logo

إمام المسجد بين التشريف والتكليف


بتاريخ : الثلاثاء ، 12 شوّال ، 1436 الموافق 28 يوليو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
إمام المسجد بين التشريف والتكليف

الإمام هو عماد المسجد وقوته، به يؤدي المسجد رسالته في نشر الدعوة وتوعية المجتمع، وتبصير الناس بأمور دينهم، فإذا كان الخطيب عالمًا قوي الشخصية، نافذ البصيرة، عارفًا بعادات الناس وأحوالهم؛ كان تأثيره جيدًا ومفيدًا في جماعة المسجد، وفي سكان الحي الذي فيه المسجد، يعلمهم ويرشدهم ويقودهم إلى كل خير وفضيلة.

ففي صدر الإسلام كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام والخطيب، ثم خلفاؤه الراشدون، ثم الأمراء والقواد والعلماء والأعلام، وهذا يدل على أنه يجب أن يكون متولي هذه الوظيفة في المنزلة العالية من الدين والخلق والعلم والسلوك.

إن المجتمعات اليوم تتعرض لعواصف من الفتن والمغريات، التي تجر بعض الناس جرًا إلى الفساد والإفساد، وتَصْرفهم عن طاعة رب العباد، وهنا يأتي دور الإمام المذكِّر المحذر المشفق على إخوانه، فتحيا به القلوب، ويفتح الله على يديه مغاليقها، فيكون له بذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل ما بَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»(1).

قال العلماء: إن المتسبب إلى الهدى بدعوته له من الأجر مثل أجر من اهتدى به، وكذلك المتسبب إلى الضلالة عليه من الوزر مثل وزر من ضل به؛ لأن الأول بذل وسعه وقدرته في هداية الناس، والثاني بذل قدرته في ضلالتهم، منزل كل واحد منهما منزلة الفاعل التام(2).

وجاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لَأنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»(3)، وحمر النعم هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضرب بها المثل في نفاسة الشيء.

عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: «وليؤمكم أكثركم قرآنًا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين»(4).

ومن هنا تظهر أهمية هذه الوظيفة في حياة الناس؛ إذ إن قوة الخطباء تبدو على مجتمعاتهم، وضعفهم يَظهر أثره في تلك المجتمعات؛ لأن المسجد هو الذي يُعَلِّم المجتمع ربط القول بالعمل، فإذا كان الخطيب ضعيف العلم والشخصية، أو سيئ الخلق والسلوك؛ فإنه يضر ولا ينفع، وإذا كان من مهمة الإمام الخطيب قيادة المصلين إلى الخير والبر والصلاح، فمن العسير أن يحقق الخطيب الجاهل هذه المهمة الجليلة(5).

لكن قد يغلبه الهوى، وتجمع به النزاعات السياسية والحزبية والتطرف المذموم؛ فيخرج عن الموضوعية والتوجيه التربوي، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى التشهير والتجريح والإثارة، والأسلوب المتشنج، وهذه بلاء وضجيج، وصيحات خاسرة جاء بها الفكر الوافد والثقافة الدخيلة.

قال ابن القيم رحمه الله: «ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تحذر من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسومًا تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها(6).

فالإمام به يؤدي المسجد وظائفه الدينية والاجتماعية، فإذا كان خطيب المسجد عالمًا عاملًا، قوي الشخصية، نافذ البصيرة، سديد الرأي، رفيقًا حليمًا ثبتًا، ثقة عارفًا بعادات الناس وأحوالهم، كان تأثيره في جماعة المسجد وأهل الحي قويًا مفيدًا، يعلمهم ويرشدهم ويقودهم إلى الخير والفضيلة.

وإذا ما نظرنا إلى موقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتمعنَّا في سيرته صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ودوره كإمام مسجد, نجد أن القيام بمهام الإمامة ليس عبارة عن طقوس وحركات يؤديها الإمام ويكررها المأمومون خلفه؛ بل يتعين عليه أن يراعي من هم حوله، فهذا من مسئولياته، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»(7).

