logo

الخوض في أشراط الساعة


بتاريخ : الأحد ، 30 شعبان ، 1440 الموافق 05 مايو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الخوض في أشراط الساعة

بادئ ذي بدء لا بد أن نعلم أن الساعة من علم الله الذي لا يعلمه أحد إلا هو، لقد طوى عن جميع الخلق علمها، فلا يطلع عليها أحد، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، وقد أكثر المشركون السؤال: متى الساعة؟، استبعادًا لوقوعها، وكفرًا بها، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}  [الأحزاب:63]، ولذلك أمرنا بتفويض علمها إلى الله، كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم  {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ}، إذًا من الضوابط أنه لا يمكن لأحد إطلاقًا أن يعلم متى تقوم الساعة.

قال الشنقيطي رحمه الله: «إنما صيغت حصر، فمعنى الآية أن الساعة لا يعلمها إلا الله وحده»(1).

وقال ابن كثير رحمه الله: «في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:187]».

أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله تعالى، فإنه هو الذي يجليها لوقتها، يعني: يعلم جلية أمرها، ومتى يكون على التحديد؟ لا يعلم ذلك إلا هو سبحانه تعالى؛ ولذلك قال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، يعني: ثقل علم وقتها على أهل السماوات والأرض(2).

يعني: لا يطيقونه ولا يستطيعونه، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات:42-45].

قال ابن كثير رحمه الله: «أي ليس علمها إليك، ولا إلى أحد من الخلق؛ بل مردها ومرجعها إلى الله عز وجل، فهو يعلم وقتها على التعيين»(3).

قال الشيخ السعدي رحمه الله: «ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية؛ بل المصلحة في خفائه عليهم، طوى علم ذلك عن جميع الخلق، واستأثر بعلمه فقال: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا}؛ أي: إليه ينتهي علمها، كما قال في الآية الأخرى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}؛ أي: إنما نذارتك [نفعها] لمن يخشى مجيء الساعة، ويخاف الوقوف بين يديه، فهم الذين لا يهمهم سوى الاستعداد لها والعمل لأجلها، وأما من لا يؤمن بها فلا يبالي به ولا بتعنته، لأنه تعنت مبني على العناد والتكذيب، وإذا وصل إلى هذه الحال كان الإجابة عنه عبثًا، ينزه الحكيم عنه»(4).

وقال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47]، تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص والحصر، {إِلَيْهِ}، يعني: لا إلى غيره، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]، تقديم عنده، ما قال: علم الساعة عنده، قال: {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}  يعني: عنده وليس عند غيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}»(5)، وتلا الآية.

علق ابن عباس رضي الله عنهما على هذا فقال: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا جبريل ولا محمد عليه الصلاة والسلام، فمن ادعى أنه يعلم شيئًا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه(6).

ومن الأحاديث التي تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام وجبريل لا يعرفان متى الساعة، لما قال له جبريل: «أخبرني عن الساعة؟»، فأجابه عليه الصلاة والسلام: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»(7).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر: «تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة»(8).

قال ابن كثير: «فهذا النبي الأمي، سيد الرسل وخاتمهم صلوات الله عليه وسلامه، نبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، والعاقب، والمقفى، والحاشر، الذي تحشر الناس على قدميه على إثره، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وقرن بين أصبعيه السبابة والتي تليها(9).

ومع هذا كله أمره الله تعالى أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]»(10).

قال ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف: «وقد جاهر بالكذب بعض من يدعي في زماننا العلم، وهو يتشبع بما لم يعط، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم متى تقوم الساعة، قيل له: فقد قال في حديث جبريل: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، فحرفه عن موضعه، وقال: معناه أنا وأنت نعلمها، وهذا من أعظم الجهل، وأقبح التحريف».

والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»، يعني: لا يعلمها لا سائل ولا المسئول، وهذا يعم كل سائل وكل مسئول، كما قال ابن القيم رحمه الله(11).

