logo

السلبية داء مدمر للأمة


بتاريخ : السبت ، 24 محرّم ، 1447 الموافق 19 يوليو 2025
بقلم : تيار الإصلاح
السلبية داء مدمر للأمة

السلبي هو ذلك الفرد البليد الذي يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، المتشائم من كل ما حوله، ولا يمد يده إلى الآخرين، فلا يغيث ملهوفًا، ولا يجير مستجيرًا، ولا ينهض بمقعد، ولا يخطو إلى الأمام، ولا يحرك ساكنًا، أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلٌ على قومه وأمته.

 

قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]، لقد سمى الله السلبي في هذه الآية {كَلٌّ} والإيجابي بـ {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، {كَلٌّ} أصعب من سلبي؛ لأن سلبي معناها غير فعال، أما {كَلٌّ} فمعناها الثقيل الكسول، وقبل هذا فهو {أَبْكَمُ} لا يتكلم ولا يرتفع له صوت، وهذا عبء على المجتمع؛ لأن النظرة التشاؤمية هي الغالبة عليه في كافة تصرفاته، وهذه الشخصية ضعيفة الفاعلية في كافة مجالات الحياة، ولا يرى للنجاح معنى، بل ليس عنده همة أن يخطو خطوة، ولهذا لا يتقدم ولا يحرك ساكنًا، وإن فعل ذلك مرة يتوقف مئات المرات.

 

وهذه الشخصية مطعمة بالحجج الواهية والأعذار الخادعة بشكل مقصود، وهو دائم الشكوى والاعتراض والعتاب والنقد الهدام.

 

وأما الآخر فإنه {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} فهو هنا الشخصية المنتجة في كافة مجالات الحياة حسب القدرة والإمكانية، المنفتحة على الحياة ومع الناس حسب نوع العلاقة، ويمتلك النظرة الثاقبة، ويتحرك ببصيرة {بِالْعَدْلِ} فهو يوازن بين الحقوق والواجبات، مع الهمة العالية والتحرك الذاتي، والتفكير دائمًا لتطوير الإيجابيات وإزالة السلبيات.

 

إن السلبية هي أخطر آفة يصاب بها فرد أو مجتمع، بينما الإيجابية هي أهم وسيلة لنهضة أي أمة؛ فمن الحقائق المسلم بها أن نهضة الأمم تقوم على أفراد إيجابيين مميزين بالأفكار الطموحة والإرادة الكبيرة، كما أنها نجاة من هلاك الأمم والشعوب، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، ولم يقل صالحون إنما قال مصلحون، وهناك فارق بين صالح ومصلح، فالصالح صلاحه بينه وبين ربه، أما المصلح فإنه يقوم بإصلاح نفسه ودعوة غيره.

 

رغم أننا كثيرًا ما كنا نفتخر بامتلاكنا لحضارة من القيم الإنسانية والروحية النبيلة؛ حيث يطلق علينا أحيانًا مصطلح شعوب روحية؛ وذلك لكوننا نتمسك بالقيم الدينية ونعلي من شأن الأخلاق، في حين أن الغرب قد ترك الدين والأخلاق، وحقق ظفرات واسعة على مستوى الحضارة المادية والتكنولوجية.

 

وقد كنا نواسي أنفسنا وما نحن فيه من تخلف مادي وعلمي وتكنولوجي، بإعلاء شأن منظومتنا من القيم والأخلاق؛ ولكن يبدو أنه حتى هذه المنظومة التي كنا نتباهى بها، قد أصابها العطب والخلل وبدأت تتصدع أركانها، وأحد تلك الأركان هو قيم كنا نعتز بها مثل الشهامة والنخوة والمروءة والألفة والمحبة والتعاون على البر، والنجدة ونصرة المظلوم والوقوف في وجه الظالم، وترعرعت فينا بدلًا منها قيم غريبة عنا، أثمرت في شخصنا ما يسمى بالسلبية، ومع ذلك كله لا نستحي من أنفسنا حين نتغنى بمآثرنا وتمسكنا بقيمنا وادعائنا بأننا الأفضل على الدوام .

