logo

المسابقات الفضائية، هل هي من القمار؟


بتاريخ : الاثنين ، 11 ربيع الآخر ، 1438 الموافق 09 يناير 2017
المسابقات الفضائية، هل هي من القمار؟

تمهيد:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..

فقد كثرت في الآونة الأخيرة المسابقات، وتفنّن الناس في أنواعها بهدف الفائدة أحيانًا وبهدف كسب الربح المادي فقط أحيانًا، وبهدف إيصال المعلومة إلى أكبر شريحة من المجتمع في بعض الأحيان.

وقد انتشر وبصورة كبيرة المسابقاتُ عبر الهاتف أو رسائل الجوال أو القنوات الفضائية، وهي الأكثر.

 وصورتها: أن تطرح إحدى الجهات أسئلةً، عبر التلفاز أو الهاتف، ويقوم الشخص بالاتصال عليهم بمقابل، قد يكون قليلا أو كثيرا، أو بالسعر المعتاد، ليقوم بالجواب على تلك الأسئلة، والتي غالبا ما تكون في غاية اليسر، لتكثير عدد المتصلين.

 فإن حالفه الحظ كان هو الفائز، وأخذ الجائرة.

 وإن خالفه الحظ، خسر قيمة المكالمة، مع العلم أن الأعداد المتصلة مهولة جدًا، بينما الفائزون عدد قليل للغاية، فيجنون من وراء تلك الاتصالات أموالًا طائلة.

ويتساءل كثير من المسلمين الحريصين على دينهم، ممن يلتزمون شريعة ربهم، وهدي نبيهم: هل هذه المسابقات من الحلال المباح؟ أو من الحرام الممنوع؟ أو من المتشابهات التي يتورع عنها؟

وللإجابة عن ذلك يلزمنا التعرف على قاعدة الشريعة في هذا الباب، وما الذي يشرَع وضعُ السَّبْقِ (الجُعل) عليه؟ وهو ما نعرض له فيما يلي، لكننا نبدأ بتعريف المسابقة، ونبين المراد بها في اصطلاح الفقهاء.

تعريف المسابقة:

المسابقة مفاعلة من «سبق، وسَبَقَ يَسْبِقُ سَبْقًا، والسَّبَق: الرهن، فاز فلان بسبَقه وسبقه، والسباق: مصدر المسابقة، وقد سَمَّت العربُ سابِقًا وسَبَّاقًا»(1).

وقال البهوتي في تعريف السبق:هو بلوغ الغاية قبل غيره، والسبق بفتح الباء، والسبقة: الجعل يتسابق عليه(2).

والسبق بإسكان الباء: المسابقة.وبفتحها: العوض، وهو ما يدفع عِوضا في المراهنات.

وفي الاصطلاح عقد السبق: عقد بين متعاقدين على عمل يعملونه لمعرفة الأحذق منهم فيه(3).

وقال الأزهري: جاء الاستباق في كتاب الله في ثلاثة مواضع بمعان مختلفة:

منها قوله عز وجل: {إنا ذهبنا نستبق}، قال المفسرون: معناه ننتضل في الرمي، وقال عز وجل: {واستبقا الباب}، معناه: ابتدرا إلى الباب تبادر كل واحد منهما إلى الباب.

والثالث في قوله: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} معنى استباقهم مجاوزتهم إياه حتى يضلوا ولا يهتدوا.

والاستباق في هذا الموضع من واحد، والوجهان الأولان من اثنين(4).

وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في خف أو في حافر أو نصل»(5).

ما يُشرع وضع السَّبْقِ (الجُعل) عليه، وبيان أن الشريعة الإسلامية ضيَّقت باب المسابقات بعِوَضٍ:

 والمتأمل في الحديث السابق يجد أن الشريعة الإسلامية قد ضيَّقت باب المسابقات بعِوَضٍ جدًّا، وحصرته فيما يعين على الجهاد فحسب، وهي الثلاث صور المذكورة، أي: لا يجوز إجراء المسابقة التي فيها عِوض إلا في هذه الثلاثة فحسب، وهذه الثلاثة إنما جاز دخول العِوض فيها لتضاؤل مفسدة الميسر في مصلحة الجهاد.

وقد ذكر الفقهاء أنه يدخل في معنى الخيل البغال والحمير؛ لأنها كلها ذوات حافر، وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجائها، لأنها تحمل أثقال العساكر، وتكون معهم في المغازي.

قال الخطابي بعد أن ذكر هذا الكلام بنحوه: «...وأما السباق بالطير والزجل بالحمام، وما يدخل في معناه مما ليس من عدة الحرب ولا من باب القوة على الجهاد، فأخذ السبق عليه قمار محظور لا يجوز»(6).

وقال ابن قدامة:

"...ولأن غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد، كالحاجة إليها، فلم تجز المسابقة عليها بعوض، كالرمي بالحجارة ورفعها، إذا ثبت هذا، فالمراد بالنصل السهام من النشاب والنبل دون غيرهما، والحافر الخيل وحدها، والخف الإبل وحدها.

وقال أصحاب الشافعي: تجوز المسابقة بكل ما له نصل من المزاريق، وفي الرمح والسيف وجهان، وفي الفيل والبغال والحمير وجهان؛ لأن للمزاريق والرماح والسيوف نصلًا، وللفيل خف، وللبغال والحمير حوافر، فتدخل في عموم الخبر.