من المحاولات التي سطرها بعضهم، أيضًا، ما ذكره صاحب كتاب الحاوي أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث في أواخر الألف السادسة، وعلى ذلك يكون عمر هذه الأمة أقل من ألف وخمسمائة، وقال: لا يمكن أن تكون المدة ألفًا وخمسمائة(12).

قال ابن القيم رحمه الله: «ومنها [أدلة الحديث الموضوع] مخالفة الحديث صريح القرآن؛ كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن في الألف السابعة، وهذا من أبين الكذب؛ لأنه لو كان صحيحًا لكان كل أحد عالمًا أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مائتان وإحدى وخمسون سنة، والله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]»(13).

وقال ابن كثير في كتاب «النهاية في الفتن والملاحم»: «لم يثبت في حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حدد وقت الساعة بمدة محصورة، وإنما ذكر شيئًا من علاماتها وأشراطها وأماراتها»(14).

وقال أيضًا: «والذي في كتب الإسرائيليين وأهل الكتاب من تحديد ما سلف بألوف ومئات من السنين، قد نص غير واحد من العلماء على تخطئتهم فيه، وتغليطهم، وهم جديرون بذلك حقيقون به»(15).

فكل حديث ورد فيه تحديد وقت القيامة على التعيين لا يثبت إسناده، قال السخاوي في المقاصد الحسنة: «كل ما ورد مما فيه تحديد لوقت يوم القيامة على التعيين فإما أن يكون لا أصل له، أو لا يثبت إسناده»(16).

قال ابن العربي في أحكام القرآن: «مقامات الغيب الخمسة، التي لا يعلمها إلا الله، من ادعى علمها فقد كفر، كل من قال: إنه ينزل الغيث غدًا فهو كافر»، إلى آخر كلامه رحمه الله(17).

فمن جزم بأن عنده علم الساعة كافر؛ لأنه شيء اختص الله به.

وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله في «الدين الخالص»: «فمن اعتقد في نبي، أو ولي، أو جني، أو ملك، أو إمام، أو ولد الإمام، أو شيخ، أو شهيد، أو منجم، أو رمال الذين يخطون في الرمل، وهناك ناس يضربون بالودع، وهناك ناس بكرة الكريستال في العصر الحديث، أو راهب، أو جنية، أو خبيث من ادعى أو اعتقد أن واحدًا من هؤلاء له مثل هذا العلم، يعلم الغيب فهو مشرك بالله، وعقيدته من أبطل الباطلات، وأكذب المكذوبات»(18).

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد: «من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، أو مشارك له في المعنى فيلحق به»(19).

علم الساعة استأثر الله به لا يجوز تعيينه، ولا اعتقاد أن أحدًا يعلمه، والاشتغال بتعيينه إضاعة وقت، والذين ألفوا فيه يشغلون أنفسهم بالترهات، ويشغلون الناس بالخزعبلات.

أشراط الساعة وأقسامها:

الأشراط جمع شرط، بفتح الشين والراء، والشرط العلامة، قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}  [محمد:18]، يعني: أماراتها وعلاماتها.

وتنقسم أشراط الساعة إلى أشراط صغرى، وأشراط كبرى:

فالأشراط الصغرى التي تتقدم الساعة بأزمان متطاولة، وتكون من النوع المعتاد غالبًا.

أما أشراط الساعة الكبرى فهي الأمور العظام التي تظهر قرب وقوعها، وتكون غير معتادة الوقوع.

وقد وردت أحاديث كثيرة، عدد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم جملة من أشراط الساعة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يُهِمَّ رَبَّ المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158](20).

وفي صحيح البخاري عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة أدم، فقال: «اعدد ستًا بين يدي الساعة: موتى، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقُعاص الغنم، ثم استفاضة المال، حتى يعطَى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا»(21).

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أشراط الساعة الفُحش، والتَّفَحُش، وقطعية الرحم، وتخوين الأمين، وائتمان الخائن»(22)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد، لا يصلي فيه ركعتين، وألا يسلم الرجل إلا على من يعرف»(23).

