الإيجار الدائم .. شبهات وردود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد ظهرت في عقود الإجارة مستجدات ربما لم تكن في زمان فقهاء المذاهب القدامى، ومن تلك المستجدات: الإيجار الدائم، وما استتبعه مما عُرف ببدل الخلو، أو بـ(خلو الرِّجْل)، ومن العجيب ما سطره بعض الباحثين في هذا الشأن من أنه لا يوجد ولا دولة واحدة في العالم، مسلمة أو كافرة، بها مثل هذا القانون(1).
ولكن سنذكر أن لصدور هذا القانون ملابسات وظروفًا قد تكون هي التي حدت بواضعي القانون إلى وضعه، وكان الواجب مع زوال هذه الملابسات وهذه الظروف الاستثنائية أن يعود الأمر إلى نصابه الصحيح، ولكن للأسف عجز أصحاب القرار أو تظاهروا بالعجز عن حل هذه الأزمة، التي ذاق بسببها العباد الأمَرَّين.
إن من المؤسف حقًا أن نرى، وفقًا لهذا القانون الجائر، مسلمًا مصليًا، حاجًا إلى بيت الله الحرام، غنيًا ذا منصب رفيع في منطقة سكنية راقية، ومع ذلك تجده يغلق الشقة المستأجرة بالقانون القديم، ويدفع للمؤجر في نهاية الشهر مبلغًا زهيدًا، ربما لا يساوي واحدًا على الألف من القيمة الإيجارية الحقيقية لهذا السكن، ويظن بذلك أنه قد أدى ما عليه.
من المؤسف أن تكون كثير من هذه الشقق المؤجرة بقانون الإيجار القديم لا يملك صاحبها أن يزوج ابنه أو ابنته، لاستيلاء هذا المستأجر على غير ملكه بغير وجه حق؛ بل والأدهى من ذلك والأمَرُّ أن المستأجر له حق توريث المنفعة لأولاده، فيتزوج أحدهم فيها، بينما المالك يعجز عن توفير سكن لأولاده.
من المؤسف أن عددًا غير قليل من هذه الشقق مستغلة لغير السكن؛ بل في مشاريع اقتصادية؛ مثل العيادات الطبية، ومكاتب محامين، ومحلات تجارية، وشقق مصايف.
من المؤسف أن عددًا غير قليل مقيمين بهذه الشقق، وعندهم شقق بل عمارات كاملة مغلقة أو مدخرة للمستقبل.
هذا، للأسف، هو بعض الواقع الأليم الذي يعيشه ملاك الإيجار القديم.
قد يخادع بعض المستأجرين أنفسهم لتبرير ما يرتكبونه من جرم في حق غيرهم من الملاك، فيقول قائلهم: إن المالك قد أخذ حقه، فيما دفعته من إيجار فيما مضى من عشرات السنين.
فنقول: إن حقه أن يتصرف في ملكه بما يشاء، وأن يؤجره بحيث لا يخرج عن ملكه ويستولي عليه غيره، وليس من حق أي أحد أن يحجر على أحد فيما قدره الله له من ربح، وما أنعم عليه من نعمة {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}.
ثم هل يرضى المستأجر لنفسه أن يكون مكان المؤجر المهضوم حقه؟ يقينًا لا يرضى بذلك.
إذن؛ فاعدلوا هو أقرب للتقوى، وقد قيل: لعن الله قومًا ضاع الحق بينهم، فاعتبروا يا أولي الألباب.
وسنحاول، إن شاء الله، أن نكشف عن ماهية هاتين القضيتين، وحكمهما في الشرع، وتهافت شبهات بعض المعاصرين القائلين بمشروعية تأبيد عقد الإيجار، ونبدأ في ذلك بالإيجار الدائم، ثم نثني، إن شاء الله، ببدل الخلو، في بحث مستقل.
ونعرض لبحثنا هذا من خلال تمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة:
والمباحث هي:
المبحث الأول: تعريف بقانون الإيجار الدائم، وهل قال بمدلوله أحد من الأئمة الفقهاء؟
المبحث الثاني: أدلة الأئمة الفقهاء على بطلان تأبيد عقد الإيجار.
المبحث الثالث: شبهات المدافعين عن هذا القانون، والرد عليها.
المبحث الرابع: ذكر فتاوى المجامع الفقهية ودور الإفتاء ومشاهير العلماء المعاصرين في المسألة.
الخاتمة: تتضمن أهم نتائج البحث والتوصيات.
وهذا أوان الشروع في المقصود.
تمهيد
ذكر مجمل أحكام عقد الإجارة:
الإجارة هي: عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم(2).
ومنهم من يقول: عقد على منفعة مباحة، معلومة، مدة معلومة، بعوض معلوم(3).
والتعريف الأول أولى لأنه يعم نوعي الإجارة.
فهي نوعان: إجارة أعيان، وتنقسم قسمين: أحدهما: أن تكون على مدة، كإجارة الدار شهرًا، أو إجارة شخص للخدمة أو للرعي مدة معلومة، والثاني: إجارتها لعمل معلوم.
والنوع الثاني: إجارة واردة على الذمة؛ كاستئجار دابة موصوفة، أو بأن يلزم ذمته عملًا ما.
وهذه هي الإجارة على الأعمال، وتعقد على عمل معلوم؛ كبناء جدار، وخياطة قميص، وحمل إلى موضع معين، وصباغة ثوب، وإصلاح حذاء ونحوه.
وكلامنا في هذا المقام عن الإجارة على الأعيان لا الأعمال.
ويشترط لصحتها أن تقع الإجارة على المنفعة لا على استهلاك العين، وأن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء، وأن تكون المنفعة مقدورًا على استيفائها حقيقة وشرعًا، وأن تكون المنفعة معلومة لدى المتعاقدين بوصف أو عرف، وأن تكون مملوكة للمؤجر أو مأذونًا له فيها، وأن تكون الأجرة معلومة، وأن تكون المدة معلومة(4).
ويجوز تقديم الأجرة وتأخيرها على حسب ما يتفق عليه المؤجر والمستأجر.
وإذا اختلفا في قدر الأجرة أو المنفعة أو غيرها وتحالفا فسد العقد، وَرُجِعَ إلى أجرة المثل.
ومن استأجر شيئًا فله أن يقيم مقامه من يستوفيه بإجارته أو غيرها إذا كان مثله أو دونه؛ لأنه لم يزد على استيفاء حقه، ولا يجوز أن يسكنها من هو أكثر ضررًا منه؛ لأنه يأخذ فوق حقه.
وعقد الإجارة عقد لازم للطرفين، المؤجر والمستأجر، فلا يجوز فسخه إلا بسبب من الأسباب التي سيأتي ذكرها.
وتنتهي الإجارة باستيفاء المنفعة المعقود عليها، وتنفسخ بتلف العين المعقود عليها أو انقطاع نفعها، وبعدم تسليم العين المؤجرة في المدة.
ولا تنفسخ بموت أحد العاقدين أو جنونه، ولا تنفسخ بخروج العين المؤجرة من ملك المؤجر؛ كهبة المالك للدار المؤجرة أو بيعها لغير المستأجر.
ويجوز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء (فسخ) العقد قبل انقضاء مدته إذا حصل عذر أو جدَّت ظروف غير متوقعة من شأنها أن تجعل تنفيذ الإيجار مرهقًا لأحد الطرفين.
وتستحق الأجرة باستيفاء المنفعة، وبالتمكن من استيفاء المنفعة، ولو لم تستوف بالفعل، إذا مضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها، وبتعجيلها (أي الأجرة) بالفعل أو اتفاق المتعاقدين على اشتراط التعجيل(5).
المبحث الأول
ما هو الإيجار الدائم؟ وهل قال به أحد من الأئمة الفقهاء؟
صدر قانون الإيجار القديم بمصر، سنة 1940م، وعُرف بأنه عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يُمَكِّن المستأجر من الانتفاع بشيء معين لقاء أجر معلوم؛ حيث يلتزم المستأجر بدفع الأجرة المسماة في العقد أو المقررة بالفعل.
ولم يحدد هذا القانون مدة لإنهاء التعاقد بين الطرفين، فهو عقد دائم تمتد فيه العين المؤجرة إلى أبناء وورثة المستأجر، فيكون من حق المستأجر وورثته من بعده حق الانتفاع بالعين إلى أن تتلف العين.
ملابسات صدور هذا القانون:
في العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن السابق كان الإيجار له صورة واحدة، هي التأجير الشهري، بأن يدفع المستأجر للمؤجر الأجرة كل شهر، ولو تأخر المستأجر في الدفع فمن حق صاحب العقار أن يطرد المستأجر، وكانت الأمور سهلة والشقق متوفرة بكثرة ربما لا تجد من يسكنها.
وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية تأثرت مصر جدًا بالحرب والفقر، وزادت البطالة في مصر؛ لذلك وضع قانون (استثنائي) يمنع المالك من طرد المستأجر، وكان ذلك لظروف الحرب، وتم إلغاء هذا القانون بعد الحرب، وعادت الأمور لما كانت عليه(6).
وبعد ثورة 1952 تم وضع سلسلة من القوانين استمدت من المبادئ الشيوعية بغرض القضاء على الإقطاع والرأسمالية في مصر، ومنها قانون الإصلاح الزراعي، وهو تحديد الملكية الزراعية، وتوزيع الباقي على الفلاحين (وهو ما تم إلغاؤه في الوقت الحالي)، وقانون الإيجار القديم بشكله الاستثنائي الموجود حتى الآن، وينص على بقاء المستأجر في الشقة مدى الحياة، كما أن له الحق أن يورث العين المستأجرة لمن بعده.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد؛ بل تم إنشاء لجان تقوم بإعادة تقييم إيجار العقارات لتخفيضها، وبالفعل تم التخفيض أكثر من مرة لصالح المستأجر، وقوبلت هذه القرارات بحفاوة شعبية كبيرة، دون النظر لمدى ظلم هذه القوانين الاستثنائية، ومع ذلك كان من الصعب لملاك العقارات أن يتكلموا ويوضحوا مدى الظلم الواقع عليهم، وهذا لعدة أسباب:
أ- كان من الممكن، وبسهولة، لأي شخص يهاجم الثورة أو قراراتها أو مبادئها أن يعتقل، وذلك لجور السلطة والقائمين على الثورة وقتئذ، كما هو معلوم.
ب- دخول البلاد في أكثر من حرب، خلال فترة قصيرة من الزمن، سوغ لواضعي القوانين سن ما رأوه من قوانين استثنائية، وهم في مأمن من المساءلة.
ت- رخص أسعار جميع السلع في هذا الوقت جعل الملاك غير متضررين بشكل كبير.
واستمر الحال على ما هو عليه بعد انتهاء عصر جمال عبد الناصر وتولي السادات حكم مصر، فلم يكن أحد يستطيع أن يعبر عن أي مطالب خاصة، حتى ولو كانت تضر فئة كبيرة؛ وذلك نظرًا لظروف الحرب أيضًا.
والحاصل أن المُلاك اضطهدتهم الحكومات المتتابعة، وسلبتهم ما يملكون وأعطته لغيرهم، دون سند أخلاقي؛ حيث تدخلت الدولة في العلاقة بين المالك والمستأجر حين أصدرت القانون رقم 7 لسنة 1965، الذي قرر تخفيض القيمة الإيجارية بواقع 35٪، ثم أصدرت القانون رقم 49 لسنة 1977، مقررًا أن تتولى تحديد القيمة الإيجارية لجان يصدر قرار بتشكيلها من المحافظ المختص، هي لجان الطعن التي يكون حكمها نهائيًا.
ومما زاد الطين بلة هو القانون رقم 49 لسنة 1979، الذي ينص على استمرار العلاقة الإيجارية بعد وفاة المستأجر أو تركه العين المؤجرة إذا بقيت فيها زوجته أو أولاده أو أي من والديه، مما يعني انحيازًا مطلقًا للمستأجر، الذي أصبح مالكًا، فيما أصبح المالك لا يجد سكنًا لأولاده.
وبعد اغتيال السادات وتولي مبارك حكم مصر لم يشغل هذا القانون باله، فهو لا يريد أن يفتح على نفسه بابًا لا يغلق، كما أنه يخشى أن يزيد سخط الشعب ضده بأسباب ارتفاع الأسعار وقلة الأجور، وما دام الناس ارتضوا بالأمر فيتركه كما هو.
