logo

التوازن في شخصية المسلم


بتاريخ : الجمعة ، 8 شعبان ، 1435 الموافق 06 يونيو 2014
بقلم : أ. د. عبد الكريم بكار
التوازن في شخصية المسلم

نستطيع أن نقول دون حرج: إن الميل إلى التطرف أصل في حياة الناس، بل يكاد يكون شيئًا مغروسًا في التراث الجيني للبشرية، والشخص الذي يرغب في أن يحيا حياة متوازنة أشبه بالذي يسير فوق حبل مشدود، إن عليه أن

يحرص على ألا يسقط ذات اليمين أو ذات الشمال.

 

وهكذا الإنسان المسلم مهدد دائمًا بأن يجنح نحو إفراط أو تفريط، أو أن يعتني بأشياء على حساب أشياء أخرى.

 

التوازن شيء جميل لأنه يرمز إلى الكمال، ومن الملاحظ أن الشيء ينتزع الإعجاب إذا اجتمع فيه ما تفرق في غيره، وهو إلى جانب هذا أحد مؤشرات الالتزام المهمة، فتكاليف الإسلام كثيرة والشخص المتوازن يحاول أن يقوم بها جميعًا.

 

ويمكن القول: إن الذي يؤمن نصاب التوازن في حياتنا شيئان: واجباتنا وأهدافنا، وليس المقصود بالواجب هنا الواجب الشرعي، ولكن الواجب الحضاري، وكل ما نشعر أنه مطلوب منا ولو كان نافلة من النوافل.

 

إن الالتزام بالواجبات والآداب الشرعية يجعل حياتنا في السياق الصحيح الذي ينسجم مع عقيدتنا، وينسجم كذلك مع الغاية النهائية التي نسعى إلى بلوغها، وهي الفوز برضوان الله، عز وجل، ونعيم الجنة الأبدي.

 

أما الالتزام بأهدافنا في أعمالنا وإنجازاتنا ومسئولياتنا فإنه يساعدنا على حشد طاقاتنا، كما يجعلنا نضغط على رغباتنا وأوقاتنا، لنبدو في نهاية الأمر منطقيين في سلوكياتنا ومنسجمين مع أنفسنا.

 

وهناك شيئان آخران أيضًا يساعدان على تحقيق التوازن: الأول هو الالتزام بالسنة، والثاني هو البعد عن الغلو والتنطع.

 

إن اتباع السنة في أكبر قدر ممكن من تفصيلاتها يعني الانتباه الدائم لحقوق الله، عز وجل، وحقوق الأهل والأقرباء والجيران وعامة المسلمين، كما أن السنة تساعد على تحقيق الانسجام الاجتماعي من خلال تأمينها نوعًا من الوحدة الشعورية بين المسلمين، وتحقيق الألفة، من خلال ما تشيعه من التشابه في المظهر والسلوك، والأهم من كل هذا هو أن المسلم حين يتمسك بسنة النبي، صلى الله عليه وسلم، يكون قد أقام حول نفسه خط دفاع أولي يحول بينه وبين الانحدار نحو التفريط والتقصير في الفرائض.

 

أما البعد عن التنطع والغلو والحرفية في رؤية الأشياء فإنه يحقق التوازن من جهة إبعادنا عن الإفراط؛ والذي يعني دائمًا إعطاء شيء ما من الاهتمام والعناية والوقت والجهد أكثر مما يستحقه، وهذا غالبًا ما يكون على حساب شيء آخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: »هلك المتنطعون«، قالها ثلاثًا(1)، والمتنطعون هم المتشددون في غير موضع تشدد.

 

وإذا كان من غير الممكن الإتيان على كل جوانب التوازن في شخصية المسلم من خلال هذا المقال، فلنتذكر ما نعتقد أنه مهم منها:

 

أولًا: التوازن بين الفلاح والنجاح.

 

إن الذي يطّلع على الأدبيات التي سادت عبر القرون الخمسة الماضية، يجد أن اهتمام معظم المسلمين ببلورة شروط النجاح الدنيوي كان ضعيفًا للغاية، وكان اهتمامهم أفضل بمسائل الفلاح الأخروي.

 

وهذا أدى إلى تهميش الأمة وضعفها؛ بسبب ضعف مكوناتها الأساسية وهي الأفراد.