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد»(24).

وهذه الأشراط التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وفي أحاديث أخرى كثيرة، قسمها أهل العلم إلى قسمين: علامات صغرى، وعلامات كبرى.

والعلامات الصغرى يمكن تقسيمها إلى قسمين: قسم وقع، وقسم لم يقع بعد، والذي وقع قد يكون مضى وانقضى، وقد يكون ظهوره ليس مرة واحدة؛ بل يبدو شيئًا فشيئًا، وقد يتكرر وقوعه وحصوله، وقد يقع منه في المستقبل أكثر مما وقع في الماضي(25).

الإيمان بأشراط الساعة من الإيمان بالغيب:

قال ابن قدامة رحمه الله في لمعة الاعتقاد: «ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلنا وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه؛ مثل حديث الإسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل»(26).

عن عدي بن حاتم قال: «بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: (يا عدي، هل رأيت الحيرة؟)، قلت: (لم أرها، وقد أنبئت عنها)، قال: (فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله) [قلت فيما بيني وبين نفسي: (فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد)]، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى)، قلت: (كسرى بن هرمز؟)، قال: (كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولن له: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالًا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم)»، قال عدي: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشقة تمرة، فمن لم يجد شقة تمرة فبكلمة طيبة)»، قال عدي: «فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه»(27).

ومن فوائد الحديث عن أشراط الساعة حث النفس على طاعة الله، والاستعداد ليوم الحساب، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة والاستعداد»(28).

وقال القرطبي: «والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها تنبيه الناس عن رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة؛ كي لا يباغتوا بالحول بينهم وبين تدارك العوارض منهم، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم، وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها»(29).

وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم أو أمر العامة»(30).

قال القاضي: «أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات، فإنها إذا نزلت أدهشت، وإذا أدهشت أشغلت، فلم يعد للناس فرصة للعمل والتزود من الطاعة».

ضوابط التعامل مع الفتن وأشراط الساعة:

أولًا: ينبغي على المسلم التثبت والتروي، والتحلي بالرفق والأناة وترك العجلة؛ فلا يُسارع بقبول كل خبر، ولا يسعى في نشر ما لم يتحقق من صدقه، وليعلم أنه محاسب على كل ما يقول، قال عليه الصلاة والسلام: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»(31).

ثم عليه باختيار الزمان المناسب، والمكان اللائق لذكر ما سمع إن تأكد من صحته، بعد مراجعة أهل العلم والحكمة ومشاورتهم، خاصة في الأمور الكبار، عملًا بقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إنها ستكون هناك أمور مشبهات، فعليكم بالتؤدة، فتكون تابعًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر»(32).

وعن حفص بن غياث قال: «قلت لسفيان الثوري: (يا أبا عبد الله، إن الناس قد أكثروا في المهدي)، قال: (إن مر على بابك المهدي فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه)»(33).

إذًا لا بد في التعامل مع أشراط الساعة أن يكون الإنسان على بينة، وتؤدة، وتروٍ، وحلم، وتثبت، وعلم، وإلا طارت أحلام الناس خلف كل ناعق وصارخ، فالناس سريعًا ما يخدعون بقصص وأخبار لم يتبين لهم صدقها من كذبها، ولم يعرفوا حقيقة أمرها.

فليس كل من ادعى أنه المهدي يجب اتباعه، فهذه صور مكررة خاصة في زمن زاد فيه الجهل وقل العلم، وكثر الفساق، وانفتح العالم على كل شيء، وأتيحت الفرصة لكل سفيه وأحمق أن يجد له أعوانًا.

ثانيًا: الحرص على ما ينفع وترك ما سوى ذلك، عملًا بقوله عليه الصلاة والسلام: «احرص على ما ينفعك»(34)؛ أي: احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ولا عن طلب الإعانة.