فالإمامة تعليم وتذكير، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولا يخفى ما لهذه الأمور من منزلة عظيمة، فبالعلم يزول الجهل, وبالتذكير تذهب الغفلة، ويحل الإقبال على الدين محل الإعراض عنه، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسود طاعة الله في المجتمع وتضمحل المعصية، وتنتشر الفضيلة وتنحسر الرذيلة، ويكثر الخير ويقل الشر.

ومن أجل هذا وغيره تعد الإمامة رسالة عظيمة، ومهمة جسيمة، يوفق الله للقيام بها على الوجه المطلوب دعاة الحق وصفوة الخلق، حماة الدين وحراس العقيدة الصحيحة، فيتعلم على أيديهم الجاهل، ويستيقظ من أجل مواعظهم الغافل، ويهتدي بهم السالك، وتسمو بتوجيهاتهم النفوس، وتزكو الضمائر، وتتهذب الأخلاق، وتقوم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فتحيا السنن، وتندرس البدع ويسعد الناس بالأئمة الأكْفَاء كما سعدت الدنيا بإمام الأئمة صلى الله عليه وسلم.

ولما كان أمر الإمامة عظيمًا فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للأئمة بالرشد, فقال عليه الصلاة والسلام: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين»(8).

ومن المعلوم أن الإمامة رمز الاجتماع والائتلاف؛ لذا فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على اتخاذ إمام ولو كانوا ثلاثة نفر فقط، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم»(9)، فإذا كانوا مأمورين شرعًا باتخاذ إمام ولو كانوا ثلاثة فقط، فكيف إذا كانوا جمعًا كبيرًا؟

فالناس يجتمعون على من يعلمهم الخير، ويفقههم في الدين، ويرغبهم تارة ويرهبهم أخرى، وينقلهم من المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى التذكر والعبرة.

والناس محتاجون إلى من يقوم بهذه الرسالة خير قيام؛ لأن أمراض المجتمع الحقيقية تكمن في الجهل والغفلة، والميل إلى الشهوات، يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].

ولا يخفى أن هذه العلل إذا كثرت كثر الخبث ونزل البلاء, والله يقول: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].

لهذا فإن منزلة الإمام تعظم لكونه يتولى معالجة هذه العلل، فداء الجهل لا دواء له إلا بالعلم، وحاجة الناس إلى العلم الذي يرفع عنهم حجاب الجهل، ويزيل غشاوته أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب, وأعظم من حاجة الأرض المجدبة إلى الغيث العميم.

والأئمة مبلغون لدين الله، داعون إلى كل خير وفضيلة، والدعاة إلى الله هم خير الناس، فهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، القائمون على حدود الله، الذابون عن دين الله, الصالحون المصلحون الذين أثنى الله عليهم وامتدحهم في مواضع عديدة, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].

يقول ابن القيم رحمه الله: «أمر الله نبيه بأن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله، فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على بصيرة، وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيل، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه، فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وتبليغ سننه إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم»(10).

ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين, حتى النملة في جحرها, وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير»(11).

فإمامة الصلاة وظيفة شريفة وفضلها عظيم؛ لكون الإمام ضامنًا للمأمومين صلاتهم، وهي وظيفة أئمة الخير والصلاح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة: «وقد روي عن داود بن أبي هند قال: حدثت أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرني بعمل أعمله، قال: «كن إمام قومك»، قال: فإن لم أقدر، قال: «فكن مؤذنهم»(12).

إلى أن قال شيخ الإسلام: وأما إمامته صلى الله عليه وسلم وإمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فمثل الإمارة والقضاء، وذلك أن الولايات وإن كانت خطرة لكن إذا أقيم فيها أمر الله لم يعدلها شيء من الأعمال، وإنما يهاب الدخول فيها أولًا خشية أن لا يقام أمر الله فيها، لكثرة نوائبها، وخشية أن يفتن القلب بالولاية؛ لما فيها من العز والشرف»(13).