 ولنا، أن هذه الحيوانات المختلف فيها لا تصلح للكر والفر، ولا يقاتل عليها، ولا يسهم لها، والفيل لا يقاتل عليه أهل الإسلام، والرماح والسيوف لا يرمى بها، فلم تجز المسابقة عليها، كالبقر والتراس، والخبر ليس بعام فيما تجوز المسابقة به ; لأنه نكرة في إثبات، وإنما هو عام في نفي ما لا تجوز المسابقة به بعوض ; لكونه نكرة في سياق النفي، ثم لو كان عاما، لحمل على ما عهدت المسابقة عليه، وورد الشرع بالحث على تعلمه، وهو ما ذكرناه"(7).

وفي حاشية السندي: «لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذين، وهما الإبل والخيل، وألحق بهما ما في معناهما من آلات الحرب؛ لأن في الجعل عليها ترغيبًا في الجهاد وتحريضًا عليه»(8)(9).

مواضع الاتفاق والاختلاف في المسألة:

 والحاصل أن هناك صورًا متفقًا على مشروعيتها بين الفقهاء، هي المذكورة في الحديث، وعليها يتنزل إجماع الأمة الإسلامية على جواز المسابقة في الجملة، وهو الذي حكاه جمع من العلماء منهم: ابن عبد البر، وابن قدامة، وابن حزم، وابن القيم، وابن هبيرة، والقرطبي، والعراقي، وغيرهم(10).

وإنما اختلفوا في إلحاق غير هذه الصور الثلاث بها؛ فمنع ذلك الجمهور، سواء كانت المسابقات علمية شرعية أو لم تكن، عملا بظاهر الحديث، وأباح الحنفية وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وكثير من المعاصرين وضع السبق (الرهن أو الجائزة) في المسابقات العلمية، إمضاءً لمعنى الحديث.

وهو أيضًا ما دل عليه الدليل الشرعي من القرآن؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الم، غُلبت الروم، في أدنى الأرض} قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا و كذا، فجُعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته إلى دون العشر.قال: ثم ظهرت الروم بعد(11).

ويرى الدكتور: سعد بن ناصر الشثري أن كل ما كان من المسابقات معينًا على الجهاد في سبيل الله أو الدعوة إليه كان مشروعًا وجاز بذل العوض فيه، ويدخل في ذلك: المسابقة على الحيوانات أو بالأقدام أو على أنواع المركوبات المختلفة، ومثلها المصارعة والكاراتيه والسباحة والمسابقات العلمية والثقافية.وهذا القول أولى بالصواب(12).

وأما وضع السبق (الجائزة) في غير الصور المذكورة، وغير المسابقات العلمية الشرعية، فالجمهور على منعه، وخالف بعض الفقهاء، وحكاه الصنعاني عن عطاء رحمه الله.

ففي سبل السلام: «وظاهر الحديث أنه لا يشرع السبق إلا فيما ذكر من الثلاثة، وعلى الثلاثة قصره مالك والشافعي، وأجازه عطاء في كل شيء»(13).

نوع عقد السبق:

تنقسم العقود في الفقه الإسلامي باعتبارات عديدة، والذي يهمنا هنا معرفة أنها تنقسم من حيث وجود العوض أو عدم وجوده إلى قسمين: عقود معاوضة، وعقود تبرع.

فعقود المعاوضة: هي التي يأخذ فيه كل من المتعاقدين مقابلًا لما التزم به؛ مثل عقد البيع، والإجارة، والشركة، والمضاربة، والمزارعة، والمساقاة، والجعالة، والصّلح، والنّكاح، والخلع.

وعقود التبرع: هي العقود التي لا يأخذ فيها أحد المتعاقدين مقابلا لما التزم به؛ مثل عقد الهبة والوصية والعارية والوديعة والرهن.

وعقد السبق من عقود المعاوضات.

(ومن آثار هذا التّقسيم ما قاله الزّركشيّ من أنّه حيث اعتبر العوض في عقد من الطّرفين - أو من أحدهما - فشرطه أن يكون معلوماً، كثمن المبيع، وعوض الأجرة ونحوهما، إلاّ في الصّداق وعوض الخلع، فإنّ الجهالة فيه لا تبطله؛ لأنّ له مردّاً معلوماً، وهو مهر المثل.

 وأمّا عقود التّبرّع‏:‏ فلأنّه لا عوض فيها يغتفر فيها الغرر والجهالة اليسيرة؛ لأنّها مبنيّة على اليسر والتّوسعة‏.‏

...ويختلف حكم عقود المعاوضة عن عقود التّبرّع في أنّ الوفاء بما يتعهّده العاقدان في عقود المعاوضة كالبيع والإجارة ونحوهما واجب، إذا تمّت صحيحةً بشروطها، عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏}‏ لأنّ في عدم الوفاء بها ضررًا للعاقد الآخر، لضياع ما بذله من العوض في مقابلته، بخلاف عقود التّبرّع، كالهبة والعاريّة والقرض والوصيّة، ونحوها، فلا يجب الوفاء فيها بما تعهّد المتبرّع؛ لأنّه محسن، وما على المحسنين من سبيل، مع تفصيل في مختلف العقود‏.ومع ذلك فإنّ الفقهاء صرّحوا باستحباب الوفاء في عقود التّبرّع؛ لأنّها من البرّ والإحسان، وقد حثّ الشّارع عليهما في أكثر من موضع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى‏})(14)(15).‏

حالات المسابقات الفضائية:

انتشرت صور القمار والميسر في المعاملات المالية والتجارية المعاصرة وأصبحت وسيلة فعالة من وسائل التسويق ولو أخذت شعارات غير القمار والميسر، وسميت بغيرهما، فمنهم من يسميها: جوائز السحب، ومنهم من يسميها: مكافآت المشتركين، ومنهم من يسميها: جوائز المستهلكين، وغير ذلك مما ابتدعه خبراء التسويق.