واشتغال كثير من الناس بتتبع تلك التخرصات، وولعهم بمعرفة أوقات الملاحم والفتن تضييعٌ للعمر فيما لا طائل تحته، ولو كان في معرفة ذلك خيرٌ لنا في حياتنا ومعادنا لما كُتم علمها عنا، ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من سأله عن وقت الساعة إلى ما ينفعه؛ فعن أنس رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: «متى الساعة؟»، قال: «وماذا أعددت لها»، قال: «لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم»، فقال: «أنت مع من أحببت»، قال أنس: «فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت)»، قال أنس: «فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم»(35).

فهذا هو المهم؛ السعي في إعداد العدة للقاء الله، لا الاشتغال بالقيل والقال.

ثالثًا: المسائل الشرعية المرجع فيها الكتاب والسنة الصحيحة, وهذا أوضح من أن يُستدل له.

فيجب على المسلم أن يتحرى عند النظر في موضوع علامات الساعة صحة الأحاديث والآثار, لا سيما وكثير من الأحاديث الواردة في شأن فتن آخر الزمان لا تصح, ومنها على سبيل المثال (أحاديث السفياني).

والواقع أن هؤلاء المرجفين فيما يكتبون وينشرون يعتمدون على كل ما يقع تحت أيديهم مما يخدم آراءهم؛ ولو كان حديثًا ضعيفًا، أو خبرًا واهيًا أو مكذوبًا، ولربما استندوا إلى مرويات غلاة المبتدعة وأباطيلهم؛ بل وكتب أهل الكتاب وتحليلاتهم.

قال القرطبي: «وإن من أفضح فضيحة في الدين نقل مثل هذه الإسرائيليات عن المتهودين»(36).

رابعًا: أشراط الساعة من أمور الغيب؛ فلا يجوز الرتوع فيها بالأوهام والظنون الكاذبة؛ لأن الغيبيات أمرها إلى الله سبحانه؛ قال تعالى: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [هود:123]، وقال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26], وقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179].

قال القرطبي: «والذي ينبغي أن يقال به في هذا الباب أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والكوائن أن ذلك يكون, وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر، وإنما ذلك كوقت قيام الساعة؛ فلا يعلم أحد أي سنة هي ولا أي شهر...، وكذلك ما يكون من الأشراط؛ تعيين الزمان لها لا يُعلم, والله أعلم»(37).

خامسًا: جعل الله للساعة علامات تسبقها لحكم بالغة؛ منها: تنبيه الناس من غفلتهم، وحثهم على تدارك التفريط، والاستعداد للقاء الله بالتوبة والإنابة.

وليس من طريقة أهل العلم تنزيل نصوص علامات الساعة على الحوادث والوقائع لأدنى مشابهة أو مقاربة؛ وإنما الجزم بتطبيق العلامة على الحادثة المعينة يكون بعد وقوعها والتحقق من صحة ذلك.

قال العلامة صديق حسن القنوجي رحمه الله: «ليست ملحمة ولا فتنة صغرى أو كبرى، من الملاحم والفتن التي تكون إلى يوم القيامة وقيام الساعة في مطلع الشمس ومغربها وسائر أقطار الأرض، إلا وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها في أحاديثه الشريفة...، وقد وقعت منها ملاحم وفتن كثيرة, وسيقع ما بقي منها, ولكن العلم بمواقيتها مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه, ولا يتيسر لبشر أن يعلم بوقتها إلا بعد وقوعها, وحصول التطبيق بالأحاديث الواردة فيها»(38).

وأما الخرَّاصون فإنهم يتعجلون في أمر لهم فيه أناة؛ فما أن تلوح بالأفق بارقة حادثة أو فتنة مقبلة إلا ويسارعون بربطها بعلامة معينة, وأنها مصداق حديث معين.

وهذا من القول بلا علم, والظن العاري عن الدليل, والخوض فيما لم يُكلَّفوه؛ قال تعالى:    {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].

وكم تكشفت الحقائق عن خطأ استنتاجاتهم وأوهامهم.

