صناعة الأمة القارئة
اقرأ، هي بدايةُ الرسالة، ومفتاح الهداية وسر السعادة.
اقرأ، شهادة ميلاد أمة، وبناء حضارة، وصناعة ثقافة.
اقرأ، نبوءة لهذه الأمة بالسيادة والريادة والصعود للقمة.
اقرأ، لعل آخرون اتبعوا سبيلك وطريقك فكنت سببًا في خلاصِهم وتحريرهم.
والقراءة هي طريق العلم، ولولا القراءة لم يتعلم الإنسان ولم يحقق الحكمة من وجوده على هذه الأرض؛ وهي عبادة الله وطاعته وعمارة هذه الأرض.
كما أنها من أقوى الأسباب لمعرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبب لاكتساب الأخلاق الحميدة والصفات العالية والسلوك المستقيم، وسبب لمعرفة الإنسان لما ينفعه ولما يضره في هذه الحياة من العلوم، وسبب لرفعة الإنسان في هذه الحياة وفي الآخرة، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
والقراءة تنقلنا من عالم ضيق محدود الأفق إلى عالم آخر أوسع أفقًا وأبعد غاية.
إن القراءة تفيد الإنسان فـي حياته؛ فهي توسع دائرة خبراته، وتفتح أمامه أبواب الثقافة، وتحقق التسلية والمتعة، وتكسب الطفل حسًا لغويًا أفضل، ويتحدث ويكتب بشكل أفضل، كما أن القراءة تعطي الطفل قدرة على التخيل وبعد النظر، وتنمي لدى الطفل ملكة التفكير السليم، وترفع مستوى الفهم، وقراءة الطفل تساعده على بناء نفسه وتعطيه القدرة على حل المشكلات التي تواجهه.
وللقراءة فوائد متعددة، وثمرات كثيرة؛ القراءةُ تزيد العلم وتنمِّيه، تنفي الجهل وتقلِّله، تقوِّي الذاكرة، تنضج العقل وتكمله، تنقل لك التجارب والخبرات، تطلق لسانك، وتثري لغتك، تكشف لك الأسرار، تختصر لك الزمان والمكان، تعوضك عن الرحلة للطلب والسفر، فيها العظة والعبرة، تسليك في الوحدة، تطرد عنك الهم والسأم، القراءة تريحك من جليس السوء، تجدد المعلومات، تمنعك من الوساوس والأمراض النفسية، تملأ بها فراغك فيما ينفع وتحفظ وقتك، تضفي عليك المهابة والملاحة، ترفع همتك لتحصيل الفضائل، تعلي من قيمتك وقدرك، تحبب الناس في مجالستك والاستفادة منك، القراءةُ تمنعك من الأخلاق السيئة، تعيش حياة هادئة جميلة بعيدًا عن المنغِّصات، تستفيد من عقول العلماء وعلومهم، تتعظ بما حصل للناس من خير وشر، تبتعد عن الفتن، تنمي مهاراتك على الكتابة والتأليف، تحبب إليك لقاء الله تعالى وتزيد الإيمان، تنشطك للعبادة والطاعة، وتحفزك لفعل الخير، تعلمك الأخلاق الحسنة والقيم النبيلة، تهدي لك فوائد أغلى من الذهب والفضة، تحل لك الأسئلة والإشكالات، وتصحح الأفكار، تكشف لك الدنيا على حقيقتها، تتعرف على المذاهب والمدارس الفكرية (1).
لذا فقد اهتم العلماء بالقراءة، ووضعوا الكتاب في أرفع وأعلى الغايات، فقد جعلوه أنيسًا وصديقًا ورفيقًا.
قال الجاحظ: الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم القرين ببلاد الغربة، قبر الأسرار وحرز الودائع وقيد العلوم، وينبوع الحكم ومعدن المكارم ومؤنس لا ينام، يفيدك علم الأولين ويخبرك عن كثير من أنباء الآخرين، هل سمعت في الأولين أو بلغك عن أحد من السافلين، من جميع هذه الأوصاف مع قلة مؤنته وخفة محمله؟ لا يرزءك شيئًا من دنياك، جليس لا يضرك ورفيق لا يملك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر، إن أدمت النظر إليه أطال إمتاعك وشحذ طباعك، وبسط لسانك وجود بنانك وفخم ألفاظك، إن ألفته خلد على الأيام ذكرك، وإن درسته رفع في الخلق قدرك، يقعد العبيد مقاعد السادة، ويجلس السوقة مجالس الملوك، فأكرم به من صاحب وأعزز به من مرافق (2).