وقد روى عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من كثبان المسك يوم القيامة: عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أمَّ قومًا وهم به راضون، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة»(14).

فالإمامة في الصلاة لها فضل عظيم، والإمام والمأموم مشتركان في الأجر؛ لكون كل منهما كان سببًا للآخر في حصول فضل الجماعة.

يقول الإمام أحمد رحمه الله: «الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه».

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن العلم وفضله: «به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون، به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وبه توصل الأرحام، وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب، وهو إمام والعمل مأموم...، إلى قوله: مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل بالصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام»(15).

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله، وملائكته، وأهل السماوات، وأهل الأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير»(16).

فلو لم يكن من فضل الإمامة، ومنزلة الإمام إلا هذا لكفى.

صفات هامة لعموم الأئمة:

ينبغي للإمام أن يتحلى بالصبر واليقين؛ ليستحق شرف الإمامة في موقفه، فإن الصبر واليقين يوصلان العبد إلى مرتبة الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

وينبغي أن يكون رفيقًا حليمًا، فإن الرفق ما صار في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، كما جاء بذلك الحديث: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(17)، وبالرفق تلين القلوب ويحصل المقصود، والحلم خصلة حميدة يحبها الله، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة»(18).

وينبغي أن يكون رحيمًا، فالرحمة خصلة إيمانية، وهي من صفات الرب تبارك وتعالى، فهو الرحمن الرحيم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.

والرحمة تفجر في القلب ينابيع السعادة، وحين تستقر الرحمة في قلب بشر يتم فيه تحول كامل عجيب في تصوراته ومشاعره، ومجامع قلبه، وفي اتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2].

ورحمة الله موجودة غير معدومة، يجدها من طلبها بمرضاة الله، ويفقدها من طلبها بمعصيته.

وقد وصف الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفات عدة؛ منها هذه الصفة العظيمة، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].

وينبغي أن يكون لينًا رقيق القلب؛ ليجمع الناس حوله، فيستفيدوا من عطفه ومساعدته وعلمه، ووقوفه معه في نوائبهم وحوائجهم، وينبغي أن يشاورهم فيما يتعلق برسالة المسجد.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقام الأعلى من ذلك كله، كما قال تعالى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159].

وإمام المسجد داعية ومعلم، وإمام قائد لجماعة المسجد وأهل الحي ومن يرتاد مسجده؛ فيجب أن يكون له في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة، فهو القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، والمثل الأعلى للأمة والقادة.

ويجب أن يكون صادقًا فيما يقول، سواء أكان ذلك في خطبة الجمعة، أو في حلقة الذكر والموعظة؛ ليكون من الصادقين المهتدين الفائزين بالنعيم.

فقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلي البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»(19).

والكذب شر وبلاء، وأعظم الكذب وأفرى الفرى الكذب على الله والقول عليه بلا علم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].

فهذه الآية الكريمة جمعت أعظم الذنوب، بدأت بالأدنى فالأعلى؛ وهو القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وشرعه.

والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الكذب وأقبح الذنوب، وهو من الكبائر التي توعد صاحبها بالنار، كما في الحديث عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»(20).

حتى ولو كان عن حسن نية لغرض الترغيب في الخير، وحث الناس على عمل الصالحات، كما يفعل بعض الوعاظ؛ فهذا قبح لا خير فيه ولا هداية، وقائله مأزور غير مأجور، وآثم غير غانم.

ويجب على الإمام أن يكون أمينًا في نقل الكلمة، يتبين ويتثبت من صحة الأخبار، ولا يتعجل في الأخذ بالشائعات، ولا يعتمد إلا قولًا موثوقًا، وقد أمرنا الله تعالى بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

ويجب على الإمام والخطيب أن يبالغا في الستر ويحذرا الشائعات، فمن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف رحله، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19].

