logo

إياكم والظن


بتاريخ : الاثنين ، 22 ذو القعدة ، 1438 الموافق 14 أغسطس 2017
بقلم : تيار الاصلاح
إياكم والظن

إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يُسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكمًا على شخص أو أمر أو حادثة.

قال العلماء: إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدر أن ظنه كان مخطئًا، يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به، فإن كان اعتقادًا في صفات الله فقد افترى على الله، وإن كان اعتقادًا في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضارًا، أو الاهتداء بمن ظنه ضالًا، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلًا، ونحو ذلك.

ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير عِلمًا راسخًا في النفس، فتترتب عليه الآثار بسهولة، فتصادف من هو حقيق بضدها، كما في قوله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6](1).

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: «يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فأمر سبحانه باجتناب الكثير؛ لا كل الظن، وقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، ولم يقل: كل الظن إثم، فدلّ ذلك على جواز الظن السيئ إذا ظهرت أماراته ووُجدت دلائله، الذي يقف مواقف التهم يُظن به السوء، والمرأة التي تخلو بالرجل يُظن بها السوء، والتي تغازل الرجال فيما يتعلق بالزنا والزيارات بينها وبين الرجل متهمة بالسوء، وهكذا من أظهر أعمالًا تدل على قبح عمله يُتّهم، أما إساءة الظن بدون سبب فلا تجوز»(2).

قال الماوردي: «سوء الظن هو عدم الثقة بمن هو لها أهل»(3)، وقال ابن القيم: «سوء الظن هو امتلاء القلب بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على اللسان والجوارح»(4)، وقال ابن كثير: «سوء الظن هو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير مَحلِّه»(5).

قال الله تبارك وتعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور:12]، قال ابن عاشور في تفسيره: «فيه تنبيه على أن حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام، فإذا نُسِبَ سوءٌ إلى من عُرِفَ بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان، حتى يتضح البرهان، وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق، التي سَرَت لبعض المؤمنين عن غرورٍ وقلة بَصارَة، فكفى بذلك تشنيعًا له»(6).

وقال أبو حيان الأندلسي: «فيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قَالَةً في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير، وأن يقول بناءً على ظنه: هذا إفك مبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه، كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحَسَن»(7).

وقال الخازن: «والمعنى: كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يُكذِّبوه ويحسنوا الظن، ولا يُسرِعوا في التهمة وقول الزور فيمَن عرفوا عِفَّته وطهارته»(8).

وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات:12].

قال ابن حجر الهيتمي: «عقَّب تعالى بأمره باجتناب الظن، وعلل ذلك بأن بعض الظن إثم، وهو ما تخيلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمم عليه قلبك، أو تكلم به لسانك من غير مسوغ شرعي»(9).

ويقول الطبري: «يقول تعالى ذِكره: يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرًا من الظن بالمؤمنين، وذلك إن تظنوا بهم سوءًا فإن الظان غير محق، وقال جل ثناؤه: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}، ولم يقل: الظن كله؛ إذ كان قد أَذِن للمؤمنين أن يظنَّ بعضهم ببعض الخير، فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}، فأَذِن الله جل ثناؤه للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض الخير، وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قِيلِه فيهم على يقين.

عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}، يقول: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن شرًّا.

وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يقول: إنَّ ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير إثم؛ لأن الله قد نهاه عنه، فَفِعْل ما نهى الله عنه إثم»(10).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا»(11).

قال النووي: «المراد: النهي عن ظن السوء، قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك لا يملك.

ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به»(12).

قال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها؛ كمن يتهم رجلًا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها؛ ولذلك عطف عليه: ولا تحسسوا، وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتحسس ويبحث ويتسمع؛ فنهى عن ذلك، وقال الخطابي وغيره: ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبًا؛ بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هو خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لا يكلف به(13).

قال الغزالي: «أي: لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل، لا في القلب ولا في الجوارح، أما في القلب فبتغيره إلى النفرة والكراهة، وأما في الجوارح فبالعمل بموجبه، والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك، وسرعة فهمك وذكائك، وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته»(14).

