logo

المؤمن بين الأسباب ومسبّباتها


بتاريخ : الأحد ، 26 ذو الحجة ، 1441 الموافق 16 أغسطس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
المؤمن بين الأسباب ومسبّباتها

من حكمة الله تعالى أنه خلق الأسباب وسبَّبها وأوجد مسبَّباتها، فجعل النكاح سببًا للولد، والبذر سببًا للزرع، وجعل شرب الماء سببًا للري، وجعل الأكل سببًا للشِّبَع، وجعل الجد والاجتهاد سببًا للنجاح، وجعل الكسل والتواني سببًا للفشل، وجعل النار سببًا للإحراق، وجعل قطع الرأس سببًا للموت وهكذا.

فالأسباب هي: الوسائل لحصول المطلوب، أو هي ما يتوصل به إلى غيرها، ومسبباتها هي: النتائج الحاصلة عند الأخذ بها.

فالأكل سبب، والشبع الحاصل عن الأكل هو المسبب، أي النتيجة الحاصلة عن الأكل، والمذاكرة سبب للنجاح، والنجاح هو المسبب والنتيجة، وهكذا.

والله هو مسبب الأسباب، أي جاعلها بحكمته أسبابًا مفضية إلى نتائجها.

ولفظ السبب ورد في القرآن على أربعة معان:

فجاء لفظ السبب بمعنى الباب، وبه فُسر قوله سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} [غافر: 36]، أي: أبواب السموات؛ وهذا مروي عن قتادة، ونحو هذا قوله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} [ص: 10]، أي: إن كان لهم ملك السموات والأرض وما بينهما، فليصعدوا في أبواب السماء وطرقها.

عن مجاهد، قوله: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} قال: طرق السماء وأبوابها (1).

ويجوز أن يكون أراد الهواء، الذي هو سبب لصعود الملائكة إلى السماء، يمدون فيه أجنحتهم فيصعدون، وهذا على جهة التعجيز للكفار المخاطبين بهذه الآية، والإخبار بأنهم يُغلبون، ولا يتم أمرهم، والشاهد على صحة هذا قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11].

وجاء لفظ السبب بمعنى المنزل والطريق، وبه فُسر قوله عز وجل: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} يعني بالسبب المنزل (2).

وعن مجاهد، قال: منزلًا وطريقًا ما بين المشرق والمغرب، وقال قتادة: اتبع منازل الأرض ومعالمها (3)، ومثل هذا أيضًا قوله سبحانه: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89]، يعني: ثم سار طرقاً ومنازل، وسلك سبلًا حتى بلغ مقصده الذي أراد.

أما قوله تعالى: {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37]، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالأسباب هنا: منازل السماء.

وروي عن قتادة أن المراد: الأبواب، أي: أبواب السموات (4).

قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابًا أتسيب بها إلى رؤية إله موسى، طرقًا كانت تلك الأسباب منها، أو أبوابًا، أو منازل، أو غير ذلك (5).

وجاء لفظ السبب بمعنى العلم، وبه فُسر قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، أي: آتيناه من كل شيء، يعني ما يتسبب إليه، وهو العلم به، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وجمهور التابعين (6).

ولم يأت لفظ السبب وفق هذا المعنى في القرآن الكريم سوى في هذه الآية.

وجاء السبب بمعنى الحبل، وبه فُسر قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في المراد من الآية: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا، فليربط حبلًا في سقف، ثم ليختنق به حتى يموت (7).

ومعنى الآية كما ذكر المفسرون: من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا، فيوسع عليهم من فضله فيها، ويرزقهم في الآخرة من سَني عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه: إما سقف بيت، أو غيره مما يعلق به الحبل من فوقه، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله، فاستعجل انكشاف ذلك عنه، فلينظر هل يذهبن كيده اختناقه كذلك ما يغيظ، فإن لم يُذهب ذلك غيظه؛ حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه، فكذلك استعجاله نصر الله محمدًا ودينه، لن يؤخر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته، ولا يعجل قبل حينه. وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي جاء فيه لفظ السبب بمعنى الحبل.