ولقد تناول فقهاء الإسلام وعلماء الاقتصاد الإسلامي هذه المعاملات بالدراسة وبيان الحكم الشرعي لها، وبيان الحلال لنلتزم به، وبيان الحرام لنتجنبه، فقالوا:

المسابقات إما أن يكون محتواها محرمًا يحث على رذيلة، أو يشتمل على محظور، فهذا النوع من المسابقات لا شك في حرمته.

وأما إن كان موضوعها مباحًا، يحث على الفضائل واجتناب الرذائل، أو على الأقل لا يشتمل على محرم، فلهذا النوع حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون جوائزها منحة من القناة:

أي بغير مقابل يدفعه المتسابق؛ فلا خلاف في جواز هذا النوع من المسابقات الفضائية.

قال ابن قدامة:

وتجوز المسابقة بغير جُعل في الأشياء كلها، ولا تجوز بجعل إلا في الخيل والإبل والسهام لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر».

فإن كان الجعل من غير المستبقين جاز، وهو للسابق منهما، وإن كان من أحدهما فسبق المخرج أو جاءا معًا أحرز سبقه ولا شيء له سواه، وإن سبق الآخر أخذه وأن أخرجا جميعا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافئ فرسه فرسيهما، أو بعيره بعيريهما، أو رميه رميهما، فإن سبقهما أحرز سبقيهما، وإن سبق أحدهما أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه(16).

وقال القسطلاني: «واتفقوا على جواز المسابقة بغير عوض وبعوض، لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين.

وأما الإمام أو غيره من الرعية بأن يقول: من سبق منكما فله من بيت المال كذا أو عليّ كذا؛ لما في ذلك من الحث على المسابقة وبذل مال في طاعة، وكذلك يجوز أن يكون من أحد المتسابقين فيقول: إن سبقتني فلك كذا، أو سبقتك فلا شيء لك علي.

فإن أخرج كل منهما مالًا على أنه إن سبقه الآخر فهو له لم تجز؛ لأن كلًا منهما متردد بين أن يغنم وأن يغرم، وهو صورة القمار المحرم»(17).

الحالة الثانية: أن يدفع المتسابق لدخول المسابقة مبلغًا ماليًا:

سواء كان بطريق مباشر أو غير مباشر، وقد اختلف في هذه الحالة على قولين:

القول الأول: حرمة هذا النوع من المسابقات الفضائية:

لاشتماله على القمار والميسر.

وقد سبق نقل كلام ابن قدامة والقسطلاني.

من أدلة هذا القول:

الدليل الأول:

قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90-91].

وجه الاستدلال:

حيث نهى الله عز وجل عن الميسر؛ بل وقرنه بالخمر والأنصاب والأزلام، مما يشعر بشدة تحريمه.

وفي سبب نزولها يقول ابن عباس: «كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله»(18).

وفي تفسير الخازن: «وأما الميسر فهو القمار، واشتقاقه من اليسر؛ لأنه أَخْذ مال بسهولة من غير تعب...وأما حكم الآية: فالمراد به جميع أنواع القمار؛ فكل شيء فيه قمار فهو من الميسر.روي عن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: كل شيء فيه خطر، يعني الرهن، فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب»(19).

قال القاسم بن سلام: «الميسر هو القمار الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، حتى نزل القرآن بالنهي عنه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}»(20).

وقال ابن كثير: «وكذا الميسر، وهو القمار»(21).

لكن ما هو القمار، الذي اتفقوا أنه صنو الميسر؟

قال البِقاعي: «والقمار: كل مراهنة على غرر محض»(22).

وقال الكفوي: «القمار: كل لعب يشترط فيه، غالبًا، أن يأخذ الغالب شيئًا من المغلوب، فهو قمار في عرف زماننا»(23).

أيضًا فـ«القمار هو: المخاطرة الدائرة بين أن يغنم باذل المال أو يغرم أو يسلم»(24)، وهذه المسابقات تقوم على المخاطرة؛ لأنها تتضمن غرمًا محققًا، وغنمًا محتملًا.

وقال الماوردي: هو «الذي لا يخلو الداخل فيه من أن يكون غانمًا إن أخذ، أو غارمًا إن أعطى»(25).

ونرى أن كل ما سبق من تعريفات للقمار تنطبق على المسابقات الفضائية، التي يشترط للاشتراك فيها أن يغرم المشترك مبلغًا ماليًا، يكون غالبًا عن طريق الاتصال الهاتفي أو الرسائل الهاتفية، والتي تكون مضاعفة التكلفة، فإن المشترك إما أن يخسر ما دفعه، وهذا هو الغالب، وإما أن يحصل على ربح لم يغرم ما يوازيه، وهذا هو عين القمار المحرم.