وإنما قام بإلغاء قانون الإصلاح الزراعي، وهو تحديد ملكية الفرد لعدد من الفدادين؛ لأن هذا القانون أضر بعدد من العائلات الكبيرة وأصحاب النفوذ في البلد، ولم يهتم بتغيير قانون الإيجارات القديمة لأنه يخدم مصلحة عدد من نواب مجلس الشعب وعائلتهم وأصحاب النفوذ.
ونخلص مما سبق إلى أن هذا القانون بعدم تحديد مدة في عقد الإيجار إنما هو قانون وضعي، ارتأى واضعوه أن فيه مواجهة لظرف استثنائي، وهو في الأصل مخالف لما هو معمول به قبل ذلك ومتفق عليه، سواء في مصر أو سائر البلدان.
وأما استمرار العمل به، فأقل ما يقال فيه أنه تصرف خاطئ من ذوي السلطات، دفعهم إليه مراعاة مصالحهم الشخصية، ومصالح ذوي النفوذ في الدولة، وكذلك خوفهم من مواجهة ما لا قبل لهم به من الساخطين على أحوالهم المعيشية البائسة وفقرهم المتزايد.
ثم إن علماء المسلمين لم يقروا ذلك ولم يرتضوه، وإنما عارضوه، وبينوا بطلانه، كما سيأتي.
بيان اتفاق العلماء على القول ببطلان تأبيد عقد الإيجار:
نستطيع في هذا المقام الجزم بأن العلماء متفقون على وجوب تحديد المدة في الإجارة إذا كانت على عين، وإلا كان العقد فاسدًا، لكونه مبنيًا على غرر.
كما أنهم نصوا على وجوب فسخ العقد إذا كان الطرفان قد تعاقدا على تأبيده، وأفتوا، والحالة هذه، بوجوب ترك العين لمالكها والبحث عن مسكن آخر، دون إجباره على دفع مقابل مادي، وإلا فإن بقاءه فيها أو طلبه مقابلًا يكون من أكل أموال الناس بالباطل، ولا يجوز الانتفاع بمثل هذا المال حتى في الحج أو في غيره.
ولم يقل واحد منهم بخلاف ذلك، وإنما استحدث القول بجواز تأبيد عقد الإيجار بعض المعاصرين، من واضعي القوانين، وهو ما حدث في حدود الأربعينيات من القرن السابق، كما أسلفنا.
بل نقل بعضهم الإجماع على لزوم تحديد المدة في عقد الإيجار؛ كما سيأتي معنا.
ونذكر فيما يلي نصوص فقهاء المذاهب الأربعة، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، على أنه يشترط لصحة عقد الإيجار تأقيته، ثم نتلو ذلك بأقوال المتأخرين من العلماء المجتهدين، ثم نعقب في مبحث تالٍ بذكر أدلتهم على اشتراط تحديد المدة، وأن العقد يبطل بعدم تحديدها.
فأما الحنفية:
ففي «الهداية في شرح بداية المبتدي»، للمرغيناني: «ولا تصح [أي: الإجارة] حتى تكون المنافع معلومة، والأجرة معلومة»(7).
وفي «العناية شرح الهداية»، للبابرتي: «المنفعة لا بد وأن تكون معلومة في الإجارة، فلا بد من بيان ما تكون به معلومة، فتارة تصير معلومة بالمدة؛ كاستئجار الدور للسكنى، والأراضي للزراعة مدة معلومة وكائنة ما كانت؛ لأن المدة إذا كانت معلومة كان مقدار المنفعة فيها معلومًا»(8).
وفي بدائع الصنائع، للكاساني: «كون المدة معلومة في الإجارة شرط صحة الإجارة»(9).
وفيه أيضًا: «ولا تصح الإجارة مع جهالة المدة»(10).
وفي المبسوط للسرخسي: «... وهي إجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه حين لم يذكر مدة معلومة»(11).
ويقول الطحاوي في «مختصر اختلاف العلماء»: «والإجارة لا تجوز إلا على أجرة معلومة، ووقت معلوم، أو عمل معلوم، والجعالة ليست واقعة على مدة معلومة ولا عمل معلوم ففسدت»(12).
وأما المالكية:
ففي «الكافي» لابن عبد البر: «ولا تجوز الإجارة ولا الكراء بالمجهول الذي يقل مرة ويكثر أخرى، ولا في العمل غير معلوم، ولا إلى مدة غير معلومة»(13).
وجاء في شرح مختصر خليل: «والمعنى أن الإجارة تجوز مدة معلومة»(14).
وفي حاشية الدسوقي وغيره عرفوا الإجارة بأنها: «تمليك منافع شيء مباح مدة معلومة بِعِوض»(15).
وأما الشافعية:
ففي «المهذب»، للشيرازي: «وما عقد على مدة لا يجوز إلا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء، فإن قال: أجَّرْتك هذه الدار كل شهر بدينار فالإجارة باطلة»(16).
وفي المجموع: «الإجارة لا تجوز إلى غير مدة معلومة»(17).
وفيه أيضًا: «الإجارة على نوعين: نوع يكون عقده على مدة معلومة، ونوع يكون على عمل معلوم، فالأول كالدار والأرض فلا تجوز إجارتها إلا على مدة»(18).
وأما الحنابلة:
ففي «المغني»: «الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة؛ كشهر وسنة، ولا خلاف في هذا نعلمه؛ لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه، المعرفة له، فوجب أن تكون معلومة، كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل»(19).
ويختصر الأمر مرة أخرى قائلًا: «الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة»(20).
وثالثة: «وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة، بأجرة معلومة، فقد ملك المستأجر المنافع، وملكت عليه الأجرة كاملة، في وقت العقد»(21).
وفي «الهداية»، لأبي الخطاب الكَلْوَذاني: «ويجوز عقد الإجارة على مدة معلومة يجوز بقاء العين فيها وإن طالت، ولا يجوز على مدة غير معينة»(22).
ثم اختلف أصحاب هذا الرأي في تحديد تلك المدة المعلومة؛ يقول السرخسي ملخصًا صورة هذا الخلاف: «فالمذهب عندنا أنه إذا استأجرها مدة معلومة صح الاستئجار طالت أو قصرت، وفي قول الشافعي رحمه الله: لا يجوز الاستئجار أكثر من سنة واحدة، وفي قول آخر يجوز إلى ثلاثين سنة ولا يجوز أكثر من ذلك، وفي قول آخر يجوز أبدًا»(23).
من أقوال متأخري العلماء:
نقلنا سابقًا عن الأئمة الأربعة ما يفيد بطلان عقد الإيجار الدائم (المؤبد)، ونزيد الأمر تجلية بذكر أقوال مشاهير العلماء، المتأخرين منهم، وذلك لبيان اتفاق السابقين واللاحقين على القول ببطلان تأبيد عقد الإجارة.
قال السبكي: «... وهي في معنى الإجارة، والإجارة إذا كانت المدة مجهولة كانت باطلة»(24).
وقال الشوكاني: «إذا حصل التراضي على مدة معلومة بأجرة معلومة فهذه هي الإجارة الصحيحة، وهي من هذه الحيثية داخلة تحت قوله سبحانه: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، وإذا لم يحصل هذا التراضي فلا إجارة من الأصل، وإذا عرفت أن حاصل هذا التراضي هو جعل الأجرة في مقابل تلك المنفعة في تلك المدة مع كون العين ومنافعها باقية في ملك المالك...»(25).
وفي «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»:
«هل تصحّ المساقاة إلى أجلٍ مجهولٍ؟ الجواب: إن تكون عند الجمهور على أنّها عقدٌ لازمٌ فتفتقر إلى ضرب مدّةٍ معلومةٍ كالإجارة»(26).
وقال الشيخ السيد سابق: «ويشترط لصحة الإجارة الشروط الآتية:
1- رضا العاقدين؛ فلو أُكرِه أحدهما على الإجارة فإنها لا تصح، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
2- معرفة المنفعة المعقود عليها معرفة تامة تمنع من المنازعة، والمعرفة التي تمنع المنازعة تتم بمشاهدة العين التي يراد استئجارها أو بوصفها إن انضبطت بالوصف، وبيان مدة الإجارة؛ كشهر أو سنة أو أكثر أو أقل، وبيان العمل المطلوب»(27).
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي، عند ذكر شروط صحة عقد الإجارة: «أن يكون المعقود عليه، وهو المنفعة، معلومًا علمًا يمنع من المنازعة، فإن كان مجهولًا جهالة مفضية إلى المنازعة لا يصح العقد؛ لأن هذه الجهالة تمنع من التسليم والتسلم، فلا يحصل المقصود من العقد، والعلم بالمعقود عليه يكون ببيان محل المنفعة، وبيان المدة، وبيان العمل في استئجار الصناع والعمال»(28).
وقال الدكتور عبد اللطيف قنديل (من علماء الأزهر الشريف): «يجب على كل من يستأجر مكانًا ويطلب مبالغ مالية تصل إلى نصف ثمنه أو يزيد حتى يتركه لصاحبه أن يتقي الله؛ لأن هذا المال حرام، وعليه أن يجتهد في دفع الإيجار الحقيقي الفعلي؛ لأنه من شروط صحة تأجير العقار تحديد المدة، فإذا لم تحدد المدة فالإجارة باطلة، ويجب عليهم أجرة المثل.
ومن لا يريد المالك استمرار التأجير فإنه يجب عليهم الخروج وتسليم العين المؤجرة، وإلا يعتبر غاصبًا ظالمًا».
ويقول الدكتور عبد الفتاح إدريس، أستاذ الشريعة والفقه الإسلامي بجامعة الأزهر: «إن عقود الإيجار الحالية التي انتهت مدتها وتم مدها بقوة القانون حرام شرعًا، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس»، وإذا لم يكن بطيب نفس فهو حرام، واذا كانت عقود الإيجار للمساكن القديمة محددة المدة في العقد، سواء شهرًا أو سنة، فلا يجوز امتداد العقد إلا برضا الطرفين، وهما المؤجر والمستأجر، باعتبار أن العين المؤجرة مثلها مثل المعدات والآلات والسيارات التي تؤجر حاليًا، فيجب أن تكون القيمة المؤجرة بها مواكبة لأسعار السوق، وهي في الشريعة الإسلامية معروفة بالعرض والطلب، كما نهى المولى سبحانه وتعالى في محكم آياته: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.
... وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاث في الحديث الذي رواه أبو هريرة، وهي: «القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وما نراه من إضاعة الحقوق بين الناس بسبب قانون الإيجار القديم هو إضاعة للمال؛ بتأجير المساكن بإيجارات هزيلة لا تناسب غلاء المعيشة والخدمات والحياة؛ لأنه من المفروض أن هذه الإيجارات هي لإعالة المالك وأسرته ليعيش حياة كريمة، ولكن في ظل الإيجارات الهزيلة لا تسد شيئًا من نفقات الحياة ومنهيًا عنه شرعًا، ويعد وقوعًا في الحرام، وهو معاداة لله ولرسوله، وقال المولى عز وجل: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.
وقال الدكتور نصر فريد واصل، مفتي الجمهورية الأسبق، وممثل الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية في جلسات الاستماع لمناقشات القانون بمجلس الشعب: «إن قانون الإيجارات القديم مخالف للشريعة الإسلامية، ويجب أن يحتوي العقد على مدة زمنية محددة، ولا يجوز أن يكون عقدًا مفتوحًا تتوارثه الأجيال، ويجب إلغاء التعاقد وعودة الأملاك لأصحابها، وتتحمل الدولة مسئولية توفير المسكن البديل للمستأجرين غير القادرين على توفير مسكن بديل».
ونخلص مما سبق إلى ما يلي:
أولًا: لم يقل أحد من الفقهاء بجواز تأبيد عقد الإيجار.
ثانيًا: الفقهاء بعد اتفاقهم على وجوب بيان مدة معلومة في إجارة الدور ونحوها، اختلفوا في تحديد تلك المدة على ثلاثة آراء:
فأكثرهم قالوا: يشترط تحديد مدة معلومة، طالت تلك المدة أو قصرت، إلا الطول الذي يؤدي إلى التأبيد.
وقال بعضهم: لا تزيد عن سنة، وهو قول للشافعي(29)، وهو قول محكي عن بعض الحنابلة، واختاره ابن حامد(30)، وقال البعض: لا تزيد عن ثلاثين سنة، وهو قول منسوب للشافعي(31)، وهو أيضًا قول محكي عن بعض الحنابلة(32).
وسنعرض فيما يلي لأدلة الفقهاء على ما ذهبوا إليه، مع مناقشة ما يحتاج إلى مناقشة منها.
