التدليس الغربي في قضايا المسلمين
نسمع عن الغرب من أذيالهم المأجورة وكلابهم الضالة أن الغرب صاحب حضارة وقيم ورقي، فإذا ما جئنا إلى أرض الواقع رأينا سرابًا وخيالًا، فإذا بالرقي والحضارة والقيم كل ذلك أساطير المأجورين وتلفيق المخدوعين، فالتطفيف والكيل بمكيالين والازدواجية في التعامل مع قضايا المسلمين سماتهم وأخلاقهم، فحديثهم عن الحرية لا يعنون به حرية الشعوب في اختيار الحاكم أو الحرية السياسية أو الاقتصادية أو حتى الدينية، إذا كانت ستأتي بما لا يشتهون، وإنما الحرية التي يريدونها لنا هي الإباحية الجنسية، وحرية التبرج والسفور، وحرية سرقة أموال الشعوب وأفكارهم ومصادرة آرائهم.
كذب وتدليس ونفاق وخداع وتضليل هي أخلاقهم وسمة تعاملاتهم، نصرة الطواغيت على الشعوب الضعيفة، فإذا انتفضت الشعوب تطالب بالحرية رأيت مساندة المجرمين ضد شعوبهم، فالسلاح والمال والجند لخدمة الطاغوت ضد شعبه، فإذا سقط الطاغوت وأرادت الشعوب أن تختار لنفسها ما تريد رأينا التدخل السافر والتهديد والتوعد لهم بالمصير المجهول الغامض، والسعي الحثيث من أجل إنشاء طاغوت جديد وديكتاتور حديث.
هدفنا السلام وليس لدينا أطماع عسكرية أو سياسية أو إقليمية في هذه المنطقة، كانت هذه الكلمات التي بدأ بها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون حربه على فيتنام، فكانت محصلة السلام الذي يدعيه بـ 1,4 مليون قتيل فيتنامي.
إمبراطورية الكذب الغربي التي لا تنتهي، كيف تنطلي على الشعوب الضعيفة المستكينة التي تسمع أقوالًا وترى واقعًا مغايرًا.
ويبدو أن الغرب أعدوا قواعد خاصة بهم لمعاييرهم المزدوجة في سياساتهم الخارجية المبنية على التزوير والكذب، يظهر ذلك في تصريح المندوب الأمريكي الدائم الأسبق للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة أدلاي ستيفنسون، بأن الكذب خطيئة أمام الرب، ولكنه أمر مفيد للغاية في مواقف معينة.
ولهذا ربما لم تتورع الولايات المتحدة عن استخدام السلاح النووي ضد اليابان في أغسطس عام 1945 مرتين في هيروشيما وناجازاكي ومن جود أي داع، وادعت كما هي العادة، أنها فعلت ذلك من أجل السلام، ولم تتصبب من جبينها قطرة عرق واحدة لإبادة أكثر من 250 ألف شخص في محرقة نووية، لم يكن لها هدف في حقيقة الأمر إلا الانتقام من اليابانيين على غاراتهم على سفن الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر.
هذا السلوك الوحشي لم يتوقف، ووجد استعادة له في استخدام الولايات المتحدة للفسفور الأبيض، السلاح الحارق الذي يحرم استخدامه بموجب القانون إلا لإضاءة ساحة المعركة، ومن خصائصه أنه يحول ضحاياه إلى كتلة مشوهة، لكن الولايات المتحدة تجاهلت كل القيم والأعراف الدولية والإنسانية واستخدمته خلال حصار الفلوجة في عام 2004.
أتصور أن الشعوب العربية لم تكتشف حقيقة إدارات الولايات المتحدة الأمريكية كما كشفتها منذ 7 أكتوبر عام 2023، لقد أزالت أحداث هذا العام الستار عن الحقيقة التي كانت خافية عن بعضنا، والتي استمرت خافية في السياسة على طول العقود الماضية، والتي جعلت البعض منا يتصور أن 90% من أوراق القضية الفلسطينية في يد الولايات المتحدة الأمريكية.