نوقش:

دليلكم خارج عن محل النزاع؛ فإنما حرم الميسر الذي ذكرتم لما فيه من غرم فاحش للخاسر منهم؛ إذ لا يأخذ من الجزور شيئًا، ومع ذلك يغرم ثمنها، وقد يكون الأمر أشد من ذلك كما بيَّن ابن عباس: «كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله».

أما في المسابقات الفضائية فلا يغرم المتسابق إلا تكلفة الاتصال، وهي تكلفة ليست بالعظيمة، وقد لا يكون قاصدًا للفوز بمال؛ بل يتواصل لمجرد التسلية المباحة، أو حبًا للمشاركة، وحتى إن قصد الربح المادي فهو يدرك تمام الإدراك أن احتمال خسارته هو الغالب، وان احتمال ربحه قد لا يتجاوز واحدًا من عدة ملايين.

أجيب:

ما قلتم لا يغير من حكم تلك المسابقات شيئًا؛ فأما قولكم: (لا يغرم إلا القليل)، فنحن نقول: لا فرق هنا بين القليل والكثير؛ فمن دفع جنيهًا رشوة كمن دفع ألف جنيه، ومن رضي بعقد يشترط عليه فيه جنيهًا من الربا كمن رضي بمليون جنيه، وكذلك في الخمور؛ فالحديث يقول: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».

وأما قولكم: (لا ينوي عند مشاركته الربح المادي)، فإننا نقول: هذا غير وارد أصلًا؛ فهو يعلم يقينًا أثناء مشاركته أنها مسابقة فيها فائز وخاسر، وحين يجيب سؤال المسابقة يوقن أن إجابته إما صحيحة وإما خاطئة، وهو ما شارك إلا طمعًا أن تكون إجابته صحيحة.

ثم نسأل: إن شارك بلا رغبة في ربح مادي، كما ادعيتم، ثم فوجئ أنه من الفائزين فهل يرفض ما ربح؟

الدليل الثاني:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].

وجه الاستدلال:

أن في هذا النوع من المسابقات الفضائية أكلا لأموال الناس بالباطل؛ إذ إن الغرض الأساسي الذي يُعقد من أجله هذا اللون من المسابقات هو الحصول على أموال المتسابقين، عن طريق المكالمات أو الرسائل مضاعفة التكلفة، عن طريق إيهامهم أو إغرائهم بجوائز ضخمة، قد لا يكون لها وجود أصلًا، أو يحصل عليها أفراد معدودون، ويكون الغنم الأكبر للقناة، ويكون الأكثر الأغلب من المتسابقين من الخاسرين المخدوعين المغرر بهم.

نوقش:

ليس في هذه المسابقات أكل لأموال الناس بالباطل؛ إذ إن أحدًا لم يُجبِر متصلًا على أن يتصل أو مشاركًا على المشاركة؛ بل لقد أقدم على ذلك بمحض إرادته ورضاه.

أجيب:

بل ما أقدم على ذلك إلا في خدر من الإغراء، وإثارة الأطماع، وشباك الاحتيال والخداع.

الدليل الثالث:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في خف أو في حافر أو نصل»(26).

وجه الاستدلال:

حيث قصر النبي صلى الله عليه وسلم جواز التسابق والمنافسة، وما يستتبعه ذلك من جعل وعطاء، على هذه الثلاثة وما في معناها، ومثل تلك المسابقات ليس من المنصوص عليه في الحديث ولا في حكم المنصوص.

نوقش

قد أجاز بعض الفقهاء المسابقة في كل مباح، ومن ذلك تعلُّم العلمِ عند البعض، وفي جوائز مباريات كرة القدم عند آخرين.

يقول ابن القيم: «المسألة الحادية عشرة: المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه، وغيره من العلوم النافعة، والإصابة في المسائل هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك وأحمد والشافعي، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا، وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي، وهو أولى من الشباك والصراع والسباحة، فمن جوز المسابقة عليها بعوض فالمسابقة على العلم أولى بالجواز، وهي صورة مراهنة الصديق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته، وقد تقدم أنه لم يقم دليل شرعي على نسخه، وأن الصديق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار، وأن الدين قيامه بالحجة والجهاد، فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد فهي في العلم أولى بالجواز، وهذا القول هو الراجح»(27).

وقبلها قال: «وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل؛ لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية، وإعداد القوة للجهاد، فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة، التي بها تفتح القلوب، ويعز الإسلام، وتظهر أعلامه، أولى وأحرى، وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية»(28).