ولربما أدى ظهور هذا الخطأ إلى وقوع ريب في نفوس بعض ضعاف الإيمان؛ فيتشككون في صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا نتاج التكلف والإيغال فيما لم يأمر الشرع به.

سادسًا: الانتباه إلى النسبية الزمانية عند الكلام عن اقتراب الساعة، إنما ورد في نصوص الوحيين من قرب قيام الساعة وظهور أماراتها لا يعني أنها ستقع غدًا أو بعد غد أو الاسبوع القادم مثلًا أو الشهر القادم، ليس بالضرورة أن يكون قريبًا جدًا بموازيننا نحن وأسابيعنا وشهورنا، فمن يدري لعل بيننا وبينها أمدًا، ولعلها أقرب مما نتصور، قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «بعثت أنا والساعة كهذه من هذه» وقرن بين السبابة والوسطى(39)، وفي رواية: «بعثت أنا والساعة كهاتين»(40)، كفضل إحداهما على الأخرى، صحيح أن الفارق يسير، لكن هذا اليسير كم هو؟ الآن مضى أكثر من 1400سنة، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].

وبعثة النبي عليه الصلاة والسلام أول أشراط الساعة، وهو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده، ومعنى ذلك أن القيامة ستليه قطعًا، ما بينه وبين القيامة نبي آخر، ومعنى الحديث أن بين بعثته وبين قيام الساعة شيء يسير كما بين الأصبعين في الطول، على أحد المعنيين، وجاء في بعض الأحاديث «بعثت أنا والساعة جميعًا إن كادت لتسبقني»(41).

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن صاحب القرن إسرافيل قد التقم القرن، وهو الصور الذي سينفخ فيه، وحنا جبهته، وعيناه كوكبان دريان متجهة نحو العرش، ينتظر متى يؤمر، قال المسلمون: «يا رسول الله، فما نقول؟»، قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل»(42).

هو أخبرنا أن القضية اقتربت، وبعثته أول الأشراط، وصاحب القرن إسرافي التقم القرن، يعني وضعه في فمه الذي سينفخ فيه، والآن إسرافيل عيناه على العرش، وحنا الجبهة كهيئة المستعد للنفخ، فهو ينتظر متى يؤمر بالنفخ.

إذًا المسألة قريبة، لكن هذا القرب نسبي، فليس معناه أنها بعد أسبوع أو شهر من الكلام الذي قال: أنها ستقوم، وقد مضت هذه المدة ولم تقم الساعة، إذًا القرب نسبي، لكن لا شك أننا الآن بالنسبة للساعة أقرب بكثير مما كان، وقد قال تعالى في القرآن: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج:6-7].

وقال عليه الصلاة والسلام مرة، وكان أصحابه جلوسًا معه، والشمس على قيعقعان، وهو جبل بمكة، بعد العصر، قال: «ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى منه»، إذًا هو أخبرنا أنه بعث في نسم الساعة، والنسم هو الريح الضعيفة، العاصفة لما تهب، تبدأ بنسم، تبدأ بريح ضعيفة ثم تشتد، فقال: «بعثت في نسم الساعة» إذًا بعثته افتتحت الأشراط، والذي بقي من الدنيا قليل؛ لأنه قال لنا: «ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى»(43)، والكلام قيل بعد العصر(44).

عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أجلكم في أجل من خلى من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس»(45).

إذًا الفترة الزمنية لهذه الأمة بالنسبة للأمم السابقة كفترة ما بين العصر إلى المغرب بالنسبة لبقية النهار، قال ابن حجر: «معناه أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس إلى بقية النهار»(46).

قال ابن كثير في البداية والنهاية: «وهذا يدل على أن ما بقي بالنسبة إلى ما مضى كالشيء اليسير، لكن لا يعلم مقدار ما بقي إلا الله، ولم يجئ فيه تحديد يصح سنده عن المعصوم حتى يصار إليه، ويعلم نسبة ما بقي بالنسبة إليه، ولكنه قليل جدًا بالنسبة إلى الماضي»(47).

