في الحكم، فيرتفع الخلاف ولو كان صدر الحكم من غير متأهل منصب من قبل الإمام.

(38) دليل الطالب لنيل المطالب، ص 348.

(39) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (6/ 486).

(40) السابق.

(41) شرح منتهى الإرادات، دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (3/ 503).

(42) وهذا نص عليه فقهاء الأحناف كذلك، قال في حاشية ابن عابدين على الدر المختار (5/ 423): «قوله: (فعل القاضـي حـكم إلخ) كذا في الأشباه تفريعًا واستثناءً، وذكر في البحر أول كتاب القضاء، فعل القاضي على وجهين»، وانظر: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من أحكام (1/ 37).

(43) المجموع (9/ 122).

(44) السابق ( 35 / 372 ).

(45) النظام القضائي في الفقه الإسلامي، ص62.

(46) مستفاد من ملتقى أهل الحديث، مسألة: حكم الحاكم هل يرفع الخلاف؟ بتصرف.

(47) المجموع ( 3 / 238 ).

(48) السابق (3/ 240).

(49) السابق.

(50) مجموع الفتاوى (3/ 239).

(51) الحاوي للفتاوي (1/ 181).

(52) الفروق للقرافي ( 2 / 94 ).

(53) مجموع الفتاوى ( 19 / 41 ).

(54) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 97).

(55) السابق (10/ 101).

(56) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (12/ 412).

(57) المجموع ( 29 / 196).

(58) المصدر السابق ( 10 / 267 ).

(59) المصدر السابق ( 35 / 383 ).

(60) شرح مختصر خليل، للخرشي (7/ 166).

(61) الموسوعة الفقهية الكويتية (23/ 305)، وانظر أيضًا: فتاوى الشبكة الإسلامية (11/ 16394، بترقيم الشاملة آليًا)، وموقع: الإسلام سؤال وجواب (5/ 3299)، بترقيم الشاملة آليًا)، وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم (17/ 42)، بترقيم الشاملة آليًا)، وفتاوى يسألونك (1/ 72) (5/ 75).