وجاء في فتاوى واستشارات الإسلام اليوم: "...أما ما ينفق على لعب كرة القدم من أموال تعطى للفريق الفائز فهي جائزة شرعًا إن كُيِّفت وخُرِّجت على باب الجعالة في الفقه كأنه قيل: من فاز من الفريقين فله كذا وكذا من المال، كما يقول الفقهاء من دلني على طبيب مختص يعالج مرضي فله عندي كذا، ومن وجد سيارتي المفقودة فله عندي كذا، أو تخرج على باب المسابقة على الأقدام فيجوز أخذ العوض حينئذ، وإن كان في أخذ مثل هذا خلاف بين العلماء، غير أن الراجح جوازه كما حققه ابن القيم الجوزية في كتابه (الفروسية) وهو مذهب الإمام الشافعي ورواية لأحمد، ويخرج الحديث السابق "لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" بحمل النفي فيه على نفي الكمال لا الحقيقة كحديث "لا ربا إلا في النسيئة" البخاري ومسلم، أي لا ربا تام كامل إلا في النسيئة بدليل وجود ربا الفضل المحرم، وكحديث "لا صلاة وهو يدافعه الأخبثان" مسلم، أي لا صلاة تامة إذ من المعلوم أن صلاة من هذه حاله صحيحة جائزة وإن نقص أجرها لعدم الخشوع التام"(29).

أجيب:

تشتمل هذه المسابقات على محاذير أخرى عديدة؛ منها: اشتمالها على القمار المحرم.

فإن قيل: إن هذه المسابقات خارجة عن القمار المحرم؛ إذ في القمار يخاطر المرء غالبًا بالكثير من ماله؛ بل قد يخاطر بماله كله، فإذا خسر كانت مصيبته فادحة لا تجبر، أما في المسابقات الفضائية فإن المشارك لا يدفع مالًا أصلًا؛ وإنما يتصل هاتفيًا أو يبعث رسالة هاتفية، تمامًا كما يفعل في جميع اتصالاته، وكل ما في الأمر أن القناة تزيد في تكلفة تلك الاتصالات والرسائل، وهذه الزيادة لعدة أسباب؛ فأولًا: لتغطية نفقات القناة التي قد تبث خيرًا وتنشره، وثانيًا: لتقديم جوائز للفائزين تحفيزًا للجميع على المشاركة في الخير والتعلم، وثالثًا: الاحتفاظ بهامش ربح للقناة يمكنها من مواصلة رسالتها، ورابعًا: قد تشترط شركات الاتصالات تكلفة أعلى للأرقام المميزة التي توفرها للقنوات الفضائية.

وأما عن خسارة معظم المتصلين لنفقات اتصالهم؛ فجميعهم يتصل وهو يعلم أنه واحد من آلاف المتصلين، فهو يدرك أن فرصته في الفوز واحد على عدة آلاف، أيضًا فهي تكلفة زهيدة، إذا ما قورنت بما يخسره المقامر، فغالبًا يكون كثيرًا، فهي خسارة لا تحزنه ولا تفدحه.

فجوابه: أن هذا اجتهاد في مقابل النص، ومن القواعد المقررة أنه: «لا اجتهاد مع نص»، وقد قررنا سابقًا صورة القمار المحرم:

فقد قال الكفوي: «القمار: كل لعب يشترط فيه غالبًا أن يأخذ الغالب شيئًا من المغلوب فهو قمار»(30).

وعرفه ابن تيمية فقال: «القمار هو: المخاطرة الدائرة بين أن يغنم باذل المال أو يغرم أو يسلم»(31).

وقال الماوردي: هو «الذي لا يخلو الداخل فيه من أن يكون غانمًا إن أخذ أو غارمًا إن أعطى»(32).

ومن المعاصرين، عرفه الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: «والقمار: كل ما لا يخلو اللاعب فيه من ربح أو خسارة، وهو الميسر الذي قرنه القرآن بالخمر والأنصاب والأزلام»(33).

وقال السعدي: «وأما الميسر: فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين، من النرد، والشطرنج، وكل مغالبة، قولية أو فعلية، بعوض»(34).

وهذه المسابقات تقوم على المخاطرة؛ لأنها تتضمن غرمًا محققًا، وغنمًا محتملًا.

إذا ثبت هذا: فلا فرق بين كثير الخسارة والغرم وقليلهما؛ فإن الزيادة المشترطة على القرض عند سداده ربًا محرم، كثرت أو قلت؛ يستوي في ذلك الجنيه الواحد مع المليون جنيه، ومن القواعد المقررة أن: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».

وأما تذرعكم بحاجة القنوات، التي تنشر الخير، إلى المال، فنقول: لن تعدم تلك القنوات بابًا حلالًا لتمويل أعمالها؛ كأن تفتح باب التبرع الصريح للقناة...

وتذرعكم هذا، في حد ذاته، خير رد على ادعائكم أن المشاركين لا يدفعون مالًا؛ بل هو مال مهما تنوعت طرق الحصول عليه.

أما قولكم: أن المشترك يُقْدِم على الاتصال عالمًا بضآلة فرصته في الفوز، فنقول: وكذا كل مقامر؛ فإنه يقدم وهو يعلم أن احتمال الخسارة أكبر، خاصة إن كان عدد المقامرين كثير، وقد حرم الشرع المقامرة، بغض النظر عن عدد المشاركين.

وأما قولكم: المبلغ الذي يخسره المتصل زهيد لا يفجعه، فنقول: كفى أنه أكل مال بالباطل، ثم نقول: إن أغلب المتصلين، كما تقرر ذلك الدراسات، من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، فهذا المبلغ الزهيد، بالنسبة لكم، قد يكون كثيرًا بالنسبة لهم، وما أقدموا على التضحية به إلا طمعًا فيما روجتم له من جوائز ضخمة مغرية.