أما قوله عز من قائل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، فقد قيل في المراد بـ {الْأَسْبَابُ} هنا أقوال؛ فعن مجاهد: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: الوصال الذي كان بينهم في الدنيا (8).

وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بـ {الْأَسْبَابُ} في الآية: المودة.

وعن قتادة أن المراد بـ {الْأَسْبَابُ} هنا: أسباب الندامة يوم القيامة، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها.

وقال آخرون: بل معنى {الْأَسْبَابُ} المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا.

وروي عنه أيضًا أن المراد بـ {الْأَسْبَابُ} هنا: الأرحام.

وعن السدي وابن زيد أن المراد بـ {الْأَسْبَابُ} الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.

وقد ذهب الطبري بعد أن سرد الأقوال التي قيلت في المراد بـ {الْأَسْبَابُ} في الآية إلى أن الصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ظلموا أنفسهم -من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ -عند معاينتهم عذاب الله- المتبوع من التابع، وتتقطع بهم الأسباب. وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بعضهم يلعن بعضاً، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، وأخبر تعالى ذكره أن {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا، فقال تعالى ذكره: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} [الصافات: 24- 25]، وأن الرجل منهم لا ينفعه نسيبه، ولا ذو رحمه، وإن كان نسيبه لله وليًّا، فقال تعالى في ذلك: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]، وأخبر تعالى ذكره أن أعمالهم تصير عليهم حسرات.

وكل هذه المعاني (أسباب) يُتسبب في الدنيا بها إلى مطالب، فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به؛ لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها.

فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفَعَهم عند ورودهم على ربهم، ولا عبادتهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم، ولا دافعت عنهم أرحام، فنصرتهم من انتقام الله منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات.

فكل أسباب الكفار منقطعة، فلا معنى أبلغ -في تأويل قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، من صفة الله ذلك، وذلك ما بينا من تقطع جميع أسبابهم دون بعضها (9).

فحاصل القول إذن: إن لفظ (السبب) في القرآن الكريم جاء على أربعة معان: الباب، والطريق والمنزل، والعلم، والحبل (بالمعنى المادي أو المجازي).

وقد تبين أن المفسرين تعددت أقوالهم في تحديد المراد من بعض ألفاظ الآيات التي ورد فيها لفظ (السبب)، بيد أن هذا التعدد في المحصلة لا يخرج عن هذه المعاني الأربعة (10).

الأخذ بالأسباب سنّة الأنبياء وسلوك الصالحين:

فهذا نبيّ الله نوح يصنع سفينة لحمل المؤمنين معه ومن كل زوجين اثنين كما أمره الله، وأخذ بالأسباب مع عدم وجود الماء؛ ثقة في قدرة من كلّفه بذلك وأمره، ونجاه الله ومن معه على السفينة وما آمن معه إلا قليل.. وقال ربنا: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13].

وتلك العذراء البتول مريم -عليها سحائب الرحمة وكمال الرضوان- تُؤمر بهز جذع النخلة -وهي المحمّلة بأثقال نفسية على إثر حملها بلا زوج- ثم يُطعمها الله ويسقيها لأنها أخذت بالأسباب فتحركت وسعَت وعوّضها الله.

وهذا نبيّ الله موسى عليه السلام يضرب البحر بعصاه؛ استجابة لأمْرِ ربه حين أمره، وجعلها الله سببًا لنجاته ومن معه من قومه حين صدّقوه -ولو كان تصديقًا مؤقّتًا- كما سبق أنّه أُمِر بضـرب الحجر بالعصا؛ لتنفجر عيون لقومه من باطن الحجارة، فضرب بعصاه، قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْـرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْـرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] فقد جُعل الضـرب بالعصا سببًا في تفجّر الماء.

وقصة الخضر عليه السلام مع نبي الله موسى عليه السلام واضحة في الكتاب المجيد؛ في مسألة خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار نرى بعيوننا أثر الأخذ بالأسباب كما بيّنت آيات القرآن الكريم.

وهذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم عاش حياته كلها متوكلًا على الله حقًّا مع أخذه بالأسباب في كل مرحلة من مراحل حياته وتاريخها؛ ففي يوم الهجرة علّمنا بخطته المحكمة كيف يكون الأخذ بالأسباب، حيث خطّط لكل لحظة في حدث الهجرة، فأسماء مسئولة الطعام والتموين، وابن أبي بكر مسئول السر ونقله من مكة، وعليّ يبيت مكانه في فراشه ليلة الهجرة، وعامر بن فهيرة يزيل بغنماتِهِ آثار الأقدام المترددة على غار ثور، وعبدالله بن أُرَيْقط كان دليلًا للرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى المدينة عبر الطُّرق الوعرة التي لا يقصدها تجار قريش؛ أخذًا بالأسباب، وحتى لا يكون للمشـركين فرصة في الإمساك به.

وهكذا وجدناه -مع أنه نبي ومعصوم ومؤيَّد- يضع الخطة ويموّه على من خرج باحثًا عنه ويستخدم أمْهر الأدلّة – عبد الله بن أريقط - الذين يعرفون الطُّرق ويحرص على تواصل خطوط إمداده بالغذاء والمعلومات، وهو مع كل ذلك لا ينسى أن الله تعالى معه يؤيده وينصـره {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

وفي غزواته صلى الله عليه وسلم وجدناه يخطط ويأخذ بالأسباب ويحدّد المهام ويوزّع الأدوار؛ أخذًا بالأسباب؛ ففي يوم بدر يأخذ بالأسباب في المكان والزمان، ويأخذ برأي الحُباب بن المنذر - إن صحّت الرواية - في موقع المعركة، وأخذ برأي سعد بن معاذ في صناعة عريش له يُتابِع من خلاله المعركة، وفي يوم أُحُد يشير إشارات واضحة لأصحابه الرُّماة في الالتزام بالجبل دون النزول مِن على ظهره، وأكّد ذلك بقوله: «لا تنزلوا وإن رأيتمونا تتخطّفنا الطير»، وفي يوم الخندق يأمر بحفر الخندق -آخذًا بالاقتراح الفارسي للمسلم سلمان رضي الله عنه- وإنقاذًا للمدينة من هجمات الأحزاب ومن ناصرَهُم.

ضوابط الأخذ بالأسباب:

1- الإخلاص لله تعالى في الأخذ بالأسباب، مع اليقين بأن من وراء الأسباب مسببها؛ وهو الله تعالى؛ فلا بد من اليقين بأنه صاحب الكون والمُلْك والتحكّم في هذا الكون كله. فيلزم اليقين قدرته سبحانه، قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

2- مشروعية الأسباب التي تأخذ بها للوصول للنتائج؛ فالغايات الشـريفة لا يصلح إلا الأسباب والوسائل النبيلة الشريفة، فالذي يريد أن يبني لله مسجدًا، لا يحل له أن يبنيه بمال مسروق أو مُغتَصَب، وهذا الذي يريد أن يترقّى في عمله ووظيفته، لا يحل له أن ينافق ويداهن مَن علاه في المنصب ليتزلّف من أجل المنصب الذي يريد.. فمع شرف الغاية لا بد من شرف الوسيلة والسبب الذي يأخذ به المسلم.

3- عدم الركون إلى القضاء والقدر - وحده - دون حركة وسعي؛ فهذا من الجهل الذي أوردنا المهالك وأخرجنا من العز إلى المذلّة والهوان. ولذا كانت الأوامر الإلهية واضحة -كما تعلم أخي الكريم- في الانتشار والسعي؛ فقد ورد في سورة الجمعة قوله سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِـرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

4- الأخذ بالأسباب يكون على قدْر كلّ فعل وعمل؛ مع مراعاة فقه الأولويات في الأخذ بالأسباب، ومراعاة مآلات الأمور، كأخذه صلى الله عليه وسلّم بسبب كتابة المعاهدة بينه وبين المشـركين يوم الحُديبية لنظره إلى المستقبل القريب والبعيد، وقد جاء النصر والفتح الكبير من وراء ذلك.