 

وصاحب هذه الشخصية «الأنامالية» انطلاقًا من القول الشائع «وأنا مالي» يعيش بعيدًا عن شؤون مجتمعه، غاضًّا بصره عما يحيط به، معتزلًا الأحداث كبرت أم صغرت، غير ناظر إليها إلا بمقدار ما يصيبه فيها من خير أو شر، ليس مهتمًا إلا بما يصل إليه من جدوى، ولو كان الناس في محن وفتن، متصوّرًا أن هذا الأسلوب كفيل بحمايته، ومنع أي مخاطر أو أضرار عنه، ودرء أي مشاكل يمكن أن تلحق به في حالة المشاركة أو الإقدام على مساعدة الآخرين.

 

فمثلًا قد يشاهد لصًّا يسرق ولا يحاول منعه أو تنبيه ضحيته، وقد يجد من يتعدى على الحرمات ولا يحرك ذلك منه ساكنًا، وإذا مر بمنكر أو فاحشة أصم أذنيه وأغمض عينيه، وقد يجد مصابًا على الطريق صدمه سائق أرعن بسيارته، وقد أوشك على الموت، فيكون رد فعله أن يسير مبتعدًا، ولسان حاله يقول «وأنا مالي» أو «ابعد عن الشر...».

 

وأصبح من المعتاد أن يشاهد شيخًا كبيرًا أو سيدة مسنة أو مريضًا يقف في وسيلة انتقال كالأتوبيس أو المترو في الوقت الذي يجلس فيه وهو معافى ولا يرأف بحال أي من هؤلاء، ويجلسهم مكانه رحمة وإكبارًا.

 

وقد يطلب منه مظلوم أن يشهد له بما رآه فيعتذر عن ذلك متعللًا بالخوف من الدخول في مشاكل مع الخصوم.

 

ينأى بنفسه عن منابع الخطر؛ فلا عليه أن يموت غيره من الناس، وهو أسعد الناس ما دام قد سلم من هذه المهلكات أو الشرور؛ بل قد يبارك لك ضر ما دام بعيدًا عنه.

 

بل تعدت سلبيتنا هذه الأحداث الفردية، ووصلت إلى مستوى الشعوب، فقد أصبحنا مطية لغيرنا من الأمم، يفعل بنا ما لا يتحمله بشر من إذلال وقهر وقتل وتشريد، ولسنا بفاعلين بأحد من شيء، ويكون رد فعلنا دائمًا هو الصمت والصمت التام، وهذا هو قمة السلبية وإضافة جديدة لها.

 

والسلبية سلوك مذموم يتعارض مع كل قيم الإسلام وتعاليمه التي تحث على التعاون على البر والتقوى، والتسابق إلى الأعمال الصالحة وفعل الخيرات، وهي ليست من الإسلام في شيء، وأن السلبيين المتقاعسين يخالفون قواعد الإسلام وثوابته، ولا يقبل منهم ادعاؤهم الكاذب إلى الإسلام مهما أصروا على ذلك وأقسموا.

 

والفرد السلبي آثم، ويرتكب إثمًا مع كل موقف سلبي يتخذه، ومع كل تقصير من ناحيته في القيام بما أمره به الإسلام في حق أخيه المسلم وحق مجتمعه، وهو في نظر الإسلام يُعتَبَر مكذبًا ومسؤولًا مسؤولية عظمى أمام الله تعالى، ويعرض نفسه للويل والعذاب؛ لأن الله عز وجل أنذر من يمتنع عن مساعدة الآخرين بالويل، وهناك نص قرآني صريح يؤكد ذلك، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِيْ يُكَذِّبُ بِالدِّيْنِ (1) فَذٰلِكَ الَّذِيْ يَدُعُّ اليَتِيْمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلىٰ طَعَامِ الْمِسْكِيْنِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّيْنَ (4) الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُوْنَ (5) الَّذِيْنَ هُمْ يُرَاءُوْنَ (6) وَيَمْنَعُوْنَ المَاعُوْنَ (7)} [الماعون: 1- 7].