قال الغزالي: «فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة، فإذا لم يكن كذلك وخطر لك وسواس سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك، وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر، فإن قلت: فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج، والنفس تحدث؟ فتقول: أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان، فينفر عنه نفورًا ما، ويستثقله، ويفتر عن مراعاته، وتفقده وإكرامه، والاغتمام بسببه، فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه»(15).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا»، وقال أيضًا: «لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه»(16).

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «من علم من أخيه مروءة جميلة فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى»(17).

وعن سعيد بن المسيب قال: «كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ضع أمر أخيك على أحسنه، ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا»(18).

وقال المهلب: «قد أوجب الله تعالى أن يكون ظن المؤمن بالمؤمن حسنًا أبدًا؛ إذ يقول: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}، فإذا جعل الله سوء الظن بالمؤمنين إفكًا مبينًا فقد ألزم أن يكون حسن الظن بهم صدقًا بينًا»(19).

وروى معمر عن إسماعيل بن أمية قال: «ثلاث لا يعجزن ابن آدم، الطيرة، وسوء الظن والحسد، قال: فينجيك من سوء الظن ألَّا تتكلم به، وينجيك من الحسد ألَّا تبغي أخاك سوءًا، وينجيك من الطيرة ألا تعمل بها»(20).

الظن السيئ بالله تعالى:

نهى الله تعالى عن الظن السيئ في الأمور كلها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فنهى الله عز وجل عن كثير من الظن السيئ بالمؤمنين حيث قال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة، فإن بقاء الظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك؛ بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا إساءة الظن بالمسلم وبغضه وعداوته المأمور بخلافها، فكيف بالظن السيئ بالله تعالى.

فمن أكبر الظن وأبشعه أن يتوهم مماثلة الله تعالى بالمخلوقين، وهذا خلاف ما فطر عليه العباد من أنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما ذاته لا تشبه سائر الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه سائر الصفات(21).

كما قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، وفي الحديث: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»، وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل زعموا»(22).

أسباب سوء الظن:

ويوقع في سوء الظن أسباب كثيرة، وبواعث عدة، نذكر منها:

1- سوء النية وخبث الطوية:

كأن ينشأ الإنسان تنشئة غير صالحة؛ فيقع كثيرًا في المعاصي والسيئات حتى تورثه تلك المعاصي وهذه السيئات سوء الظن بمن ليس أهلًا له، ويصبح ذلك مظهرًا من مظاهر سوء النية وخبث الطوية، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]، {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]، {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران:154]، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36]، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10].

2- عدم التنشئة على المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص:

ذلك أن المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص إنما يتمثل في:

أ- النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله، فهو وحده المطلع عليها، العليم بكل ما فيها، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار»(23)، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: «لا إله إلا الله»، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله، فقتلته؟» قال: قلت: «يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح»، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا»، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ... الحديث(24).

ب- والاعتماد على الدليل أو البرهان، قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13].

ج- والتأكد من صحة هذا الدليل أو ذلك البرهان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

د- وأخيرًا، عدم معارضة الأدلة أو البراهين لبعضها البعض، هذا هو المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص، ومن يربى على غير هذا المبدأ فإن أموره وأحكامه كلهما تبنى على الظنون والأوهام التي قد تصيب مرة وتخطيء مائة مرة ومرة، ولقد أشار القرآن إلى هذا السبب وهو يناقش المشركين في دعواهم أن وقوعهم في الشرك من الله، قائلين: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، فرد عليهم سبحانه بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148].

3- البيئة، قريبة كانت أو بعيدة:

وقد ينشأ المرء في بيئة معروفة بسوء الخلق، ومنه سوء الظن، سواء أكانت هذه البيئة قريبة، ونعني بها البيت، أم بعيدة، ونعني بها الأصدقاء، فيتأثر بها، ولا سيما إذا كان في مرحلة الحضانة أو البناء والتكوين، ولما يصلب عوده ويحصن بعد ضد هذه الأخلاقيات وتلك السلوكيات، وحينئذ يصاب بسوء الظن، ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثر البيئة على الإنسان عندما قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»(25)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]، «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة»(26).

