المهارات الحياتية العلمية في الإسلام
د. ماجد بن سالم حميد الغامدي
اختلفت التسميات العلميَّة التي أطلقَها الباحثون على مجال المهارات العلمية، فتارة تسمَّى المهارات المعرفية، وأخرى المهارات العقلية، وثالثة بالمهارات العلميَّة، ويُعتبر الأخير هو الاسم الأفضل؛ لأنه أشمل من حيث تناوله المعرفة، وجمْعه بين الأداء العقلي والحرَكي.
ويُمكن تصنيف المهارات الحياتية العلمية إلى عددٍ من المهارات الفرعية، منها: حلُّ المشكلات، وممارسة التفكير الناقد، وممارسة التفكير الإبداعي، وإدارة الوقت، والبحث عن المعلومة، واتِّخاذ القرار، واستغلال وقت الفراغ، وضبْط النفس، والتعامُل مع التقنية الحديثة.
المهارات الحياتية العلمية في الإسلام:
جاءت الآيات والأحاديث التي تُعَزِّز من تنمية المهارات العلمية؛ لتحقيق الغاية الكبرى من خَلْق الإنسان وتحقيق عمارة الأرض، فحثَّت الأدلة على التفكير وإعْمال العقل؛ كونه عبادةً يترتب عليه الأجْرُ العظيم، فوردتْ في القرآن 16 آيةً تدعو إلى التفكُّر، كقوله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191]، ويقول - تعالى -: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176].
بل ورَد الحديث الدال على أنَّ التفكير فريضة؛ فرُوِي أنَّ بلالاً - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، ما يُبكيك وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال: ((وَيْحَك يا بلال، وما يَمنعني أن أبكي وقد أنزَل الله - تعالى - عليّ في هذه الليلة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]؟))، ثم قال: ((ويلٌ لِمَن قرَأَها ولَم يتفكَّر فيها))، فقيل للأوزاعي: ما غاية التفكير فيهنَّ؟ قال: يقرؤهنَّ ويَعْقِلهنَّ.
وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تناوَلَت مفاهيم التفكير المختلفة، فبلَغَت الآيات التي تدعو إلى التفكُّر في كتاب الله "16" آية، وأخرى تدعو إلى التذكُّر وعددُها "269" آيةً، و"20" آيةً تدعو إلى التفقُّه، و"129" آيةً تدعو إلى النظر، ودعا - سبحانه وتعالى - إلى الاعتبار في "7" آيات.
وإنَّ كثيرًا من الآيات قد فصلت في مهارات التفكير كمهارة البحث؛ حيث قال - تعالى -: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [العنكبوت: 20].
وورَدت مهارة التأمُّل والنظر في قوله - تعالى -: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101].
وفي مجال التجريب قول الله - تعالى -: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260].
وصرَّحت آيات القرآن الكريم بمهارة الاستنباط، فقال - تعالى -: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]. ومن نماذج تطبيق التفكير في السُّنة العديد من الأحاديث والمواقف التي تحثُّ على التفكير والاجتهاد، ومنها: ((لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ منكم العصر إلاَّ في بني قُريظة))؛ أخرَجه البخاري.
فثبت أن طائفة صلَّت في الطريق في الوقت، وطائفة صلَّت في بني قريظة بعد الوقت، فلَم يَعِب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اجتهادَ طائفة منهما، وذلك عينُ التفكير.
وكما جاء في استثارة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعقول الصحابة بالسؤال؛ حيث قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا لأصحابه: ((أخبروني عن شجرة مَثَلُها مَثَلُ المؤمن))، وفي رواية: ((مَثَلُ المؤمن كشجرة لا يَتحاتّ ورقها))، فجعَل القوم يذكرون الشجر من شجر البوادي، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "وأُلْقِي في رُوعي أنها النخلة، فجعَلَت أريد أن أقولَها، فإذا أسنان القوم - أي: كبارهم وشيوخهم - فأهابُ أن أتكلَّم، فلمَّا سكتوا، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هي النخلة))"، وفي قوله: "فجعل القوم يذكرون الشجر" دليل على إعمال العقل، وإطلاق التفكير.
ويُميِّز التفكير في الإسلام انضباطُه بضوابط العقيدة والفطرة السليمة، والتفكير فيما يجوز التفكير فيه دون غيره من الأمور التي لا يستطيع العقل أن يخوضَ فيها، كالتفكير في عالَم الغيبيَّات والذَّات الإلهيَّة، وبمعنًى أدقَّ: الجمع بين هداية الوحي والعقل؛ لاختلاف الطرق التي يعتمد عليها التفكير للوصول إلى حقائقها، ويُمكن حصْرُ هذه الطرق في ثلاثة أقسام:
الأول: ما لا يُعْلَم إلاَّ بالحواس والتجربة والعقل.
الثاني: ما لا يُعْلَم إلاَّ بالوحي، فلا دخل للعقل فيه.
الثالث: ما يَشْترك في عِلْمه العقل والوحي، فلا يفصلهما عن بعضهما بأيِّ وجْهٍ.
وفي المحافظة على الوقت:
وردَت الأدلة الكثيرة في القرآن الكريم والسُّنة النبوية التي تدلُّ على المحافظة على الوقت؛ بقضائه فيما ينفع المسلم في دينه ودنياه؛ انطلاقًا من أنَّ وقت المسلم هو حياته، فإذا ذهَب يومُه فقد ذهَب بعضه؛ كما ورَد في الأثر، ونذكر من هذه النصوص بإيجاز قولَ الله - تعالى -: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: 37]، ففي قوله - تعالى -: ﴿ نُعَمِّرْكُمْ ﴾ دليلٌ واضح على أنَّ الندم يكون على ما ضاع من العُمر.