ولو لم يكن من فضله عليك إلا حفظه لأوقاتك فيما ينفعك وصونها عما يضرك من فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة ومجالسة من لا خير فيهم، لكان في ذلك على صاحبه أسبغ نعمة وأعظم منة، فالكتاب صديق يقطع أوقات فراغك في مؤانسة تنجيك من الوحدة المملة، كما ينقل إليك أخبار البلاد النائية فتعرف أنباءها كما تعرف أنباء بلدتك (3).
القراءة مفتاح العلم، بل مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وأمة لا تقرأ أمة لا تعرف حاضرها من مستقبلها، أمة لا تأخذ عبرة من ماضيها، ولا تمتد جذورها إلى أصولها، أمة لا تقرأ أمة قد ماتت وكبر الناس عليها أربعًا.
من المقطوع به أن الأمم الفاعلة في التاريخ هي الأمم القارئة الممسكة بتلابيب المعرفة، فعندما دخل الصليبيون المدن الإسلامية في الأندلس، إلى قرطبة وإلى غرناطة وطليطلة وأشبيلية، كان من أول أعمالهم أن أخذوا الكتب من بطون المكتبات وحرقوها في الشوارع، كتب علمية وليست كتب عقيدة إسلامية فقط، وكأنهم يريدون أن ينزعوا عن هذه الأمة أسباب قوتها.
فهم يروا أن هذه الأمة قوية أمامهم وانتصرت عليهم سابقًا، وعندما بحثوا وحللوا واستعانوا بالمفكرين ليخبروهم لما انتصرت عليهم، فردوا ذلك إلى قضية العلم، وجاء المستعمرون الجدد وكانوا أذكى ممن سبقهم، فمن سبقوهم أحرقوا الكتب وأغرقوها، لكن هؤلاء سرقوا الكتب.
كان العرب في الجزيرة أمة أمية، والكتابة والقراءة فيها نادرة، ومع تنزّل القرآن الكريم بدأ الانقلاب الثقافي في حياة العرب، كيف لا؟ وأول آية فيه أمرت بالقراءة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1- 5]، وهذه القراءة تهدي إلى استحضار عظمة الخالق وتبصّر صنعته، بدء من دقائق العلقة إلى عجائب المجرة، وهي تقود حتمًا إلى القرب منه تبارك وتعالى، كما دلّ على ذلك ختام السورة {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وأما القراءة المقطوعة عن اسم الله تعالى فإنها تقود إلى الضلال والعماية كما كان شأن اليهود: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 87]، فهؤلاء القارئون المطبوعة قلوبهم على الغي والضلال شأنهم شأن البهائم العجماء: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].
إن الانقلاب الثقافي الذي أحدثه الإسلام في بحر الجاهلية العربية كبير جدًا، حيث صارت القراءة والكتابة شيئًا معهودًا، بل وعادة مستقرة مع الزمن، ومرجع ذلك الفرائض الدينية المستلزمة لحفظ ما تيسر من القرآن في الصلاة، مما لا ينوب به أحد عن أحد، على خلاف ما كانت عليه أوروبا في أيام سيطرة الكنيسة المحتكرة للعلم والمعرفة، حيث ظل القساوسة ينوبون عن المسحوقين من الفقراء والأقنان في أداء صلواتهم وقراءة التراتيل بدلًا عنهم، وما على هؤلاء إلا دفع ما يتوجّب عليهم لغفران ذنوبهم، ثم انصرافهم إلى أعمال الحرث والزرع، ولم يكن يجرؤ على قراءة الكتاب المقدس المكتوب باللاتينية أو اليونانية إلا رجال الدين، حتى أن الكنيسة كفّرت “مارتن لوتر” وحرمته لأنه ترجم الإنجيل إلى الألمانية، وجعله ميسرًا مقروءًا للعامة.
تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم مسألة القراءة والكتابة في حلق السابقين، ائتمارًا بالأمر القرآني: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 8]، فأمر المسلمين بالقراءة، وحِفظ ما تيسّر مما تصح به الصلاة، وحضّهم على التسابق في التحصيل، لأن الرفعة العلمية تقتضي الرفعة الإيمانية: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وقد وعى المسلمون مرامي القرآن من صناعة الأمة القارئة الكاتبة، وهم يقفون على أطول آية في القرآن وهي أية الدين، ويقال إنها من آخر ما نزل، وقد وردت فيها ألفاظ الكتابة والاستملاء اثني عشر مرة.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى معارضيه من أهل الكتاب بالقراءة، واستحضار زبر الأولين للاستدلال على نبوته وصدق دعواه، ونقرأ ذلك في آيات كثيرة منها: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، ومحاجته للمشركين بهذا التحدي: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
لقد ترجمت السنة النبوية الأمر بالقراءة إلى واقع عملي، فأعلت من شأن القلم والقراءة والقراء والعلماء والحفاظ، ومن السنة نقرأ حديث عبادة بت الصامت عنه عليه الصلاة والسلام: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» (4)، ويكفي استذكار القسم العظيم بالقلم في سورة سميت باسمه، وهي الثانية نزولًا على المشهور من الأقوال.
كما أعلى النبي صلى الله عليه وسلم من شأن القراءة والكتابة، فجعل فداء بعض الأسرى في بدر تعليم شباب المسلمين، وكان هذا الفعل نواة للكتّاب، ومن هؤلاء الذين تعلموا من أسرى بدر زيد بن ثابت رضي الله عنه، والذي استكمل دراساته بتعلم اللسان السرياني والعبري في بضعة أيام لنباهته وذكائه، وفي الحديث عنه، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود قال: «إني والله ما آمن يهود على كتاب» قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم (5)، وفي حديث آخر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم السريانية (6).
وتجلى الأمر في إنشاء هيئة كتاب الوحي، الذين بلغوا أربعين كاتبًا، وينضاف إليهم كتاب الرسائل والعهود، وكان هؤلاء نواة لنظام الدواوين الذي يقتضي عشرات الكتاب المهرة الذين تقوم عليهم أركان الدولة.
ولم يكن الأمر مقصورًا على الرجال، فقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم النساء إلى ذلك، ففي حديث الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: «ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة» (7).
ولتوطين الشعور بأهمية القراءة وحفظ العلم سنّ رسول الله القنوت عند نزول مصيبة بالعلم والعلماء، فعن أنس يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا يدعون القراء، فمكث شهرًا يدعو على قتلتهم (8).
وكان عليه الصلاة والسلام يقدم في الجنازة والدفن القراء على غيرهم، وإذا أخرج سرية أو بعثًا أمّر عليهم أكثرهم أخذًا للقرآن الكريم، وبرزت ظاهرة القراء منذ العهد النبوي، وكان هؤلاء هم حملة الوحي وحراس الشريعة، وبمقتل جمعًا منهم في معركة اليمامة ضد مرتدي بني حنيفة كان مشروع كتابة المصحف الشريف الأول.
واستمر الخلفاء على هذه السيرة في تقديم أولي العلم والقراءة على غيرهم، ففي وصف إدارة عمر بن الخطاب نقرأ: وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا (9).
ظلت الحضارة الإسلامية حضارة القلم والكتاب، وتبارى المسلمون في صناعة الأمة القارئة طوال ألف سنة، فانتشرت الكتاتيب والجوامع والمدارس والمكتبات، وبرزت ظاهرة الرحلة في طلب العلم والكتب، وانتشرت حوانيت الوراقين والنساخين، التي كان يكتريها الذين قصرت أيديهم عن امتلاك الكتب، ولتجاوز ذلك أبدع المسلمون حكامًا وأغنياء وعلماء في تأسيس المكتبات وترجمة الكتب، ويورد أصحاب الفهارس والطبقات أرقامًا خيالية لأعداد الكتب في قرطبة والقاهرة وبخارى والري ونيسابور، وبغداد التي كان صبيانها يعرفون القراءة والحساب، في حين لم يكن لدى الملك شارلمان الفرنسي إلا كاتبان في بلاطه، ولم يكن لدى لويس العاشر إلا مائة كتاب يباهي بها ملوك أوروبا، في حين فإن أقل عالم مسلم يملك أضعافها.