4- اتباع الهوى:

ذلك أن الإنسان إذا اتبع هواه حتى صار هذا الهوى إلهه الذي يعبده من دون الله، فإنه يقع لا محالة في الظنون الكاذبة، التي لا دليل عليها ولا حجة ولا برهان؛ نظرًا لأن حب الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، وتصيد الأخطاء، فمثلًا إذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا الميل ينسيه أخطاءه ويحمله على تحسين الظن به، وإن كان مخطئًا في الواقع ونفس الأمر، وإذا أبغض الإنسان آخر لأنه لا يميل إليه بهواه، ولم يكن هذا الإنسان منصفًا، فإن هذا البغض يحمل على سوء الظن، وما يتبعه من التماس العثرات وتصيد الأخطاء وإن كان مصيبًا في الواقع ونفس الأمر، من باب: وعين الرضا عن كل عيب كليلة، وعين السخط تبدي المساويا.

وقد لفت الحق تبارك وتعالى الأنظار إلى هذا السبب حين قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23]، {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} [القصص:50]، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].

5- الوقوع في الشبهات:

وقد يكون الوقوع في الشبهات، عن قصد أو عن غير قصد؛ بل وعدم تبرير الوقوع في هذه الشبهات إن كانت عن غير قصد أو غير تعمد، من الأسباب التي تغري الآخرين أن يقعوا في سوء الظن، ولعل هذا بعض أسرار تأكيده صلى الله عليه وسلم على البعد عن الشبهات إذ يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه»(27)، «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة»(28).

بل وضربه صلى الله عليه وسلم المثل من نفسه لنقتدي به ونتأسى في البعد عن كل شبهة؛ إذ تقول السيدة صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني [وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد]، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، أو قال: شيئًا»(29).

6- عدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي:

ذلك أن الإسلام أدبنا أنه إن كان ولا بد من التناجي لصلاح الحياة واستقامة الحال فإن هناك آدابًا يلزم مراعاتها، وهذه الآداب هي:

أ- حرمة انفراد اثنين فما فوقهما بالنجوى دون الآخر، حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه»(30).

ويدخل في هذا الأدب حرمة تناجي اثنين فما فوقهما دون الجماعة بلسان غير لسان الجماعة؛ لاتحاد العلة، وللمشابهة المتمثلة في الإحزان والإغضاب.

ب- وأن تكون النجوى في الطاعة والمعروف، لا في المعصية والمنكر، إذ يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة:9].

 ج- وأن تكون النجوى في أمر مهم، لا يتم ولا يبرم إلا بعيدًا عن أعين المرجفين والمفسدين في الأرض.

تلكم هي آداب الإسلام في التناجي، ومن يهملها أو لا يلتزم بها يمكن أن يفتح الطريق على نفسه لتتسرب إليها الظنون والأوهام الكاذبة، التي لا دليل عليها ولا برهان.

7- الوقوع في المعاصي والسيئات ولا سيما مع المجاهرة أو الإعلان:

فقد يقع الإنسان في المعاصي والسيئات وتصل به الحال إلى أن يجاهر أو يعلن بها، وحينئذ يفتح الباب أمام الآخرين ليظنوا به سوءًا؛ نظرًا لأنه خان نعمة الله عليه، ولم يقابلها بالعرفان والشكر، وإنما قابلها بالجحود والنكران، فكان أجدر أن يخافه الناس وأن يظنوا به سوءًا أو شرًا.

ولهذا وغيره دعا الإسلام إلى الإسرار بالمعصية إن كان ولا بد من اقترافها، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه»(31).

8- نسيان الحاضر النظيف والوقوف مع الماضي الدنس:

فقد يفتتح الإنسان حياته بالوقوع في الرجس والدنس من المعاصي والسيئات، ثم يتوب الله عز وجل عليه فيقلع عن هذه المعاصي، وتلك السيئات، ويواظب على المعروف من البر والطاعات.