المبحث الثاني
أدلة الأئمة الفقهاء على بطلان تأبيد عقد الإيجار
الدليل الأول:
قول الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء:183].
وجه الاستدلال:
معنى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}؛ أي: «لا تنقصوهم مما استحقوه شيئًا»(33)، وفي الخازن: «يعني: لا تظلموا الناس حقوقهم، ولا تنقصوهم إياها»(34).
والحال في الإيجار الدائم اليوم أن تستأجر الشقة أو المنزل بما لا يعادل عشر قيمته أو أقل، وهذا بخس لأشياء الناس منهي عنه.
نوقش:
لقد كانت قيمة الإيجار تمثل القيمة الفعلية للإيجار وقت التعاقد، والعبرة بوقت إتمام العقد.
أجيب:
إنما يكون كلامكم صحيحًا إذا كان عقد الإيجار محددًا بمدة، فيكون المؤجر قد رضي بقيمة الإيجار المتفق عليها مدة معينة محددة متفقًا عليها أيضًا.
فالامتداد غير الشرعي لعقد الإيجار الدائم هو سبب المشكلة؛ إذ كيف يتأتى للمؤجر تحديد القيمة الفعلية لإيجار عقاره بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة؟! وإن حددها، فهل يجد مستأجرًا يرضى بذلك؟! وإن وجد من يرضى بذلك، ألن يكون فيه ظلم للمستأجر؛ فستكون تلك القيمة الإيجارية التي يراعى فيها خمسون سنة مستقبلة، أضعاف القيمة الإيجارية في وقت التعاقد!!
الدليل الثاني:
قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
وجه الاستدلال:
ففي عقد الإيجار الدائم لا يستطيع المالك استرداد ملكه ولا التصرف فيه، وهذا مخالف لأبسط القواعد الشرعية؛ وهو حرية المالك في التصرف فيما يملك، وأن حبس العين عن مالكها لا يكون إلا بالبيع، وهذا بمثابة الحجر على البالغ العاقل، وهو لا يجوز.
نوقش:
ما ذكرتم هو من خصائص عقد الإجارة عمومًا؛ فالإجارة تُملِّك المستأجر المنفعة، كما تُملِّك المؤجر الأجرة.
أجيب:
ومن خصائصه أيضًا أن يكون محددًا بمدة معلومة، لها بداية ولها نهاية، أما عدم تحديد نهايته يترتب عليه، كما في الواقع المشاهد الملموس، إخراج للعقار عن ملك مالكه إلى تصرف المستأجر، وهذا ما نعنيه بأكل أموال الناس بالباطل.
الدليل الثالث:
عن أبي حرة الرقاشي عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»(35).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى: «أتدرون أي يوم هذا؟»، قالوا: «الله ورسوله أعلم»، قال: «فإن هذا يوم حرام، أفتدرون أي بلد هذا؟»، قالوا: «الله ورسوله أعلم»، قال: «بلد حرام، أتدرون أي شهر هذا؟»، قالوا: «الله ورسوله أعلم»، قال: «شهر حرام»، قال: «فإن الله حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»(36).
وجه الاستدلال:
قرر الحديث عدم حل مال المسلم إلا بطيب نفسه، وسؤالنا: هل تطيب نفس المالك أن يؤخذ منه عقاره طوال عمر المستأجر؛ بل ويرثه أولاده طوال أعمارهم؟!
وهل تطيب نفسه أن يؤجر عقاره بثمن بخس زهيد، قد يظل عقودًا من الزمان لا يتغير ولا يزيد، مع تزايد الأسعار وتناقص قيمة العملة؟!
نوقش:
قد طابت نفسه بذلك حين عقد العقد وهو يعلم أنه إيجار دائم، وقد حدد قيمة الأجرة بالاتفاق مع المستأجر ورضي بها.
أجيب:
إنما اضطر إلى ذلك اضطرارًا؛ فهو لا يملك أن يضع مدة محددة في عقد الإيجار، وأما عن قيمة الأجرة فإنما رضي بها في وقت كانت تمثل فيه القيمة الفعلية لإيجار مثل عقاره، أما وقد تغير الحال والزمان، وتزايدت الأسعار، وتناقصت قيمة العملة، وصارت تلك الأجرة لا تساوي عشر قيمة مثل عقاره، فكيف يرضى بها؟!
الدليل الرابع:
عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر»(37).
وجه الاستدلال:
حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ولا شك أن الإجارة «صنف من البيوع؛ لأنها تمليك لكل واحد منهما من صاحبه؛ ولذلك يملك المستأجر المنفعة التي في العبد، والدار، والدابة، إلى المدة التي اشترطها، حتى يكون أحق بها من مالكها، ويملك بها صاحبها العوض»(38).
وعقد الإيجار الدائم ينطوي على غرر ظاهر؛ لأن المدة مجهولة لا تُعلم نهايتها.
وقد عُرِّف الغرر بأنه: «ما طُوي عن الإنسان علمه، وخفي عليه باطنه، من معدوم، أو مجهول، أو معجوز عنه، أو غير مقدور عليه»(39).
الدليل الخامس:
عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»(40).
وجه الاستدلال:
حيث رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم العقاب العظيم على من غصب شبرًا واحدًا من أرض، فما يكون إثم وعقاب وعذاب من غصب عقارًا من مالكه، ومنعه من التصرف فيه طوال عمره، ثم طوال عمر أولاده؟!
نوقش:
ليس الأمر غصبًا، لكنها إجارة أحلها الله.
أجيب:
أليس غصبًا أن يُمنَع المالك من التصرف في ملكه؟! وهل أحل الله أخذ مال المسلم بغير طيب نفس منه؟!
الدليل السادس:
المعقود عليه في عقد الإجارة هو المنفعة، والمنفعة وقت العقد مجهولة معدومة، فيجب تحديد المدة لتحديد مقدار المنفعة؛ لأن (المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلومًا)(41).
فالإجارة (عقد على منفعة لا عين، فعلى هذا لا يصح إلا باشتراط مدة معلومة تتقدر بها المنفعة)(42).
قال السرخسي: «وحجتنا في ذلك أن إعلام المعقود عليه لا بد منه، والمنفعة لا تصير معلومة إلا ببيان المدة؛ فإنها تحدث شيئًا فشيئًا، فكانت المدة للمنفعة، فالكيل(43) والوزن فيما هو مقدر، فكما لا يصير المقدار هنا معلومًا إلا بذكر الكيل والوزن لا يصير المقدار هنا معلومًا إلا بذكر المدة، وبعد إعلام المدة العقد جائز، قلَّ المعقود عليه أو كثر»(44).
الدليل السابع:
أن عدم تحديد المدة يؤدي إلى النزاع، فيجب تحديدها غلقًا لباب المنازعة(45).
نوقش:
أن الفقهاء قد (أجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهرًا، مع أنه قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين)(46).
أجيب:
إنما هذا يسير لا يؤدي إلى النزاع، ونهاية الإجارة محددة بالفعل، والمتعاقدان إذا تعاقدا على شهر إنما يقصدان تمام الشهر؛ سواء كان تسعة وعشرين أم ثلاثين.
والأمر مختلف تمامًا في حالة الإيجار الدائم الذي لا يُدرى متى ينتهي!
الدليل الثامن:
الإجماع:
إذ لا يوجد نقل واحد عن أحد من الأئمة الثقات ولا العلماء المعروفين يفيد حل أو مشروعية هذا الإيجار؛ بل كلهم نصوا على أنه يشترط لجواز العقد تحديد المدة، وأن ما يسمى بعقد الإيجار القديم، والذي يقوم على أن للمستأجر أن ينتفع بالمؤجر أبدًا هو وذريته، هو عقد باطل في الشريعة الإسلامية؛ لأن هذا النظام يقوم على أن للمستأجر أن ينتفع بالمؤجر أبدًا هو وذريته، وحبس العين عن مالكها لا يكون إلا بالبيع.
وممن نقل الإجماع على اشتراط تحديد مدة لصحة عقد الإجارة: ابن قدامة في «المغني»، حيث قال: «ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة إجارة العقار، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن استئجار المنازل والدواب جائز، ولا تجوز إجارتها إلا في مدة معينة معلومة»(47).
وجاء في كتاب «المعاملات المالية أصالة ومعاصرة» (9/ 505)(48): «عقد الإجارة عقد مؤقت، إما بمدة معلومة، أو بإنجاز العمل المتفق عليه، وأنه عقد لازم، يقتضي تمليك المؤجر الأجرة، وتمليك المستأجر المنفعة مدة مؤقتة، ولا يحق لأحد منهما فسخه قبل انقضاء عقد الإجارة إلا برضاهما، فإذا انتهت مدة الإجارة، أو فرغ المستأجر من إنجاز العمل فقد انتهى عقد الإجارة، وللطرفين الخيار في تجديد العقد أو إنهائه، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء».
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (1/ 284): «وبيان المنفعة في إجارة الدور ببيان المدة فقط؛ لأن السكنى مجهولة المقدار في نفسها، ولا تنضبط بغير ذلك، وليس لمدة الإجارة حد أقصى عند الجمهور، فتجوز المدة التي تبقى فيها وإن طالت، وهو قول أهل العلم كافة، وفي قول عند الشافعية: لا تجوز أكثر من سنة، وفي قول: إنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة...»(49).
وقال الأستاذ الدكتور الشيخ نصر فريد واصل: «ولا يجوز لولي الأمر أن يتدخل في عقد الإيجار مقررًا امتداده وتأبيده؛ لأن هذا مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية ولإجماع الفقهاء من العصر الأول للإسلام حتى وقتنا هذا، على أن عقد الإيجار يجب أن يكون محدد المدة»(50).
الدليل التاسع: عدم دستورية تأييد عقود الإيجار:
حيث جرى نص المادة الثانية من الدستور على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وأجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على أن عقد الإيجار ينصب على استئجار منفعة لمدة مؤقتة، يحق للمؤجر بانتهائها أن يطلب إخلاء العين من مستأجرها، وهو يؤدي إلى امتناع تأييد هذا العقد ولا تجهيل مدته.
الدليل العاشر: من المعقول:
كل عاقل منصف يعلم الأضرار والمساوئ الكثيرة التي ترتبت على سن وفرض هذا القانون على الناس، وأنه يجب إعادة النظر فيه.
ولا شك أن قانون الإيجار الدائم كما يراه الباحثون والمتخصصون، فضلًا عن كونه غير شرعي، فإنه من القوانين السيئة وغير العادلة وغير المدروسة، وأنه قد دفع بسببه الفقراء الثمن أكثر مما استفادوا في مجموعهم.
وهو قانون ظاهره فيه الرحمة بالفقراء وباطنه من قبله العذاب؛ ففي الوقت الذي يجب توفير سكن ملائم لكل إنسان كأحد الحقوق الأساسية للفرد على الدولة، حتى طبقًا لحد الكفاية الذي يجب توفيره شرعًا، فقد اختارت الدولة أن يتم ذلك على حساب فئه معينة افترضت فيها القدرة المالية على تحمل هذه الأعباء، بدلًا من أن تتحملها الدولة.
كما يمكن القول أننا أمام قانون لمصادرة أموال طائفة من الشعب لصالح طائفة أخرى.
وإذا نظرنا إلى ما ترتب على سن وفرض هذا القانون على الناس وجدنا الكثير من الأضرار والمساوئ.
فمن الأوضاع التي ظهرت في ظل قانون الإيجار القديم، ومن الآثار التي ترتبت عليه:
- إحجام الكثير من المستثمرين عن الاستثمار في العقارات للتأجير، حيث أدت التشريعات الاستثنائية التي تحكم العلاقة بين المالك والمستأجر إلى ترسيخ النفور من الاستثمار التأجيري في العقارات.
- حصول ظاهرة التأجير المفروش والتمليك المغالى في أسعاره.
- ظهور مشكلة أو ظاهرة خلو الرجل والمقدمات الكبيرة التي لا يقدر عليها أغلبية الشعب المصري.
- تحول كثير من الأغنياء إلى دائرة الفقر رغم ما يمتلك على الورق، وكثير منهم في أَمَسِّ الحاجة إلى الأموال أو حتى الشقق التي حرموا من الاستفادة منها، سواء لسكنهم أو لسكن أولادهم
- إهدار لكل ما تعنيه كلمة ملكية، كما يدرسها أي طالب مبتدئ في دراسة القانون، من استعمال واستغلال وتصرف.