ومن الأدلة التي فصَّلَت كيف يستغل المسلم وقته بلا إفراط ولا تفريط، وخاصة في أوقات الترويح عن النفس بالمباح الذي أحلَّه الإسلام ورغَّب فيه: قولُ الحقِّ - سبحانه -: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7 - 8]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للصحابي الجليل حَنْظَلة بن عامر حين شكا إليه ما يتخلَّل أوقاته من الملاطفة للصِّبيان، والمعاشرة للزوجات: ((يَا حَنْظَلَةُ، ساعة وساعة))؛ أخرَجه مسلم.
وقال - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62]، والليل والنهار إنما يَمضيان ويتبدَّلان بمرور الوقت.
بل ورَد من الأخبار التي تُبيِّن معجزة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعمارُ أُمَّتي مابينَ السِّتِّين إلىالسبعِين، وأقَلُّهم مَنْ يَجُوزُ ذلك))؛ رواه الترمذي.
ومن نصائح النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله لرجلٍ وهو يعظه: ((اغتنمْ خَمسًا قبل خمسٍ: شبابك قبلهَرَمك، وصحَّتك قبل سَقَمك، وغِناك قبل فقْرك، وفَرَاغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك))؛ أخرجه الحاكم في المستدرك.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: الفَوْت - وهو ضياع الوقت - أشدُّ من الموت؛ لأنَّ الفَوْتَ انقطاعٌ عن الحقِّ، والموت انقطاع عن الخلْق.
بل وأشد من ذلك التعبير بالغَبْن عن تضييع الوقت؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -)) نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة، والفراغ))؛ حديث صحيح على شرْط الشيخين.
أما مهارة ضبط النفس:
فشمول الإسلام وكماله لَم يغفلها؛ لأنها أساس تحريك النفس والتحكُّم فيها في مختلف المواقف والتعاملات، فجاء في الأثر: "الدين المعاملة"؛ قال - تعالى -: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كظَم غيْظًا وهو قادرٌ أنْ ينفذَه، ملأَ الله جوْفَه أمْنًا وإيمانًا))، وقال لأشج عبد قيس: ((إنَّ فيك خَصْلتين يحبُّهما الله - جل وعلا -: الحِلم والأناة)).
التعامل مع التقنية الحديثة:
لقد خلَقَ الله الإنسان وأوْكَلَ إليه عمارة الأرض، وأنزَل الآيات التي تحثُّه على مراقبة الله - تعالى - وعبادته في كلِّ الأماكن والأزمان، وبكلِّ أحواله؛ قديمِها وحديثِها، وقد ضبَطَت هذه الشريعة تصرُّفات المسلم وتعامُلاته، حتى مع التقنية الحديثة وما يُسْتَجَدُّ من الاختراعات والابتكارات، فقال - تعالى -: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
وقد تكون هذه التقنيات من المُعِينات على العبادة، فما أحسن أن تُسْتَغَلَّ في صلة الأرحام؛ قال - تعالى - في التحذير من قطيعة الأرحام: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22].
فلم يَعُد للمرء عُذرٌ بعد ثورة الاتصالات الحديثة في صِلة رَحِمه، وإن بَعُدَت.
وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
ففي هذه الآية أصول التعامُل مع كافَّة الوسائل التقنية وغيرها، ومنها قوله - تعالى -: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 30، 31].
ولأنَّ استخدام التقنية الحديثة يُعتبر متعدي النَّفْع والضُّر، لَزِمَ أن يُسْتَصحب قولُ النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة، كان له أجْرها وأجر مَن عَمِل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سيئة، كان عليه وِزْرُها وَوِزْر مَن عَمِل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا))؛ أخرَجه مسلم.
وورَد الحثُّ على الإحسان في كلِّ شيء، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيء))؛ رواه مسلم.
كلُّ هذه الآيات والأحاديث العامة تجعل المسلمَ يتعامل مع كلِّ مُحْدَثٍ ومُسْتَجد من وسائل النقل والاتصال والتقنية، بالإحسان ومراقبة الله - عزَّ وجلَّ - وتسخيرها لتنفيذ الكثير من أنواع العبادات وضبْطها وَفْق المنهج الشرعي القويم.
المصادر:
• أبو حامد الغزالي؛ إحياء علوم الدين، ج1، دار القلم، بيروت.
• تغريد عمران، وآخرون (2001)؛ المهارات الحياتية، القاهرة، مكتبة زهراء الشرق.
• ماجد بن سالم الغامدي، (2011م)؛ فاعلية الأنشطة التعليمية في تنمية المهارات الحياتية في مقرر الحديث لطلاب الصف الثالث المتوسط بمدينة الرياض، دراسة ماجستير، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
• هدى سعد الدين (2007م)؛ المهارات الحياتية المتضمنة في مقرَّر التكنولوجيا للصف العاشر، ومدى اكتساب الطلبة لها.
• موقع مجلة الوعي الإسلامي الكويتية.
http://www.islam-qa.com
http://muntada.islamtoday.net
http://almoslim.net
المصدر: موقع الألوكة