5- البعد عن المعاصي المعطّلة لثمرات الأخذ بالأسباب؛ فتزوّد العبد بالأسباب يلزمه التقوى، قال عز وجلّ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وكمثل الذي يعمل ويعمل ثم هو يأكل حرامًا، فيرفع يديه للسماء يدعو، فأنّى يُستجابُ له!! ومما يؤكّد على ذلك ما ورد عند مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» (11) (12).

تأثير السبب في المسبب:

إن من الأسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرته؛ مثل الوطء سبب الولد، والقاء البذور سبب للزرع، والأكل سبب للشبع، وشرب الماء سبب للري، ومن الأسباب ما يجادل فيه بعض الناس مثل اتباع شرع الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة والخروج على هذا الشرع سبب للشقاوة في الدنيا والآخرة، والدعاء سبب لدفع المكروه ونوال المطلوب.

ومن الأسباب ما يخفى على كثير من الناس؛ مثل أسباب الأحداث الاجتماعية، وما يصيب الأمم من عز وذل، وتقدم وتأخر، ورخاء وشدة، وهزيمة وانتصار ونحو ذلك، فهذه الأحداث لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج، ولا يمكن تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها، فهي كالأحداث الطبيعية من تجمد الماء وغليانه ونزول المطر، فهذه أحداث لها أسبابها التي قدّرها الله، فمتى تحققت هذه الأسباب تحققت هذه الأحداث، وكل الفرق بينها وبين الأحداث الاجتماعية أن الأولى أسبابها منضبطة، ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا عرفت أسبابها، أما الثانية، أي الأحداث الاجتماعية؛ فإن أسبابها كثيرة جدًا، ومتشابكة ويصعب الجزم بوقت حصول نتائجها وإن أمكن الجزم بحصول هذه النتائج، والشرع دلنا على هذا القانون العام، قانون السبب والمسبب في نصوص كثيرة، والمقصود أن ما قدّره الله وقضاه إنما قدّره بأسباب، فمن أراد الحصول على نتيجة معينة فلا بد من مباشرة السبب المفضي إليها (13).

والناس في الأسباب ثلاثة:

1- مَن يُنكر الأسباب، وهم بعض الضالين المنحرفين، ومن اعتقد أنها مؤثرة بنفسها من دون الله تعالى فهذا شركٌ أكبر، ومن اعتقد أن شيئًا له سبب وليس بسبب؛ فقد وقع في الشرك الأصغر.

2- مَن لم ينكر الأسباب، ولم يجعلها مؤثرة بنفسها، بل بالله تبارك وتعالى، وهذا هو شأن المؤمن؛ فالذي علّق تميمة أو ربط على يده شيئًا، وقال: تحفظني من كذا، أو علق عظامًا أو وضع شعر الذئب فإن ظن أنها مؤثرة بنفسها؛ فقد أشرك شركًا أكبر.

3- ومن ظنّ أن الأسباب ليست مؤثرة بنفسها؛ فقد وقع في الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سببًا، وكأنه أصبح أعلم من الله تبارك وتعالى به.

 ومعرفة الأسباب تكون إما عن طريق الشرع أو التجربة الصحيحة؛ أما أن تُبْنَى على خزعبلات وتوهّمات واعتقادات ليس لها أساس؛ فهذا ضلال مبين، ولذلك تجدون من يعلّق التمائم والتعليقات يتوهّم أنّها تنفع أو تضرّ، والتمائم محرمة ويجب الامتناع عنها.

إن سنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب، كما فعل ذلك أقوى الناس إيمانًا بالله وقضائه وقدره وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد قاوم الفقر بالعمل، وقاوم الجهل بالعلم، وقاوم المرضى بالعلاج، وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد وكان يستعيد بالله من الهم والحزن، والعجز والكسل، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل»، وقال: «وفر من المجذوم فرارك من الأسد» (14).

وما غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم المظفرة إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة الله وقدره، فقد أخذ الحذر وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، أعد الرواحل التي يمتطيها والدليل الذي يصحبه وغير ذلك الطريق، واختبأ في الغار، وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين.