الدليل الرابع:

عن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرميان، فقال أحدهما لصاحبه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل شيء ليس فيه ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشيه بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة»(35).

وعن عقبة بن عامر الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكل ما يلهو به المرء المسلم باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته»(36).

وجه الاستدلال:

أن تلك المسابقات من اللغو الباطل الذي لا يجوز الاشتغال به، فهو منهي عنه.

قال الخطابي: «وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها؛ لأن كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها مُعِينَةً على حق، أو ذريعة إليه...

فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو؛ كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجب فمحظور كله»(37).

وقال المناوي: ««كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب» فهو مذموم، وكل ما لا يوصل إلى لذة في الآخرة فهو باطل»(38).

نوقش:

إنما يكون اللهو باطلًا محرمًا إذا ألهى عن طاعة، ولقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على الرمي بالقوس، وتأديب الفرس، ومداعبة الزوج أنها من اللهو، مع أنه صلى الله عليه وسلم أنكر أن تكون من الباطل المحرم.

قال الغزالي: «قوله صلى الله عليه وسلم: «فهو باطل» لا يدل على التحريم؛ بل يدل على عدم فائدة»، وعلق الشوكاني قائلًا: «وهو جواب صحيح؛ لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح»(39).

ولقد بوَّب البخاري قائلًا: «باب: كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله»، وعلق بدر الدين العيني قائلًا: «وقيد بقوله: إذا شغله...الخ؛ لأنه إذا لم يشغله عن طاعة الله يكون مباحًا»(40).

وقال ابن حجر شارحًا: «كل لهو باطل إذا شغله؛ أي: شغل اللاهي به عن طاعة الله، أي كمن النهي بشيء من الأشياء مطلقًا، سواء كان مأذونًا في فعله أو منهيًا عنه، كمن اشتغل بصلاة نافلة، أو بتلاوة، أو ذكر، أو تفكر في معاني القرآن مثلًا حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدًا فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها، المطلوب فعلها، فكيف حال ما دونها...

وإنما أطلق على الرمي أنه لهو لإمالة الرغبات إلى تعليمه لما فيه من صورة اللهو، لكن المقصود من تعلمه الإعانة على الجهاد، وتأديب الفرس، إشارة إلى المسابقة عليها، وملاعبة الأهل للتأنيس ونحوه.

وإنما أطلق على ما عداها البطلان من طريق المقابلة لا أن جميعها من الباطل المحرم»(41).

الدليل الخامس:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه»(42).

وجه الاستدلال:

فإن في تلك المسابقات ضررًا وإضرارًا بالمشاركين فيها؛ حيث يعيشون في وهم خادع حينًا من الزمان، ثم تنتهب أموالهم التي دفعوها ثمنًا للاتصال أو إرسال الرسائل...، وكل ضرر منهي عنه بنص الحديث.

نوقش:

بل فيها منفعة للفائزين، كما أن فيها منفعة للقناة الفضائية.

أجيب:

هي منفعة قليلة، فلا تبرر المفاسد العظيمة.

القول الثاني: حِل هذه المسابقات:

من أدلة هذا القول(43):

الدليل الأول:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].

وعن أبي حرة الرقاشي عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»(44).

وجه الاستدلال:

أن الآية والحديث اشترطا لحل مال المسلم رضا وطيب نفسه، والذي يدفع المال عن طريق الاتصال أو الرسائل إنما يجود بهذا المال ويدفعه راضيًا، من غير إكراه، ولا إجبار، ولا قهر، وما دام قد تحقق الرضا فقد تحقق حل الأخذ.

نوقش:

الرضا والتراضي وطيب النفس لا يحل الحرام؛ فلو تراضى رجل وامرأة على الزنا لم يحل، والبيعان في البيع الربوي يتراضيان، ومع ذلك فهو محرم.

قال ابن حزم: «كل صفقة جمعت حرامًا وحلالًا فهي باطل كلها، لا يصح منها شيء»(45).

ونقل قولهم: «الحرام إذا امتزج مع الحلال فإنه كله حرام؛ كالخمر مع الماء، ولحم الخنزير يدق مع لحم الكبش، وغير هذا كثير»(46).

الدليل الثاني:

عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه»(47).

وفي لفظ: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل».

وجه الاستدلال:

أننا من خلال هذه المسابقات نستطيع نفع فقراء المسلمين؛ فهي تتيح فرصة سهلة للفقراء أن يصبحوا في لحظة من الأغنياء الأثرياء، وفي هذا نفع للمسلمين، وهذا ما أمر به الحديث.

نوقش:

أنه نفع محدود لأفراد معدودين يقابله خسارة لآلاف آخرين، فلا عبرة لنفع محدود في فساد ممدود.

وما أشبه ذلك بما كان يفعله مشركو الجاهلية؛ فقد كانوا بعد انتهاء ميسرهم، الذي بينَّا صورته، يَدَعون لحم الجزور للفقراء والمساكين ولا يأكلون منه، فهل يقول عاقل بِحِلِّ ميسرهم لما فيه من نفع للفقراء؟! لو كان الأمر كذلك ما كان حرمه الله.

