الذكاء الاصطناعي بين نور الهداية وظلال الفتنة

يُعدّ الذكاء الاصطناعي من أبرز معالم الثورة التقنية الحديثة، إذ أصبح يؤثر في مختلف مجالات الحياة العلمية والعملية، غير أن هذا التقدم المذهل يحمل في طيّاته وجهين متقابلين: وجه النفع والخير إذا أُحسن استخدامه، ووجه الخطر والشر إذا أُسيء توجيهه، ومن هنا كان لزامًا على المسلم أن ينظر إلى هذه التقنية بعين البصيرة، فيوازن بين منافعها ومضارّها، ويضبط تعاملَه معها بضوابط الشرع الحنيف، حتى تبقى وسيلة للبناء لا للهدم، وللإعمار لا للفساد.
فالذكاء الاصطناعي كغيره، سلاح ذو حدين، فإن أحسنَّا استخدامه ووجَّهناه وفق ضوابط الشرع، كان مُعينًا لنا على تبليغ رسالة الإسلام إلى آفاق لم نكن نحلُم بها، وإن أهملنا ضوابطه، أو استخدمناه دون بصيرة، صار فتنة للناس ومَضيعة للجهود وتبديدًا للطاقات.
ومع هذا التطور المتسارع، تتزايد التساؤلات حول كيفية التفاعل معه من منظور قيمي وأخلاقي، وهنا يبرز المنظور الإسلامي كإطار شامل لتقييم هذه التقنية وتوجيه استخداماتها بما يخدم الإنسانية ويحقق مقاصد الشريعة.
والذكاء الاصطناعي هو فرع من فروع علم الحاسوب يهدف إلى بناء أنظمة أو آلات قادرة على محاكاة الذكاء البشري في التفكير، والتعلم، وحل المشكلات، واتخاذ القرارات، وفهم اللغة، والتفاعل مع البيئة المحيطة.
ويخرج عليك جماعة ممن بهرهم وراعهم وأدهشهم ما يحدث، فيحرِّمون الذكاء الاصطناعي ويجرِّمونه، ويعدونه من بدع الشيطان ومن نفثات السحرة؛ لكن العلماء الأثبات -كعادتهم- يردونهم إلى القاعدة العامة الأصيلة التي تقول: الأصل في الأشياء الإباحة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور (1).
قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]، فالذكاء الاصطناعي من هذا التسخير، والواجب أن نستعمله فيما يُرضي الله وينفع الناس ويخدم قضايانا ويزيد معارفنا ويبني حضارتنا.
فالذكاء الاصطناعي مباح من حيث الأصل، لكنه -ككل شيء وكأي شيء من المباحات- سلاح ذو حدين؛ كفاكهة العنب يمكن أن تتناوله هنيئًا مريئًا، ويستطيع غيرك أن يصنع منه خمرًا مسكرًا؛ وكالسكين يمكنك أن تُعِد به الطعام ويمكن لغيرك أن يقتل به إنسان، فكذلك من مجالات الذكاء الاصطناعي ما هو خير وحلال ونافع ومفيد، ومنها ما هو شر وضار وبالتالي محرَّم وممنوع منه.
فعلى حسب استخدامك له، يكون حكمه بالنسبة لك؛ فلو استخدمته في خير فهو لك حلال مباح، وقد يزيدك إلى الله تعالى قربًا، أما من يستخدمه في التزوير والتلفيق والخداع ونشر الشبهات والطعن في الثوابت والافتراء على الناس... فذاك الذي هو له حرام.
وعند النظر في واقع الدعوة الإسلامية اليوم، نجد أن الدعوة تواجه تحديات على عدة مستويات بسبب تأثير العولمة، وانشغال معظم الشباب بوسائل التواصل الاجتماعي، وما أفرزه الغزو الثقافي من أفكار تزداد خطورته يومًا بعد يوم، وظهور دعوات تشكك في صدق بعض الدعاة العاملين، وتثير الشبهات وتنشر الإلحاد وتتنكر لوجود الله والرسالات السماوية، مما صعَّب على الدعاة المهمة في التصدي لهذه المحاولات الهدامة.
والحل الوحيد هو التفكير في البناء الدعوي من جديد، مع استثمار أساليب الرقمنة من أجل تسريع الإصلاح، وتفعيل دور الدعوة بالتقنيات الحديثة وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي، وأي وسيلة فعالة أخرى تنشر الدعوة على أوسع نطاق ممكن.
فمما هو مؤكد، أن من مستلزمات الداعية أن يبحث عن أي وسيلة تحقق له مقاصده وأهدافه الدعوية، بشرط أن تكون الوسيلة مشروعة، ومن هذا المنطلق فالداعية مدعو إلى البحث في عصره عن الوسيلة المناسبة ليستغلها في دعوته.
فالذكاء الاصطناعي هو أحد تلك التقنيات في العلوم الحديثة، وذلك لمحاكاة ذكاء الإنسان، بل يفوق الإنسان في سرعة البحث وإنجاز المهام.
ومن هنا تأتي أهميته بالنسبة للعمل الدعوي، فلا بد من العمل على توظيفه في الدعوة والأعمال الخيرية، ويجب على الداعية إلى الله أن يطور مهاراته وكفاءاته لفهم ما يطلبه المدعو والوسيلة التي يتعامل بها.. والذكاء الاصطناعي يلعب دورًا مهمًّا في التخفيف عن الداعية، وخاصة أن الداعية يعمل في عصر العولمة الذي اختلطت فيه الثقافات وتمازجت الأفكار، فمن الممكن أن يعمل الذكاء الاصطناعي على حماية الدعاة، وتوفير الجهد والوقت والطاقة في الوصول إلى مناطق عديدة في العالم بشتى اللغات.
ففي الصين، تم تطوير راهب آلي يقدم تعاليم بوذا، حتى اليهودية تطرق لها الذكاء الاصطناعي في روبوتات تلعب دور الحاخام وتلقي خطبًا دينية تستلهم التوراة.
فأمام هذه التطورات والمحاولات من أصحاب الأديان الأخرى في التعريف بدياناتهم وعقائدهم، وجب على الدعاة المسلمين أن يستغلوا هذه التقنيات للتعريف بالإسلام والدعوة إليه.
آليات العمل الدعوي بالذكاء الاصطناعي:
والسؤال المطروح هو: كيف نوظف الذكاء الاصطناعي في الدعوة إلى الله تعالى؟ أو ما الآليات العملية لتحقيق أهداف العمل الدعوي؟
المنهج الدعوي يقتضي التفكير في الخطوات الهامة لتحقيق تلك الأهداف، فمن الضروري وضع خطة عملية من الممكن أن تتمثل فيما يلي:
أولًا: تسخير خبراء في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي بالتنسيق مع الدعاة، لوضع منصة خاصة تتجمع فيها المعلومات والبيانات التي تخص مجال العمل الدعوي، حيث توضع بعناية شديدة يستجيب لها الذكاء الاصطناعي بمرونة وسهولة ويتعامل معها.
ثانيًا: وضع قاعدة معرفية يقاس بها أداء نظام الذكاء الاصطناعي، ويمكن بها حل المشكلات والإجابة على التساؤلات وتقديم استشارات، وتستمد هذه القاعدة معلوماتها من العلوم الشرعية المختلفة.
ثالثًا: تصميم واجهة مناسبة للعمل الدعوي، بحيث تكون إبداعية وذات جودة، تستجيب لمتطلبات المستخدم وتنافس غيرها، ولها سرعة في الاستجابة.
رابعًا: وضع قاعدة بيانات خاصة تردُّ على التساؤلات التي تحتوي على شبهات، تستخدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتصبح مرجعًا للداعية يستخدمها أثناء دعوته، لتوفر له الجهد والوقت بتجميعها وصبها في قاعدة البيانات، سواء كانت هذه الشبهات في القديم أو في العصر الحديث أو حتى التي من الممكن إثارتها في المستقبل.
خامسًا: تحديد مراكز دعوية في العالم، حيث تعدُّ هذه المراكز مرجعًا يمكن الرجوع إليها سواء من قبل المدعو أو الداعية، من أجل استمداد المعلومات أو الأفكار أو يرجع إليها من أراد الدخول إلى الإسلام، ولها مواقع قد يشير إليها الذكاء الاصطناعي.
سادسًا: البرمجة الذكية، وهي تقنية يتقنها أهل التخصص في أنواع البرمجة، في مجال تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، وكل ما يتعلق بلغات البرمجة المعروفة في عالم الكمبيوتر وخاصة التي لها علاقة بالذكاء الاصطناعي، وتتيح للمبرمج الكتابة بكفاءة عالية، مثل لغة سي بلَس (C++) أو لغة جافا (JAVA) أو لغة برولوغ (PROLOG).
سابعًا: توفير برامج كمبيوتر أو تطبيقات برمجية بعدة لغات يمكن الاستعانة بها، خاصة للمسلمين الجدد غير الناطقين باللغة العربية (2).
أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي وقيمه
يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الخيري والدعوي التزامًا بمجموعة من القيم والأخلاقيات؛ لضمان تحقيق الأهداف النبيلة وحماية القيم الإسلامية والإنسانية. ومن أهم هذه القيم:
(1) احترام الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان: يجب أن تكون تقنيات الذكاء الاصطناعي وسيلة لخدمة البشر دون انتقاص من كرامتهم أو حقوقهم.
(2) حفظ المقاصد الشرعية والقيم الإسلامية: توظيف الذكاء الاصطناعي بما يتوافق مع مقاصد الشريعة مثل حفظ النفس والعقل والمال، وحماية القيم الإسلامية.
(3) النزاهة والشفافية: ضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بشفافية، مع اطلاع المستفيدين على كيفية استخدام بياناتهم ومنع إساءة الاستخدام.
(4) الخصوصية وحماية البيانات: حماية سرية المعلومات الشخصية للمستفيدين والمتبرعين، ومنع تسريبها أو استخدامها بطريقة غير مشروعة.
(٥) مراجعة المحتوى الدعوي: تدقيق المحتوى المتولد بالذكاء الاصطناعي لضمان ملاءمته للمنهج الإسلامي وتجنب الأخطاء في الرسالة.
(٦) تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص: منع التحيز وتمكين الفئات الأضعف والأكثر حاجة في المجتمع من الاستفادة.
(7) استخدامها فيما يرضي الله تعالى وليس فيما يغضبه، وهذا هو الذي نؤكد عليه من أول كلامنا، ولنذكر قول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] (3).
(8) توضيح ما هو واقعي حقيقي مما هو ملفق مُدَّعى؛ بمعنى ألا يصنع بالذكاء الاصطناعي ما يضاهي الشيء الحقيقي ثم يدعي أنه حقيقي، فإن الكذب لا يحل، وإن هذا غش وتدليس وخداع، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «ومن غشنا فليس منا» (رواه مسلم).
(9) ألا يُقحم الذكاء الاصطناعي فيما ليس له؛ كالإفتاء في الملمات والمسائل الخاصة... فـلا يجوز استفتاؤه أو الاعتماد على أجوبته في الأمور الشرعية؛ لأنه يفتقر إلى أهلية الفتوى من فقهٍ في الدين، وفهمٍ للواقع، وغيرها من الشروط، وأجوبته تُولّد آليًّا من بيانات قد تكون مجهولة أو مغلوطة (4).
وإننا نتوقع أن الذكاء الاصطناعي لن يستقر على وضعه الحالي، بل سوف يتوسع ويتطور ويدخل مجالات أكثر وأكثر، وسيصبح أكثر إتقانًا ودقة وأروع نتائجًا، وسيحقق إنجازات مبهرة، وستعتمد عليه كثير من الصناعات والاقتصادات والتجارات... هذا ما نتوقعه، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، وإننا لنسأله وهو العلي القدير أن يكون هذا الذكاء الاصطناعي باب خير وتقدم ورشد للأمة الإسلامية وسبب رشاد وهداية لأبنائها.
الذكاء الاصطناعي فتح دعوي مبين:
لقد فتح الذكاء الاصطناعي للدعاة أبوابًا كانت موصدة، ومكّنهم من بلوغ الآفاق، ومخاطبة العقول والقلوب في مشارق الأرض ومغاربها، دون سفرٍ ولا مشقة، فبضغطة زر، يمكن للداعية أن يُنتج مقطعًا مؤثرًا، أو مقالًا تربويًا، أو ردًا علميًا على شبهةٍ منتشرة.
ويمكنه أن يترجم خطابه إلى لغاتٍ متعددة، ويخاطب فئاتٍ لم يكن له بها عهد.
بل إن الذكاء الاصطناعي بات يُعين في تحليل اهتمامات الجمهور، واقتراح المواضيع المناسبة، وتحديد أنماط التفاعل، مما يُسهم في توجيه الخطاب الدعوي بذكاء ومرونة.
ومن أعظم فوائده أنه يُتيح للدعاة التركيز على الجوهر، ويُخفف عنهم أعباء التحرير والتنسيق، ويُسرّع من وتيرة الإنتاج الدعوي.
لكن هذا الفتح لا يُثمر إلا إذا اقترن بالإخلاص، وصُحّح بالعلم، وضُبط بالفقه، وإلا تحوّل إلى تزييفٍ للخطاب، أو تغريرٍ بالجمهور.
الذكاء الاصطناعي فتنة لمن غفل
ومع عظمة الفوائد، لا بد من التحذير من المخاطر، فإن الذكاء الاصطناعي قد يُصبح فتنةً لمن غفل عن ضوابطه، أو استعمله بغير علمٍ ولا بصيرة. فمن أبرز المخالفات الشرعية التي قد تقع في استخدامه:
توليد فتاوى شرعية دون الرجوع إلى أهل العلم، أو نشر محتوى ديني فيه أخطاء عقدية أو لغوية، أو استخدامه في صناعة خطب ومقالات تُنسب إلى الداعية دون مراجعة أو تدقيق.
وقد يُغري بعض الدعاة بالاعتماد عليه اعتمادًا كليًا، حتى يضعف اجتهادهم، ويخبو نورهم، ويُصبحون أسرى للآلة، لا أربابًا للعلم.
ومن المخاطر كذلك: تسطيح الخطاب الدعوي، وتحويله إلى شعاراتٍ سريعة، أو مقاطعٍ جذابة بلا مضمون، مما يُفقد الدعوة روحها، ويُحولها إلى استعراضٍ إعلامي.
ومع كل هذه الإمكانات، لا بد من الحذر؛ فالذكاء الاصطناعي ليس واعيًا، ولا يدرك القيم الإسلامية؛ لذا فإن تركَه دون رقابة أو مراجعة قد يؤدي إلى نشر محتوى غير صحيح، أو تقديم الإسلام بصورة مشوَّهة، ولا بد من التأكد من أن هذه الأدوات تخدم الحق، ولا تخضع لأهواء المطوِّرين أو مصالح الشركات.
وقد يُستخدم الذكاء الاصطناعي في تزييف الشخصيات، أو تقليد أصوات العلماء، أو نشر الشبهات بلبوسٍ دعوي، مما يُحدث بلبلة في صفوف الناس، ويُضعف الثقة في الخطاب الإسلامي.
الضوابط الفقهية والأخلاقية لاستخدامه:
إن استعمال الذكاء الاصطناعي في الدعوة لا يجوز أن يكون عشوائيًا، بل لا بد من ضوابط شرعية وأخلاقية تُنظم هذا الاستخدام، وتُحفظ به الأمانة الدعوية.
- ومن أهم هذه الضوابط: أن يُستخدم فيما يُعين على نشر الحق، لا في ما يُروج للباطل، وأن يُراجع المحتوى الناتج مراجعة دقيقة من أهل العلم، قبل نشره أو نسبته إلى جهة دعوية.
- كما يجب أن يُراعى فيه صدق النسبة، فلا يُنسب كلامٌ إلى عالمٍ أو داعيةٍ لم يقله، ولا يُستخدم في تقليد الأصوات أو الصور بما يُحدث لبسًا أو خداعًا.
- ويُشترط كذلك ألا يُستخدم في توليد الفتاوى أو الأحكام الشرعية دون إشراف علمي، فإن الفتوى توقيعٌ عن الله، ولا يجوز أن تُستخرج من آلةٍ لا تفقه المقاصد ولا تُدرك السياقات.
- ومن الضوابط أيضًا: أن يُراعى فيه حفظ الخصوصية، وعدم جمع البيانات الشخصية بغير إذن، وأن يُستخدم فيما يُرضي الله، لا فيما يُثير الجدل أو يُغري بالشهرة.
- وقد قرر العلماء أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فإن استُخدمت في الخير كانت خيرًا، وإن استُخدمت في الشر كانت شرًا، والذكاء الاصطناعي لا يخرج عن هذه القاعدة.
واجب الدعاة أمام هذا السلاح:
إنّ على الدعاة أن يكونوا روّادًا في توجيه الذكاء الاصطناعي نحو الخير، لا أسرى له، ولا غافلين عن مخاطره.
فهم أمناء على الدين، وحملة الرسالة، ولا يجوز لهم أن يُفرّطوا في الأمانة، أو يُسايروا التقنية بلا وعي. ومن واجبهم أن يتعلموا أدوات الذكاء الاصطناعي، ويُدركوا آلياته، ويُحسنوا توظيفه في خدمة الإسلام، دون أن يُغرقوا في تفاصيله أو يُفتنوا ببريقه.
كما يجب عليهم أن يُربّوا الناس على التمييز بين الحق والباطل، وأن يُعلّموا الجمهور أن الذكاء الاصطناعي أداة، لا مصدرًا للتشريع، ولا بديلًا عن العلماء.
ويُستحب أن يُطلقوا منصات دعوية ذكية، تُراعي الضوابط الشرعية، وتُقدم محتوىً نافعًا، وتُسهم في بناء وعيٍ إسلاميٍ رقمي.
ولا بد أن يُحافظوا على روح الدعوة: الرحمة، الصدق، الإخلاص، والتواضع، مهما تطورت الوسائل، ومهما تنوعت المنصات.
فإن الدعوة إلى الله أمانة، والذكاء الاصطناعي أداة، والأمانة لا تُؤدى إلا بوعيٍ، وعلمٍ، وخشيةٍ من الله.
التحديات الأخلاقية من منظور إسلامي:
على الرغم من الفوائد الكبيرة، يطرح الذكاء الاصطناعي تحديات أخلاقية تستدعي وقفة تأمل من منظور إسلامي:
التحيز والعدالة: إذا كانت البيانات التي يُدرب عليها الذكاء الاصطناعي تحتوي على تحيزات (دينية، عرقية، اجتماعية)، فإن الأنظمة ستُنتج قرارات متحيزة.
المنظور الإسلامي يؤكد على العدل والمساواة كقيمتين أساسيتين، مما يتطلب ضمان خلو خوارزميات الذكاء الاصطناعي من أي شكل من أشكال التحيز الذي يؤدي إلى الظلم أو التمييز.
الخصوصية والشفافية: يثير جمع وتحليل البيانات الضخمة مخاوف بشأن خصوصية الأفراد.
الإسلام يحرم التجسس وتتبع عورات الناس، ويؤكد على حفظ الأعراض وحرمة الأسرار.
يجب أن تُوضع آليات صارمة لضمان حماية البيانات الشخصية وشفافية استخدامها.
التوظيف والأثر الاجتماعي: مع تزايد أتمتة الوظائف، تُثار مخاوف حول البطالة وتأثيرها الاجتماعي.
الشريعة الإسلامية تحث على العمل والكسب الحلال، وتُشجع على التكافل الاجتماعي. لذا، يتوجب على المجتمعات إيجاد حلول لمعالجة أثر البطالة المحتملة، مثل برامج إعادة التأهيل والتدريب، وضمان العدالة في توزيع الثروة الناتجة عن التقدم التكنولوجي.
المسؤولية والتحكم: من يتحمل المسؤولية عند وقوع خطأ من نظام ذكاء اصطناعي؟ هل هو المبرمج، المالك، أم النظام نفسه؟ الإسلام يؤكد على المسؤولية الفردية والجماعية.
يجب وضع أطر واضحة لتحديد المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن أفعال الأنظمة المستقلة.
الاستقلالية والوعي: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصل إلى مرحلة الوعي الذاتي؟ وكيف يمكن التعامل مع كيان يتمتع بذكاء فائق دون وعي إنساني؟ المنظور الإسلامي يؤكد على تميز الإنسان بالعقل والإرادة والتكليف الإلهي، مما يُبقي الإنسان في مركز الصدارة ولا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محله في التكليف والعبادة.
إن الذكاء الاصطناعيَّ ليس بديلًا عن الداعِية، ولكنه مُعين له، وإن رسالتنا- نحن المسلمين- لا يمكن أن توكل إلى آلة دون بصمة بشرية تعبِّر عن صدق الإيمان وحرارة اليقين، فلنستخدم هذه الأداة بحكمة، ولنعلم أن الخير كله في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن العلم الحديث ما هو إلا وسيلة لتحقيق مراد الله في عمارة الأرض بالخير والهدى، ومحاربة الظلم والشرك والباطل.
إن أُمَّتَنا اليوم تقف على عتبة عصرٍ جديد، عصرٍ تفتح فيه التقنية أبوابًا لم تكن لتُطرق من قبل، وتوفر فيه أدوات لم يكن يتخيلها عقل بشرٍ قبل عقودٍ قليلة، ولكن كما أن السيف في يد الجاهل خطر، فإن التقنية في يد غير المخلصين أو غير المدركين قد تكون كارثة! إن الذكاء الاصطناعي ليس سوى وسيلة، ونحن أهل الإسلام أصحاب الرسالة الخالدة أحق الناس باستخدامه لنشر الخير، وهداية الحائرين، وإقامة الحجة على المعاندين، إن ديننا الذي بلغ الآفاق بالكلمة الطيبة والخطبة المؤثرة، قادر اليوم على أن يبلغ مشارق الأرض ومغاربها بأزرار تُضغط، وشاشات تُضيء، وأكواد تُكتب.
فيا دعاة الإسلام، لا تستهينوا بهذه الأداة، ولا تخشَوا منها، بل واجهوها بعزم الأنبياء وحكمة العلماء، ولنتذكر دومًا أن القلوب بيد الله، والهداية بيده وحده، وما نحن إلا أسباب، فاجعلوا من الذكاء الاصطناعي سلاحًا في معركة الدعوة، وجسرًا يعبُر عليه الهدى إلى كل قلب يبحث عن الحق.
واعلموا أن التحديات لن تنتهي، ولكن المؤمن الْمُوقِن بوعد الله لا تهُزُّه رياح، ولا تُرهبه مستجِدَّات؛ فكونوا كمن وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
***
---------------
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 371).
(2) الذكاء الاصطناعي وواقع الدعوة إلى الله/ موقع مجلة حواء.
(3) الذكاء الاصطناعي وأهميته في العمل الخيري والدعوي/ مجلة الفرقان.
(4) موقع الإسلام سؤال وجواب