كيف العود إلى القراءة، والأرقام والإحصاءات فاضحة ومزعجة في عالمنا العربي، الذي بلغ متوسط القراءة فيه سبع دقائق، مقارنة بمائتي ساعة للآخر الغربي، حتى ذاعت العبارة «إن أمة اقرأ لا تقرأ» لا حل لهذه السوءة إلا بالكرّ وإعلاء النكير ورفع العقيرة بالحض على تغيير الواقع التربوي في البيوت والبراح العام، وتجاوز معيقات القراءة من الانجرار في الماجريات، والعكوف على وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي، والوقوع في أسر العادات الخاطئة، والركون إلى المقالات الحاطة من قيمة العلم وفضل القراءة، وواجب الوقت يقضي إبداع برامج تربوية جادة للعود بطلابنا إلى مهيع الجد والاجتهاد، كيف لا والوسائل وفيرة من الكتاب الورقي والإلكتروني وغيره.
إن القلب لينفطر وهو يرى خلو مكتبات عامرة من طلابها ومرتاديها، ففي المكتبات التجارية، ومعارض الكتب، والكتب الواردة من السوق الإلكترونية، مما لا يدع حجة لأحد في هذا القصور والانكفاف عن معانقة القلم والكتاب.
إن صناعة الأمة القارئة من واجبات الوقت التي ينبغي أن يتضافر عليها الجميع، إذ هي القنطرة الرئيسة للعودة إلى ساحة الريادة والقيادة، ومن ينكص عن هذا أو يجادل فيه، فهو ممن يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وأولئك هم الأخسرون أعمالًا (10).
إن الحضارة الإسلامية أسهمت في تقدم البشرية عشرات القرون، وقد قال أحد الفلاسفة في الغرب: لولا حضارة العرب لتأخرت حضارة أوربا ألف سنة، وقد أبدع المسلمون عشرات العلوم وطوروا عشرات العلوم، ولم يكن ذلك إلا نتيجة الاستجابة للأمر «اقرأ».
فلما ضعفت الاستجابة لهذا الأمر تقهقرت الأمة وتراجع ظهورها الحضاري وتبدلت حياتها، وتراكم عليها كتل من الجهل، واستثمر السياسيون جهلها حتى رفع بعضهم شعار الأمة الجاهلة أيسر في قيادتها من الأمة المتعلمة، وأصبح التجهيل منهج حياة يتخذه المستبدون ويحرصون عليه حتى ظهر في الأمة أجيال من الجهلاء الذين لا يفقهون شيئًا، وحرص المستفيدون والساسة ومن والاهم على الإساءة إلى أهل العلم بالتشويه تارة، وبتمكين الجهلة في منابر التعليم ونقل المعرفة تارة أخرى، أو بالسيطرة على تمويل التعليم، ومن ثم التقتير على طلبة العلم، وتحويل العلم إلى ترف.
وتم السيطرة من المستبدين والساسة والحكام ومن دار في أفلاكهم على مراكز الإشعاع العلمي، وعرضوها للمسخ، وأصبحت جماهير الأمة في حالة جهل مطبق، فلما جاءت موجات الاحتلال والاستعمار ألفت الأمة لقمة سائغة، وكانت المقاومة ضعيفة جدًا لافتقارها أبجديات المواجهة العلمية، ولم تجد المقاومة إلا الأسلحة البدائية لمواجهة الجيوش المنظمة.
واستطاع المستعمر أن يزرع في الأمة قادة صنعهم على عينه منحهم الدعم والتمكين وحولهم إلى أذيال يرددون ما أراد بلسان أمتهم.
ثم قام أذناب الاستعمار بصناعة ثقافة خائفة خانعة (مبسترة) قشورية لا تصنع مجدًا ولا تثمر إبداعًا، وأنتجوا مناهج تمحو الأمية الأبجدية غير أنها تنتج أمية واسعة الانتشار في الفهم والوعي.
ولما حاول رجالات الفكر في الأمة إعادة الأمر إلى نصابه تم مواجهتهم بموجات هائلة من القمع والإرهاب والنفي والإبعاد والسجن والقتل؛ حتى أصبح من يطالب بإعادة الأمة إلى الشهود الحضاري في مربع النبذ إذا لم يلاقي السجن والابعاد أو القتل، وفصل المستبدون تهم التخوين والتفسيق والعمالة على كل من يسعى لتخليص الأمة من وهدة الجهل.
رغبة الحكام في إبقاء الأمة جاهلة:
وأصبح من علامات رغبة وحرص الحكام على إبقاء الأمر على ما هو عليه ما يأتي:
1- تقليص ما ينفق على التعليم والتقتير على العلماء والمبدعين وطلبة العلم، وفي المقابل الإنعام على أنصاف المثقفين والمتزلفين، وجعلهم من المقربين وأهل المشورة، والواحد منهم لا يجيد إلا الملق.