الدليل الثالث:

أن هذه المسابقات تحمل جملة من المنافع والفوائد العديدة، وفي المنع منها إهدار لتلك المنافع والفوائد، ومنها، غير منفعة الفقير كما مر، قطع الأوقات المملة الرتيبة التي يشغلها الشيطان بالباطل، بأعمال نافعة مفيدة؛ بل وإذا كانت أسئلة تلك المسابقات علمية أو ثقافية فإنها تساعد على نشر العلم والثقافة بين المسلمين، وزيادة جمهور القنوات الإسلامية، واجتذاب عناصر بعيدة عن هدي الإسلام، ما كانت لتتابع تلك القنوات النافعة إلا من خلال تلك المسابقات.

نوقش:

هذه المنافع ملغاة وغير معتبرة في نظر الشرع، لأنه يقابلها مفاسد عظيمة راجحة، كما هو نص الآية، في الخمر والميسر؛ فقد قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219].

قال ابن كثير: «أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها،...وكذا بيعها، والانتفاع بثمنها، وما كان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين»(48).

«ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم، ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخرًا كان عليه ثمن الجزور كله، ولا يكون له من اللحم شيء.

وقيل: منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور، وكان يفرقه في المحتاجين»(49).

كذلك يمكن أن يقال: إن ميسر أهل الجاهلية، الذي نزلت الآية بتحريمه، كان أهون مما يحدث اليوم في تلك المسابقات؛ حيث كان أهل الجاهلية ينحرون الجزور، ثم إذا انقضى ميسرهم أطعموا اللحم للفقراء والمساكين، ولا يطعمون منها شيئًا، قال الزمخشري: «وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البَرَم»(50).

أما القنوات الفضائية التي تجري مثل تلك المسابقات فلا تطعم فقيرًا ولا مسكينًا؛ بل على العكس، فهي تغري وتخدع المساكين لتحصل على أموالهم؛ ففي العادة يكون أغلب المشاركين من الطبقتين: الفقيرة والمتوسطة، الذين يحلمون بثراء سهل سريع، خدعتهم به تلك القنوات.

الترجيح:

بعد هذه التطوافة السريعة، فإننا لا نشك في رجحان القول الأول، القائل بحرمة المسابقات الفضائية، التي يغرم فيها المشارك مبلغًا من المال في سبيل الفوز بجائزة مالية، حتى لو كان موضوع تلك المسابقة مباحًا، ومن أسباب الترجيح:

أولًا: قوة أدلة الفريق الأول، وإجابتهم عما وجِّه إلى بعضها من مناقشات، وعدم انتهاض أدلة الفريق الثاني لمعارضتها.

ثانيًا: مطابقة صورة المسابقات الفضائية، المعمول بها الآن، لصورة القمار الذي عرفه الفقهاء.

ثالثًا: ما يترتب على هذا النوع من المسابقات الفضائية من مفاسد، هي في الواقع مفاسد للقمار عامة، منها ما ذكره الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90-91].

وقد عدَّ العلماء في هذه الآية وحدها عشرًا من قبائح ومفاسد الميسر، منها: اقتران الميسر بالخمر والأنصاب والأزلام، تسمية الله إياه رجسًا، وسمه بأنه من عمل الشيطان، الأمر باجتناب الميسر، والله لا يأمر إلا باجتناب الرذائل، أنه من موانع الفلاح، سبب لإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، أن الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة...

وبحرمة هذا النوع من المسابقات قال أغلب العلماء المعاصرين، وهي فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(51)، ومجلس الإفتاء الأردني(52).

___________________________

(1) جمهرة اللغة، لأبي بكر الأزدي (1/ 338).

(2) شرح منتهى الإرادات = دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (2/  277).

(3) انظر: المسابقات وأحكامها في الشريعة الإسلامية. (الملتقى الفقهي- نت).

(4) انظر: تاج العروس، للزبيدي (25/ 430 وما بعدها)، ولسان العرب، لابن منظور (10/ 151).

(5) أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/  333).

(6) معالم السنن، للخطابي (2/ 255).

(7) المغني (9/ 467).

(8) حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 206).

(9) وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم المسابقة على عوض؟ فأجاب: «المسابقة على عوض محرمة إلا فيما استثني شرعا وهذا مبين بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أي لا عوض على المسابقة إلا في هذه الثلاثة النصل والخف والحافر أما النصل فهو السهام يعني المرامات بالبندق ونحوها والخف الإبل والحافر الخيل وإنما استثنيت هذه الثلاثة لأن التمرن عليها والمسابقة عليها مما يعين على الجهاد في سبيل الله وعلى هذا فنقول المسابقة على ما يختص بالحرب من مركوب أو غيره بعوض جائزة قياسا على الإبل والخيل والسهام وعدى ذلك بعض العلماء إلى المسابقة في العلوم الشرعية قالوا لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله وعلى هذا فالمسابقة على الأمور الشرعية جائزة بعوض، وممن اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبناء على ذلك فالمسابقة بعوض على الأقدام لا تحل، والمسابقة بعوض على المصارعة لا تحل، والمسابقة بعوض على جودة الخط أو الإملاء لا تحل لعدم دخول ذلك في النص لفظا أو معنى.

وهناك مسابقة ثالثة، وهي المسابقة على المحرم كالنرد والشطرنج ونحوها فإنها حرام بعوض أو بغير عوض.