- إهدار ثروة عقارية كبيرة نتيجة الإهمال في الصيانة، فلا المالك يستطيع تحملها، وإن استطاع فليس لدية الرغبة أو حتى المصلحة في تحملها، ولا المستأجر، في كثير من الأحيان، يقوم بها.
- الكثير من حالات الوفيات نتيجة انهيار العقارات القديمة على المستأجرين؛ بسبب عدم الصيانة.
وبالجملة، يمكننا أن نعتبر هذا القانون واستمراره بمثابة سلاح دمار شامل للعلاقات الاجتماعية والثروة الاقتصادية وللقيم الاخلاقية.
يقول بعض المحللين لهذا القانون متهكمًا: «أن تمتلك منزلًا كبيرًا ربما يكون متعدد الطوابق، وحداته السكنية متعددة الغرف، قد تحيطه حديقة غَنَّاء، ولكن هذا المشهد الجميل الذي قد يوحي أن مالكه من الأثرياء هو في الواقع ليس دائمًا صحيحًا؛ فالواقع يقول أن هناك نحو ما يبلغ 5 ملايين و200 ألف وحدة سكنية، منها مليون و800 ألف وحدة أغلقها أصحابها دون استغلال حقيقي لها، في حين أن المستَغل منها يبلغ عدده 2 مليون و400 ألف وحدة، ويحصلون على مقابل مادي لإيجارها، ربما لا يتعدى الجنيهات القليلة، ليبحثوا، في كثير من الأحيان، عن مساكن تُؤويهم وتؤوي أبناءهم، رغم أنهم أصحاب أملاك، ولكنهم أصحاب أملاك (على الورق فقط)؛ لأن ملكيتهم مع وقف التنفيذ.
وكتب مالك لمستأجر قديم قائلًا: «عزيزي المستأجر، أرجوك سامحني، لقد تحصلت منك على أكثر من ثمن الشقة في صورة إيجار شهري 15 جنيهًا في الشهر لمدة 40 سنة؛ لذلك سوف أُكَفِّر عن ذلك وأشرب من نفس الكأس الذي شربت منه، وسوف أسجل لك الشقة في الشهر العقاري باسمك. وسوف أسكن في نفس الشقة وأدفع لك 15 جنيهًا شهريًا لمدة 40 سنة، إذا كان في العمر بقية، وأوصي ابني أن يقيم في الشقة بعد أن يتوفاني الله، ويدفع 15 جنيهًا شهريًا لكي يستكمل باقي المدة».
ثانيًا: أدلة من حد المدة بسنة:
الدليل الأول:
«جواز الاستئجار للحاجة، والحاجة في بعض الأشياء لا تتم إلا بسنة، كما في الأراضي ونحوها، وفيما وراء ذلك لا حاجة»(51)، «والسنة الواحدة هي المدة التي تكمل فيها منافع الزراعة في الأرضين، ولا يتغير غالبًا فيها الحيوانات والدور؛ فلذلك تقدرت مدة الإجارة بها، وبطلت فيما جاوزها»(52).
الدليل الثاني:
«لا تجوز الإجارة أكثر من سنة؛ لأن الإجارة غرر؛ لأنها عقد على منافع قد تسلم وقد لا تسلم، فإذا قل الزمان قل غررها فجاز، وإذا طال الزمان كثر غررها فبطل»(53).
الدليل الثالث:
قياسًا على الخيار؛ فإنه يجوز إن قلت مدته، ويبطل إن طالت.
مناقشة هذه الأدلة:
أولًا: يكفي في الرد عليكم قول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27].
حيث جرى بين موسى والعبد الصالح عقد إجارة امتد ثماني أو عشر سنين، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد دليل بنسخه، ولم يرد، فالآية حجة في الرد عليكم.
ثانيًا: ما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تكارى أرضًا، ولم تزل بيده حتى مات، قال ابنه: «ما كنت أراها إلا له من طول ما مكثت بيده، حتى ذكرها عند موته، وأمرنا بقضاء شيء بقي عليه من كرائها من ذهب أو ورق»(54).
ثالثًا: وأما قولكم: «الحاجة لا تقتضي أكثر من سنة»، فنجيب: بل «الضرورة قد تدعو في الإجارة إلى أكثر من سنة، لا سيما في الغرس والبناء، فصحت فيما زاد على السنة لأجل الضرورة، كما صحت في السنة»(55).
ثالثًا: قياسكم على الخيار لا يصح؛ فإنما يبطل الخيار إن طالت مدته لعلة أخرى، وهي: ضرورة استقرار المعاملات والبيوع، ولكي يستطيع البائع التصرف في الثمن، ويستطيع المشتري التصرف في المثمن.
رابعًا: قياسًا على بيع الأعيان؛ فإن «الإجارة عقد على منفعة، كما أن البيع عقد على عين، ثم لما لم تتقدر بيوع الأعيان فكذلك لا تتقدر بيوع المنافع»(56).
ثالثًا: أدلة من حد المدة بثلاثين سنة:
الدليل الأول:
«العادة أن الإنسان قلما يسكن بالإجارة أكثر من ثلاثين سنة؛ فإنه يتخذ المسكن ملكًا إذا كان قصده الزيادة على ذلك»(57).
الدليل الثاني:
«الثلاثين شطر العمر في الغالب، فكان ما زاد عليه لغير العاقد»(58).
وقالوا: هو قول للإمام الشافعي.
نوقش:
أولًا: «لا فرق بين طويل المدة وقصيرها عندنا إذا كانت بحيث يعيش إليها العاقدان؛ لأن الحاجة التي جوزت الإجارة لها قد تمس إلى ذلك، وهي مدة معلومة يعلم بها مقدار المنفعة، فكانت صحيحة؛ كالأجل في البيع.
وأما إذا كانت بحيث لا يعيش إليها أحد المتعاقدين فمنعه بعضهم؛ لأن الظن في ذلك عدم البقاء إلى تلك المدة، والظن مثل التيقن في حق الأحكام، فصارت الإجارة مؤبدة معنى، والتأبيد يبطلها»(59).
ثانيًا: تحديدكم المدة بثلاثين عامًا: «تحكم لا دليل عليه، وليس ذلك أولى من التقدير بزيادة عليه أو نقصان منه»(60)، وقد يؤجر المرء عقارًا أكثر من ثلاثين عامًا ولا يتملكه؛ لأنه لا يملك المال لذلك، وقد يشتري عقارًا ويتملكه وهو ينوي أن يقيم فيه أقل من ثلاثين سنة.
ثالثًا: في نسبة هذا القول للشافعي نظر؛ فإنه قد قال: «وللرجل أن يكري داره، ويؤاجر عبده يومًا وثلاثين سنة، لا فرق بين ذلك وذلك؛ أنه إذا كان مسلطًا على أن يخرج رقبة داره، ورقبة عبده إلى غيره بعوض وغير عوض، لم يكن ممنوعًا أن يخرج إليه منفعتهما، ومنفعتها أقل من رقابهما»(61).
فالواضح من هذا النقل أن الإمام الشافعي إنما يحتج لرأي أكثر الفقهاء، وهو: جواز الإجارة مدة قصيرة أو طويلة بلا فرق، بشرط أن تكون معلومة.
وقد صحح الماوردي هذا قائلًا: «اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أكثر مدة الإجارة على قولين:
أحدهما: لا يجوز إلا سنة واحدة؛ لزيادة الغرر فيما زاد على السنة.
والقول الثاني: يجوز سنين كثيرة، قال الشافعي رضي الله عنه: يجوز ثلاثين سنة، فمن أصحابنا من جعل الثلاثين حدًا لأكثر المدة اعتبارًا بظاهر كلامه، وذهب سائرهم، وهو الصحيح، إلى أن قوله ثلاثين سنة ليس بحد لأكثر المدة، ولهم فيه تأويلان:
أحدهما: أنه قاله مثالًا على وجه التكثير، لا على طريق التحديد(62).
والثاني: أنه محمول على ما لا يبقى أكثر من ثلاثين سنة»(63).
وقد ذكر بعدها تأويلًا ثالثًا وهو: «أنه قاله ردًا على قوم جعلوا ما دون الثلاثين حدًا للجواز، وجعلوا الثلاثين حدًا للمنع والفساد»(64).
المبحث الثالث
شبهات المدافعين عن هذا القانون بجواز التأبيد، والرد عليها
الشبهة الأولى:
زعم بعض المنافحين والمدافعين عن هذا القانون أنه ليس هناك محظور شرعي في العمل به، وأنه قد أشار بعض الفقهاء إليه، منهم الفقيه الحنفي السرخسي، عندما قال: «فالمذهب عندنا أنه إذا استأجرها مدة معلومة صح الاستئجار طالت أو قصرت، وفي قول الشافعي رحمه الله: لا يجوز الاستئجار أكثر من سنة واحدة، وفي قول آخر: يجوز إلى ثلاثين سنة، ولا يجوز أكثر من ذلك، وفي قول آخر: يجوز أبدًا»(65).
قالوا: كما أنه قول بعض أهل العلم الكبار؛ كالإمام مالك والخصاف من شيوخ الحنفية(66).
ففي الكافي لابن عبد البر المالكي: «وأجاز مالك كراء الدور والحوانيت مشاهرة، وإن لم تقرر الإجارة على مدة معلومة؛ لأن الشهر معلوم ما يجب له ولكل يوم منه»(67).
وفي المحيط الرباني، لابن مازة الحنفي: «اختلف المشايخ فيمن يجوز الإجارة الطويلة في فصل، وهو أنه: إذا كان من أحد العاقدين بحيث لا يعيش إلى مدة ثلاثين سنة معه غالبًا، هل تصح هذه الإجارة؟ فبعضهم لم يجوزوا ذلك.
وممن لم يجوزوا القاضي الإمام أبو عاصم العامري، ووجهه: أن الغالب يلحق بالتيقن في الأحكام... فلا يجوز هذا العقد؛ لأنه بمنزلة التأبيد في الإجارة لما ذكرنا، والتأقيت شرط جوازها، والتأبيد يبطلها...
وبعضهم جوزوا ذلك، وممن جوز ذلك الخصاف؛ لأن العبرة في هذا الباب بصيغة كلام العاقدين، وأنه يقتضي التوقيت، فصح ذلك، ولا عبرة لموت أحد العاقدين قبل أسماء المدة؛ لأن ذلك عسى يوجد فيما إذا كانت المدة مقدار ما يعيش الإنسان إليها غالبًا، ولا عبرة له»(68).
وفي العناية للبابرتي: «ولا فرق بين طويل المدة وقصيرها عندنا إذا كانت بحيث يعيش إليها العاقدان؛ لأن الحاجة التي جوزت الإجارة لها قد تمس إلى ذلك، وهي مدة معلومة يعلم بها مقدار المنفعة فكانت صحيحة؛ كالأجل في البيع، وأما إذا كانت بحيث لا يعيش إليها أحد المتعاقدين فمنعه بعضهم؛ لأن الظن في ذلك عدم البقاء إلى تلك المدة، والظن مثل التيقن في حق الأحكام، فصارت الإجارة مؤبدة معنًى، والتأبيد يبطلها.
وجوزه آخرون، منهم الخصاف؛ لأن العبرة في هذا الباب بصيغة كلام المتعاقدين، وأنه يقتضي التوقيت»(69).
قالوا: إذن فهو رأي له وزنه وقيمته، واجتهاد مقبول في الشريعة الإسلامية.
نوقش:
ادعاؤكم أن الإمام مالكًا والخصاف جوزا تأبيد عقد الإجارة أمر فيه نظر؛ فليس معنى كلام مالك الذي نقلتموه أنه يجيز ذلك، كلا؛ بل معناه أنه يجيز كراء الدار شهرًا بشهر، بحيث يكون لكل من المالك والمستأجر حق فسخ الإجارة على رأس كل شهر، لا أنه يقول بالتأبيد، فهو دليل عليكم لا لكم، والنص التالي من كتب المالكية يزيد الأمر وضوحًا:
«وإذا اتفقا على الكراء وسمياه، ولم يتواجبا على مدة معلومة معينة، وذلك مثل أن يقول: أكري منك الشهر بكذا، أو السنة بكذا، أو يقول: أكري منك في كل شهر بكذا، أو كل سنة بكذا، أو يقول: أكري منك في الشهر بكذا، أو في السنة بكذا، كان للمكتري أن يخرج متى شاء، وللمكري أن يخرجه متى شاء، كان في أول الشهر أو وسطه، ويؤدي من الكراء بحساب ما سكن، ولا يلزم واحدًا منهما الكراءُ في الشهر الأول، ولا فيما بعده، إلا أن يقع بينهما شرط ألا يخرج أو ألا يخرجه أو يعجل الكراء، وهذا على مذهب ابن القاسم.
وذهب ابن الماجشون إلى أنهما يلزمهما الكراء في الشهر الأول إذا قال: الشهر بكذا، أو في كل شهر بكذا، وكذلك على مذهبه السنة الأولى إذا قال: السنة بكذا، أو كل سنة بكذا.
وروى ابن أبي أويس عن مالك في البيوت التي تكرى شهرًا بشهر فيخرج قبل ذلك أن كراء ذلك الشهر عليه، وإنما يكون عليه بحساب ما سكن إذا تكارى كل يوم بدرهم، ففي كراء الدار مشاهرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يلزم الشهر الأول، ولا ما بعده، والثاني: أنه يلزم فيه الشهر الأول ولا يلزم ما بعده من الشهور، والثالث: أنه يلزمه الشهر الأول، وكراء ما بعده من كل شهر بسكنى بعضه»(70).
وهو نفس قول الحنفية: «وإن كان استأجرها كل شهر فلكل واحد منهما أن ينقض الإجارة عند رأس الشهر؛ لأن كلمة كل متى أضيفت إلى ما لا يعلم منتهاه تتناول الأدنى، فإنما لزم العقد في شهر واحد، فإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة»(71).
ويقول الشوكاني: «ويصح أن تكون الإجارة غير مشتملة على مدة معلومة، وذلك كأن يستأجره على كذا في كل يوم بكذا أو في شهر بكذا، فإن هذه الإجارة صحيحة، ولم يرد ما يدل على امتناعها، وهما بالخيار، أحدهما ترك ذلك كان له من غير حرج»(72).
وأما نسبة القول بالتأبيد إلى الخصاف فلا يصح أيضًا؛ فإنما أجاز أن تكون الإجارة لمدة طويلة، لا أن تكون للأبد، ودليل ذلك العلة التي علل بها رأيه: «لأن العبرة في هذا الباب بصيغة كلام العاقدين، وإنه يقتضي التوقيت»، فهو ممن يقول بتوقيت عقد الإيجار، وإنما جوز الإجارة مدة طويلة لأن صورته التوقيت.
وأما مذهب الشافعي فقد سبق توجيه مذهبه، وبيان الصحيح من أقواله، على أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يؤخذ مذهب الإمام إلا من كتب المذهب المعتبرة ذاته، وعن فقهاء المذهب أنفسهم، وهذا أمر مقطوع به عند أهل العلم، ومن دونهم من طلابه والباحثين فيه.
فلا يوجد أحد من أهل العلم، أو حتى صغار الباحثين، من يدع مثل كتاب الأم أو المجموع أو الحاوي أو الوسيط أو الروضة، ونحوها من كتب المذهب الشافعي المعروفة، ثم هو يستخرج المذهب من كتاب لفقهاء الحنفية أو المالكية أو الحنابلة.
وقد سبق توضيح المسألة، وبيان السياق الذي يجب أن يفهم من خلاله الكلام، ويحمل عليه عبارة الفقيه السرخسي الحنفي، وأن الإمام الشافعي إنما كان يحتج لرأي أكثر الفقهاء، وهو: جواز الإجارة مدة قصيرة أو طويلة بلا فرق، بشرط أن تكون معلومة.
ونقلنا نص الإمام الماوردي في هذا، وهو قوله: «اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أكثر مدة الإجارة على قولين: أحدهما: لا يجوز إلا سنة واحدة؛ لزيادة الغرر فيما زاد على السنة، والقول الثاني: يجوز سنين كثيرة، قال الشافعي رضي الله عنه: يجوز ثلاثين سنة، فمن أصحابنا من جعل الثلاثين حدًا لأكثر المدة اعتبارًا بظاهر كلامه، وذهب سائرهم، وهو الصحيح، إلى أن قوله ثلاثين سنة ليس بحد لأكثر المدة، ولهم فيه تأويلان:
أحدهما: أنه قاله مثالًا على وجه التكثير، لا على طريق التحديد(73).
والثاني: أنه محمول على ما لا يبقى أكثر من ثلاثين سنة»(74).
وقد ذكر بعدها تأويلًا ثالثًا وهو: «أنه قاله ردًا على قوم جعلوا ما دون الثلاثين حدًا للجواز، وجعلوا الثلاثين حدًا للمنع والفساد»(75).
ويتبين من خلال ما نقلناه أنه لم يحك أحدٌ من فقهاء الشافعية عن الإمام قولًا بتأبيد عقد الإجارة، ويتأكد هذا بأن كتب الاختلاف المتخصصة بذكر مواضعه وأقوال الفقهاء المعتبرين لم تذكر أيضًا هذا القول عن الإمام الشافعي.
ومن ذلك الإمام الطحاوي لما ذكر هذه المسألة في كتاب اختلاف الأئمة العلماء، وكذلك ما ذكره أصحاب الموسوعات الفقهية ونحوها، فلم يذكر أي واحد من العلماء عن الشافعي قولًا بالتأبيد، ذلك أنهم بالرجوع إلى كتب مذهبه اتضح لهم جليًا عدم وجود هذا القول.
الشبهة الثانية:
استدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وجه الاستدلال:
أن ولاة الأمر، من خلال القانون، قد أجازوا ذلك، وقد أمر الله بطاعتهم بنص الآية.
قالوا: لذلك فإن دار الإفتاء المصرية؛ مع أنها أفتت ببطلان عقد الإيجار الذي تضمن شرط التأبيد، لكنهم استثنوا ما إذا أصدر ولي الأمر قوانين تقضي بذلك؛ لأن له تقييد المباح.
نوقش:
قضاء القاضي وحكم الحاكم لا يحل الحرام ولا يحرم الحلال؛ بل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لا يحل الحرام؛ فعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها»(76).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»(77).
وأما ما قد يفتي به البعض من مداهني الحكام، من أن للحاكم أن يقيد المباح، فنقول له: اتق الله، فالحاكم الشرعي يشترط فيه شروط للولاية، هي معروفة عند أهل العلم، وليس لمن يحرم الحلال ويمنع الجهاد ويوالي الكفار على المسلمين ولاية شرعية.
كيف وهو يضيف إلى ذلك أنه يحل الحرام المجمع على تحريمه؛ كالربا، والزنا، والخمر، والميسر؟؟ كيف وهو يستبيح دماء المسلمين؟ كيف وهو نفسه لا يصلي ولا يصوم، ولا يقيم لشرع الله وزنًا؟؟ كيف لو كان فاجرًا مزورًا مغتصبًا للسلطة؟؟
ثم إن من قال بتلك القاعدة من العلماء وضعوا لها ضوابط، منها: أن يكون ذلك التقييد لمدة محددة، وليس لمدة مفتوحة.
وأخيرًا فيكفي للرد على هذه الشبهة أن نذكر أن مفتي مصر الأسبق أفتى، في ذات القضية، أنه لا يجوز لولي الأمر تأبيد عقد الإيجار، بحجة تقييد المباح، فلم يدع لقائل بعده مقالًا.
يقول الأستاذ الدكتور نصر فريد واصل: «ولا يجوز لولي الأمر أن يتدخل في عقد الإيجار مقررًا امتداده وتأبيده؛ لأن هذا مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية ولإجماع الفقهاء من العصر الأول للإسلام حتى وقتنا هذا؛ على أن عقد الإيجار يجب أن يكون محدد المدة».
الشبهة الثالثة:
ما قرره الفقهاء من جواز التأجير كل مدة ولو طالت، بلا حد لأكثرها؛ فإن هذا يقتضي التأبيد؛ مثل قول ابن قدامة: «ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة؛ بل تجوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإن كثرت، وهذا قول كافة أهل العلم، إلا أن أصحاب الشافعي اختلفوا في مذهبه، فمنهم من قال: له قولان؛ أحدهما كقول سائر أهل العلم، وهو الصحيح...»(78).
وقول الزركشي: «لا تقدير لأكثر مدة الإجارة، فتجوز إجارة العين مائة سنة وأكثر، إذا غلب على الظن بقاؤها فيها، وهذا المذهب»(79).
وقول الماوردي في «الحاوي الكبير» وهو يتكلم عن مدة الإجارة: «فأما أكثر المدة فهو ما علم بقاء الشيء المؤاجر فيها، فإن كان ذلك أرضًا تأبد بقاؤها، وإن كان دارًا روعي فيها مدة يبقى فيها بناؤها، وإن كان حيوانًا روعي فيه الأغلب من مدة حياته»(80).
نوقش:
أولًا: قد احترز الفقهاء من ذلك، فاشترطوا في المدة الطويلة ألا تؤدي إلى التأبيد، ففي العناية للبابرتي: «لا فرق بين طويل المدة وقصيرها عندنا إذا كانت بحيث يعيش إليها العاقدان...، وأما إذا كانت بحيث لا يعيش إليها أحد المتعاقدين فمنعه بعضهم؛ لأن الظن في ذلك عدم البقاء إلى تلك المدة، والظن مثل التيقن في حق الأحكام، فصارت الإجارة مؤبدة معنى، والتأبيد يبطلها»(81).
وفي الإيجار الدائم الحالي يورث الأب العقار المؤجر لولده، ويورثه ولده لولده...، بلا تحديد نهاية لعقد الإيجار!
ثانيًا: طول المدة الذي جوزه الفقهاء شرطه أن تكون المدة معلومة البداية والنهاية، أما في الإيجار الدائم فلا تعلم نهايتها.
الشبهة الرابعة:
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
وجه الاستدلال:
فالآية عامة في وجوب الوفاء بكل عقد أُبرم، بغض النظر عن مدته.
نوقش:
صدقتم؛ قد أمر الله عز وجل بالوفاء بجميع العقود التي يبرمها المسلمون، لكن ذلك مشروط بشرط أساسي، وهو: أن يكون العقد موافقًا للحق؛ فلا يُحِل حرامًا ولا يحرم حلالًا، فعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق»(82).
وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا»(83).
وعن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم فيما أحل»(84).
وعن عائشة قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: «إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي»، وقال أهلها: «إن شئت أعطيتها ما بقي»، وقال سفيان مرة: «إن شئت أعتقتها، ويكون الولاء لنا»، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ابتاعيها فأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق»، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقال سفيان مرة: «فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر»، فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليس في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة»(85).
وإيجار ملك المالك جبرًا عنه، ومنعه من التصرف فيما يملك، وإرغامه على قبول مبلغ زهيد كإيجار لا يساوي إيجار المثل...، كل هذا لا يوافق الحق؛ بل فيه إحلال للحرام؛ وهو أكل أموال الناس بالباطل، وفيه تحريم للحلال؛ وهو حرية المالك في التصرف فيما يملك.
الشبهة الخامسة:
قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6].
وجه الاستدلال:
حيث لم يحدد الله تبارك وتعالى مدة الإجارة، فهو دليل على عدم اشتراط تحديدها.
نوقش:
أولًا: أنه يجوز الإجارة في الرضاع على عمل وليس على مدة، قال ابن قدامة مقررًا ما اتفق عليه الفقهاء: «والإجارة على ضربين: 01006751030
أحدهما: أن يعقدها على مدة.
والثاني: أن يعقدها على عمل معلوم، كبناء حائط، وخياطة قميص، وحمل إلى موضع معين.
فإذا كان المستأجَر مما له عمل؛ كالحيوان، جاز فيه الوجهان؛ لأن له عملًا تتقدر منافعه به، وإن لم يكن له عمل؛ كالدار والأرض، لم يجز إلا على مدة»(86).
ثانيًا: مجاراة لكم نقول: بل قد حددت المدة بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233].
الشبهة السادسة:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
وجه الاستدلال:
أن التأجير شكل من أشكال التجارة التي تحتمل الربح والخسارة؛ فهل من حق رجل باع قطعة أرض قبل خمس سنوات بألف دينار، وقيمتها اليوم خمسة أضعاف سعرها أن يقول: إنه ظلم، وأن على المشتري أن يعيد له أرضه، أو يدفع له جزءًا من ثمنها؟!(87).
نوقش:
لقد حرم الله تعالى جميع أشكال الظلم وألوانه، والإيجار الدائم نوع من الظلم البَيِّن، ولو سايرناكم لقلنا: هي تجارة شملت ظلمًا؛ فتحرم لذلك، وليس كل تجارة حلال.
ونذكركم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم: «إن التجار هم الفجار» قيل: «يا رسول الله، أوليس قد أحل الله البيع؟»، قال: «بلى، ولكنهم يحدثون فيكذبون، ويحلفون، ويأثمون»(88).
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إن التجار يبعثون فجارًا، إلا من اتقى وبر وصدق»(89).
الشبهة السابعة:
أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد آجر سواد العراق على التأبيد(90).
نوقش:
أولًا: لم تكن إجارة، وإنما كانت أرضًا فتحها عمر وجبى خراجها، وعلى قول آخر فهو وقف، فقد «حمل أصحاب الشافعي ما فعل عمر في سواد العراق والشام على أنه وقف الأرض برضاء الغانمين، وإسقاطهم حقوق أنفسهم»(91).
ثانيًا: على فرض كونها إجارة، فقد اختلف: هل كان على التأبيد أم لا(92).
ومن رجح كونه على التأبيد جعله استثناءً لا قاعدة، وإنما كان ذلك للضرورة، ولمصلحة المسلمين، وهو شيء يراه ولي الأمر للمسلمين، فلا يقاس عليه؛ لذا قال الشربيني: «ويستثنى من اشتراط بيان المدة في الإجارة مسائل: الأولى: سواد العراق؛ فإن الأصح أن عمر رضي الله تعالى عنه آجره على التأبيد، واحتمل ذلك للمصلحة الكلية»(93).
الشبهة الثامنة:
أن الإجارة نوع من البيع؛ فهي بيع المنافع، وكما يجوز عقد البيع على الأعيان تأبيدًا، فكذلك يجوز بيع المنافع، من خلال الإجارة، على التأبيد، نقل السرخسي قائلًا: «المنافع كالأعيان القائمة، فالعقد على العين يجوز من غير التوقيت، فكذلك العقد على المنفعة»(94).
نوقش:
البيع غير الإجارة؛ فالبيع: مبادلة مال بمال، أما الإجارة فهي: الانتفاع بالشيء مع بقاء عينه.
وفي الإجارة يجب رد الشيء المستأجر عند نهاية المدة، بخلاف البيع، وكما قالها السرخسي: «الإجارة شرعًا لا تنعقد إلا مؤقتًا»(95).
الشبهة التاسعة:
اتفاق جمهور الفقهاء على أن وفاة المستأجر لا ينفسخ بها عقد الإيجار؛ لأنه تملك بهذا العقد من المنافع ما يورثه لورثته عند وفاته، فيقومون مقامه في استيفاء ما ورثوه من منافع(96).
ففي الكافي لابن عبد البر: «والكراء لا ينقضها موت أحد المتكارين، وورثة كل واحد منهما تقوم مقامه»(97).
نوقش:
إنما يقولون بذلك إذا مات المستأجر قبل انقضاء مدة عقد الإجارة المحدد بمدة معلومة، لا المؤبد أو الدائم، فاستدلالكم خارج عن محل النزاع.
بل إن الحنفية قد ذهبوا إلى أن الإجارة تنتهي بموت المستأجر، ففي المبسوط: «والإجارة تبطل بموت أحدهما»(98)، وفي البحر الرائق: «وتفسخ بموت أحد المتعاقدين»(99).
ولو سلمنا لكم، فهل قال الفقهاء بجواز أن يمتد الإيجار ليجاوز حياة ورثة المستأجر، كما هو المعمول به اليوم؟!
الشبهة العاشرة:
المبدأ القانوني المعروف: «العقد شريعة المتعاقدين»، وهو مبدأ لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، فيجب العمل به، وقد قام عقد بين المالك والمستأجر؛ هو عقد الإيجار الدائم، فيجب احترامه وتطبيق ما يقتضيه.
نوقش:
مبدؤكم القانوني أقره الشرع الإسلامي حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم»، لكنه أضاف إليه قيدًا أساسيًا جوهريًا، لا يكون صحيحًا إلا به، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القيد مرارًا؛ فقال مرة: «ما وافق الحق»(100)، وقال أخرى: «إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا»(101)، وقال ثالثة: «المسلمون عند شروطهم فيما أحل»(102).
وعن عائشة قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: «إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي»، وقال أهلها: «إن شئت أعطيتها ما بقي»، وقال سفيان مرة: «إن شئت أعتقتها، ويكون الولاء لنا»، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ابتاعيها فأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق»، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقال سفيان مرة: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليس في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة»(103).
فنتج أن كل عقد فيه ظلم أو حرام أو مخالفة للحق... فهو باطل لا عبرة به، وقد وضحنا مرارًا ما في عقد الإيجار الدائم من مخالفات.
المبحث الرابع
ذكر فتاوى المجامع الفقهية، وجهات الفتوى الموثوقة، وأقوال العلماء المعاصرين في العالم الإسلامي في هذه المسألة
في هذا المبحث نحاول أن نزيد هذا الحكم الذي تقرر عند كافة العلماء، سابقيهم ولاحقيهم، بيانًا وتوضيحًا، وهذا الأمر الذي اجتمع عليه العقلاء، توثيقًا وترسيخًا، بذكر فتاوى لجهات الفتوى الموثوقة في العالم الإسلامي، شرقه وغربه، وذلك فيما يلي:
فتاوى رسمية (أزهرية) صادرة من دار الإفتاء المصرية، ومن علماء ومشايخ الأزهر بعدم مشروعية قانون الإيجار القديم؛ لمخالفته أحكام الشريعة الإسلامية.
صدرت من دار الإفتاء المصرية عدة فتاوى بهذا الخصوص، منها:
(1) الفتوى الصادرة عن مفتى جمهورية مصر العربية الأستاذ الدكتور نصر فريد محمد واصل بتاريخ 2/6/1998، حيث جاء فيها: «عقد الإيجار في الشريعة الإسلامية لا بد أن يكون محدد المدة والقيمة والمنفعة، فإذا خلا من ذلك كان عقدًا غير صحيح شرعًا»، «وعقد الإيجار المؤبد، والذي يمتد تلقائيًا رغمًا عن إرادة المؤجر (أي المالك)، كما جاء في السؤال، يعد عقدًا باطلًا؛ لعدم توافر الرضا من أحد الطرفين، وكل عقد يداخله الغش والإكراه يكون عقدًا غير صحيح شرعًا.
ولا يجوز لولي الأمر أن يتدخل في عقد الإيجار مقررًا امتداده وتأبيده؛ لأن هذا مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية ولإجماع الفقهاء من العصر الأول للإسلام حتى وقتنا هذا؛ على أن عقد الإيجار يجب أن يكون محدد المدة، ولا بد فيها من رضا الطرفين، كسائر العقود، وأن أي عقد خلا من رضا الطرفين يعتبر عقدًا باطلًا، والله سبحانه وتعالى أعلم، مفتى جمهورية مصر العربية».
(2) فتوى الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتى جمهورية مصر، وشيخ الجامع الأزهر الأسبق، بتاريخ 10 إبريل 1994، حيث نُشِر بجريدة الأهرام، بالعدد (39206) السنة 118، مقالٌ له جاء فيه: «من أهم السلبيات التي اشتملت علها عقود الإيجار المعمول بها حاليًا بقاء أجور المساكن وغيرها على الأجر الذي تم الاتفاق عليه من عشرات السنين، وكأن عقد الإجارة عقد تمليك لا عقد إجارة؛ مما جعل الملاك المؤجرين للمساكن، ولا سيما القديمة، يضجون بالشكوى، ومما جعل معظم أصحاب رءوس الأموال ينصرفون انصرافًا تامًا عن تأجير ما يبنونه من مساكن؛ لشعورهم بالحيف والإجحاف، وكثرة المتاعب والمشاكل».
ثم انتهى إلى القول: «ومن أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة، والتي لا تقبل التأويل أو التحريف، بالنسبة لعقد الإجارة أن يكون محدد المدة والمنفعة والقيمة، وأن يكون مبنيًا على التراضي التام بين الطرفين، أو بحكم قضائي في حالة الاختلاف، وأنه متى انتهت مدته فللطرفين كامل الحرية في تجديده أو عدم تجديده، كما أن لهما كامل الحرية عند تجديده في أن تكون القيمة الإيجارية مساوية للقيمة السابقة أو تزيد عليها أو تنقص عنها، على حسب الظروف والأحوال والعرض والطلب».
(3) وفى 10/4/1994 في جريدة الاهرام كتب الدكتور محمد سيد طنطاوي، مفتي الجمهورية في ذلك الوقت، يقول: «عقد الإجارة من العقود الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع، ويجب أن يخضع في جميع مواده لأحكام الشريعة الإسلامية، والتي تقوم على الحق والعدل ورعاية صالح الناس، دون محاباة طائفة أو ظلم طائفة.
ومن أحكام الشريعة الثابتة، والتي لا تقبل التأويل أو التحريف، بالنسبة لعقد الإيجار أن يكون محدد المدة والمنفعة والقيمة، وأن يكون مبنيًا على التراضي التام بين الطرفين، وأنه متى استوفى أركانه وشروطه لا يصح فسخه إلا بنهاية مدته أو اتفاق الطرفين، أو بحكم قضائي في حالة الاختلاف، وأنه متى انتهت مدته فللطرفين كامل الحرية في تجديده أو عدم تجديده، كما أن لها كامل الحرية عند تجديده في أن تكون القيمة الإيجارية مساوية للقيمة السابقة أو تزيد عليها أو تنقص عنها، على حسب الظروف والأحوال والعرض والطلب، وأنه متى انتهت مدته أيضًا لا يجوز توريثه من الأصول إلى الفروع إلا برضا المؤجر أو ورثته الشرعيين، ومن المناسب شرعًا وعقلًا، لإصلاح عقود الإيجار في وضعها الحالي، أن تصدر الجهات المختصة في الدولة قانونًا يعطي المستأجرين فترة زمنية مناسبة يدبرون فيها أمر أنفسهم، وهذه الفترة قد تكون خمس سنوات أو أكثر أو أقل، ثم تنتهي هذه العقود بعد ذلك، أو تجدد بأجور جديدة يتفق عليها الطرفان إن رغبا في التجديد، وإن لم يرغبا عادت العين المستأجرة إلى صاحبها.
كذلك من المناسب عقلًا وشرعًا أن ترفع جهات الاختصاص القيمة الإيجارية لتلك العقود القديمة، بطريقة يتوافر فيها العدل للطرفين، دون أبطاء أو تردد، إذ بتحقق العدل يسود الأمن، ويعم الاطمئنان، وتهدأ النفوس، ويزيد الإنتاج، ويعظم الرخاء، وتنمو العلاقات الطيبة بين الناس».
فتاوى مجامع فقهية ومراكز فتوى أخرى:
(5) وفي فتاوى الشبكة الإسلامية: ورد سؤال مطول حول نظام الإيجار القديم، وكان الجواب التالي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما يسمى بنظام الإيجار القديم من العقود الباطلة شرعًا، فالواجب في عقد الإجارة بيان المدة، قال ابن قدامة في «المغني»: «الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة؛ كشهر وسنة، ولا خلاف في هذا نعلمه؛ لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه، المعرفة له، فوجب أن تكون معلومة» انتهى.
ومن أهل العلم من يرى صحة العقد مشاهرة، أي أن لكل شهر كذا...، دون تحديد مدة، وفي هذه الحالة يحق لكل من المتعاقدين فسخ الإجارة متى أراد...، فالقانون المذكور لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، وما كان من العقود خاليًا من بيان المدة ولم يكن مشاهرة وجب فسخه، وردُّ العين المستأجرة إلى المالك، ودفع أجرة المثل خلال مدة استخدامها، إلا إذا تنازل عنها المالك، فلا يجوز لك أن تقيم مع والدك في الشقة المذكورة؛ بل يجب على والدك رد هذه الشقة إلى مالكها، وعليك الاجتهاد في بر والديك بما تقدر عليه، وبما لا يخالف الشرع.
علمًا بأن إجارة الدور المحددة بزمن معين لا تنتهي بموت المستأجر قبل انتهاء المدة المذكورة على المذهب الراجح، وهو مذهب جمهور العلماء، وإنما تظل باقية، يرثها ورثته من بعده؛ وذلك لأن المنفعة مال، وقد ملكها المستأجر بالعقد فتورث عنه إذا مات، وذهب الحنفية إلى أن الإجارة تنتهي بموت المستأجر، والله أعلم.
وخلاصة الفتوى: أن القانون لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، وأن ما كان من العقود خاليًا من بيان المدة ولم يكن مشاهرة وجب فسخه.
حكم تأجير السكن مدى الحياة:
(6) وفيها أيضًا(104): السؤال: انتشرت في مصر في العقود الماضية ظاهرة تعرف بالإيجار القديم، وهو عقد للشقق يبقى فيها المستأجر مدى الحياة في الشقة بنفس القيمة الإيجارية، ويورثها لجيل واحد يليه، وقد فرضت الحكومة هذا الأمر على الملاك في الستينيات، ولكن هذا النوع من التعاقد استمر في السبعينيات برضا الطرفين أحيانًا، حتى وصل في وقتنا الحالي أن بعض العقارات مؤجرة بقيمة زهيدة جدًا بعد تدني قيمة العملة؛ فهل تعتبر هذه الشقق مغصوبة من ملاكها؟ وهل يلزم على المستأجر الخروج منها حتى إن كان لا يملك مكانًا آخر للسكن؟ وهل على المستأجرين تعويض الملاك عن الفترات السابقة؟
وحيث إن هذه الظاهرة منتشرة جدًا فإن كثيرًا من الأقارب والأصهار يسكنون في شقق بهذه العقود، فهل تجوز زيارتهم في هذه الشقق إن كانت تعتبر عينًا مغصوبة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا يجوز الالتزام بقانون الإيجار المعمول به في بعض الدول، والذي يقضي بلزوم الإيجار مدى حياة المستأجر، وتوريثها لجيل واحد من أبنائه بعده، مع بقاء الأجرة ثابتة طوال هذه المدة، دون نظر إلى أجرة المثل عند ارتفاع قيمة الإيجار وزيادة الأسعار؛ بل يعتبر المستأجر غاصبًا في حالة مطالبة مالك العقار له بالخروج أو بزيادة الأجرة، فإن بقاءه متمسكًا بالعين المستأجرة مستندًا في ذلك إلى هذا القانون الجائر منكر عظيم، ويجب أن يعلم أن القانون لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا.
والصواب أن الإجارة عقد لا يقتضي التأبيد؛ بل لا بد من معلومية مدته؛ كيوم أو شهر أو سنة ونحو ذلك، فتأبيد الإجارة يجعل المستأجر مالكًا أو كالمالك، كما أنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
فإذا انتهت المدة وجب على المستأجر إخلاء العين المستأجرة للمؤجر، فإذا أراد البقاء فيها ورضي بذلك رب العقار مختارًا وجب عليه دفع ما يتفق هو ورب العقار عليه، ويجب دفع أجرة المثل للملاك عن المدة السابقة، إلا إذا تنازلوا عنها طائعين.
أما عن زيارة سكان هذه البيوت التي هي في حكم المغصوب فلا تجوز، لما فيها من إقرارهم على المعصية والرضا بها، وراجع الفتوى رقم: 35388، والله أعلم.
حكم تأجير العين على أن آخر مدة الإجارة هي انتهاء العين المؤجرة:
(7) وورد في فتاوى الشبكة أيضًا(105) السؤال التالي: بخصوص الإجارة، أولًا: هل يجوز أن يستأجر شخص شقة ويتفق مع المالك أن تكون مدة العقد هي بانتهاء العين المؤجرة؟
ثانيًا: هل يجوز أن يستأجر شقة ويتفق مع المالك برضاه أن تكون غير محددة المدة، ولكن هناك زيادة سنوية ثابتة على الإيجار مثلًا 2.5 %،أو زيادة متغيرة سنوية بحيث تكون في السنة الأولى مثلًا 1% والثانية 1.5 % وهكذا كل سنة.
والجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإجارة تنقسم إلى قسمين: إجارة لازمة وإجارة غير لازمة.
1- فالإجارة غير اللازمة: هي التي يحصل التعاقد فيها على أن كل يوم بكذا أو كل شهر أو كل سنة بكذا، من غير تحديد مدة تنتهي إليها الإجارة، وهذا القسم يسمى مشاهرة أو مياومة، وهذا النوع من العقود صحيح عند المالكية والحنفية وبعض الحنابلة وأبي ثور، وغير صحيح عند الشافعية؛ لعدم تحديد مدة الإجارة، وفي ذلك جهالة وغرر، فعلى القول بصحته فإن لكل واحد من المتعاقدين فسخه متى شاء، قال الدردير: وجاز الكراء مشاهرة، وهو عبارة عندهم عما عبر فيه بكل، نحو: كل شهر بكذا أو كل يوم أو كل جمعة أو كل سنة بكذا، ولم يلزم الكراء لهما، فلكل من المتكاريين حله عن نفسه متى شاء...
2- والإجارة اللازمة: هي ما حدد فيها الزمن؛ كأن يستأجر منه الدار مثلًا سنة كذا أو هذه السنة بدءًا من شهر كذا، فهذا النوع من الإجارة يسمى وجيبة، وهو لازم، وليس لأحد المتعاقدين حله دون موافقة من الثاني؛ لأن المستأجر ملك المنفعة طيلة تلك المدة، كما أن المؤجر ملك مقابلها المتفق عليه من أجرة.
فتحديد مدة الإجارة في هذا العقد شرط في صحته، وعليه، فتأجير العين على أن آخر مدة الإجارة هي انتهاء العين المؤجرة لا يجوز إذا كان المتعاقدان يريدان أن يكون العقد لازمًا؛ لأن في ذلك جهالة واضحة في المدة، ومما سبق أيضًا تعلم حكم السؤال الثاني:
فإذا كان المتعاقدان يريدان أن يكون العقد ملزمًا فلا بد من تحديد مدة الإجارة وتحديد الأجرة، والاتفاق على زيادة سنوية معلومة، ولو كانت نسبة لا حرج فيه؛ لأنها نسبة إلى شيء معلوم فهي معلومة.
أما إذا كان المتعاقدان يريدان أن يكون العقد غير ملزم فلهما ألا يحددا المدة، لكن بشرط تحديد الأجرة، والله أعلم.
لا يجوز للمسلم أن يظلم أخاه فيعتدي عليه معتمدًا على القوانين الباطلة:
(8) وورد في فتاوى الشبكة أيضًا السؤال التالي:
قمنا بتأجير شقة منذ 25 عامًا، ولم تحدد المدة في عقد الإيجار، تبعًا للقوانين السائدة في القطر المصري، ثم قام المالك بعرض الشقة لنشتريها بمبلغ 10 آلاف جنيه، وهي تستحق مبلغ 50 ألف جنيه، وذلك لتضرره وعدم قدرته على التصرف في ملكه، خضوعًا للقوانين السائدة، أفتونا جزاكم الله خيرًا.
- :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيشترط لصحة عقد الإجارة بيان المدة التي تنتهي فيها الإجارة، وما كان من العقود خاليًا من بيان المدة وجب فسخه، وإذا انفسخ العقد لم يجز للمستأجر البقاء في العين المؤجرة؛ ولو كانت القوانين الوضعية تجيز ذلك؛ إذ لا يجوز أن تصادم تلك القوانين شرع الله، كما لا يجوز للمسلم أن يظلم أخاه فيعتدي عليه معتمدًا على تلك القوانين الباطلة، وإذا اعتمد عليها وبقي في العين المؤجرة بالإيجار الزهيد الذي لا يرضاه المؤجر، أو بدون تحديد مدة إجارة، مما يُلجئ المالك إلى أن يبيع ملكه إلى المستأجر بثمن بخس، فإنه آثم غاصب لحق أخيه، مشارك لتلك الجهة التي أصدرت تلك القوانين في الظلم؛ بل ظلمه هو أشد؛ لأنه مباشر للظلم.
وعليه؛ فلا يجوز لكم البقاء في الشقة إلا بعقد مع المالك، تحدد فيه المدة والأجرة التي يرضاها المالك.
بعد هذا الغوص في كتب الفقهاء من المذاهب الأربعة، وبعد هذه المطالعة لأقوال المعاصرين، وبالمرور على قوانين عقد الإيجار الدائم، المعمول به في مصر، يتضح لنا أمور، ونخلص إلى حقائق، هي أهم نتائج البحث:
1- دلت الأدلة المتكاثرة والقاطعة على أن عقد الإيجار الدائم عقد باطل، يخالف قواعد الشريعة الإسلامية، ويصادم أبسط قواعد الملكية الفردية.
2- اتفق الفقهاء من المذاهب الأربعة على لزوم توقيت عقد الإيجار، وأن من شروط صحته بيان المدة المعلومة.
3- أجمع علماء المسلمين، بما فيهم العلماء المعاصرون، على أن الإيجار القديم (الدائم)، القائم على تأبيد الإجارة، والذي ينص على أن للمستأجر أن ينتفع بالمؤجر أبدًا هو وذريته، هو عقد باطل في الشريعة الإسلامية، وأن حبس العين عن مالكها لا يكون إلا بالبيع.
4- لا يكاد يوجد دولة واحدة في العالم: مسلمة أو كافرة بها مثل هذا القانون، غير ما ذكرنا، وذلك بمثابة اتفاق من العقلاء من البشر على ما يترتب على عقد الإيجار الدائم من السلبيات والمضار على مستوى الفرد والمجتمع.
5- توريث عقد الإيجار لا يكون إلا في حدود المدة الزمنية لتوقيت العقد، طبقًا لشروط العقد المتفق عليها بين طرفي العلاقة بالتراضي بينهما، فإذا توفي المستأجر فإن باقي المدة الإيجارية المتعاقد عليها بين المؤجر والمستأجر تظل من حق الورثة البقاء حتى نهاية العقد، ما عدا حالة رغبة الورثة فسخ العقد من خلال القاضي لظروف طارئة.
6- تدخل الحاكم مقررًا امتداد العقد هو باطل بطلانًا مطلقًا؛ لانتفاء الرضا والتراضي على المنفعة المعقودة من حيث المدة والقيمة الإيجارية، وحكم الحاكم لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا.
7- يترتب على عقد الإيجار الدائم الكثير من السلبيات، نراها في واقعنا المعاش؛ حيث أدى هذا القانون الجائر إلى مساوئ، أبرزها ما يلي:
- اختفاء العقار الإيجاري.
- ظهور خلو الرجل، ومنها ما هو محرم.
- اختفاء الصيانة للعقارات ما يؤدي إلى انهيار العقارات على السكان.
- أكل القادرين من المستأجرين السحت.
- تدهور العلاقة بين الملاك والمستأجرين.
- ضياع أموال الدولة من حصيلة العوائد.
______________
(1) يعني غير مصر، وربما في دولة أو دولتين بعد ذلك، هما الأردن والجزائر.
(2) الإجارة لغة: من أجر أجرًا وآجر، والاسم الإجارة والإيجار والمؤاجرة، والأجر هو الجزاء على العمل.
والإجارة اصطلاحًا:عند الحنفية: عقد على المنافع بعوض، وعند المالكية: بيع المنافع، وعند الشافعية: تمليك منفعة بعوض بشروط.
وعند الحنابلة: عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة، أو عملٍ معلوم بعوض معلوم.
والإجارة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، انظر «العقود المضافة إلى مثلها»، ص47.
(3) مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة، ص753.
(4) سيأتي بيان أن ذلك متفق عليه بين العلماء، مع ذكر أدلتهم وأقوالهم، ومناقشتها.
(5) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي، الملخص الفقهي، للفوزان، مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة، للتويجري، الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة، فقه السنة، للسيد سابق.
(6) بُعيد الحرب العالمية الثانية وقفت في مصر حركة البناء، وبخاصة تشييد المساكن؛ بسبب انقطاع ورود المواد الأولية، في حين وفدت على المدن المصرية جموع كبيرة من بينها جيوش الحلفاء ومن يتبعها من موظفين مدنيين، ومن بينها كذلك المهاجرون من بلاد أجنبية اجتاحتها الجيوش المتصارعة، ومن بينها أعداد كبيرة من أهالي الريف المصري جذبهم إلى المدن ما نشأ فيها عن وجود هذه الجيوش من زيادة هائلة في فرص العمل، وتشغيل الأيدي العاملة (حيث تحتاج تلك الجيوش الكبيرة إلى أيدي عاملة وخدمات ومرافق ...الخ)، ونتيجة لكل ذلك، ووفقًا لقانون العرض والطلب، ارتفعت قيمة أجرة المساكن إلى درجات غير مسبوقة، وأخذ ذوو الأملاك في التنبيه على المستأجرين بإخلاء الأماكن المؤجرة عند انتهاء مدد عقودهم، أو مضاعفة أجرة الأماكن القائمة، أو المغالاة في أجرة الأماكن التي تستحدث.
وخشي المشرع أن يشتط الملاك في ذلك فيزيدوا أزمة المساكن تفاقمًا، فأصدر العديد من الأوامر العسكرية (في ظل الأحكام العرفية في أثناء الحرب) غل بها أيدي الملاك عن زيادة إيجار المساكن إلا في حدود ضيقة، وقرر امتداد العقود السارية بعد انتهاء مدتها (الاتفاقية) امتدادًا تلقائيًا (قانونيًا).
وعند إلغاء الأحكام العرفية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصدر المشرع قانونًا بتنظيم العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين، وهو القانون رقم 121 لسنة 1947 (في تاريخ 14يوليو 1947) مُتضمنًا الأحكام التي أريد بها أن تكون دستورًا مؤقتًا، ينظم العلاقة بين مؤجري الأماكن ومستأجريها (في الظروف الاقتصادية الشاذة)، التي ما زالت تقتضي تعطيل بعض أحكام القانون المدني إلى أن تزول هذه الظروف، ويصدر قانون جديد بإلغاء هذا التشريع الاستثنائي والعودة إلى تطبيق الأحكام العامة المنصوص عليها في القانون المدني.
وقد أدخل المشرع العديد من التعديلات على القانون رقم 121 لسنة 1947، إلى أن استبدله كله بالقانون رقم 52 لسنة 1969.
وكذلك أدخل المشرع العديد من التعديلات على القانون رقم 52 لسنة 1969، إلى أن استبدله كله بالقانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن، وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، ثم أصدر المشرع القانون رقم 136 لسنة 1981 ببعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن، وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، استكمل بها المشرع حلقات هذا التنظيم وعالج فيها بعض ثغراته.
ويتبين مما تقدم أن هذه التشريعات إن هي إلا تشريعات خاصة، خرج بها المُشرع على الأحكام العامة لعقد الإيجار المنصوص عليها في القانون المدني (الشريعة العامة)، ووضع بتلك التشريعات الخاصة أحكامًا قصد بها إلى تقييد حرية المؤجر في تحديد الأجرة وفي طلب الإخلاء، وكذلك إلى فرض التزامات خاصة على عاتق كل من المؤجر والمستأجر، وهذه الأحكام الخاصة هي التي تسري، من دون أحكام القانون المدني التي تتعارض معها، ما دامت العين المؤجرة كائنة ببلدة من البلدان التي نصت تلك التشريعات الخاصة على سريانها عليها.
وفيما عدا الأحكام المذكورة تسري على العلاقات الإيجارية الأحكام العامة لعقد الإيجار المنصوص عليها في القانون المدني.
وطالما أن قوانين إيجار الأماكن هي قوانين خاصة، فإن تطبيقها يكون تحت مظلة القانون العام، وهو القانون المدني، فيرجع إلى القانون المدني، حتى بالنسبة إلى العلاقات والأماكن التي يسري عليها قانون إيجار الأماكن، في كل ما لم يرد بشأنه نص في هذا القانون الخاص؛ أي أنه في حالة ما إذا خلا التشريع الخاص من تنظيم وضع معين، فإنه يتعين الرجوع بشأنه إلى أحكام القانون المدني باعتبارها القواعد الأساسية والشريعة العامة، حتى ولو كانت المدة المتعاقد عليها في عقد الإيجار قد انتهت، وأصبح عقد الإيجار مُمتدًا بقوة القانون الخاص...(المدونة القانونية، للأستاذ أشرف رشوان المحامي).
(7) الهداية في شرح بداية المبتدي، للمرغيناني (3/ 230).
(8) العناية شرح الهداية، للبابرتي (9/ 63).
(9) بدائع الصنائع، للكاساني (3/ 172).
(10) المصدر السابق (6/ 180).
(11) المبسوط، للسرخسي (11/ 143).
(12) مختصر اختلاف العلماء (4/ 98(
(13) الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر (2/ 745).
(14) شرح مختصر خليل، للخرشي (7/ 44)، وانظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 44).
(15) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 2)، وأسهل المدارك (2/ 321).
(16) المهذب في فقه الإمام الشافعي، لأبي إسحاق الشيرازي (2/ 246).
(17) المجموع شرح المهذب، تكملة المطيعي (13/ 209).
(18) المصدر السابق (15/ 10).
(19) المغني، لابن قدامة (5/ 323).
(20) المصدر السابق (5/ 317).
(21) المصدر السابق (5/ 322).
(22) الهداية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي الخطاب الكَلْوَذاني (1/ 294).
(23) المبسوط، للسرخسي (15/ 132)، وسيأتي تحرير مذهب الشافعية من كتب مذهبهم.
(24) فتاوى السبكي (1/ 420(.
(25) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، ص583.
(26) الجزء الأول، ص471.
(27) فقه السنة (3/ 181(.
(28) الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي (5/ 3809(.
(29) انظر: الحاوي الكبير، للماوردي (7/ 364، و405)، والمهذب، للشيرازي (2/ 238).
(30) الشرح الكبير، لابن قدامة (6/ 48).
(31) الأم، للشافعي (6/ 259)، ومختصر المزني (8/ 225)، والحاوي الكبير، للماوردي (7/ 364).
(32) الشرح الكبير، لابن قدامة (6/ 48).
(33) تفسير القرطبي (هود: 85).
(34) تفسير الخازن (الأعراف: 28).
(35) رواه أحمد (مسند البصريين، حديث عم أبي حرة الرقاشي)، والبيهقي في شعب الإيمان، واللفظ له (فصل في الترغيب في النكاح)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (7662-2780).
(36) رواه البخاري، واللفظ له (كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ})، ومسلم (كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال).
(37) رواه مسلم (كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر).
(38) مختصر المزني (8/ 225).
(39) مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة، لمحمد بن إبراهيم التويجري (1/ 717)، وانظر التعريفات، للجرجاني (1/ 161).
(40) رواه مسلم (كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها).
(41) الهداية في شرح بداية المبتدي، للمرغيناني (3/ 230).
(42) الحاوي الكبير، للماوردي (6/ 393).
(43) هكذا في الأصل؛ بالفاء، ولعل الصواب: (كالكيل).
(44) المبسوط، للسرخسي (15/ 132).
(45) المصدر السابق.
(46) مغنى المحتاج، للشربيني (3/ 474).
(47) المغني، لابن قدامة (5/ 333).
(48) لأبي عمر دُبْيَانِ بن محمد الدُّبْيَانِ.
(49) وفيها أيضًا:... وذلك كما في العقود المؤقتة، كما في الإجارة، فإنها لا تصح إلا على مدة معلومة، أو على عمل معين يتم في زمن، وبانتهائها ينتهي عقد الإجارة.
وفيها أيضًا: يجوز إيجار الأرض للزراعة لمدة معلومة كسنة ونحوها، ولو إلى عشر سنين أو أكثر، اتفاقًا، حتى قال الشافعية: تصح إجارة الأرض لمائة سنة أو أكثر، ولو وقفًا؛ لأن عقد الإجارة على العين يصح مدة تبقى فيها العين إليها، وفي قول عندهم: لا تزاد على ثلاثين سنة؛ لأن الغالب تغير الأشياء بعدها، وفي قول عندهم أيضًا: لا يزاد على سنة؛ لأن الحاجة تندفع بها.
إذا قال المؤجر: آجرتك داري عشرين شهرًا كل شهر بدرهم مثلًا جاز العقد بغير خلاف؛ لأن المدة معلومة وأجرها معلوم، وليس لواحد من المؤجر والمستأجر حق الفسخ بحال؛ لأنها مدة واحدة فأشبه ما لو قال: آجرتك عشرين شهرًا بعشرين درهمًا.
(50) وقال الشيخ خالد الرفاعي: «ما يسمى بعقود الإيجار القديم هو إيجار بِنِظام تأبيدِ الإجارة المعمولِ به في بعض البلدان العربية، وهذا النّظام يقومُ على أنَّ لِلمُستأجِر أن يَنتفع بالمؤجَر أبدًا هو وذرّيَّته، فهو عقدٌ باطلٌ في الشريعة الإسلامية بإجماع أهل العلم»، من فتوى له على موقع طريق الإسلام.
(51) نقلًا عن «المبسوط»، للسرخسي (15/ 132).
(52) الحاوي الكبير (7/ 405).
(53) المصدر السابق.
(54) المصدر السابق.
(55) نفس المصدر السابق.
(56) نفس المصدر السابق.
(57) انظر: المبسوط، للسرخسي (15/ 132).
(58) الحاوي الكبير (7/ 406).
(59) العناية شرح الهداية، للبابرتي (9/ 63)، بتصرف بسيط.
(60) المغني (5/ 325).
(61) انظر: الأم، للشافعي (6/ 259).
(62) ما بين القوسين منقول من نفس المصدر، لكن بعدها بصفحات.
(63) الحاوي الكبير، للماوردي (7/ 364).
(64) المصدر السابق (7/ 406).
(65) المبسوط، للسرخسي (15/ 132).
(66) انظر: العناية شرح الهداية، للبابرتي (9/ 63)، والمحيط البرهاني في الفقه النعماني، لابن مازة (7/ 621)، والبناية شرح الهداية، للعيني (10/ 229).
(67) الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر (2/ 746).
(68) انظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني، لابن مازة (7/ 621)، بتصرف بسيط.
(69) العناية شرح الهداية، للبابرتي (9/ 63-64).
(70) البيان والتحصيل، لابن رشد (9/ 45).
(71) المبسوط، للسرخسي (15/ 131).
(72) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، ص573.
(73) ما بين القوسين منقول من نفس المصدر، لكن بعدها بصفحات.
(74) الحاوي الكبير، للماوردي (7/ 364).
(75) المصدر السابق (7/ 406).
(76) رواه البخاري (كتاب: المظالم والغصب، باب: إثم من خاصم في باطل، وهو يعلمه)، ومسلم (كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة).
(77) رواه البخاري (كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية)، ومسلم (كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية).
(78) المغني، لابن قدامة (5/ 324).
(79) شرح الزركشي على مختصر الخرقي (4/ 220).
(80) الحاوي الكبير، للماوردي (7/ 406).
(81) العناية شرح الهداية، للبابرتي (9/ 63)، بتصرف بسيط.
(82) رواه الحاكم في المستدرك (كتاب: البيوع، حديث أبي هريرة)، والبيهقي في الكبرى (كتاب: الصداق، باب: الشروط في النكاح)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (6716).
(83) رواه الترمذي (أبواب الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس)، والبيهقي في الصغير (كتاب: البيوع، باب: الشركة)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (2353).
(84) رواه الطبراني في الكبير (باب الراء، عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده رافع)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (6715).
(85) رواه البخاري (كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد)، ومسلم (كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق).
(86) المغني (5/ 325).
(87) موقع: جريدة الدستور الأردنية، مقال بعنوان: حول قانون المالكين والمستأجرين، ياسر الزعاترة.
(88) رواه أحمد (مسند المكيين، زيادة في حديث عبد الرحمن بن شبل)، والبيهقي في شعب الإيمان (حفظ اللسان)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (366).
(89) رواه ابن ماجه (كتاب: التجارات، باب: التوقي في التجارة)، والترمذي (أبواب البيوع، باب: ما جاء في التجار)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (994).
(90) انظر: صحيح البخاري (5/ 15)، ومسند الإمام الشافعي (1/ 241).
(91) التفسير المظهري (4/ 93)، وانظر: شرح صحيح مسلم، للنووي (10/ 211).
(92) انظر: تفسير القرطبي (18/ 22).
(93) مغني المحتاج، للشربيني (3/ 474).
(94) المبسوط، للسرخسي (15/ 132).
(95) المصدر السابق (5/ 61).
(96) انظر: الإجارة وأحوال انفساخها، موقع: معلومات المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية (IBIS).
(97) الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر (2/ 754).
(98) المبسوط، للسرخسي (20/ 170).
(99) البحر الرائق، لابن نجيم (8/ 41).
(100) رواه الحاكم في المستدرك (كتاب: البيوع، حديث أبي هريرة)، والبيهقي في السنن الكبرى (كتاب: الصداق، باب: الشروط في النكاح)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (6716).
(101) رواه الترمذي (أبواب الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس)، والبيهقي في الصغير (كتاب: البيوع، باب: الشركة)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (2353).
(102) رواه الطبراني في الكبير (باب الراء، عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده رافع)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (6715).
(103) رواه البخاري (كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد)، ومسلم (كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق).
(104) الفتوى رقم (58077).
(105) تحت عنوان: الإجارة اللازمة وغير اللازمة (12/ 3715).