يقول: الذي بقي من الدنيا بالنسبة لما مضى كالبقية اليسيرة من الشراب، تبقى في أسفل الإناء، لو شرب الجماعة من الإناء بقي شيء بسيط في الأخير، هو هذا الذي بقي من الدنيا، إذًا هذا ضرب مثل للتقريب، فبناء عليه نقول: الساعة قريبة، ونحن في هذه الأمة آخر الأمم بالنسبة لما مضى عرفناه تقريبًا كم، وما بقي قليل، والساعة قريبة، لكن القرب نسبي، والقلة نسبية.

سابعًا: أنه لا يمكن إسقاط النصوص التي يتطرق إليها الاحتمال على واقع معين إلا بعد وقوعها وانقضائها، عندنا نص معين في أشراط الساعة، وجاء واحد قال: هذا ينطبق على حرب الخليج، نقول: ما نستطيع أن نجزم، لا بد أن ننتظر حتى نرى هل هذا يقع بالكامل أم لا، فقد كان من هدي السلف رحمهم الله أنهم لا ينزلون أحاديث الفتن على واقع حاضر، أنتم تذكرون قبل أكثر من عشر سنين لما صارت الحرب بعض الناس تذكر حديثًا في سنن أبي داود: «تصالحون الروم صلحًا آمنًا، فتقاتلون وإياهم عدوًا من ورائكم، فتنتصرون وتغنمون، ثم يقوم رجل من النصارى يقول: غلب الصليب، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله»(48).

ثم تقع، قال بعضهم في ذلك الوقت، هذه فرضية، انتظر حتى نرى بعض الكلام، معروف كذبه من أول، والشكوك والريبة واضحة في تفسير النص الذي يفسره بعض الناس.

ينبغي عدم الاستعجال في تنزيل النصوص على الواقع في الأمور التي يتطرق إليها الاحتمال، وننتظر حتى تكتمل الأحداث، أما في الأمور الواضحة البينة؛ كفشو الزنا، والتجارة، وكثرة المال، وفشو الجهل، فهذه أشياء واضحة جدًا، نراها ونؤمن بها، ونزداد إيمانًا؛ لأنها وقعت كما أخبر، تطاول الحفاة العراة رعاء الشاة في البنيان، تطاولوا في البنيان، إذًا نقول: آمنا وازددنا إيمانًا، ووقع كما أخبر.

الثامن: حصر مصادر التلقي فيما هو حجة شرعية، وإهدار ما عداه، لما نتكلم عن أشراط الساعة نبحث عن نص صحيح، لا نعتمد على حديث ضعيف، فالانشغال بالأحاديث الضعيفة إضاعة للوقت، وإشغال للنفس وللناس بأشياء من الظنون.

والأحاديث الموضوعة من باب أولى، والإسرائيليات من باب أولى لا نعتمد عليها، وحساب الجمل، أبجد هوز، كل حرف له رقم، الاعتماد عليها في استنباط أحداث رجم بالغيب، هذا عبارة عن هراء وترهات.

وينبغي التفريق بين قول المعصوم صلى الله عليه وسلم وبين اجتهاد عالم، أو بحث باحث، فإن العالم قد يخطئ، والباحث قد يخطئ.

تاسعًا: ما أشكل علينا نكله إلى عالمه، قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، هذه أمثلة فيما يلي من الأشياء التي أشكلت وأجاب العلماء عنها بإجابات:

فمثلًا هناك نصوص ذكرت فتح القسطنطينية بعد الملحمة الكبيرة التي ستكون مع النصارى، وقبيل خروج الدجال، وهناك نصوص في صحيح مسلم تدل على ذلك، فلو قال قائل: أليس محمد الفاتح فتح القسطنطينية، ولم يكن بعد ملحمة كبيرة مع النصارى، واتجهت الجيوش الإسلامية بعدها إلى القسطنطينية؟ وفتحها، والدجال لم يخرج بعد فتح القسطنطينية؟ لأن الحديث فيه أنهم إذا انتهوا من فتح القسطنطينية صرخ الشيطان أن الدجال خرج، فيذهبون لملاقاته، فيخرج فعلًا، يعني الدجال، يخرج بعد فتح القسطنطينية مباشرة، هذا أشكل على بعض الناس.