 

وربما نظر الناس في تلك المراحل إلى أن الحديث عن الإنجاز العلمي والتفوق في الإدارة إلخ... يشكل نوعًا من الانغماس في الشأن الدنيوي، والإخفاق في إدارة شئون المعاش لابد في النهاية أن ينعكس على مستوى التدين لدى الفرد ولدى الأمة سواء بسواء.

 

واليوم تنشر العولمة وعلى أوسع نطاق، مفاهيم القوة والغلبة والتفوق والنجاح، وتلح في مساعيها على جعل الناس يهتمون بالمادة على حساب المعنى، والعاجل على حساب الآجل، وتلقى تجاوبًا غير قليل في أوساط الشباب والناشئة.

 

إن الحضارة الغربية تحفز معاني القوة على حساب معاني الرحمة، ومعاني الأخذ على حساب معاني العطاء، وقد صار العالم الغربي يستوحي من تراثه القديم روح البطل المقدام الذي يغزو، وينهب ويسلب، وينفق من غير حساب، وقد كان من قبل يستوحي من النصرانية روح الشهيد الذي يضحي بنفسه من أجل غيره، وقد ترتب على كل هذا اتجاه كثير من الناس اليوم، ولاسيما الشباب إلى النجاح الدنيوي والفوز بالثروة والمنصب والجاه والنفوذ والجاذبية الاجتماعية على أنها أشياء تستحق فعلًا التضحية؛ وأن يكرس المرء حياته من أجلها، وكان هذا على حساب الاهتمام بالفلاح والقيام بحقوق العبودية لله، عز وجل، والاهتمام بالفوز الأخروي.

 

نقطة التوازن في هذه المسألة قد لا تكون في العمل على إعادة توزيع الاهتمام بين الفلاح والنجاح، فهذه عملية يعسر ضبطها، وإنما تكون في الالتزام بأن تكون مساعينا لتحقيق الفوز الدنيوي مرتبطة على نحو ما بحرصنا ومساعينا في اتجاه الفوز الأخروي، وذلك يتم من خلال استحضار النية الصالحة والحسنة عند مباشرة المباحات، وعند محاولة الحصول على كل ما هو دنيوي، من مثل كسب المال والحصول على منصب أو وظيفة.

 

ولا تكفي النية الحسنة في تحقيق التوازن المطلوب؛ بل لابد من سلوك الطرق المشروعة للحصول على ما نريد الحصول عليه من أمور الدنيا.

 

إن هذه الحياة في الرؤية الإسلامية حياة مؤقتة ومحدودة، وإن كل النجاحات التي نصيبها فيها بالتالي هي نجاحات صغيرة ومؤقتة، وإن أي نجاح يتم بطريقة غير مشروعة هو نجاح وهمي، وقد يكون عبارة عن فرصة أو مناسبة لتحمل المزيد من الآثام والأوزار.

 

إن حياتنا على هذه الأرض ستكون لها أعظم القيمة إذا استطعنا أن نجعل من حركتنا اليومية أسبابًا تقربنا من الله تعالى ونيل مرضاته، وهذا ممكن إذا حاولنا وضع إراداتنا وقدراتنا في إطار العبودية لله تعالى، كما قال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].

 

ثانيًا: التوازن بين العقل والعلم.

 

دار جدل قديم بين كثير من الناس في المقارنة بين العلم والعقل، فمنهم من فضل العلم ومنهم من فضل العقل، ولا أظن أن ذلك الجدل سوف ينتهي في يوم من الأيام؛ بسبب غموض مجالات عمل العقل وغموض نوعية العلاقة التي ترتبط العقل بالخبرة.

 

وإذا تأملنا في واقعنا وجدنا صنفين من الناس يحتاجون إلى استعادة التوازن في هذه المسألة؛ صنف يبذل جهده في القراءة وجمع المعرفة، وقد يقوم بنقلها وتعليمها للناس، لكنه لا يحاول أبدًا أن يضيف شيئًا لما يحمل من علم، أي لا يقوم بأي دور نقدي تجاه ما يحفظ وينقل، وقد ذكروا أن تلميذًا ظل يتردد على أحد الأساتذة عشر سنوات، ثم توقف عن ذلك، وصار يقرأ على أستاذ آخر، فغضب الأستاذ الأول من ذلك التحول، وعتب عليه، وسأله عن أسبابه، فقال التلميذ: صحبتك عشر سنين، ولم أسمع منك إلا قولك: قال فلان، وقال فلان، ولم تسمعنا ما الذي تقوله أنت، قول فلان وفلان أجده في الكتب والمراجع، لكن أريد أستاذًا أعرف رأيه في قول فلان وقول فلان!.