ويأتي من ينسى أن قلوب العباد جميعًا بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء، ويأخذ في تقييم هذا الصنف، الذي عصى ثم تاب الله عليه فتاب، من خلال ماضيه السيئ، وليس من خلال حاضره النظيف، وحينئذ يجد الشيطان مدخلًا يدخل منه لتحريك الظنون الكاذبة والأوهام الباطلة، التي لا دليل عليها ولا برهان، ويعمل على تنميتها، حتى تصير خلقًا يتحرك به صاحبه بين الناس.

9- الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن:

إن الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن قد تكون من بين الأسباب التي تؤدي إلى التردي في هذه الآفة؛ إذ الإنسان إذا غفل أو نسي عاقبة شيء تردى فيه، وإن كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18].

آثار سوء الظن:

إن لسوء الظن مآلات وآثار سلبية؛ فقد تعزل الفرد عن مجتمعه، وتجعله خائفًا منهم، معتقدًا أنهم قد يمسونه بسوء في أي وقت؛ فيفضل البقاء منعزلًا بذاته نفسيًا واجتماعيًا؛ مما قد يودي بشخصيته وثقته بنفسه مع مرور الأيام، ومن هذه الآثار:

أ- على الفرد: فمن آثار وعواقب سوء الظن على الفرد:

1- الوقوع في المعاصي والسيئات: فقد يؤدي سوء الظن بصاحبه، حين يريد أن يتحقق أو يتأكد من صحة ما ظن، أن يقع في سلسلة طويلة من المعاصي والسيئات، تسلم كل واحدة إلى التي تليها؛ مثل: التجسس أو التحسس، الغيبة، النميمة، التحاسد، التباغض، التدابر، التقاطع، الفرقة، وهلم جرًا.

2- القعود عن أعمال البر والطاعات فضلًا عن القلق والاضطراب النفسي: إذ الوقوع في سلاسل المعاصي والسيئات التي ذكرنا تكون سببًا في سواد القلب؛ فيمرض فيقسو أو يموت فيقفل، ويختم عليه فيكون القعود عن الطاعات وأعمال البر، فضلًا عن القلق والاضطراب النفسي.

ويتأكد القلق والاضطراب النفسي من جانب آخر، وهو أن سيئ الظن يوجه كل ظنونه إلى ما يحمي به نفسه وعرضه وماله وعشيرته، فتراه يتوهم أن الناس يتآمرون عليه لقتله أو هتك عرضه أو سلب ماله أو أنهم يحتقرونه، ولا يلقون له بالًا ولا يقيمون له وزنًا، ومن ثم يحيا قلقًا من داخله، لا ينعم بأمن ولا باطمئنان نفسي: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طـه:124].

3- الحسرة والندامة: فقد ينتهي سوء الظن بصاحبه بعد البحث ومحاولة التحقق أو التأكد إلى عكس ما توهم، وهنا تكون الحسرة والندامة إن كانت لا تزال هناك بقية من خير في الفطرة.

4- كراهية الناس ونفورهم من أصحاب الظن السيئ: ذلك أن الناس حين يعرفون عن واحد من الناس أنه سيئ الظن، وأن ظنونه هذه تنتهي إلى مجرد اتهام لا دليل عليه ولا برهان، ينفرون منه ويكرهونه أشد الكراهية، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وماذا جنى المرء إذا كرهه الناس ونفروا منه، والإنسان مدني بطبعه، كما أنه قليل بنفسه كثير بإخوانه.

5- تضييع العمر فيما لا يفيد: ذلك أن سيئ الظن يظل طول حياته يجري وراء هذه الظنون بغية التحقق والتأكد من صحتها، وغالبًا ما تكون كاذبة، فيكون قد ضيع عمره بددًا، وحتى لو كانت صادقة فقد اطلع على ما يؤذي ويؤلم ويبقى خاسرًا في الحالين.