وعلى هذا فتكون المسابقة ثلاثة أقسام: القسم الأول: حرام، والثاني حلال بغير عوض حرام بعوض، والثالثة حلال بعوض وبغير عوض، فالثلاثة التي ذكرناها النصل والخف والحافر المسابقة فيها حلال بعوض وبغير عوض، والمسابقة على الأقدام ونحوها مما هو حلال المسابقة عليها بعوض حرام وبغير عوض حلال، والمسابقة على الشيء المحرم حرام بكل حال» [فتاوى نور على الدرب].

(10) انظر بحث أ: فيصل العصيمي، موضوعه : المسابقات والجوائز.(نت).

(11) رواه البخاري في خلق أفعال العباد، والترمذي في سننه (3136)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ح (2551).

(12) انظر: المسابقات وأحكامها في الشريعة الإسلامية، موقع: الملتقى الفقهي.

(13) سبل السلام، للصنعاني (2/ 503)، وانظر: نيل الأوطار، للشوكاني (8/ 88).

(14) وهذا عند جمهور الفقهاء‏، أما المالكية فيجب الوفاء عندهم في بعض عقود التبرع أيضًا، فالعارية المؤجَّلة لازمة عندهم إلى انقضاء الأجل، كما تلزم عندهم الهبة بالقبول، فإن امتنع الواهب من تسليمها يجبر عليه‏.‏

(15) نقلًا عن الموسوعة الفقهية الكويتية (30/ 234-235).

(16) العدة (1/ 291).

(17) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني (5/ 80).

(18) تفسير الطبري (4/ 324).

(19) تفسير الخازن (1/ 150-151).

(20) غريب الحديث، للقاسم بن سلام الهروي (3/ 468).

(21) تفسير ابن كثير (البقرة: 220).

(22) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (3/ 243)، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.

(23) الكليات، للكفوي (1/ 702).

(24) المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 64).

(25) الحاوي الكبير (15/ 192).

(26) رواه أبو داود، واللفظ له (كتاب: الجهاد، باب: في السبق)، والترمذي (أبواب الجهاد، باب: ما جاء في الرهان والسبق)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (2574).

(27) الفروسية، لابن القيم (1/ 318).

(28) المصدر السابق (1/ 97).

(29) فتاوى واستشارات الإسلام اليوم (13/ 330)، بتصرف يسير، بينما جاء في  فتاوى اللجنة الدائمة (15/ 239): «مباريات كرة القدم التي على مال أو نحوه من جوائز حرام؛ لكون ذلك قمارًا؛ لأنه لا يجوز أخذ السبق، وهو العوض، إلا فيما أذن فيه الشرع، وهو المسابقة على الخيل والإبل والرماية، وعلى هذا فحضور المباريات حرام ومشاهدتها كذلك، لمن علم أنها على عوض؛ لأن في حضوره لها إقرارًا لها، أما إذا كانت المباراة على غير عوض، ولم تشغل عما أوجب الله من الصلاة وغيرها، ولم تشتمل على محظور؛ ككشف العورات، أو اختلاط النساء بالرجال، أو وجود آلات لهو، فلا حرج فيها ولا في مشاهدتها».

(30) الكليات، للكفوي (1/ 702).

(31) المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 64).

(32) الحاوي الكبير، للماوردي (15/ 192).

(33) الحلال والحرام في الإسلام، للقرضاوي، ص259.

(34) تفسير السعدي (1/ 98).

(35) رواه النسائي في السنن الكبرى (كتاب: عشرة النساء، ملاعبة الرجل زوجته)، والطبراني في المعجم الكبير (باب الجيم، جابر بن عمير الأنصاري)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (4534).

(36) رواه ابن ماجه (كتاب: الجهاد، باب: الرمي في سبيل الله)، والترمذي (أبواب فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2811).

(37) معالم السنن، للخطابي (2/ 242).

(38) التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (2/ 214).

(39) نيل الأوطار، للشوكاني (8/ 118).

(40) عمدة القاري، لبدر الدين العيني (22/ 273).

(41) فتح الباري، لابن حجر (11/ 91).

(42) رواه الحاكم في المستدرك (كتاب: البيوع، وأما حديث معمر بن راشد)، والبيهقي في السنن الكبرى (كتاب: الصلح، باب: لا ضرر ولا ضرار)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (250).

(43) استلهمت بعض هذه الأدلة من رسالة الشيخ ابن جبرين: القمار، حكمه وأدلة تحريمه.

(44) رواه البيهقي في شعب الإيمان (فصل في الترغيب في النكاح)، وسنن الدارقطني (كتاب: البيوع)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1459).

(45) المحلى بالآثار، لابن حزم (7/ 305).

(46) المصدر السابق (12/ 312).

(47) رواه مسلم (كتاب: السلام، باب: استحباب الرقية من العين).

(48) تفسير ابن كثير (البقرة: 220).

(49) تفسير القرطبي (3/ 57).

(50) الكشاف، للزمخشري (1/ 262)، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، والبَرَم: الذي لا يأخذ في الميسر، والجمع: الأبرام، وهو عيب، انظر: جمهرة اللغة، للأزدي (1/ 328).

(51) نقلًا عن موقع مجلة البحوث الإسلامية.

(52) نقلًا عن موقع الفقه الإسلامي.