الفرق بين الشبهات والشهوات
تعتري الكائن البشري عاهات مرضية، سرعان ما تتفشى في كيانه كالداء العضال، وتسري في وجدانه كالوباء الفتاك؛ وذلك جراء انتشار التيارات الهدامة، وزحف العوامل المخربة؛ والتي تلحق العقل التائه وتتسلل إلى القلب الغافل، وهي وإن كانت رياحًا عابرة وأمواجًا جارفة؛ فإنها سرعان ما تخلف الخسائر البالغة والعاهات المستديمة، فلا يستهين من خطورتها، ولا يقلل من أهميتها، ولا يتساهل مع هيمنتها، إلا المغلوب على أمره، أو المغبون في أموره.
إن الشبهة وآفاتها، والشهوة ولهفتها، من أصول العاهات التي شكلت الخطورة على استمرار الحضارات واستقرار الأمم، فإن أُشْرِب القلب الشبهة وأُشْبع العقل الشبهة ساد الجهل في المجتمع واختفت الحكمة، وإن أشبع العقل الشهوة عم الهوى في الحكم والأحكام؛ بل هما وقود الفتن بأشكالها، وبذور الفساد بأنواعه، وجذور الظلم بأصنافه (1).
فالشبهة والشهوة هما أصلا الشر في الوجود الإنساني، وهما من أمراض القلوب الخطيرة، اللذان ينافيان الخشية من الله تعالى، لذلك قال بعض العلماء: أفضل الناس من لم تفسد الشهوة دينه، ولم تزل الشبهة يقينه (2).
والشُّبْهَة في اللغة هي: الالتباس والاختلاط، وشُبِّهَ عليه الأَمْرُ تَشْبيهًا: لُبِّسَ عليه، وجمعها شُبَه وشُبُهات، وأمور مشتبهة ومشبهة: مشكلة يشبه بعضها بعضًا (3)، فمحلها العقل وطريقة التفكير وليس الجسد ورغبات النفس.
وفي الاصطلاح: التباس الحق بالباطل واختلاطه حتى لا يتبين، وقال بعضهم: هي ما يشبه الثابت وليس بثابت، وقال الأخفش في الاختيارين: وإنما سميت الشبهة شبهة، لأنها تشبه الحق والباطل، ليست بحق واضح، ولا باطل لا شك فيه، هي بين ذلك (4).
وقد عرفها ابن القيم رحمه الله فقال: الشُّبهة: وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق (5).
والشبهة نوعان: عارضةٌ ومفتعَلة.
أما العارضة؛ فما يعترض العقل من فهمٍ لبعض مسائل الدين، وجلاؤها بالعلم أو بسؤال أهل العلم، ومنه قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وأما المفتعلة؛ فما يثيره أعداء الدين من المسائل بقصد تشويه عقول المسلمين حول مسائل الايمان والشريعة، وعلاجها يكون أولًا بتجنب الاستماع إلى من في قلوبهم زيغ، وثانيًا بتدبر القرآن الكريم؛ ففيه الإجابة عن كل شبهة تثار حول الايمان والدين، قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، وقال أيضًا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
والشبهة والاشتباه ما كان دون الدليل والقرينة الصحيحة، لهذا لا تصلح أن تكون دليلًا على الشيء، أو يبنى عليها حكم أو تصور، وإذا اختلط الدليل بشبهة فلا يُعتدُّ به إلا بزوالها.
والشبهة في الشرع: ما التبس أمره فلا يدرى أحلال هو أم حرام، وحق هو أم باطل، وجمعه شبه (6)، ومن الورع تركه حتى يتبين الحكم الصحيح فيه، وهو الذي أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم باجتنابه بقوله: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (7).
ولا شك أن شدة خطر الشهوات والشبهات تتفاوت من شخص إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وعلى المسلم أن يحذر من كليهما لأنهما قد تؤديان به إلى ما لا تُحمد عقباه (8).
أما الشهوة فهي تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته، كمن يقع في العشق المحرم، ومن يتلذذ بشرب المسكرات، أو يجمع الأموال بالربا، يقول ابن القيم: دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكًا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه (9).
وقيل: الشهوة هي توقان النفس وميل الطباع إلى المشتهى وليست من قبيل الإرادة، قال الراغب الأصفهاني: أصل الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده، وذلك في الدنيا ضربان: صادقة وكاذبة، فالصادقة ما يختل البدن من دونه كشهوة الطعام عند الجوع؛ والكاذبة ما لا يختل من دونه، وقوله تعالى: {زيَّن للنَّاسِ حُبّ الشَّهَواتِ} يحتمل الشهوتين؛ وقوله عز وجل: {واتَّبعُوا الشَّهَواتِ}، فهذا من الشهوات الكاذبة ومن المشتهيات المستغنى عنها (10).
والشهوة الخفية: كل شيء من المعاصي يضمره صاحبه ويصر عليه وإن لم يعمل، وقيل: حب اطلاع الناس على العمل، وقوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنهُم وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، أي يرغبون فيه من الرجوع إلى الدنيا، ويقال رجل شهواني: إذا كان شديد الشهوة (11).
فالشهوات أغراض متعلقة بحاجة الجسد تفصح عنها النفس راغبة فيها، والمسلم لا يشبع إلا شهواته الصادقة بالحلال، ومن لم يراع الحلال والحرام في إشباع شهواته، أو سعى خلف الشهوات الكاذبة؛ فهو ممن يتبع الشهوات الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59- 60].
ومرض الشبهة والشهوة، كلاهما مذكور في القرآن، قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125]، فهذا مرض الشبهة، وهو أشد من مرض الشهوة، ففتنة الشُّبْهَة أخطر؛ لأنها إذا تمكنت في القلب قل أن ينجو منها أحد، لاعتقاده أنه على الصواب والمخالف هو المخطئ، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات (12).
إن الشبهة يتدين بها صاحبها، وتبقى في نفسه، وتترسخ في فكره وقناعته، بخلاف الشهوة التي تطرأ وتزول، ويقر مقترفها في خاصة نفسه بقبحها وحرمتها، ولكن غلبه هواه ونفسه الأمارة بالسوء، وهو قد يندم ويتوب ويستغفر ويأتي بالحسنات المكفرة.. الصلاة إلى الصلاة مكفرات، رمضان إلى رمضان مكفرات، العمرة مكفرة، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: القلب يتوارده جيشان من الْبَاطِل: جَيش شهوات الغي، وجيش شُبُهَات الْبَاطِل، فأيما قلب صغا إليها وركن إليها تشربها وامتلأ بهَا، فينضح لِسَانه وجوارحه بموجبها، فَإِن اشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الْجَاهِل أن ذَلِك لسعة علمه، وَإِنَّمَا ذَلِك من عدم علمه ويقينه (13).
قال أهل العلم: واجتماع الشهوة مع الشبهة يقوي الدافع إلى الشبهة ويورث فساد العلم والفهم، لأن العقل الصريح لا يمكن أن يناقض النقل الصحيح أبدًا، وهذه قاعدة مضطردة.. كل عقلٍ صريح فإنه لا يمكن أن يخالف النقل الصحيح في الكتاب والسنة.
العقل الصريح: يعني الخالص من داءين عظيمين هما الشبهة والشهوة، الشبهة ألا يكون عنده علم، والشهوة ألا يكون له إرادةٌ صالحة، لأن كل الانحرافات عن الحق لا تخرج عن أحد هذين السببين: وهما الشبهة والشهوة، إما جهل وإما سوء إرادة.
ومن أمثلة مرض الشبهة، قوله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 52- 53].
يقول الشيخ محمد الحسن الددو: جبهة الشيطان لها جيشان، أحدهما: جيش الشهوات، والآخر: جيش الشبهات، والناس مقسومون بين هذين الجيشين، منهم أسارى الشهوات، ومنهم أسارى الشبهات، فالمأسورون بالشهوة ينقسمون إلى قسمين؛ لأن الشهوة نفسها تنقسم إلى قسمين: إلى شهوة حسية وشهوة معنوية، فالشهوة الحسية كشهوة البطن والفرج، والشهوة المعنوية كحب الرئاسة وحب الانتقام وحب الشهرة والظهور وغير ذلك.