 

شيء أساسي أن نحفظ ونطلع، لكن من المهم أيضًا أن نمتلك الوعي الجيد بما نحفظ ونحمل من علم، إن من المهم على هذا الصعيد أن نعرف تاريخ العلم الذي نحمله، لأننا لا نستطيع أن نسبر أغواره دون أن نعرف المنعطفات التي مر بها، ودون أن نعرف المشكلات التي واجهها والفرص التي تنتظره، وآفاق تطويره وتنميته.

 

ومن المؤسف في هذا السياق أننا لا نملك في طول عالمنا الإسلامي وعرضه أية جامعة متخصصة في تاريخ العلوم، بل قد لا نملك أية كلية تفتخر بأنها تقدم شيئًا متميزًا في هذا الحقل المعرفي الخطير!.

 

إذن لابد من إحداث توازن على الصعيد الشخصي داخل البنية المعرفية بين الحفظ وبين فهم ما نحفظ ونقده والاجتهاد فيه والإضافة إليه.

 

أما الصنف الثاني من الناس فإنه على العكس من ذلك، يستخدم عقله على نحو نشط، ويحاول أن يقول في كل شيء قولًا لكن المعرفة التي لديه والخبرة التي في حوزته محدودة جدًا، ويكثر وجود هذا الصنف في البيئات التي يغلب عليها طابع الثقافة الشفهية، وهي بيئات تنتشر فيها الأمية عادة انتشارًا واسعاً.

 

أين تكمن نقطة التوازن بين العلم والعقل?:

 

لا أعتقد أننا نستطيع وضع السكين على المفصل في أمر شديد الالتباس كهذا الأمر، لكن يمكن أن نقارب ما نريد.

 

في ظني أن نقطة التوازن تلك تكمن في معرفة دور كل من العقل والعلم في تكوين الحكم العقلي، وفهم ما يمكن أن يكون لكل منهما من مجالات، وأعتقد في هذا الإطار أن الله، جل وعلا، خلق العقل البشري ليعمل ضمن أطر ووفق مبادئ وأصول محددة، وهذه يوفرها الوحي.

 

وحين يستدبر العقل الوحي فإنه يظهر الكثير من العجز والكثير من الاضطراب، وحين ينشط في إطار الكليات فإنه يفتقر إلى المعرفة المتخصصة، وهو في هذا أشبه بالرحى، فكما أن إدارة الرحى تكون غير ذات جدوى إذا لم نضع فيها شيئًا من الحبوب، فكذلك العقل لا ينتج من خلال تشغيله أي شيء ذي قيمة من غير تزويده بالمعارف والمعلومات والخبرات المطلوبة.

 

وهكذا فإن نقطة التوازن في العلاقة بين العقل والعلم تتمثل في التسليم للوحي في الأمور الكلية والغيبية؛ وفي توفير الكثير من المعلومات الدقيقة والشاملة؛ كي يتمكن العقل من إعادة تنظيمها ووصفها في سياق منطقي جديد، واستثمارها من أجل الحصول على أشياء كانت مجهولة قبل عملية التفكير.

 

ثالثًا: التوازن في التعامل مع الأزمة.

 

نحن باعتبار ما، شيء من الماضي، فجذورنا الفكرية والنفسية وموروثاتنا الجينية كلها ممتدة في الماضي، ولهذا فإن المرء لو ترك نفسه وشأنها فإنه سيجدها نزاعة إلى الماضي غارقة فيه، وهذا حاصل بالنسبة إلى كثيرين منا، ومن المؤسف أن بعض المسلمين يحتفي بالاستنباط من التاريخ ويسعى إلى استخراج النماذج منه أكثر من سعيه إلى فهم مقاصد المنهج الرباني الأقوم؛ وكثيرًا ما يغيب عن البال أن الاعتماد على التاريخ في فهم الواقع أو تسويقه أو توجيهه كثيرًا ما يشكل عامل انقسام وتهديد لوحدة الأمة.

 

والمنهج القرآني في التعامل مع التاريخ فريد، فهو يعرض عن التفاصيل، ويركز على مواطن العظة والعبرة، وحبذا لو وقفنا عند هذا الحد.

 

إن من المهم أن ندرك أن طاقة وعينا على الاستحضار والاستيعاب محدودة، وحين نصرفه إلى الماضي فإن تعامله مع الحاضر ومع المستقبل سيكون قاصرًا، فكلما اتضحت معالم المنهج الرباني الأرشد في أذهاننا وأنظارنا كانت حاجتنا إلى الاستعانة بالتاريخ أقل والعكس صحيح، ويصح لنا أن نتخذ من هذا مؤشرًا ومعيارًا.

 

حتى لا يختل توازننا فإن علينا أن نصرف القليل من اهتمامنا للماضي، ونوجه الباقي للحاضر والمستقبل، فالأمة تعاني من مشكلات كثيرة على المستوى الداخلي وعلى مستوى علاقاتها، ولسنا بحاجة في هذا المقام إلى الحديث عن الفقر والمرض والجهل والتشرذم والاستبداد والظلم والغثائية والتبعية...، فقد تحدث المفكرون والمصلحون في هذه الشئون بما فيه الكفاية، لكن علينا أن نبدع في صياغة المناهج والأساليب والأدوات التي تساعدنا في اجتراح الواقع، والقبض على المعطيات الحاضرة، وليس هذا بالأمر اليسير، نظرًا للطبيعة الزئبقية والهلامية للواقع.

 

وليس المطلوب منا حتى نتعامل مع الأزمنة بتوازن واعتدال أن نسعى إلى توزيع اهتماماتنا على نحو معين، وإنما المطلوب أيضًا أن نسلك المسلك المتوازن على صعيدنا الشخصي، حيث أن هناك كثيرًا من المسلمين يقعون في أشكال من الخلل، فهناك من يعيش في ضنك وتقتير بحجة أنه يوفر المال لمواجهة أزمات أو عوارض المستقبل، والغريب أن منا من يفعل ذلك وهو في سن السبعين، ولست أدري أي مستقبل على هذه الأرض ينتظر أو ينتظره ابن السبعين!.

 

وهناك من يعيش حياته بالطول والعرض، ينال من الملذات مباحها ومحرمها غير آبه بما يجره عليه ذلك من الأمراض والعلل المهلكة، إنه ينظر فقط إلى الساعة التي يعيش فيها، وينظر إلى ما بعدها باستخفاف تام!.

 

وأود في هذا السياق أن أشير إلى النقاط الثلاث الآتية:

 

1. لا ريب أن الإنسان كلما ارتقى صارت قدرته على التضحية بالعاجل من أجل الآجل أكبر وأعظم؛ وعلى هذا فالمسلم الملتزم يحمل سمات حضارية كبيرة، وعدم القدرة على تأجيل بعض الرغبات يؤشر دائمًا إلى الوهن والتأزم، ويمكن أن نتخذ من هذا المفهوم مجسًا لمعرفة أحوالنا الشخصية.

 

2. على الواحد منا أن يهتم بحاضره على مستوى الفهم، وعلى مستوى الاستثمار والانتفاع، وعلى مستوى الاستمتاع أيضًا، وليس من الحكمة في شيء أن يعيش المرء تعيسًا؛ لأنه اتخذ من السعادة هدفًا يطارده مدى الحياة دون أن يلحق به.

 

ليكن تمتعنا بالحياة محكومًا دائمًا بإمكانية الاستمرار، وهذا لا يكون إلا إذا أخذنا من الحاضر لأنفسنا باعتدال وتوازن.

 

3. إن المستقبل يولد من رحم الحاضر، وإن زماننا سريع التغير والتقلب والتطور، وإن استشراف المستقبل والإعداد له يجب أن يتم من أفق تحسين قرارات الحاضر؛ إذ كلما كانت قراراتنا في التعامل مع واقعنا أكثر رشدًا وأكثر حكمة، توقعنا بإذن الله، عز وجل، مستقبلًا أكثر أمنًا وازدهارًا.

 

إن التغيرات السريعة والتعقيدات الكثيرة التي تميز عصرنا عن غيره، تجعل أي توازن نصل إليه مهددًا بالزوال، مما يعني أن البحث عن التوازن في كل جوانب حياتنا يجب أن يشكل العمل الذي لا نمل من تكراره.

 

______________________________________________

  1. صحيح مسلم (2670).

المصدر: رابطة العالم الإسلامي.