2- تحويل مهنة التعليم إلى مهنة من لا مهنة له، فمن لم يتمكن من الحصول على وظيفة في مجالات الطب، والهندسة، والمحاسبة والإدارة وغيرها يلجأ إلى مهنة التعليم، يروح غير العاشق الراغب، فأصبح المعلم أقل الناس شأنًا، ودخله أقل الدخول، فكيف نتوقع منه أن يصنع قراءً، لأنه لا يقرأ ولا يتعامل مع الثقافة إلا في حدود ضيقة جدًا، وإذا تعامل معها لا يخرج عن نطاق ما يحتاجه للكتاب المدرسي، فهو في حالة انشغال وقتر شديدين ولقمة العيش تشكل هاجسه الأكبر.
3- جعل الاستثمار في التعليم غير ممكن بإطلاق، لأن الاستثمار فيه غير مربح، ولا يمكن لعاقل أن يستثمر فيما لا ربح فيه.
4- انعدام الاستراتيجيات في مجال التعليم، والاكتفاء بنوع من التعليم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
إن إشاعة القراءة وتحول الناس أو غالبيتهم إلى قراء ينعكس على الحياة، ويحول الأمة إلى أمة منتجة، ويتحول كل شيء إلى عنصر بناء، ولا يمكن أن تنهض الأمة إلا إذا احتلت القراءة في نفوس أبنائها مركز الصدارة، وجعل المسلمون القراءة من صميم عبادتهم، فيتحول المسلم إلى عابد قارئ؛ لأن العابد غير القارئ أقل شأنًا من العابد غير القارئ، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] (11).
المجتمع الذي لا يقرأ معرض للانحراف والانزلاق والتخلف والانحدار، يبقى في جزيرة معزولة، هو أشبه بشخص يجري في مكانه، بينما المجتمعات القارئة تتجاوزه وتتفوق عليه.
والأمم التي وصلت إلى أعلى مراتب الحضارة ارتكزت بشكلٍ أساسيٍّ على القراءة، ومعرفة ما يدور حولها، والتطلّع والبحث في التطورات العلميّة والمعرفيّة التي تَوصّل وما زال يَتوصّل إليها العلماء والباحثون في العالم من حولهم.
طاعون الكتب التجارية:
أحد أخطر المشاكل التي تواجه حالة القراءة في عالمنا العربي اليوم هي ضحالة وسوء وتفاهة المادة المقروءة، إذ نجد أن أغلبية من يقرأ لا يقرأون إلا هذا النوع من الكتب التجارية، التي غالبًا ما تكون عبارة عن روايات، أو كتب تنمية بشرية ذات الحصيلة المعلوماتية الضحلة والسطحية، هذا إن وجدت من الأساس، فلا تبقى إلا أقلية داخل أقلية هي التي تقرأ وتشتغل بالكتب ذات المحتوى المعرفي الحقيقي فكريًا كان أو علميًا أو تاريخيًا..، وهذا لا يعني رفض الروايات مطلقًا؛ لكن توفر بصيرة تختار الرواية ذات المضمون النفسي الفكري التاريخي على الرواية التي تقرأ لضياع الأوقات وكمتعة لمجرد المتعة .
والكارثة هي أن هذا النوع من الكتب هو الذي يغزو الأسواق ورفوف المكتبات، وذلك يرجع إلى قانون الاقتصاد الأشهر "العرض والطلب" لكن لا أدري أكان الطلب ثم كان العرض، أم جعل العرض فلم يكن لذي الطلب خيار، بتخطيط ممن يهمهم بقاء العقول مغلقة، ضحلة وسطحية؟
إن حالة الكتاب اليوم في العالم وليس في بلادنا فقط أدت بكل من له حب للمعرفة والاطلاع إلى الاعتماد على مصادر لا تغني ولا تسمن؛ كفيديوهات اليوتيوب التي تشرح أعقد المواضيع في دقائق معدودة، فتقع في فخ التسطيح من حيث هي أرادت التبسيط، وكذلك الاعتماد على مقالات سطحية يقرأها فيضن أنه أعلم العلماء، وهو إلى الجهل أقرب منه إلى العلم، وكنتيجة لكل هذا نلاحظ تدهور التحصيل العلمي في مختلف بلدان العالم، ونرى الغوص والتعمق في تخصصات دقيقة روتينية بعيدًا عن أي معرفة كلية ونظرة شمولية للعالم خارج التخصص الضيق.
أصبح الإنسان الآن مُستغرقًا في الجانب المادي، فهو لا يفكر إلا فيما يعود عليه بالدخل المادي، وهناك الكثير من الشباب تركوا الدراسة والتعليم في سبيل العمل وكسب المال، فربط العلم بالعائد المادي أصبح عائق كبير جدًا.
كيف نستفيد من القراءة:
أما طرق القراءة والاستفادة من الكتب، فقد ذكر خبراء التعليم ثلاث خطوات مثمرة للقراءة:
الخطوة الأولى: نظرة مبدئية، وهي معرفة العنوان، ومعلومات الغطاء الخلفية والأمامية، وتاريخ النشر، والمقدمة، وقائمة المحتويات أو الفهرس، وسيرة المؤلف الشخصية.
والخطوة الثانية: قراءة الكتاب، وعندما تتخذ قرارًا لقراءة أي كتاب، فمن الأفضل أن تحدد وقتًا تقريبيًا للانتهاء منه أو من الفصول التي تحتاجها، وخذ قسطًا من الراحة عندما تشعر بأنك غير قادر على التركيز فيما تقرأ سواء بسبب النعاس أو التعب أو الملل أو الجوع، وبعدها يمكنك أن تتابع، وركِّز اهتمامك على المعلومات المهمة التي فيها إحصاءات أو نقولات عن العلماء أو تحليلات موضوعية.
والخطوة الثالثة: تثبيت المعلومة وكتابتها، وكثيرًا ما نتذكر أننا قرأنا كتابًا ما، لكننا وللأسف لا نستذكر منه أي معلومة أو فكرة، ذلك أن الإنسان كما تقول الدراسات ينسى في فترة وجيزة ما بين 40% إلى 50% من المادة المقروءة.
معوقات القراءة:
وللقراءة معوقات يجب على القارئ التنبُّه لها، منها:
عدم وضوح الغرض من القراءة، وصعوبة مادة الكتاب، والتوقُّف عند بعض المصطلحات والكلمات الصعبة، وقراءة الكلمات كلمة كلمة بدلًا من قراءتها جملة جملة، والرجوع إلى الفقرة السابقة، وتحريك الأصبع على السطور، وتحريك الشفتين أثناء القراءة، والإضاءة غير الصحية، والجلوس بشكل خاطئ، والتوتر والجوع والسهر...، وغيرها من هذه المعوقات التي تحول بين تحقيق الهدف والاستفادة من الكتاب كما كتب الدكتور متعب بن زبن المطيري.
نصائح مفيدة للقراءة:
وهناك نصائح تفيدك وتزودك بمتعة القراءة، فمثلًا اقرأ في المجالات التي تحبها، واقرأ في أوقات الصفاء الذهني والعقلي، ولا تعتقد في ضرورة قراءة الكتاب كاملًا، اقرأ منه ما يعجبك ويناسبك، واجعل لك كتابًا للسفر والرحلات تستفيد منه، وزود مكتبتك بالكتب المتنوعة في شتى المجالات لتنمي معلوماتك من جميع الجوانب، وكتب الأدب التي تزخر بالمتعة والفائدة.
وأما الكتاب المفيد الجيد فهو الذي يبني علمًا ويشيد صرحًا، فالقراءة الجادة والكتاب النافع هو الذي يصنع العلماء والمثقفين، ولو فتشت في أحوال العلماء لوجدت أن الذي صنعهم، وأخذ بأيديهم هي تلك القراءات الجادة التي ينصرفون إليها بكرة وأصيلًا، فعن طريق إدامة النظر وغربلة ما يقرؤون والنظر الفاحص فيه حصلوا ما حصلوا (12).
-----------
(1) انظر: القراءة متعة ومهارة/ متعب المطيري.
(2) سراج الملوك (ص: 206).
(3) أمة اقرأ متى تقرأ؟ صيد الفوائد.
(4) أخرجه أبو داود (4700).
(5) أخرجه أبو داود (3645).
(6) أخرجه الترمذي (2715).
(7) أخرجه البخاري (3877).
(8) أخرجه مسلم (302).
(9) أخرجه البخاري (4642).
(10) صناعة الأمة القارئة/ إسلام أون لاين.
(11) القراءة الفريضة الغائبة/ عيون.
(12) القراءة فائدتها وطريقة الاستفادة من الكتب/ رابطة الأدب الإسلامي العالمية.