ما جرى منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا على صعيد السياسة الإمبريالية اتجاه القضية الفلسطينية هو استمرار الكذب والخداع والكلام المعسول، وإصدار القرارات الدولية والمطالبة بتجميد الاستيطان الاسرائيلي كذبًا وخداعًا، وحل الدولتين، والحديث عن السلام والعمل على عكسه بدعم آلة العدوان والاحتلال الإسرائيلية، والحديث عن الارهاب الفلسطيني المزعوم "ضربني وبكى وسبقني واشتكى" وانكار ما قامت وتقوم به اسرائيل من مجازر وجرائم بحق الشعب الفلسطيني، كان آخرها العدوان الاسرائيلي على قطاع غزه ومواصلة الحصار على قطاع غزه.
الموقف السلبي للغرب تجاه المسلمين وقضاياهم الراهنة:
يرى المسلمون الغرب متحيزًا ضد الإسلام دائمًا، ظالمًا للمسلمين أو ساكنًا عن الظلم الواقع عليهم (والمثال الأبرز مأساة فلسطـين؛ التي سببها الرئيسي تصدير المشروع الغربي الحديث مشكلة اليهـود والصـهيونـية إلى بلاد المسلمين!). ويرى المسلمون أن الغرب ينطلق في تعامله من منطلق القوة ولا ينفتح على الحوار إلا مكرهًا.
كما أني أومن بأن الأصل في الناس الخير، وأن الشر طارئٌ عليهم، حتى من ضلّ منهم بكفرٍ أو شرك، فهو وإن انتكست فطرته إلى أسفل سافلين في جانب علاقته بربه عز وجل، إلا أنه لا يلزم من ذلك أن يكون حقودًا مجرمًا معدومَ الإنسانية.
ولذلك فإننا ما أكثر ما نجد كافرًا ذا خلق ورحمة وتعامل حسن، في حين أننا قد تجد مسلمًا فاجرًا بذيء الأخلاق مخدر الضمير.
ومع أن الكافر لن ينفعه حسن خلقه عند ربه، فإن المسلم لا يمنعنا من تأديبه ومعاقبته إذا أجرم كونه مسلمًا مستحقًا لعفو الله ورحمته وأنه لن يخلد في النار؛ بل إننا لنعاقب المسلم المجرم، في حين أننا نحسن ونكرم الكافر إذا أحسن وعمل الخير في الناس.
هذا كله يدل على موضوعية الإسلام واعتداله في النظر والحكم على الآخرين، وفي التفريق بين بعض أحكامنا في الدنيا على الناس وحكم الله تعالى عليهم في الآخرة.
هذا كله أقدم به بين يدي التنبيه على قاعدتين كبيرتين من قواعد تعامل دول الغرب معنا (أبناءَ الحضارة العربية والإسلامية)، وينبغي لذلك ألا نجهلهما ولا نغفل عنهما فيما لو فاجأنا الغرب ببعض المواقف الإنسانية، أو وجدناه أحيانًا يقف مع بعض الشعوب الإسلامية ضد بعض حكوماتها المستبدة.
وأول هذه القواعد: أن الحكومات الغربية لا يحركها إلا مصالحها، وأنها حتى لو تحركت بدوافع إنسانية، فإنها تحرص على أن تكون تحركاتها محققة لمصالحها أولًا، ولا يمكن أبدًا أن تقف حكومات الغرب موقفًا إنسانيًا مع أمة خارجة عن حضارتها وثقافتها ودينها إذا كان وقوفها معها يفسد عليها مصالحها ويضرها، فهذا لم يقع ولن يقع؛ إلا خطأً غيرَ مقصود وسوءَ تخطيط.
وهذا كله لا نعيب به الغرب، فكل من لم يؤمن باليوم الآخر لن يعرف العطاء لوجه الله، ولذلك فهذا التصرف من الغرب لا يمكننا أن نطالبه بأحسن منه، لكن المطلوب ينحصر فينا نحن: في طريقة فهمنا لدعم الغرب وطريقة تعاملنا معه، فيجب علينا أن نستحضر الفرق الكبير بين من يحسن إلينا غير مبتغٍ منا جزاءً ولا شكورًا، ومن يعاملنا معاملةَ التاجر المنصف، الذي لا يعينك إلا في سبيل ربح سيحصل عليه.
والحقيقة أن التعامل الإنساني المحض يكاد ينعدم في الواقع السياسي، عند الغرب وعند غيرهم، بمن فيهم الدول الإسلامية، وإن وُجد بين بعض أفراد الشعوب، من مسلمين وغير مسلمين.
وهناك فرق كبير بين تعاملك مع التاجر الذي يبيعك ليربح، وتعاملك مع المحسن الذي يعطيك حبًا ورغبة في الخير لك، فالثاني يستحق من الحب والجزاء ما لا يستحقه الأول، ومن الخلل والخطأ معاملتهما بطريقة واحدة.
والقاعدة الثانية: أننا مهما حاربنا التطرف والتشدد الذي يُوجد في بعض أبناء المسلمين، ومهما نجحنا في إرساء قواعد التعايش السلمي وعدم الاعتداء على أي شخص أو أي شعب لمجرد الاختلاف معه في الدين أو الحضارة، ومهما بالغنا في ذلك؛ فلن يزول خوف الغرب من اختلافنا عنه، فنحن (معشرَ المسلمين) حضارة مختلفة، والغرب يخشى من تأثير أي حضارة مختلفة عليه، حتى لو اقتنع الغرب نفسه أنها لا تمثل أي تهديد على العلم والتقدم والسلم العالمي، خاصة إذا كانت تلك الحضارة حضارة قوية كالحضارة الإسلامية، لا يمكن أن تذوب في الحضارة الغربية.
فالغرور الغربي الذي لا يمكنه أن ينساه، مهما تَرقَّى أخلاقيًا، ومهما حاول محاربة العنصرية، غرورٌ تَأصَّلَ فيه، خاصة بعد تقدمه العلمي والتقني في العصور الحديثة، ولذلك فقد قد لا تضيف إليه مساعيه في محاربة العنصرية إلا مزيدَ شعورٍ بالفوقية لديه وتميزه على الآخرين، فتكون محاربته للعنصرية (هي نفسُها) وسامًا من أوسمة شرفه التي تزيده غرورًا وعنصرية، وتزيده خوفًا من التأثر بأي حضارة تخالفه، وعلى رأسها الحضارة الإسلامية بدينها وقيمها.
وما محاربة النقاب والحجاب والمآذن إلا رموزًا لحقيقة ذلك الخوف من حضارة الإسلام، التي يتضح أنها إحدى قواعد الغرب في تعامله مع المسلمين، والتي لن تختلف مهما تحسنت علاقته بهم، ومهما خفتت آثار حربه على الإسلام باسم حربه على الإرهاب.
وهذا الخوف هو في الحقيقة نابع عن عقيدة الولاء والبراء الغربية ضد الحضارة المغايرة لحضارته، وهي العقيدة التي يتحصنون بها عن الذوبان في حضارة الإسلام، ويستنكر بعض أبناء المسلمين على المسلمين الحرص عليها!
إذن فعلينا أن نعي هذه الحقيقة: أن خوف الغرب من الإسلام لا لكونه يشكل تهديدًا أمنيًا أو عسكريًا، من خلال العمليات الإرهابية أو الدول التي ترعى الإرهاب (حسب تصنيفهم)، وإنما خوفه من الإسلام ذاته، لكونه يُمثِّلُ فكرًا وقيمًا وحضارة مغايرة للحضارة الغربية بدينها وفكرها وقيمها، فلا يصح أن نندهش من مواقفه المتطرفة ضد الإسلام، ولا من ظهور حركات يمينية متشددة واكتسابها لتأييد الأكثريات في بعض الشعوب؛ فهذا هو الأصل، وما سواه هو القليل أو النادر.
كلما ظهر الوجه المشرق للإسلام وحضارته، وكلما استطاع المعتدلون من المسلمين إظهار حقيقة الإسلام الحضارية الراقية؛ كلما ازداد تطرف الغرب ضد الإسلام؛ لأنه حينها سيكون أخطر على حضارتهم، حسب ظنهم، مع أنه حينها لن يكون خطرًا على الشيء الحسن في حضارتهم، وإنما سيكون خطرًا على الشيء السيّءِ منها فقط، لكنهم في ظل الغرور الذي يغشى قلوبهم وعقولهم لا يرون لديهم شيئًا يستحق أن يصححوه من غيرهم، بل ربما رأوا الشيءَ السيءَ عندهم حسنًا، كحضارة العُري والتفسخ وانعدام الغَيرة على الأعراض!!
إذن فقاعدتان ينبغي أن نذكرها جيدًا من قواعد الغرب في تعامله معنا:
- دول الغرب لن تعمل ضد مصالحها، مهما استوجب الأمر، ولن تدفع قرشًا واحدًا في أي موقف إنساني إلا إذا كان سيَدخُلُ خزينتَها منه أضعافُه.
- خوف الغرب من الإسلام خوفٌ دائم، لا يخص الخوف من المتشددين، ولن يزول بالاعتدال، فهو خوفٌ من حضارةٍ وفكرٍ وقيم مختلفة عنه؛ ولأنها مختلفةٌ عنه فقط، لا لشيء آخر {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
وكلا الأمرين لا يمكن أن نلوم الغرب ودوله عليه، لكننا نلوم أنفسنا إذا جهلناهما، وفسرنا مواقف الغرب من قضايانا بما يخالفهما، أو بنينا سياستنا معه على عدم النظر إليهما والانطلاق منهما (2).
إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان، إنها هي العقيدة، هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة، إنها معركة العقيدة هي المشوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما؛ وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائمًا في المعركة ضد الإسلام والمسلمين!
إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها، ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلامًا شتى، في خبث ومكر وتورية، إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة، ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة، لم يعلنوها حربًا باسم العقيدة- على حقيقتها- خوفًا من حماسة العقيدة وجيشانها؛ إنما أعلنوها باسم الأرض، والاقتصاد، والسياسة، والمراكز العسكرية.. وما إليها.
وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها! ولا يجوز رفع رايتها، وخوض المعركة باسمها، فهذه سمة المتخلفين المتعصبين! ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها.. بينما هم في قرارة نفوسهم: الصهيونية العالمية والصليبية العالمية- بإضافة الشيوعية العالمية- جميعًا يخوضون المعركة أولًا وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلًا، فأدمتهم جميعًا!!!
إنها معركة العقيدة، إنها ليست معركة الأرض، ولا الغلة، ولا المراكز العسكرية، ولا هذه الرايات المزيفة كلها، إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين، ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا (3).
لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على الممالك الإسلامية في إفريقية أولًا، ثم في العالم كله أخيرَا.
وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض، وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام، في زخمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال! (4).
قال تعالى: {وَلَا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا} [البقرة: 217].
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل..
إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم، فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد، إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد، ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون (5).
-----------
(1) ماذا وراء نعي أمريكا لربيبها/ هيئة الشام الإسلامية.
(2) الغرب بين مواقفه الإنسانية وتخوّفِـه من الإسلام منطلقات ودوافع، الشريف حاتم العوني.
(3) في ظلال القرآن (1/ 108).
(4) في ظلال القرآن (2/ 966).
(5) في ظلال القرآن (1/ 227).