فأجاب العلماء المعاصرون أن القسطنطينية ستفتح فتحًا آخر غير الفتح الأول، الفتح المقصود من أشراط الساعة فتح القسطنطينية الذي سيكون بعد معركة مرج دابق، وقبل ظهور الدجال مباشرة، هذا الفتح الذي سيكون بدون سلاح، وإنما بالتكبير، سيكبر المسلمون فيسقط جزؤها الذي في البر، ويكبر المسلمون فيسقط جزؤها الذي في البحر، يفتتحون المدينة بالتكبير، بدون قتال، هذا الفتح للقسطنطينية غير الفتح الذي فتحه محمد الفاتح، ولا يبعد أن المدينة يدخلها المسلمون ويفتحونها، ثم تعود مدينة نصرانية، ثم تعود مدينة كافرة، وهذه الأندلس أكبر شاهد، أما كانت يومًا من الأيام بلادًا إسلامية، فعدا الزمان ومرت الأيام وصارت بلاد نصرانية، إذًا لا يشكل علينا فتح القسطنطينية الذي حدث لمحمد الفاتح؛ لأن الفتح المقصود بالحديث الآخر فتح آخر ليس هو الذي حدث.

مثال آخر: ورد وصف الأسلحة الذي ستستعمل في حروب آخر الزمان؛ كما في الملحمة الكبرى بيننا وبين النصارى، خيول وفوارس، وقال: «إن المسلمين يرسلون عشرة فوارس، إني لأعرف أسماءهم وألوان خيولهم، خير فوارس على وجه الأرض»(49)، «بينما هم قد علقوا سيوفهم في أغصان الزيتون صرخ الشيطان: أن الدجال قد خرج»(50).

يعني: العملية فيها سيوف، «فيأتي عيسى إلى الدجال فيقتله بحربة في يده»، إذًا المسألة فيها حربة، وسيوف، ويأجوج ومأجوج معهم النشاب، «ويرمون بأقواسهم [سهام] إلى السماء، وتعود مخضبة بالدم»(51)، فتنة لهم.

إذًا فيها سهام، وسيوف، وخيول، وحربة، يقول بعض الناس: كيف هذا والآن الأسلحة صواريخ، وكروز، وليزر، وطيارات، وقاذفات، وقنابل نووية؟

فنقول: نحن الآن إما أن يتبين لنا فيها شيء، فنقول: إن هذه الأشياء كما جاءت ممكن أن تزول، ممكن هذه الاختراعات وهذه المدنية تزول، ممكن إذا انتهى النفط، وتوقفت الكهرباء، انتهت المصانع، والأسلحة هذه ستصبح خردة، ويرجع الناس مرة أخرى إلى الخيام، والخيول، والسيوف، هل هناك مانع من هذا؟ هذا ليس محالًا، كما جاءت ممكن تنتهي، ومرت فترة على البشرية قوم عاد أو ثمود، فالله لما قارن قوة قريش بعاد وثمود قال: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام:6].

يعني: أعطيناهم حضارة وقوة ليست عندكم، قوة فرعون والبناء والأشياء الموجودة عند الفراعنة ما مرت بعد الفراعنة مرحلة، كان الناس في مصر أقل تقدمًا من أيام الفراعنة، وارد إذًا هذه الأشياء ممكن تنتهي، ويأتي وقت آخر يرجع الناس فيه إلى الأسلحة البدائية.

أليس الأصل أن النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم بلسان عربي مبين؟ أليس عندما يقول حربة يعني حربة؟ وسيف يعني سيف؟ وخيل يعني خيل؟ إذًا قضية أن هذه ترمز وأن السيف يرمز والحربة ترمز، كل هذا خلاف الأصل.