وحفظ القرآن الكريم كله أو جُلِّه، وحفظ قدر طيب من السنة، والإلمام بعلوم القرآن والسنة، والتفسير والسيرة، وفقه الإيمان وفقه الأحكام، والاطلاع على التاريخ، ومعرفة اللغة العربية وعلومها، ومعرفة ما يدور في واقع الأمة، وأبرز قضاياها، وكشف شبهات الباطل ودحض مفترياته، ومعرفة خطط الأعداء، والتحديات المعاصرة الفكرية، والسياسية والسلوكية التي تواجه شباب المسلمين، ذلك أن من شأن خطيب الجمعة توجيه الناس، وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم، وغرس الالتزام بالإسلام في حياة الناس، عقيدة، وعبادة، وخلقًا وسلوكًا، وهذا يحتاج إلى ما أشرنا إليه من الصفات، وإلا ضعف أداؤه لهذا العمل.

كسب قلوب الناس، وجعلهم يحبون التردد على المساجد، ويحافظون على الجماعة مطلب عظيم لا يخفى على أحد ثمراته الطيبة، وضد ذلك مفسدة يجب دفعها، وقطع أسبابها، وهذه مسئولية الإمام الذي إذا أخلص نيته، وفقه سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في مراعاة أحوال المصلين بحيث لا يشق عليهم فيطيل بهم ويفتنهم وينفرهم، فإنه يكون بذلك محببًا ومؤثرًا في الناس، ومرغبًا لهم في هذا الفضل العظيم.

ولذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على التجوز، وحذر في موعظة قوية من التنفير، فقد جاء عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رجلًا قال: والله يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، قال أبو مسعود: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبًا منه يومئذ، ثم قال: «إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة»(21).

ومن هذه النصوص ندرك أن تطويل الصلاة فتنة وتنفير للناس عن الصلاة في جماعة، ولا يخفى ما في هذا من المفاسد، والتسبب في تعطيل الواجب، وحرمان الناس من فضل الجماعة؛ ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا كما في حديث أبي مسعود، ووصف معاذًا بأنه فتان بهذا الصنيع لكي يحذر منه.

ولا يعني هذا أن يخفف الإمام الصلاة إلى درجة إسقاط الواجب بحجة مراعاة الناس؛ كما يفعل بعض الأئمة، فإن في هذا مفسدة أعظم، ولكن الأمر يعني التزام الوسطية في الأمر، والشعور بالمسئولية وهو يؤدي هذا العمل، ومحاولة كسب الناس، والعمل على أن يحبب لهم القيام بما فرض الله عليهم، مع إتمام الصلاة في جميع ما أوجبه الله فيها من القراءة والطمأنينة، وإتمام الركوع والسجود، والتسبيح والتحميد وسائر ما يجب فيها.

ونحن نجد أحيانًا من بعض الأئمة من هو على طرفي نقيض، فنجد من يطيل بهم ويشق على الكبير، والضعيف، والمريض وذي الحاجة، فينفرهم، وينفر غيرهم فلا يصلي وراءه إلا القليل، ونجد آخر يسارع في الصلاة إلى درجة لا يتمكن معها المأموم من أداء الواجب، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم(22).

يقول الإمام ابن حجر رحمه الله عند حديث معاذ: «وفي حديث الباب من الفوائد استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وأما من قال لا يكره التطويل إذا علم رضاء المأمومين فيشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة، كما في حديث الباب، فعلى هذا يكره التطويل مطلقًا؛ إلا إذا فرض في مصل بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم»(23).

وإخلاصه لله عز وجل، وبعده عن الشهرة والجاه وحب الظهور، ولا بد من متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله، وقوة صلته بالله تعالى، وشدة تألهه، وإصلاح سريرته، وصدقه، وغيرته، وورعه وكرمه وحيائه وحسن تعامله، وتواضعه وصبره وعفته، وألا يسرف في المباحات؛ لأنه قدوة، وألا يخالف قوله عمله، وأن يكون مشفقًا على إخوانه المسلمين، باذلًا لهم النصح والدعاء، وذا عطفٍ على المحتاجين الفقراء، مستذكرًا دائمًا قول الله تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].

صفات الإمام القيادية:

وذلك بأن يكون قوي الشخصية، ثابت القلب، ذا حزم ورأي، وثقه بالله تعالى، وشجاعة في غير تهور، وله نظرة بعيدة، وتفكير عميق، وعزيمة قوية، ونشاط دائب، وترتيب لأقواله وأفكاره، وأعماله، مستشعرًا قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39].

الثقة بين الإمام والمأموم:

محبة الناس لإمامهم مبنية على ثقتهم به، وعظم مكانته عندهم، ومن ثمرات ذلك تأثير الإمام في المأمومين واستماعهم لتوجيهاته، وانشراح صدورهم لما يقوله أو يريده منهم، وهذا، في تقديري، يعد جزءًا مهمًا من مسئولية الإمام، فالمصلون يثقون بالإمام الكفء، صاحب السيرة الحميدة، والخلق الحسن، الذي يقول ويعمل، ويلتزم في أقواله وأعماله هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقتدي به في خلقه الحسن، وصفاته العظيمة من الصبر، والشفقة، والحلم والعدل، والكرم، والحياء والصدق، وسائر الأخلاق الحميدة.

وبعض الأئمة إذا حصل كُرْه من الجماعة لإمامته لا يهتم بذلك، وهذا، وإن لم يكن معتبرًا على كل حال؛ إلا أنه قد يكون الباعث على هذا الكره أمرًا وجيهًا، وليس لأمر دنيوي، كأن يجرب عليه الجماعة كذبًا في الحديث، أو بخلًا، أو خُلْفًا في الوعد، أو جورًا في الخصومة، أو سوء معاملة، أو سوء جوار، أو فحشًا في القول، أو تعاملًا بربًا أو بِغِشٍّ أو مكر واحتيال، ونحو ذلك مما يقع أحيانًا فيه بعض الأئمة من مجاراة العصاة في سلوكهم أو منازلهم أو علاقاتهم.

وهنا تعظم المسئولية، وعلى الإمام أن يعيد النظر في شأنه بنفسه، فقد ثبت عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قومًا وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دِبارًا [أي: بعد أن يفوته الوقت]، ورجل اعتبد مُحرَّرَه»(24).

قال الخطابي رحمه الله: «يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة فيتقحم فيها، ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته، فأما إن كان مستحقًا للإمامة فاللوم على من كرهه دونه، وشكي رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يصلي بقوم وهم له كارهون فقال: إنك لخروط، يريد: أنك متعسف في فعلك، ولم يزده على ذلك»(25).

وعندما سئل الإمام ابن تيمية رحمه الله عن رجل يؤم قومًا وأكثرهم له كارهون، أجاب رحمه الله بقوله: «إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه؛ مثل: كذبه، أو ظلمه، أو جهله، أو بدعته، ونحو ذلك، ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه؛ مثل: أن يكون أصدق، وأعلم، وأدين؛ فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الإمام الذي يحبونه، وليس لذلك الإمام الذي يكرهونه أن يؤمهم»(26).

وبناءً على ما تقدم يتعين على الإمام الذي لا يريدونه إمامًا لهم، إن كان كُرْه الجماعة لإمامته لسبب وجيه، أن يعمل جاهدًا على التخلص من هذا السبب، بتصحيح وضعه، وإزالة أسباب البغض له، لكي يؤدي رسالته، ويقوم بعمله على الوجه الصحيح.

وأن يولي العمل اهتمامًا وعناية، ويحرص على أداء هذا الواجب، والقيام بهذه الأمانة مستعينًا بالله، محتسبًا راغبًا في ثوابه ونيل مرضاته.

الإمام العالم:

الإمام العالم الذي يشار إليه بالبنان، ويؤخذ عنه العلم والفتوى، ويَقْصِد مسجدَه جمعٌ كبير من الناس فيهم طلاب العلم، والمثقفون، وذوو المكانة، وغيرهم، يتحمل من المسئولية قدرًا أعظم ممن ليس كذلك؛ ولهذا لما قيل لعبد الملك بن مروان رحمه الله: عجل بك الشيب، قال: وكيف لا، وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة.

وذلك لأنه علم عظم المسئولية، وأن دور الإمام الذي على شاكلته ليس محصورًا في إمامة الناس في الصلاة، وإنما هو في دور المعلم، والمربي، والمفتي، والمصلح، والمحذر من المنكر قبل أن يقع، والداعي لإزالته إذا وقع، والعامل على حل المشكلات التي تورث الخصومات، والملتمس لأحوال الفقراء والمساكين، وتوجيه النداءات لمساعدة المنكوبين والمصابين، وبإجمال يعيش آمال الأمة وآلامها، وتلك، والله، مهمة عظيمة لا يدركها إلا العظماء، من العلماء العاملين الذين هم مبعث خير، ومصابيح هداية، وأدلة طريق، فَهُمْ لإخوانهم كالشمس للدنيا، والعافية للبدن؛ كما قال الإمام أحمد في الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى.

ومن المعلوم أن العلماء ورثة الأنبياء، وهم دعاة إلى الله، يذبون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وعدوان الظالمين، وهم أهل الخشية من الله؛ {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وأهل الشفقة والنصح لعامة المسلمين ولأئمتهم، وهم أهل التجرد من حظوظ النفس وشهواتها، تكشف حججهم الساطعة شبهات الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، وتلهج ألسنتهم بالصدق عند العدوان، فيضعون الأمور في مواضعها.

وإذا كانت رسالة العالم في الأصل عظيمة فإنها تزداد حين يتولى الإمامة، وإمامته ليست قاصرة على القيام بالخطب والمواعظ، وإنما هي تعليم في مختلف علوم الشريعة في فقه الإيمان، وفقه الأحكام، وغيرهما من علوم الغاية أو الوسيلة التي يحتاجها الناس بمختلف فئاتهم.

والإمام العالم يتولى الفتوى، ويجيب على أسئلة الناس، ويعالج مشكلاتهم بأسلوب علمي رصين، ووعظي مؤثر، والعالم حين يقوم بهذا يستذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان مسجده مقرًا لتعليم الناس قولًا وعملًا، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتحلقون حوله ليسمعوا حديثه؛ بل كان عليه الصلاة والسلام يعلم الناس من على المنبر، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر، وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقري حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: «أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي»(27)(28).

يقول ابن القيم رحمه الله في شأنهما: «أفضل ما اكتسبته النفوس، وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56]، وقوله: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] الآية، وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالية(29).

________________

(1) رواه مسلم (2674).

(2)غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، للسفاريني (1/49).

(3) رواه البخاري (2942).

(4) رواه البخاري (4302).

(5) المسجد وأثره في الدعوة الإسلامية، أحمد بن عبد الله أحمد، ص2.

(6) زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم (1/423–424).

(7) رواه البخاري (893)، ومسلم (1829).

(8) رواه الترمذي (207).

(9) رواه مسلم (672).

(10) جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام، لابن القيم، ص415.

(11) رواه الترمذي (2685).

(12) رواه ابن أبي شيبة (3810).

(13) شرح عمدة الفقه، لابن تيمية، ص139.

(14) رواه البخاري (2547).

(15) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (2/440).

(16) رواه الترمذي (2685).

(17) رواه مسلم (2594).

(18) رواه مسلم (17).

(19) رواه أحمد (4094).

(20) رواه البخاري (109).

(21) رواه البخاري (702)، ومسلم (466).

(22) مسئولية إمام المسجد، علي بن حسن بن ناصر عسيري، ص29.

(23) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر (2/197).

(24) رواه أبو داود (593).

(25) معالم السنن، للخطابي (1/170).

(26) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (23/373).

(27) رواه مسلم (544).

(28) مسئولية إمام المسجد، ص34-36.

(29) الفوائد، لابن القيم، ص103.