6- التعرض للغضب والسخط الإلهي: وفوق ما قدمنا فإن سوء الظن، وما يترتب عليه من أعمال تؤكده أو تبطله، يكون سببًا في التعرض للغضب والسخط الإلهي، ومن يطيق غضب الله وسخطه وهو سبحانه يقول: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81].

7- سبب للوقوع في الشرك والبدعة والضلال:

سوء الظن بالله سبب في الوقوع في الشرك، قال ابن القيم: «الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهمْ وَأعَدَّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]...، فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى»(32)، وقال المقريزي: «اعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعًا إلى شيئين:

أحدهما: الظن بالله ظن السوء، والثاني: لم يقدروا الرب حق قدره»(33).

إنها صفة كل مبطل ومبتدع: قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]، قال ابن القيم: «كل مبطل وكافر ومبتدع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه، فأكثر الخلق؛ بل كلهم، إلا من شاء الله، يظنون بالله غير الحق ظن السوء، وإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنًا ككمون النار في الزناد»(34).

8- سبب في استحقاق لعنة الله وغضبه:

قال ابن القيم: «توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].

ب- على الجماعة:

ومن آثار وعواقب سوء الظن على الجماعة:

1- الفرقة وتمزيق الصف: ذلك أن شيوع سوء الظن يؤدي إلى أن يتراشق الناس بالتُّهم، ثم يسحبوا الثقة من بعضهم فيتباغضون، ويتدابرون، ويتقاطعون؛ الأمر الذي يؤدي إلى ذهاب ريحنا ونسلنا في مواجهة العدو، وذلك هو العذاب العظيم الذي حذرنا الله في كتابه فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].

2- طول الطريق مع كثرة التكاليف: وكذلك إذا جثم العدو على صدرنا بسبب الفرقة، التي هي من آثار سوء الظن، فإن التكاليف تكثر، والطريق تطول؛ إذ ليس من السهل أن يخلي العدو لنا طريقنا، وإنما يحتاج إلى جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة ومثابرة ومرابطة؛ حتى يزحزح ويزاح من طريق الناس، وليلة تحت قيادة العدو تحتاج منا إلى تكاليف وتضحيات لسنة، لمحو آثار الشر التي غرسها في هذه الليلة، وصدق الله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2].

3- سبب للمُشكلات العائلية: من أسباب المشاكل العائلية سوء الظن من أحدهما، وغضبه قبل التذكر والتثبت؛ فيقع النزاع وربما حصل فراق، ثم تبين الأمر خلاف الظن.

4- من مداخل الشيطان الموقعة في كبائر الذنوب.

5- سبب في مرض القلب، وعلامة على خبث الباطن.

قال الغزالي: «مهما رأيت إنسانًا يسيء الظن بالناس طالبًا للعيوب فاعلم أنه خبيث الباطن، وأن ذلك خبثه يترشح منه، وإنما رأى غيره من حيث هو، فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العيوب، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق»(35)، فلا نفع من عباداته ما دام يظن السوء بغيره؛ لأن ظن السوء يعتبر من الذنوب والآثام، وعلى المسلم أن يصلح نفسه قبل أن يظن بالناس ظنًا ليس في محله، فيؤثم نفسه، ويظلم الناس، وعليه أن يتجنب إطلاق الحكم على غيره من الأفراد، وأن يتقي التسرع، فإن أتاه عن أخيه شيء سيئ فعليه ألا يصدقه وينفيه عنه؛ بل وعليه ألا يعطي الفرصة لعينيه التصديق ولا لعقله التفكير في ذلك، فما لم يره بعينيه فهو ليس متثبتًا منه؛ لأجل ذلك لا يجب أن يصدقه.

علاج سوء الظن:

إن علاج سوء الظن يمكن تلخيصه في الخطوات التالية:

1- بناء العقيدة السليمة القائمة على تحسين الظن بالله وبرسوله وبالمؤمنين الصالحين، فإن هذه العقيدة تحرسنا أن نظن ظن السوء بالآخرين من غير مبرر ولا مقتضى، وحتى لو كان فإننا نبادر بالتوبة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى.