فنقول: الأصل إجراء الألفاظ على ظاهرها، وأن معناها الموجود في اللغة العربية هو الذي قصده بكلامه لما قال: سيف، وترس، ورمح، وحربة، هذا الأصل.

فهذه من القواعد المهمة في التعامل مع نصوص أشراط الساعة.

عاشرًا: لا نعطل السنن والأسباب بحجة انتظار الفرج المذكور في بعض أشراط الساعة، وهذا سبقت الإشارة إلى شيء منها في مسألة المهدي، وأن بعض الناس يرى بمذهب الجبرية، والاستسلام للواقع، وعدم التغيير، وعدم القيام بجهد دعوي، ولا إنكار منكر، ولا محاولة للإصلاح، يقول: لأن في أشراط الساعة إن شاء الله الفرج، في نزول عيسى وقبله ظهور المهدي، فننتظر، هذا هروب إلى الأماني، هذا تعطيل للأسباب الشرعية، والله قال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123].

وقد جاء عن جعفر الصادق رحمه الله، وهو من أئمة أهل السنة من قوله لمن خاض في الأحكام القدرية وانشغل بها عن واجب الوقت: إن الله أراد بنا أشياء وأراد منها أشياء، فما أراده بها أخفاه عنا، وما أراده منا بينه لنا، فما بالنا ننشغل بما أراده بنا عما أراده منا(52).

ما أراد الله بك هذا غيب، ما الفائدة من الانشغال به؟ الانشغال بما أراد الله منك، لا ما أراد الله بك(53).

***

_________________

(1) أضواء البيان (6/ 360).

(2) تفسير ابن كثير (3/ 518).

(3) تفسير ابن كثير (8/ 318).

(4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 910).

(5) أخرجه البخاري (4627).

(6) تفسير القرطبي (14/ 82).

(7) أخرجه البخاري (50).

(8) أخرجه مسلم (2538).

(9) أخرجه البخاري (6504)، ومسلم (867).

(10) تفسير ابن كثير (3/ 523).

(11) المنار المنيف (1/ 81).

(12) الحاوي للفتاوي للسيوطي (3/ 122).

(13) المنار المنيف (1/ 80).

(14) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 6).

(15) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 16).

(16) المقاصد الحسنة (1/ 693).

(17) أحكام القرآن (3/ 431).

(18) نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف (1/ 323).

(19) فتح المجيد، ص299.

(20) أخرجه البخاري (7121).

(21) أخرجه البخاري (7927).

(22) أخرجه الطبراني في الأوسط (1356).

(23) أخرجه الطبراني (10838).

(24) أخرجه النسائي (689).

(25) القيامة الصغرى، ص137.

(26) لمعة الاعتقاد، ص24.

(27) أخرجه البخاري (3595).

(28) فتح الباري (11/ 350).

(29) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ص1217.

(30) أخرجه مسلم (2947).

(31) أخرجه مسلم (4).

(32) الإبانة الكبرى لابن بطة، ص184.

(33) سير أعلام النبلاء (7/ 253).

(34) أخرجه مسلم (2664).

(35) أخرجه البخاري (3688).

(36) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ص695.

(37) التذكرة، ص713-714.

(38) أبجد العلوم، ص523.

(39) أخرجه البخاري (5301)

(40) أخرجه البخاري (6504)

(41) أخرجه أحمد (22997).

(42) أخرجه الترمذي (2431).

(43) أخرجه أحمد (5966).

(44) فتح الباري (11/ 350).

(45) أخرجه البخاري (5021).

(46) فتح الباري (2/ 39).

(47) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 84).

(48) أخرجه أبو داود (4292).

(49) أخرجه مسلم (2899).

(50) أخرجه مسلم (2897).

(51) أخرجه ابن ماجه (4079).

(52) الملل والنحل، للشهرستاني (1/ 47).

(53) ضوابط شرعية في فهم أشراط الساعة، الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد.