التواضع المزيّف لدى بعض الدعاة

قال القاضي أبو بكر بن العربي: أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة: وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري، وحضرت كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى، فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعرفهم أمري، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي: أراك غريبًا، هل لك من كلام؟ قلت: نعم، قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه، فقاموا وبقيت وحدي معه، فقلت له: حضرت المجلس اليوم متبركًا بك، وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت.
وقلت: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فضمني إلى نفسه وقبل رأسي، وقال لي: أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلم خيرًا. ثم انقلبت عنه، وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحبًا بمعلمي؛ أفسحوا لمعلمي، فتطاولت الأعناق إليّ، وحدقت الأبصار نحوي، وتعرفني يا أبا بكر، يشير إلى عظيم حيائه، فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه خجل لعظيم حيائه، واحمر حتى كأن وجهه طلي بجلنار.
قال: وتبادر الناس إليّ يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقًا، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي؛ لما كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلق، وظاهر؛ فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي، فاتبعني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب عن قولي بالأمس، وراجع عنه إلى الحق؛ فمن سمعه ممن حضر فلا يعول عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر؛ فجزاه الله خيرًا؛ وجعل يحفل في الدعاء، والخلق يؤمنون.
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملإ من رجل ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته، لغريب مجهول العين لا يعرف من ولا من أين، فاقتدوا به ترشدوا (1).
مكانة التواضع في أخلاق الداعية:
يُعدّ التواضع من أسمى الأخلاق التي ينبغي أن يتحلّى بها الداعية إلى الله، لأنه خُلُقٌ يفتح القلوب قبل أن تطرقها الكلمات، ويجعل الناس يقبلون على الداعية لا لهيبته أو مكانته، بل لما يجدونه فيه من صدق وتجرّد ولين جانب.
فالتواضع ليس مجرد سلوك اجتماعي لطيف، بل هو انعكاس لعمق الإيمان ومعرفة العبد بربه، إذ كلما ازداد العبد علمًا بالله وبضعفه بين يديه، ازداد تواضعًا وخشوعًا.
وقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم أعظم صور التواضع في سيرته، فكان يجلس بين أصحابه كأحدهم، ويخدم نفسه، ويُصغي للصغير والكبير، حتى قال عنه الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، في إشارة إلى رحمة القائد بأمّته وتواضعه معهم.
وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، أي: ألن لهم جانبك، فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة؛ صورة خفض الجناح، كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط، كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].
عن أبي ذر، وأبي هريرة قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانًا من طين، فجلس عليه، وكنا نجلس بجنبتيه، وذكر نحو هذا الخبر، فأقبل رجل فذكر هيئته، حتى سلم من طرف السماط، فقال: السلام عليك يا محمد قال: فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم (2).
عن أنس بن مالك، قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ (3).
إن التواضع عند الداعية ليس ترفًا خُلُقيًا؛ بل ضرورة دعوية، لأنه يعبّر عن صدق الرسالة التي يحملها، ويجعل خطابه مؤثرًا ومقبولًا، بخلاف المتكبر الذي ينفّر الناس من الدين قبل أن يدعوهم إليه.
والداعية المتواضع يدرك أن الهداية بيد الله، وأنه مجرد سبب، فلا يرى في نفسه فضلًا على أحد، ولا يستعلي بعلمه أو مكانته، كما أن التواضع يحفظ الداعية من آفات الشهرة والغرور التي قد تفسد العمل الدعوي، فيبقى قلبه معلقًا بالآخرة لا بالثناء والمدح والإطراء.
ومن هنا كانت مكانة التواضع في أخلاق الداعية مركزية، لأنها تُشكّل صمام الأمان الذي يصون الدعوة من الانحراف، ويجعل الداعية قدوة صادقة في قوله وفعله، فتتحقق به معاني العبودية والإخلاص التي هي روح الدعوة إلى الله تعالى.
الفرق بين التواضع الحقيقي والتواضع المصطنع (المزيّف):
يُعدّ التواضع من أنبل الصفات التي يتحلّى بها الإنسان، غير أن هناك فرقًا جوهريًا بين التواضع الحقيقي الذي ينبع من صفاء القلب وإخلاص النية، والتواضع المصطنع الذي يُظهره بعض الناس طلبًا للثناء أو كسبًا للمكانة الاجتماعية.
فالتواضع الحقيقي هو صفة أصيلة تعكس احترام الذات والآخرين معًا، بينما التواضع المصطنع هو سلوك ظاهري هدفه إخفاء الشعور بالنقص أو كسب رضا الآخرين.
يتضمن التواضع الحقيقي الاستماع الجيد، الاعتراف بالإنجازات والنقائص دون مبالغة، وإظهار الاحترام للجميع، بينما يعتمد التواضع المصطنع على تقليل الشأن الذاتي بشكل مبالغ فيه لإثارة الشفقة أو لفت الانتباه.
فالتواضع الحقيقي هو ثمرة إيمان راسخ وشعور دائم بعظمة الخالق وضعف المخلوق، يجعل صاحبه يرى نفسه في موضعها الطبيعي دون استعلاء أو تصنّع.
هو سلوك فطري نابع من الداخل، لا ينتظر صاحبه من الناس جزاءً ولا تقديرًا، بل يجد لذته في خدمة الآخرين واحترامهم، مهما علت مكانته أو علمه.
أما التواضع المصطنع فهو صورة مزيّفة تُرسم بعناية أمام الناس، تُخفي وراءها نزعة خفية نحو الشهرة أو الإعجاب، صاحبه يُظهر البساطة في القول والفعل، لكنه في داخله يستعلي على من حوله، وربما يتكلّف التواضع ليُقال عنه متواضع.
ولذا فإن الفارق بين النوعين يكمن في النية والمصدر: فالحقيقي مصدره القلب والإيمان، والمصطنع مصدره المصلحة والمظهر.
كما أن أثر التواضع الحقيقي دائم، يُثمر حبًا وثقة في قلوب الناس، بينما التواضع المصطنع سريع الزوال، ينكشف مع الوقت وتظهر علامات الرياء والتكلّف.
ومن هنا يتضح أن الداعية الصادق هو من يحرص على التواضع لله لا للناس، يراه عبادة وسلوكًا يعبّر عن صدق رسالته، لا وسيلة لتحقيق قبول زائف أو مكانة دنيوية.
مظاهر التواضع المزيّف:
يأخذ التواضع المزيّف صورًا متعددة، قد لا تُكتشف بسهولة في البداية، لكنها سرعان ما تنكشف حين يُختبر صدق صاحبها أو تتعارض مصلحته مع ما يدّعيه من تواضع.
- ومن أبرز مظاهره التكلّف في إظهار البساطة، كمن يتعمّد ارتداء ثياب متواضعة أو استخدام ألفاظ عامة ليُظهر للناس أنه قريب منهم، بينما هو في داخله يحتقر من يفعل ذلك عن صدق.
- ومن مظاهره أيضًا الرياء في الأقوال والأفعال، كأن يُظهر الداعية أو العالم خضوعًا مبالغًا فيه أمام الناس، أو يُكثر من الحديث عن زهده وتواضعه، ليكسب إعجابهم وثناءهم، لا ابتغاء وجه الله.
- ومن صور التواضع المزيّف كذلك الاستعراض الإعلامي، حين يُقدَّم الداعية أو الشخصية العامة بمشاهد مقصودة تُظهره وهو يخالط البسطاء أو يساعد المحتاجين، فيتحول التواضع من خلق خفي إلى مشهد استعراضي مقصود، كما يظهر هذا النوع من التواضع في اللغة الدعوية المنمّقة التي تُغلَّف بألفاظ التواضع، مثل: “أنا العبد الضعيف” أو “ما أنا إلا أقلّكم علمًا”، بينما السياق كله يوحي بعكس ذلك ويُشعر المستمع بتميّز القائل.
- ومن المظاهر كذلك رفض المديح علنًا وقبوله ضمنًا، أو إظهار الحرج من الألقاب والتباهي بها في الخفاء، وكذلك الانكسار المصطنع أمام الكبار مع الترفع عن الصغار.
وجميع هذه المظاهر تنبع من خلل في النية، إذ يتحول التواضع إلى وسيلة لتلميع الذات، لا عبادة تقرّب إلى الله. إن التواضع المزيّف، مهما تزخرف، يبقى صورة زائلة لا تصمد أمام المواقف الصادقة، لأنه خالٍ من الإخلاص الذي هو روح الأخلاق كلها.
الأسباب والدوافع وراء التواضع المزيّف:
تتعدّد الأسباب التي تدفع بعض الدعاة أو الشخصيات العامة إلى ممارسة التواضع المزيّف، وتتداخل فيها العوامل النفسية والاجتماعية والإعلامية، مما يجعل هذا السلوك ظاهرة تحتاج إلى وعي ومعالجة جذرية، ومن أهم تلك الأسباب:
الدوافع النفسية:
تشكل الدوافع النفسية أحد أهم العوامل الكامنة خلف ظاهرة التواضع المزيّف، إذ ترتبط مباشرة بطبيعة النفس البشرية وما فيها من رغبات خفية في القبول والتقدير والاعتراف الاجتماعي؛ ومن أبرز هذه الدوافع:
حب الذات، فبعض الأشخاص يتظاهرون بالتواضع لا لأنهم يرغبون في التخلّق به؛ بل لأنهم يجدون في ذلك وسيلة لإشباع نزعتهم نحو الإعجاب بالنفس بطريقة غير مباشرة، فهم يسعون لأن يُمدحوا بصفات الصالحين والمتواضعين دون أن يصرّحوا بحبهم للمدح.
ومن الدوافع النفسية أيضًا حب الشهرة والظهور، وهو دافع قوي يجعل صاحبه يلهث خلف الأضواء والاعتراف العام، فيبدو متواضعًا ليجذب الناس نحوه، وليكسب ثقتهم ومحبتهم، فالتواضع هنا يصبح أداة تسويقية للنفس لا خُلُقًا إيمانيًا، كذلك يظهر ضعف الإخلاص وميل النفس إلى الرياء، إذ يجد بعض الدعاة أو المتصدرين راحة في أن تُذكر أسماؤهم بالخير، فيُظهرون مظاهر التواضع طلبًا للثناء البشري، لا لرضا الله تعالى، وهو ما وصفه العلماء بأنه من أخفى صور النفاق العملي.
ومن الدوافع النفسية الأخرى الشعور بالنقص أو ضعف الثقة بالنفس، حيث يحاول بعض الأشخاص إخفاء هذا النقص عبر مظهر التواضع، ليثبتوا لأنفسهم وللآخرين أنهم محبوبون ومقبولون.
كما قد ينشأ التواضع المزيّف من الخوف من النقد أو الرفض الاجتماعي، فيسلك الشخص سلوكًا يوهم الآخرين بأنه بسيط ومتواضع كي يتجنب نظرتهم السلبية أو اتهامهم له بالغرور.
وتبقى هذه الدوافع جميعها انعكاسًا لخلل في التوازن النفسي والروحي، إذ يفقد صاحبها الصدق الداخلي، ويبحث عن قيمته في نظر الناس لا في رضى الله عنه؛ لذلك، فإن معالجة هذه الظاهرة تتطلب تربية إيمانية عميقة تعيد للنفس اتزانها، وتغرس فيها معنى العبودية الحقيقية، حتى يكون التواضع نابعًا من يقين القلب لا من احتياجات النفس أو رغباتها.
الدوافع الاجتماعية:
جزء من هذا السلوك، يعود إلى طبيعة مجتمعات اليوم، التي أصبحت تهتم بالمظاهر وتشجع على مشاركة كل تفاصيل الحياة، حتى اللحظات التي كان من المفترض أن تبقى خاصة، لذا في محاولة لموازنة الرغبة في التباهي مع الحاجة للحفاظ على صورة أخلاقية، يظهر التواضع المزيف كحل مثالي، الشخص يبدو متواضعًا، بينما يحصد الإعجاب والاهتمام، بسبب التباهي والتفاخر، بجوانب قد تكون مادية.