 

لا تصلح أحوال المجتمعات والأمم إلا بالبعد عن السلبية ورسوخ الشعور بالمسؤولية الجماعية وشيوعه بين أفرادها، حتى يدفعهم هذا السلوك إلى الدفاع عن الصالح العام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا غاب هذا الشعور أو ضعُف، وانتشر داء السلبية، كثر فيهم الظلم والفساد وكان مؤذنًا بدمارهم وزوالهم، يستوي في ذلك الصالح والطالح، ولهذا كانت المسؤولية الجماعية قيمة أساسية كبرى في التصور الإسلامي، بل إن الله لم يهلك الكفار –مع بشاعة كفرهم– حتى تواطؤوا على الظلم والفساد ورضوا به.

 

إن الشخصية الإيجابية قوية ومستقرة ومتفائلة وهي أقرب إلى السعادة من نقيضتها، الشخصية السلبية، التي تتميز بالضعف والتطير والهلع، والميل إلى تعذيب النفس، فحين يستمع أحدهم إلى خبر مفرح يتجاوزه ولا يتوقف عنده ولا يتفاعل معه، أما إذا جاءه خبر محزن، تراه في حالة قصوى من الاستجابة له، فيتحدث عنه وينشره على أوسع نطاق.

 

إن البحث في المؤثّرات والعوامل الخارجية لا يمكن أن يحل المشكلة قبل البحث في ذاتية الإنسان والعمل على صناعة الدافعية في تكوينه الداخلي، فكم من شتلة وفّرت لها كل عوامل النمو فماتت، وكم من بذرة شقّت طريقها بنفسها بين الصخور حتى غدت شجرة مثمرة وارفة الظلال.

 

إن القرآن الكريم الذي ذكر القدر غيبًا، ذكر أن المسؤولية فرضًا وأمرًا وثوابًا وعقابًا، فقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7- 8].

 

وقال في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» (1).

 

أمام هذا البيان والتبيين الإلهي لا أدري كيف تسللت إلى ثقافتنا اليوم ثقافة أخرى تستند إلى الاحتجاج بالقدر تفسيرًا وتبريرًا وتنصّلًا عن المسؤوليّات، مع أن القرآن ندّد بشدّة بأولئك الذين يلوذون بالقدر ويحتجون به فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وقال أيضًا: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35].

 

إن الإيمان بالقدر هو إيمان مطلق بإرادة الله وقدرته وعدله وعلمه وحكمته، وهو من الإيمان الغيبي البحت {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، أما أعمالنا نحن البشر فهي خاضعة لسنن الله المعلومة في هذا الكون، والتي تربط الأسباب بنتائجها، فالدواء يعالج المرض، والماء يروي من العطش، والمجتهد ينجح، والكسول يفشل، ثم كل تصرّفات الإنسان محكومة بقوانين معلومة وواضحة، وقابلة للقياس، فالصدق أمانة والكذب خيانة، والبيع حلال والربا حرام، ليس في الإسلام طلاسم ولا ألغاز.

 

أسباب السلبية:

لماذا يقع البعض في السلبية؟ ما هو السبب الذي جرهم إلى ذلك، مع أن المنطلق كان صحيحًا؟ هذا يرجع في الحقيقة إلى عدة أسباب منها:

 

أولًا: عدم الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية:

كمن يظن أن الإسلام والالتزام هو الانزواء جانبًا والجلوس في المساجد وترك العمل؛ وهذا هو الفهم الخاطئ للإسلام، فالتدين الصحيح هو الذي يدفع صاحبه للعمل والسعي في الأرض، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 9- 10].

 

إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان الفهم الصحيح لـ “عقيدة القضاء والقدر”، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العُلا، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء، وهذا والحمد لله هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد الأسماء والصفات.

 

ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس: فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقَّص المؤمنين به، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل. وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله عز وجل وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده.. كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر؛ كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه سبحانه وصفاته.

 

ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد، كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخَّرها الله سبحانه، ومدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة: ٢٥١]، فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان؛ فالواجب الصبر والاستسلام لقضاء الله عز وجل، واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال تعالى: {إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١].

 

ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول: ودفْع القدَر بالقدَر نوعان:

أحدهما: دفْع القدَر الذي قد انعقدت أسبابه ولمّا يقع بأسباب أخرى من القدر تقابله، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.

 

الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدَر المرض بقدر التداوي، ودفع قدَر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدَر الإحسان.

 

فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة؛ فإنه عجز، والله تعالى يلوم على العجز، فإذا غُلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف يشاء (2).

 

ثانيًا: اعتقاد الإنسان أن من شروط الإيجابية حصول الكمال:

وهذه شماعة يعلق عليها السلبيون سلبيتهم ويحتجون بأنهم ليسوا من أهل الكمال ليتحركوا ويعملوا وهذا خطأ، فتأملوا في حال مؤمن أل يس لم يكن نبيًا ولا عالمًا؛ بل كان شخصًا عاديًا، وعلى الرغم من ذلك تحرك، فخلد الله ذكره في الأخرين، قال الله تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} [يس:20- 27].

 

كان من الممكن جدًا ألا يبالي هذا الرجل، ويقول: وما دخلي أنا؟ ولاحظوا أنه جاء من أقصى المدينة، أي ليس من أثرياء البلد، ولا من أصحاب النفوذ، فمن المحتمل أن يقتل ولن يعبئوا به، فلماذا يقدم على دعوة هؤلاء القوم؟

 

لم يستطع السكوت أو الجلوس في مكانه، بل دعا بكل إصرار وعزيمة، وانظروا معي، من أعلى مقامًا وأعلم وأتقى؟ الرجل أم الأنبياء الثلاثة؟ الأنبياء بالطبع، لكن القرآن ركز على الرجل، لماذا؟ لكي يخبرك بأنك عظيم وغالي عند الله إن كنت إيجابيًا، لا تنقص من قدر نفسك أمام الدعاة، بل ادعو إلى الله أنت أيضًا.

 

ثالثًا: دعوى أن المبادرة مدعاة للرياء:

هذه حيلة شيطانية، تحول بين الإنسان وبين العمل الصالح، إذا صلحت نيتك الأولى لم يضرك ما قد يقع من ثناء الناس، أو حصول مغنم، بادر في هذا المشروع الطيب، وكن رأسًا فيه، فإذا رأيت من هو أولى منك، فكن عونًا له.

 

قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما (3).

 

قال يزيد بن هرون: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله (4).

 

وقد ذكر بعض العلماء: أن من كان يعمل عملًا خفيًا، ثم حضر بعض الناس فتركه من أجلهم خشية الرياء، أنه يدخل في الرياء، لأنه يضعف في نفسه أن يخلص النية لله، وفي هذا بعد ومشقة (5).

 

رابعًا: التربية الرخوة:

ومن أسباب السلبية تربية الجيل على الترهل وعدم الترجل وعلى سلبية فيخرج الولد كلًا لا يستطيع أن يطعم نفسه، فهو إما نائم أو هائم على وجهه أمام شبكات التواصل الاجتماعي.

 

فتأملوا كيف كانوا يربون أبنائهم على خشونة العيش ويعدونهم للإيجابية الفعالة، فهذه صفية رضي الله عنها كانت تضرب الزبير رضي الله عنه وهو صغير وتغلظ عليه، فعاتبها نوفل وقال: ما هكذا يضرب الولد، إنك لتضربينه ضرب مبغضة فرجزت به صفية:

 

من قال إني أبغضه فقد كذب    وإنما أضربه لكي يلب

ويهزم الجيش ويأتي بالسّلب     ولا يكن لماله خبأ مخب

يأكل في البيت من تمر وحب (6).

 

التخلي عن الدفاع عن الصالح العام يدفع كلفته كل أفراد الأمة:

إنه لثمن عظيم يدفعه أفراد الأمة جميعًا عندما يزهدون في التحرك للدفاع عن الصالح العام ولإيقاف الخطأ ومحاصرة المخطئين، وهو ثمن يمكن أن يصل إلى دمار الجماعة كلها وزوالها من الوجود.

 

تأملوا العبرة في قصة أصحاب السبت التي يرويها القرآن، أولئك قوم احتالوا على ربهم واستحلوا الحرام غير مبالين بأمر ولا بنهي، وقد بلغ من إصرارهم على المنكر واحتيالهم فيه أن غلب ظنُّ عامة أهل البلد أن أولئك المعتدين المجرمين لن يتراجعوا عن عدوانهم ولن يتوبوا من جريمتهم أيًا كان النصح أو التذكير، فزهدوا في أي نصح وزهدوا في أي تذكير، وانصرفوا إلى السلوك السلبي المتقوقع، ولعلهم ظنوا أنهم سينجون من العقوبة إذ لم يشاركوا بأنفسهم في الجريمة.

 

وحتى عندما تحرك نفرٌ قليل من الذين أحسّوا بالمسؤولية وأرادوا أن يكون لهم موقف إيجابي كان الردّ من الجمهور السلبي، لماذا ترهقون أنفسكم في النصح لجماعة من المعتدين المخطئين الذين لا تُظَنّ لهم توبة ولا يُشَكّ أن عذاب الله واقع بهم جزاء جريمتهم؟ دعوهم فلا شأن لنا بهم ولا أمل في صلاحهم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} [الأعراف: 163– 164]، فماذا كان ردّ الفئة القليلة من الذين غلب عليهم الحسّ الإيجابي وسيطر عليهم الشعور بالمسؤولية الجماعية؟ {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]، فكأنهم قالوا: سكوتنا خطأ، والواجب علينا أن نبين الحق وأن ندافع عنه وندفع إليه، وبذلك فقط نُعذَر عند الله، وما يدريكم لعل في نصحنا نفعًا أو في تذكيرنا فائدة؟

 

المهم هو نهاية القصة: لم يكن العذاب مصير الذين مارسوا الخطأ وحدَهم، بل أيضًا الذين مارسوا السكوت عن الخطأ؛ كما ذهب إليه بعض المفسرين، ولم يَنجُ غيرُ أصحاب السلوك الإيجابي الذين تحركوا في محاولة لإصلاح الخطأ وتقويم السلوك السيّئ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].

 

انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم؛ أمة عاصية محتالة، وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة، وأمة تدع المنكر وأهله وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي (7).

 

وانظروا إلى هذا المعنى كذلك في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].

 

روى القرطبي عن ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم العذاب، وقال: قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، قال: فإن قيل: فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، وقال: {كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ} [فاطر 38]، وهذا يوجب ألا يؤخَذ أحد بذنب أحد وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب، فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سُكت عليه فكلُّهم عاص، هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظما في العقوبة (8).

 

إن الإيجابية والمسؤولية الجماعية من القيم الأساسية الكبرى في التصور الإسلامي، انظروا إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام وهو يشبّه أفراد المجتمع براكبي السفينة، فذلك واحدٌ منهم ذهب يتمتع بما رآه «حقه الشخصي» في خرق الجزء الخاص به من أرضها، أفرضي النبي صلى الله عليه وسلم لسائر ركابها السكوت أم اعتبر السلبية والانصراف عن التدخل جريمة جماعية؟

 

السلبية في مواجهة المنكر موجبة للدخول في العقاب الجماعي الذي يحل بأصحاب المنكر:

أخرج البخاري عن النعمان بن بشير أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «مَثَلُ القائم على حدود الله والواقعِ فيها، كمَثل قوم استَهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفَلها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقوا من الماء مرُّوا على مَن فوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤذ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجوا، ونَجوا جميعًا» (9).

 

تأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِم»: ألا ترون أنه تحدث عن المجموع بقوله: «أخَذُوا» ولم يتحدث عن فردٍ منهم؟ فليس المطلوب أن يأخذ على يد المعتدين واحدٌ من القوم بتحرك فردي، بل المطلوب أن يتحركوا جميعًا في موقف إيجابي جماعي يصنعه الإحساس بالمسؤولية الجماعية عن أمن وسلامة مجتمعهم. عندئذ ينجون جميعًا، وإلا فما نتيجة السلبية والسكوت إلا العقاب الجماعي.

 

وهذا العقاب الجماعي لا يفرّق بين صالح وطالح أو عابد وجاحد، فالذين سكتوا عن الخطأ وساروا في ركاب المخطئين استحقوا أن ينزل بهم ما ينزل بالمخطئين من عقاب. ذلك في الدنيا، أما في الآخرة فكلٌّ يُجزَى بنيّته وعمله.

 

روى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله لا يُعذب العامَّة بعملِ الخاصة، حتى يرَوا المنكر بين ظَهرانَيهم، وهم قادرون على أن يُنكروه، فلا يُنكروه، فإذا فعلوا ذلكَ عذَّب الله الخاصة والعامة» (10)، ومثله ما رواه أبو داود عن عمرو بن هُشَيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِن قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي، ثم يَقدرون على أن يٌغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشِك أن يَعمُهم الله منه بعقاب» (11)، وعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة 105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنّ الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يديه أوْشكَ أن يعمهم الله بِعِقابٍ منه» (12).

 

فإذا وقع الظلم فلم يُنكره من يملك القدرة على إنكاره، وأظهرت المعصية فئة من الأمة فلم يتحرك لمحاصرتها أيٌّ من بقية الفئات، فإن العذاب يقع بالجميع؛ ولو كان غير العصاة من أصلح الصالحين وأعبد العابدين.

 

عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزِعًا يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح اليوم من رَدمِ يأجوجَ ومَأجوجَ مثل هذه، وحلَّقَ بإصبَعيهِ الإبهام والتي تليها»، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول اللَّه، أَنَهلكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» (13).

 

وليس أمر الإيجابية والشعور بالمسؤولية وقفًا على أسماء معينة من مشاهير الصحابة، فقد كان كل صحابي يدرك أن الإسلام هو مسؤوليته، وأن دولة الإسلام دولته، وأنه شريك في إقامة دولة الإسلام وحمايتها، وإلا فمن كان يعرف من هو عمير بن الحمام قبل مبادرته الإيمانية إلى قتال المشركين حتى عد انتظاره ليأكل الثمرات وقتًا طويلًا.

 

ومن كان يعرف الحباب بن المنذر قبل أن يتقدم بمبادرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جندي مغمور من غمار الناس، لكن رؤيته ونفاذ بصيرته، كانت سببًا في نصر المسلمين والتخفيف عنهم.

 

وهذا سلمان الفارسي يبادر برأيه الذي كان سببًا في إعزاز الإسلام، ونصر المسلمين في الخندق.

 

ولو ذهبنا نعد مواقف الإيجابية لأعيانا الحصر، لأن حياة القوم كلها إيجابية، ومواقفهم هي الإيجابية بعينها، ولهذا قامت دولة الإسلام وعزت وملكت ما بين الخافقين شرقًا وغربًا في أقل من خمسين عامًا، طاوية تحت جناحها أضخم ما عرفه التاريخ من إمبراطوريات في حينه فارس والروم.

 

إنك تستطيع أن تقول وأنت صادق: إن كل فرد من هذه الأمة كان يشعر شعورًا عميقًا بأنه يبني دولته، ويصون عقيدته، ويحافظ على كيانه وعزته، ولك أن تختار أية فترة تاريخية من حياة الأمة كانت فيها عزيزة كريمة مهيبة، فإنك لابد وأن تجد أن السمة الأولى التي ميزت تلك الفترات هي الإيجابية في أبنائها، والسماحة والرجولة والاعتدال في أمرائها، والصدق والإخلاص والربانية في علمائها، والعفة والحياء والفضيلة في بناتها ونسائها. ولن تجد فترة من تاريخ أصيبت الأمة فيها بأعدائها إلا وستجد سبب ذلك هو الاستبداد من حكامها، والتملق والضعف من علمائها، والعجز والاستسلام والخنوع من أبنائها، وتلك كلها صفات سلبية لا تقوم بها دولة ولا تسعد بها أمة ولا يعز بها كيان.

 

وتاريخنا الإسلامي يشهد أن عصور الامتداد والفتح كانت هي عصور الاعتدال والرجولة والشجاعة واليقين من قبل الحكام، وكانت هي عصور الربانية والزهد والإخلاص والتقوى من العلماء، واستعادة هذين الصنفين من الأمة يضمن استقامة النساء وإيجابية الأبناء.

 

وفي ضوء هذه الإشارات القرآنية المتعددة إلى ضرورة العمل بالإيجابية والتخلي عن السلبية، فما أجدر أن يعي كل مسلم هذه الحقيقة فيعيش إيجابيًا بحيث يراه الله حيث أمره ويفقده حيث نهاه، ويكون كالغيث أينما وقع نفع، وكالشمس تغرب في مكان لتشرق في مكان آخر، فهي في شروق دائمًا، وبذلك يسعد في دنياه ويوم يلقى مولاه.

 

قال الحذاء بن رباح القاضي: رأيت رجلًا مكفوفًا قد شهد قتل الحسين، وكان الناس يأتونه ويسألونه عن ذهاب بصره، قال: فكان يقول: شهدت قتل الحسين؛ ولكني لم أضرب بسيف ولم أرم بسهم، فلما قتل الحسين رجعت إلى المنزل وصليت العشاء الأخيرة ونمت، فأتاني آت في منامي، فقال لي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما لي وله، فأخذني وجذبني جذبة شديدة وانطلق بي إليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في المحراب مغتمًا، حاسرًا عن ذراعيه آخذًا بخده، وبين يديه نطع وملك قائم بين يديه، وبين يدي الملك سيف من نار، وكان لي تسعة من الأصحاب، فقتل أصحابي التسعة، كلما ضرب الملك أحدًا التهبت نفسه نارًا، فكلما قام الملك صاروا أحياء فقتلهم مرة بعد أخرى حتى قتلهم سبع مرات، فدنوت من النبي صلى الله عليه وسلم وحبوت إليه فقلت: السلام عليك يا رسول الله، والله ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم، فقال لي: صدقت، ولكن كثرت السواد أدن مني فدنوت منه، فإذا طشت مملوء دمًا من دماء الحسين، فكحلني من ذلك الدم، فانتبهت أعمى لا أبصر شيئًا (14).

 

------------

(1) أخرجه مسلم (2577).

(2) مدارج السالكين (١/ ٢٠).

(3) تفسير البغوي (1/ 157).

(4) تلبيس إبليس (ص: 284).

(5) أضواء البيان (9/ 120).

(6) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 458).

(7) في ظلال القرآن (3/ 1385).

(8) تفسير القرطبي (7/ 393).

(9) أخرجه البخاري (2493).

(10) أخرجه أحمد (17720).

(11) أخرجه أبو داود (4338)

(12) أخرجه أبو داود (4338).

(13) أخرجه البخاري (3346)، ومسلم (2880).

(14) بستان الواعظين ورياض السامعين (ص: 262).