ولهذا يذهب ابن القيم إلى: أن الدين هو إثبات الأسباب والوقوف معها والنظر إليها، وأنه لا دين إلا بذلك كما لا حقيقة إلا به، فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها -أي الأسباب- لا على محوها، ولا ننكر الوقوف معها، فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم، لا يتم إسلامه وإيمانه إلا بذلك الإيمان، وبالأسباب عرف الله وبها عبد الله، وبها أطيع الله وبها تقرب إليه المتقربون، وبه نال أولياؤه رضاه، وجواره في جنته، وبها نصر حزبه ودينه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه، وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي، فالوقوف معها، والالتفاف إليها، والنظر إليها، هو الواجب شرعًا، كما هو الواقع قدرًا (15).

إن قدر الله حق وقدر الله نافذ، ولكنه ينفذ من خلال السنن التي أقام الله عليها نظام الكون، من خلال الأسباب التي خلقها سبحانه وشرعها، وليستقيم عليها أمر الوجود ونظام التكليف، فهذه السنن والأسباب جزء لا يتجزأ من قدر الله الشامل المحيط.

القرآن الكريم حافل بالآيات التي توجب على المسلمين الأخذ بالأسباب في شتى مناحي الحياة والعمل على استقصاء تلك الاسباب للوصول إلى المراد، خاصة في تلك المواقف الصعبة التي تواجه الأمم والأفراد، ومن النماذج القرآنية في هذا الصدد، قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتمامًا كبيرًا بإرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى بمفهومها الشامل وقد قال الأصوليون: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وفي قوله: {مَّا اسْتَطَعْتُم} قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا يقعد المسلمون عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقاتها، والمراد بالقوة هنا: ما يكون سببًا لحصول القوة ولهذا: قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما تتقوى به على حرب العدو وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة.

وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية الكريمة على المنبر وقال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثًا (16)، وهذا لا ينفي كون غير الرمي معتبرًا كما قوله: «الحج عرفة».

إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين، سنة الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على أفراد الأمة وقادتها العاملين للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها، وإنزالها على أرض الواقع.

إن الله عز وجل أمرنا بالإعداد الشامل في قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}، وإعداد القوة في حقيقته الأخذ بالأسباب الشاملة، كقوة العقيدة والإيمان، وقوة الصف والتلاحم، وقوة السلاح والساعد، إن الآية الكريمة تضع إذهان المسلمين على الإعداد الشامل المعنوي والمادي، والعلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات وتدخل في طياتها الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي والسياسي والأمني والعسكري (17).

ينبغي في الأسباب مُراعاة ما يلي:

أ - لا بُدَّ أنْ يكون السببُ سببًا حقيقيًا وهو الذي ثَبَتَ أنّه سببٌ شرْعًا أو حِسًّا.

ب - أنّ الأسبابَ مهْما عظُمتْ لا تأثير لها إلا بإذن الله.

فالنارُ مُحْرِقة وسُلِبتْ هذه الخاصّيةُ في إبراهيمَ حينما قال الله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

والبحْرُ مُغْرِقٌ وسُلِبتْ مِنْه هذه الخاصّية في موسى حينما قـال الله تعـالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].

وقال الشيخ ابن عثيمين:

الحادثُ بسببٍ معلوم له صُوَر:

الصورة الأولى: أنْ يُضيفه إلى الله وحْده.

الصورة الثانية: أنْ يُضيفه إلى الله تعالى مَقْرونًا بِسببه المعلوم مثل أنْ يقول: لولا أنّ الله أنْجاني بِفلانٍ لغرِقْتُ.

الصورة الثالثة: أنْ يُضيفه إلى السبب المعلوم وحْده معَ اعتقاد أنّ الله هو المُسَبِّب، ومِنْه قَوْلُ النبيِّ في عمِّهِ أبي طالب لمَّا ذكَر عذابه: «لَوْلا أنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِن النَّار» (18).

الصورة الرابعة: أنْ يُضيفه إلى الله مقْرونًا بالسبب المعلوم بـ «ثُمَّ» كقولـه: لولا الله ثُمَّ فلان، وهذه الأربع كلُّها جائزةٌ.

الصورة الخامسة: أنْ يُضيفه إلى الله وإلى السبب المعلـوم مقْرونًا بالوَاوِ؛ فهذا شِرْكٌ، كقوله: لولا الله وفلان.

الصورة السادسة: أنْ يُضيفه إلى الله وإلى السبب المعلوم مقْرونًا بالفاء، مثل: لولا الله ففلان؛ فهذا محلُّ نظر: يحتملُ الجوازَ، ويحتملُ المنْعَ.

الصورة السابعة: أنْ يُضيفه إلى سبب مَوْهُوم ليس بثابتٍ شرْعًا ولا حِسًّا فهذا شِرْك (19).

فقضية السببية تتعلق بمسألتين:

الأولى عقدية: وهي استصحاب قدرة الله تعالى مع كل فعل وعمل، وأن الله تعالى هو المؤثر في الأشياء تأثيرًا ذاتيًا، وهي عقيدة المسلم ولا أظن أن مسلمًا يمكن أن يقول بخلاف ذلك، ونحن نتعامل مع الأسباب الظاهرة بيقين جازم أنها مظاهر وأسباب جعلها الله تعالى في الكون، فأذهب إلى الطبيب بهذا الاعتقاد، وأسأل الله أن يكون سببًا من أسباب شفائي، وأبذل جهدًا في أعمالي منتظرًا توفيق الله تعالى وخلقه لأسباب النجاح والتفوق، وبذلك تكون عقيدتي سببًا من أسباب القوة، مع عقيدة لا يشوبها اعتماد على الأسباب بل على رب الأسباب، وليس فيها تأليه لأي سبب من الأسباب المادية التي هي في حقيقتها جند من جند الله تعالى، تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وتخضع لإرادته، فالمؤمن يتجه في إيمانه وعبادته لمن يسخر الأسباب وللقادر على سلبها تأثيرها في الأشياء.

الثانية: سلوكية: عقيدتي بأن الأسباب لا تؤثر بذاتها لا يعني أبدًا التواكل وترك الأسباب، بل سلوكي لا بد أن يكون منضبطًا ومنسجمًا مع الأسباب، إذا مرضت أذهب للطبيب، وإذا جعت أتناول الطعام، وإذا عطشت أشرب الماء، وإذا احتجت المساعدة طلبتها من القادرين عليها، وإذا أردت النجاح سعيت له، والفرق بيني وبين المادي أنني في كل ذلك أعتمد على رب الأسباب، أسعى للنجاح وأطرق أبوابه، ويقيني بأن الله تعالى هو الذي قدر الأسباب والمسببات وربط بينها برباط جعلي، دعاني للعمل ودعاني للنجاح ودعاني لعمارة الكون، مع عقيدة راسخة في قلبي لا تغفل عن الأسباب وتأثيراتها الجعلية، كما تراعي في كل عمل أن الله تعالى قادر على كل شيء، وقادر على فك الترابط بين الأسباب ومسبباتها.

فترك الأسباب اعتمادًا على أن الله بيده كل شيء وأنه مسبب الأسباب؛ تواكل.

والأخذ بالأسباب مع اعتقاد تأثيرها الذاتي نوع من الشرك أو تأليه مظاهر الطبيعة (20).

_____________________

(1) تفسير الطبري (21/ 156).

(2) تفسير ابن كثير (5/ 191).

(3) نفس المصدر.

(4) تفسير ابن فورك (2/ 360).

(5) تفسير الطبري (21/ 386).

(6) تفسير الطبري (18/ 94).

(7) تفسير الطبري (18/ 581).

(8) تفسير الطبري (3/ 289).

(9) تفسير الطبري (3/ 290- 293).

(10) لفظ السبب في القرآن/ إسلام ويب.

(11) أخرجه مسلم (1015).

(12) الأخذ بالأسباب بين النظرية والتطبيق/ موقع الجمعية الشرعية.

(13) فقه الموازنة بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله/ علي الصلابي.

(14) صحيح الجامع (7530).

(15) مدارج السالكين (3/ 377).

(16) أخرجه مسلم (1917).

(17) الأخذ بالأسباب في القرآن الكريم/ إسلام أون لاين.

(18) أخرجه البخاري (3883).

(19) تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (1/ 218).

(20) السببية في القرآن الكريم/ ملتقى أهل التفسير.