- ومن أهم هذه الدوافع الرغبة في القبول المجتمعي؛ فالكثيرون يسعون لأن يكونوا محبوبين ومقبولين لدى الناس، فيتكلّفون التواضع ظاهريًا كي ينالوا رضا الجمهور أو إعجابه، لا سيما في المجتمعات التي تُقدّر البساطة وتستنكر التكبر، وهكذا يتحول التواضع إلى سلوك اجتماعي مقصود لخلق صورة محبوبة، لا نابعًا من قناعة داخلية.
- ومن الدوافع أيضًا الخضوع للضغوط الجماهيرية، إذ يعيش بعض الدعاة والمشاهير تحت أنظار الناس باستمرار، فيشعرون أن عليهم أن يظهروا بصورة “المتواضع اللطيف” كي لا يُتّهموا بالغرور أو التعالي، ومع تكرار هذا السلوك المصطنع، يتحول إلى عادة، فيفقد الشخص عفويته وصدقه.
- كما يبرز أثر التقليد المجتمعي، حيث يتأثر بعض الأفراد بما يرونه من سلوكيات الدعاة أو الشخصيات المؤثرة الذين يُظهرون التواضع أمام الكاميرات أو في اللقاءات العامة، فيحاولون تقليدهم ليحظوا بذات القبول والاحترام.
- ويأتي كذلك التنافس الاجتماعي والدعوي ضمن أهم المحركات، فحين يسعى الدعاة أو المؤثرون للتميز أو جذب الجمهور، قد يستخدم بعضهم “صورة المتواضع” كوسيلة للمفاضلة والتفوق الأخلاقي على غيره، مما يفرغ التواضع من معناه الحقيقي.
- كما تسهم الثقافة المجتمعية السطحية في تعزيز هذا السلوك، إذ أصبحت المظاهر معيارًا للحكم على الأخلاق، فصار الناس يربطون بين التواضع وبين طريقة اللباس أو الجلوس أو الحديث، مما يدفع البعض إلى تبنّي مظاهر شكلية فقط.
وأخيرًا، فإن الخوف من فقدان المكانة الاجتماعية أو الشعبية يجعل بعضهم يتمسك بمظهر التواضع حتى وإن كان مصطنعًا، لأنه يدرك أن الجمهور سريع الحكم، وأن صورة المتكبر تُسقط صاحبها سريعًا.
وهكذا يصبح التواضع المزيّف سلوكًا اجتماعيًا دفاعيًا يحافظ به صاحبه على صورته أمام الناس، لا على صفاء قلبه أمام الله تعالى.
الدوافع الإعلامية:
لقد أصبح الإعلام في العصر الحديث –وخاصة الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي– من أقوى المؤثرات في تشكيل صورة الداعية والشخصية العامة أمام الجمهور، مما جعل الدوافع الإعلامية أحد أبرز أسباب انتشار ظاهرة التواضع المزيّف.
فالإعلام بطبيعته يبحث عن الصورة الجذّابة والمحتوى المؤثر، والداعية أو المتحدث الذي يبدو متواضعًا ومحبًا للناس يُحقّق قبولًا واسعًا ومشاهدات عالية، وهذا ما يدفع بعضهم إلى تقمّص مظهر التواضع لإرضاء الجمهور وكسب الشهرة، أكثر من كونه التزامًا خُلقيًا حقيقيًا.
- ومن أبرز هذه الدوافع الرغبة في بناء صورة إعلامية إيجابية؛ إذ يسعى بعض الدعاة أو المؤثرين إلى الظهور بمظهر القريب من الناس والمتفاعل معهم، ليُكسبهم ذلك ثقة الجمهور ويعزز حضورهم في الساحة الدعوية أو الفكرية.
فيتحول التواضع هنا إلى أداة تسويقية تُستثمر لتحسين الصورة الشخصية، لا خُلُقًا نابعًا من الإيمان.
- كما أن المنافسة الإعلامية بين الدعاة والمؤثرين تدفع البعض إلى المبالغة في إظهار التواضع أمام الكاميرات، وإنتاج مشاهد مصطنعة كالمصافحة مع الفقراء أو مشاركة العامة في مواقف بسيطة، لتبدو صورتهم إنسانية وجذّابة.
- ويضاف إلى ذلك تأثير المخرجين ومنتجي المحتوى الذين يحرصون على رسم صورة محددة للداعية أو الشخصية العامة، فتُختار زوايا التصوير والحوارات بعناية لتظهر “التواضع” المرغوب إعلاميًا، حتى لو لم يكن ذلك حقيقيًا.
- كما تسهم ردود أفعال الجمهور على المنصات في ترسيخ هذا السلوك؛ فكلما لقي المحتوى المتواضع استحسانًا واسعًا، ازداد حرص صاحبه على تكراره ولو على حساب الصدق والإخلاص.
وقد أدى هذا إلى ظاهرة يمكن تسميتها بـ "التواضع الاستعراضي"، حيث يتحول التواضع إلى أداء أمام العدسة، تُراعى فيه المشاهد والعبارات أكثر مما تُراعى النية والمضمون.
وهكذا يصبح الإعلام دافعًا قويًا لاستمرار التواضع المزيّف، خصوصًا في ظل غياب الوعي الإيماني والرقابة الذاتية؛ لذلك، فإن مواجهة هذه الدوافع تتطلب تربية إعلامية أخلاقية تُذكّر الدعاة والمؤثرين بأن القيمة الحقيقية ليست في الصورة التي تُنشر، بل في الصدق الذي يسكن القلوب.
مظاهر التواضع المزيّف في الواقع الدعوي المعاصر:
يُعتبر الخطاب الدعوي من أهم المجالات التي يظهر فيها التواضع المزيّف، لأن الداعية يستخدم الكلمة أداةً للتأثير والإقناع، وقد تتحول هذه الأداة –إذا غابت عنها النية الصادقة– إلى وسيلة لإظهار الذات لا لهداية الناس.
في الخطاب الدعوي:
من أبرز مظاهر التواضع المزيّف في الخطاب الدعوي اللغة المتكلّفة التي تتخفّى وراء عبارات التواضع اللفظي، مثل قول بعضهم: ما أنا إلا طالب علم بسيط، أو أنتم أفقه مني، لا أحب الحديث عن نفسي، بينما يُقدّم نفسه في الواقع على أنه المرجع الأوحد وصاحب الرأي النهائي، وآراء غيره ليست بالصواب.
فهذه العبارات، وإن كانت في ظاهرها تواضعًا، قد تكون في حقيقتها استراتيجية لغوية لكسب تعاطف الجمهور وتثبيت المكانة في نفوسهم.
في السلوك الاجتماعي:
- ومن المظاهر كذلك إظهار الانكسار المصطنع أثناء الحديث، كخفض الصوت أو الإكثار من العبارات العاطفية، أو التظاهر بالبكاء في مواقف لا تستدعيه، بغرض التأثير الوجداني في المستمعين.
- كما يُلاحظ أحيانًا الانتقائية في الخطاب، حيث يُظهر الداعية التواضع أمام العامة، لكنه يتعالى في خطاباته الموجّهة إلى زملائه أو منتقديه، فيكشف بذلك تناقضًا بين ظاهر التواضع وباطن التعالي.
في وسائل التواصل:
- ومن المظاهر أيضًا استخدام التواضع كوسيلة للهيمنة الخطابية، إذ يقدّم الداعية نفسه في البداية على أنه “عبد ضعيف”، ثم يبدأ بتوجيه الأوامر والنصائح وكأنه المعصوم من الخطأ، فيتحول التواضع اللفظي إلى غطاءٍ لفرض الرأي بطريقة غير مباشرة.
- كما يظهر التواضع المزيّف في الحرص المبالغ فيه على المديح المتبادل بين الدعاة، فيتبادل بعضهم الثناء المتكلّف على بعض أمام الجمهور، لإظهار التواضع والتقدير، بينما يكون الهدف الحقيقي هو تبادل الدعم الإعلامي والشهرة.
إن مثل هذه المظاهر تفرغ الخطاب الدعوي من صدقه وتأثيره الروحي، لأن الناس بفطرتهم يميزون بين التواضع الصادق الذي يخرج من القلب، وبين التواضع المصطنع الذي يُقال باللسان، والداعية الصادق هو من يكلّم الناس بتجرّد، لا يبحث عن إعجابهم، بل يسعى لإيصال الحق إليهم بلغة الصدق والإخلاص.
الصدق في القول والعمل هو مطابقة التعبير للحقيقة أيا كان لون التعبير بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة وما إلى ذلك، فإذا كان التعبير عن الذات وجب أن يكون مطابقًا لما يدور في النفس، وإن كان التعبير عن أمر خارجي وجب أن يكون مطابقًا له دون زيادة أو نقصان (4).
الآثار السلبية للتواضع المزيّف:
التواضع المزيّف ليس مجرد خلل أخلاقي محدود، بل له آثار سلبية متشعبة تصيب الداعية نفسه، والجمهور المستمع، والدعوة الإسلامية ككل. هذه الآثار تتجلى في عدة مستويات:
1- آثار التواضع المزيّف على الداعية نفسه:
- فقدان الصدق والنية الصافية: التواضع المصطنع ينبع غالبًا من الرغبة في الشهرة أو كسب رضا الناس، مما يبعد الداعية عن الإخلاص لله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة: إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» (5)، فالرياء هنا يمثل فقدان التوحيد الخفي في العمل، مما يضعف أثر الدعوة على نفسه أولًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به» (أخرجه البخاري (6499).).
- الغرور الخفي: رغم ظهور التواضع، فإن التظاهر غالبًا يغذي الشعور بالتميز والتفوق على الآخرين، فيصبح الداعية مخدوعًا بنفسه، ويبتعد عن التواضع الحقيقي الذي يعلي قدره عند الله.
- الإرهاق النفسي والاجتماعي: محاولة الحفاظ على صورة “المتواضع المثالي” أمام الناس والميديا تستنزف طاقة الداعية، فتؤثر على صحته النفسية والجسدية.
آثار التواضع المزيّف على الجمهور:
- الانحراف في الفهم والاقتداء: عندما يرى الناس التواضع المزيّف، يختلط عليهم الصادق بالمصطنع، فيُقلّدون السلوك الظاهري فقط، دون أن يكون لديهم فهم حقيقي لأخلاق الدعوة.
- تشويه صورة الدعوة: الجمهور قد يفقد الثقة بالداعية بمجرد اكتشاف الرياء أو المبالغة في التواضع، فينخفض احترام الناس له ولرسالته.
- الاعتماد على الشكل لا الجوهر: حين يركز الداعية على المظاهر، يتعلم الجمهور أن المظهر أهم من النية والعمل الصادق، فينتشر سطحية الدين بين الناس.
آثار التواضع المزيّف على الدعوة الإسلامية:
- إضعاف مصداقية الدعوة: التواضع المصطنع يُظهِر الداعية غير صادق، فيقل تأثير خطابه، ويصبح الناس يشكون في النصائح والرسائل، وبالتالي تتضرر الدعوة برمتها.
- إفساح المجال للمتكبرين والمنافِقين: بينما يتظاهر بعض الدعاة بالتواضع، يبرز الآخرون الذين يغلبهم الغرور، فيُضرب التوازن الأخلاقي بين أفراد الجماعة، كما حدث أحيانًا في تاريخ الدعوة عندما ظهرت جماعات مدعية الزهد والتواضع، فابتُليت الجماعة بالمنافقين أو المظاهرية.
- تشويه القدوة العملية: المسلمون يحتاجون إلى القدوة الحقيقية، والتواضع المزيّف يجعلهم يفتقدون نموذجًا يُحتذى به في السلوك الصادق، فتضعف التربية الأخلاقية والتطبيق العملي للدين.
التواضع المزيّف يُضعف الداعية روحيًا ونفسيًا، يُشوّه فهم الجمهور، ويضر بالدعوة الإسلامية على المستوى الأخلاقي والتربوي والاجتماعي، أما التواضع الحقيقي، فهو طريق قوة الدعوة ومصداقيتها، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
سبل العلاج والتصحيح للتواضع المزيّف:
التواضع المزيّف مشكلة أخلاقية وروحية يمكن تلافي آثارها ومعالجتها عبر عدة مستويات تربوية وفكرية وسلوكية، بحيث يعود الداعية أو الشخص العام إلى التواضع الحقيقي القائم على الإخلاص لله، لا على رضا الناس أو الشهرة.
تزكية النية والإخلاص لله تعالى:
- النية الصادقة أساس العلاج: يجب على الداعية أن يراجع نواياه باستمرار، ويجعل عمله لله وحده، كما جاء في الحديث: «إنما الأعمال بالنيات».
- توجيه النفس نحو رضا الله: يذكر الداعية نفسه دائمًا أن المديح من الناس قليل القيمة مقارنة برضا الله، وأن الرياء يدمر الثواب ويقوّض أثر الدعوة.
- ممارسة المراقبة الذاتية: عبر الكتابة اليومية أو التأمل في سلوكياته، لتمييز ما هو صدق داخلي وما هو رياء ظاهر.
التركيز على القيم الجوهرية لا المظاهر:
- تبني التواضع العملي: بالابتعاد عن التصنع في اللباس أو الحديث أو المظهر أمام الناس، والعمل بصدق في حياته اليومية.
- إصلاح العلاقة بالناس: التعامل مع الجميع باحترام ولطف دون البحث عن الإعجاب أو الشهرة، فالتواضع الحقيقي يظهر في السلوك لا في الكلام فقط.
- الاعتماد على النقد البناء: تقبل النقد والمراجعة من العلماء أو الزملاء كوسيلة لتعزيز الصدق والابتعاد عن المظاهرية.
التعليم والتوجيه النفسي والاجتماعي:
- التثقيف الأخلاقي: دراسة سير الدعاة الصادقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته، وأعلام الزهد، لإدراك الفرق بين التواضع الحقيقي والمزيّف.
- المحافظة على صحبة صالحة: مصاحبة من يتحلون بالصدق والإخلاص تساعد على تصحيح السلوك وتقوية التواضع الحقيقي.
- تجنب وسائل الإعلام المبالغ فيها: عدم الانغماس فيما يُظهر الإنسان بصورة معينة لأغراض دعائية، أو على الأقل توخي الصدق في كل ظهور.
الممارسة العملية والتدريب المستمر:
- العمل التطوعي الصامت: القيام بأعمال الخير بدون إعلان، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وزهده، ليكون الدافع رضا الله لا شهرة.
- تدريب النفس على التواضع الداخلي: مثل خدمة الآخرين، قبول الخطأ، وعدم التفاخر بالعلم أو المكانة.
- المراجعة الدورية: تقييم الذات بعد كل نشاط دعوي أو خطاب عام، لتحديد أي سلوكيات تظهر فيها مظاهر التواضع المصطنع والعمل على تصحيحها.
قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18]، والسنة مليئة بالنماذج العملية للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يجلس مع الصغار والكبار، ويخدم نفسه ويعامل الجميع بلطف، دون استعراض.
وسير الصالحين عبر التاريخ تُظهر كيف أن التواضع الصادق مرتبط بالإخلاص، ويُثمر احترام الناس ونجاح الدعوة.
***
------------
(1) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 248- 249).
(2) أخرجه أبو داود (4698).
(3) أخرجه البخاري (63).
(4) علم الأخلاق الإسلامية (ص: 300).
(5) أخرجه أحمد (23630).