والشبهة كذلك تنقسم إلى قسمين: شبهة في التعامل مع الله، وشبهة في التعامل مع الناس، فالشبهة في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين: شبهة عقدية تتعلق بالتصور والعلم، يلقيها الشيطان للإنسان، ولا يزال الشيطان بابن آدم يقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول له: فمن خلق الله؟! فهذه شبهات الشيطان في المجال العقدي.
والنوع الثاني من الشبهة في التعامل مع الله: الشبهة في التعامل معه في العبادة، فما يصيب الناس من الوسواس في الطهارة وفي الصلاة، وكذلك ما يعرض لهم من شُبه الأعذار عن الازدياد من الخير؛ هي من شبهات الإنسان التي تحول بينه وبين الازدياد من الطاعة قبل أن يفوت الأوان.
والنوع الثاني من أنواع الشبهات: الشبهات في التعامل مع الناس، وهي تنقسم إلى قسمين؛ لأن الإنسان فيها بين إفراط وتفريط: فالنوع الأول من الشبه في التعامل مع الناس: شبهة الإفراط؛ فيقدس الناس ويحترم بعضهم احترامًا كبيرًا، حتى يضفي عليهم صفة من صفات الإلهية أو يعتبرهم بمثابة معصومين، ويستسلم بين يديهم حتى يكون كالميت بين يدي غاسل، وهذه لا شك مبالغة، فالإنسان يقدَّر ولا يقدس، وهو عرضة للقبول والرد، يمكن أن تحسن خاتمته ويمكن أن تسوء.
والنوع الثاني من الشبه في التعامل مع الناس: هو شبهة التفريط؛ بأن يظن الإنسان بالناس ظن السوء، فهذا يتهمه بالشرك، وهذا يتهمه بالبدعة، وهذا يتهمه بالفسوق، وهذا يتهمه بالتقصير، وهو دائمًا مقوم للناس، قد شغل وقته بتقويم الآخرين، وكل ما له من الاهتمام هو في مستويات الناس، وهذا النوع على خطر عظيم (14).
وقال ابن القيم رحمه الله: الفتنةُ نوعان: فتنة الشبهات -وهي أعظم الفتنتين-، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.
ففتنةُ الشبهات من ضعفِ البصيرة وقلَّة العلم، ولا سيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العُظمى والمصيبةُ الكبرى، فقل ما شئتَ في ضلالِ سيءِ القصد الحاكم عليه الهوى لا الهُدى، مع ضعف بصيرته وقلَّة علمه بما بعثَ اللهُ به رسولَه، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، وقد أخبر الله سبحانه أن اتباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله؛ فقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
وهذه الفتنة مآلُها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم.
ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجريد إتباع الرسول وتحكيمه في دق الدين وجله، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقهِ وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وما يثبته لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وصوم رمضان؛ فلا يجعلُه رسولًا في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسول في كل شيءٍ تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذ إلا منه.
وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنةُ الشهوات، وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتَيْن في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} [التوبة: 69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاَق: هو النصيبُ المُقدَّر، ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشُّبُهات.
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصُلُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستمتاعِ بالخَلاقِ والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح؛ فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال..
وأصلُ كل فتنةٍ إنما هو من تقديم الرأيِ على الشرع، والهوى على العقل؛ فالأولُ: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة.
ففتنةُ الشُّبُهات تُدفَع باليقين، وفتنةُ الشهوات تُدفَعُ بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامةَ الدين منوطةً بهذين الأمرين؛ فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فدلَّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين.
فبكمال العقل والصبر تُدفَعُ فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفَعُ فتنةُ الشُّبهة، والله المستعان (15).
قال أهل العلم: من المعلوم أن من دار في خلده شيء من الغلط ثم استقر، أو استمالته الشهوة إلى ما لا يحل وعاود ذلك واستمر؛ يقوى ذلك في اعتقاده حتى تعود الشهوة شبهة، والغلط في اعتقاده صوابًا، فيبقى منافحًا عن غلطه، وعن الشّبهة التي نشأت عن شهوته، وبهذا اصطاد الشيطان أكثر الخلق، وأمرَّ في مذاقهم الفاسد حلاوة طعم الشرع والحق (16).
لكن الإشكالية أن هذه الشهوات التي توجد في الإنسان، لو أطلق الإنسان لها العنان، وفتح لها الباب من غير ضوابط ومن غير قيود، ومن غير التزام بأحكام الله؛ فإنه سيوقع الضرر على نفسه وسيلحق الضرر بغيره، وستختل شؤون حياته جميعها.
فعلى سبيل المثال شهوة حب المال، لو أن الإنسان تعامل مع حب المال بتجرد من غير قيود ومن غير ضوابط ومن غير حدود سيغرق الإنسان في المادية إلى درجة مقيتة، فيصبح سمعه وبصره وفكره ومكونه وتحركه للمادة، هذا جانب وجانب آخر أنه سيسعى لامتلاك هذا المال من كل سبيل، وسيبذل قصارى جهده ليل نهار، وينهك بدنه لأجل تحقيق هذا المال، وسيجمع المال من كل سبيل حتى لو اعتدى على غيره أو أكل أموال الناس، أو اعتدى على المال العام، حيث استحوذت فيه تلك الشهوة من غير قيود أو من غير ضوابط، فجاء الشرع بضوابط وقيود، فالشرع يقر بأن حب المال عند الإنسان فطرة موجودة، وأمور حياته تتيسر بحبه لهذا المال، وخلافة الإنسان وتعميره لها جزء منه يقوم على حبه لهذا المال، لكن انطلاق الإنسان في حب هذا المال من غير قيود ومن غير ضوابط يوقعه ويوقع غيره في الإزعاج وفي الضرر.
ومن هنا كان لا بد من تحديد حدود لهذه الشهوة، ولذلك بين الحق سبحانه وتعالى ورسوله الكريم الحدود والضوابط التي نعمل بها مع هذه الشهوة، فقد دعا الإسلام إلى اكتساب المال إلا أنه أرشده إلى اكتسابه من الحلال، ولا يكون اكتسابه عن طريق آخر؛ كالغش أو السرقة أو بالغصب أو الخداع أو بالاجتراء على حقوق الآخرين.
فلو أن الإنسان لم يتقيد بتلك الضوابط والحدود سوف تجنح نفسه في الانغماس في هذه الشهوات والملذات، وعندئذ سوف تنشأ أمراض كثيرة، ومنها أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، وهذان البابان هما أعظم أبواب الداء الذي يلحق بقلب الإنسان، فأمراض الشبهات مصدرها الاختلال الفكري والالتباس العلمي، وأمراض الشهوات مصدرها الشهوة المركبة في نفس الإنسان وغلبتها عليه، وهذان البابان من أعظم أبواب الفتنة، ولا بد للإنسان أن يسلك مسلك العلاج لهما، لأنه لا تزكية لنفسه أبدًا إلا إذا ما سلك مسلك الخلاص من هاتين الفتنتين (17).
ولما كانت الشبهات بهذه الخطورة كان السلف رحمهم الله يحرصون على البعد عنها وعن المجالس التي تورد فيها الشبهات، عن يحيى بن أبي كثير، قال: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق، فخذ في غيره (18).
وعن سعيد بن عامر، قال: سمعت جدي أسماء يحدث، قال: دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء، فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث، قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله، قال: لا، لتقومان عني، أو لأقومن، فقام الرجلان فخرجا (19).
علاج الشبهات والشهوات:
قال ابن القيم: قال لي شيخ الإسلام، وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بِها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمرُّ الشبهات بظاهرها ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعُها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها، صار مقرًّا للشبهات، -أو كما قال-، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك (20).
يقول الشيخ محمد المختار الشنقيطي: أما مرض الشبهة فإنه مرض يأتي بسبب ضعف الإيمان، فالشبهات ترد على الإنسان بضعف إيمانه، فيغذي إيمانه، أولًا: بسؤال الله أن يصرفها عنه، وأن يثبته على الإيمان الذي يحول بينه وبين هذه الشبهات، فأول علاج لمن بلي بالشبهات والشكوك والوساوس والأذية في قلبه وفي صدره، أن يستعيذ بالله جل وعلا، لأن الله يقول في كتابه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]، فأمر الله بالاستعاذة إذا حصلت الشبهة، فأكثر من الاستعاذة فإن الله يعيذ من استعاذ.
أما الأمر الثاني: فأن تأخذ بالأسباب التي تبعد الشبهة عنك، فإذا كانت الشبهة من جليس سوء فابتعد عنه وإياك أن تجلس معه؛ لأن الله أمرك أن تقوم إذا ذكر الله بما لا يليق به في مجالس الظالمين {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]؛ فلا يجوز للإنسان أن يجلس في المجالس التي تثار فيها الشبه ويضعف فيها الإيمان.
أما الأمر الثالث من الأسباب التي تعين على انصراف الشبهة: أن تأخذ بالأسباب التي تزيد في الإيمان، ومن أعظم ذلك تلاوة القرآن وتدبره، أن تختار لتلاوة كتاب الله أنسب الأوقات، وأن تقبل على كلام الله وأنت تحس كأن الله يخاطبك، وكأن الله يناديك، وكأن الله يوصيك، فإذا استشعرت بهذا الشعور دخلت الآية إلى سويداء قلبك وتغلغلت إلى جنانك وكان لها أطيب الأثر على جوارحك وأركانك، وكف الله بها عنك الوساوس والشكوك، القرآن فيه الحجج وفيه الآيات، وهذه الحجج والآيات تقوي القلب، وتجعل فيه الحصانة والقوة من هذه الشبهات التي ترد على القلب.
أما مرض الشهوة فابتدئ بأسبابها، فما كان من أسباب تثير الشهوة فابتعد عنها، غض البصر عن الحرام، وعن استماع الفحش والآثام، واجعل جوارحك سليمة عن مظان الريب والفتن؛ فإن ذلك يعصم الله به قلبك، فإن الإنسان إذا حفظ سمعه وبصره صانه الله عن الشهوات، ولم يجد الشيطان عليه سبيلًا أن يعلق قلبه بها، ثم خذ بالأسباب التي تزيد في إيمانك حتى تقوى على البعد من الشهوات، وقال بعض العلماء: إن عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من أعظم الأسباب التي توقع الإنسان في الانتكاسة بشهوة أو شبهة، فيبتعد الإنسان عن عقوق الوالدين وأذية الوالدين, وقطع الأرحام، لأن الله تعالى يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 22- 23]، قال: أصمهم فلا ينتفعون بموعظة، وأعمى أبصارهم فلا يهتدون ببصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- وكل ذلك بسبب قطيعة الرحم، فأكثر ما يقع الإنسان في شهوة أو شبهة إما بذنب بينه وبين الله وإما بذنب بينه وبين عباد الله.
وعلاج الشبهة –أيضًا- يكون بالعلم، ولا مصدر صحيح للعلم إلا قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن القيم عليه رحمة الله:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه (21).
وإذا كان العلم هو علاج الشبهات، فإن علاج الشهوات تقوى الله.
فبالعلم تنزاح الشبهات عن القلوب، وبقوى الله تعالى تنزاح الشهوات، فاستحضار مراقبة المولى عز وجل، ومخافة الله عز وجل، وكل ما يمكن أن تجمعه كلمة تقوى الله هي علاج الشهوات، أما علاج الشبهات فهو طلب العلم المستمد من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.
وقالوا: بالبصر النافذ تندفع الشبهة، وبالعقل الكامل تندفع الشهوة، والورع يمنع السطو على الحقوق بدافع الشهوة أو الشبهة.
يقول العلامة السعدي: إن الله عز وجل أمتن على عباده بنعم كثيرة، ومن أفضل وأعظم ما منَ الله تعالى به على عبده هو العلم النافع، لأن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا؛ وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر، وضابط العلم النافع هو ما أزال عن القلب شيئين:
الأول: الشبهة، والثاني: الشهوة.
لأن الشبهات تورث الشك، وأما الشهوات فتورث درن القلب وقسوة القلب، وتثبط البدن عن الطاعات.
إذا أزال العلم النافع الشبهة والشهوة حل محل الأول اليقين الذي هو ضد الشك، وحل محل الثاني الإيمان التام الذي يوصل العبد لكل مطلوب المثمر للأعمال الصالحة.
وكلما ازداد الإنسان علمًا حصل له كمال اليقين وكمال الإرادة وكمال الخشية قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وإذا كان العلم بهذه المنزلة وبهذه المثابة فإنه ينبغي للإنسان أن يحرص على طلبه، وأن يستزيد من طلب العلم، ولذلك لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم المزيد من شيء إلا من العلم قال الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] (22).
وعلاج الشبهات يكون أيضًا باليقين بأخبار الله، فإن الله قد أخبرنا عن نفسه، وناره، والبعث، والملائكة، والجن.. فهل أحد أصدق من الله تعالى؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، لا مبدل لكلمات الله.
فعلينا أن نتلقى الأخبار الإلهية باليقين، واليقين هو منتهى درجات التصديق، أي أن يستيقن القلب ويثبت ويطمئن على هذا الكلام أنه حق، فالله يقول في القرآن الكريم: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] (الحق) البعث.
ويقول في آية أخرى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53]، إنه حق: أي البعث.
ويقول: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]، إن كان مستحيلًا بالنسبة لكم فهو يسير عند الله.
وحتى نتغلب على مرض الشهوة علينا أن نتسلح بسلاح الصبر، الصبر على أوامر الله، والصبر عن المحرمات، والشجاعة كما يقولون: صبر ساعة، اصبر قليلًا، فأنت لو لم تصبر على مر التعلم لا يمكن أن تنجح، ولو لم تصبر على تعب السعي لا يمكن أن تجمع المال الذي يغنيك عن ذل السؤال، إذن لماذا لا تصبر على الدين؟
تصبر على كل شيء إلا على الدين، فلا بد من الصبر، ولهذا فإن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، ولا دين لمن لا صبر له، كما أنه لا حياة لمن لا رأس له.
وقد ذكر الله تعالى في القرآن الصبر في أكثر من تسعين موضعًا، وأمر الله به، وأمر به الرسول، يقول الله للرسول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (23).
--------------
(1) تداعي الشبهة والشهوة على الأمة/ منار الإسلام.
(2) أدب الدنيا والدين (ص: 97).
(3) لسان العرب (13/ 405).
(4) الاختيارين المفضليات والأصمعيات (ص: 730).
(5) مفتاح دار السعادة (1/ 140).
(6) المعجم الوسيط (1/ 471).
(7) أخرجه البخاري (52).
(8) الشهوات والشبهات/ حبل الله.
(9) الفوائد لابن القيم (ص: 58).
(10) المفردات في غريب القرآن (ص: 468- 469).
(11) لسان العرب (14/ 445).
(12) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 132).
(13) مفتاح دار السعادة (1/ 140).
(14) دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي (2/ 19).
(15) إغاثة اللهفان (2/ 165- 167).
(16) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (12/ 256).
(17) الشبهات والشهوات من أعظم أمراض القلوب/ منتديات عمان.
(18) حلية الأولياء (3/ 68).
(19) القدر للفريابي (ص: 215).
(20) مفتاح دار السعادة (1/ 140).
(21) إعلام الموقعين (1/ 63).
(22) شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي (1/ 7).
(23) محطات بين الشبهة والشهوة/ صيد الفوائد.