2- التربية على تغذية هذه العقيدة بما يثبتها في النفس وينميها، وذلك بترك المعاصي والسيئات، والمواظبة على فعل الطاعات وأعمال البر، فإن التربية بهذه الصورة تجعلنا نتورع أن نقع في سوء الظن بمن ليس له أهلًا، وإن وقعنا فالتوبة والندم.

3- التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص، من الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى، ومن طلب الدليل والبرهان، ومحض ذلك الدليل وهذا البرهان؛ بل والتأكد من عدم تعارض وتضارب الأدلة مع بعضها البعض؛ فإن التنشئة بهذه الصورة تحرس الإنسان من التورط في سوء الظن بغير مبرر ولا موجب.

4- التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في النجوى، من عدم تناجي اثنين فما فوقهما دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، ومن كون هذه النجوى في الطاعة والمعروف دون المعصية والمنكر، ومن كونها في أمر مهم لا يصح أن يقضى فيه إلا بعيدًا عن سمع وبصر المرجفين والمفسدين في الأرض.

5- تجنب الوقوع في الشبهات، ثم الحرص على دفع هذه الشبهات إن وقعت خطأ أو عن غير قصد، وقد مرت بنا قصته صلى الله عليه وسلم مع الأنصاريين، حين كان يودع أم المؤمنين صفية وهو معتكف، وأسرعا السير واستوقفهما قائلًا: «إنها صفية بنت حيي»، وقاس العلماء على ذلك عدة صور فقالوا: إذا كنت في خلوة مع محرم لك، أو مع أهلك، ورآك الغير الذي تخشى عليه الشيطان، وجب أن تقول له: هذه أهلي؛ كيلا تعين عليه الشيطان.

وإذا كنت قد صليت في بيتك، ثم جئت المسجد فوجدت الناس يصلون فصل معهم، وتكون الصلاة الثانية نافلة لك؛ لئلا يتخذ الناس قعودك وهم يصلون ذريعة لإساءة الظن بك وأنك لست من المصلين.

وأمثلة البعد عن مواطن التهم في الإسلام كثيرة جدًا، غاية ما في الأمر أنه يجب أن يكون هذا المعنى آكد وأشد في حق العلماء والمربين؛ لأنهم أسوة وقدوة لغيرهم من الناس، وأي سلوك أو تصرف محسوب عليهم.

يقول ابن دقيق العيد: «وهذا [أي التحرز من كل ما يوقع في التهم] متأكَّد في حق العلماء ومن يُقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، وقد قالوا: إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا كان خافيًا نفيًا للتهمة»، وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم.

6- الحرص على سلامة البيئة، ولا سيما في مجتمع الأصدقاء، فإن ذلك له دور كبير في علاج سوء الظن، وحماية النفس من أن تتورط فيه من جديد.

7- مجاهدة النفس وقمع الهوى والشهوات؛ حتى تعرف النفس أنه ليس من السهل توجيه تهمة لأحد من الناس لمجرد ظن أو تخمين لا دليل عليه ولا برهان، وما في الدنيا شيء أعظم من أن يكون هوانا تبعًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران:31].

8- معاملة التائبين من الناس بحاضرهم لا بماضيهم، وإذا كان الملك الذي أساء هؤلاء وأجرموا في حقه قد تجاوز وعفا فنحن في التجاوز والعفو أولى وأحق، ولا سيما ونحن في المعاصي مثلهم وربما أشد.

 9- دوام النظر في كتب السيرة والتاريخ، ولا سيما تاريخ المسلمين، فإنها مليئة بصور حية عن الظن السيئ وآثاره وطريق الخلاص منه، بحيث يسهل على النفس التخلص من هذا الداء.

 10- التذكير الدائم بعواقب سوء الظن في الدنيا والآخرة، وعلى الفرد، والجماعة، فإن الإنسان كثيرًا ما ينسى، وعلاج هذا النسيان بالتذكير، كما قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9](36).

***

_______________

(1) التحرير والتنوير (26/ 252).

(2) فتاوى نور على الدرب، الشريط رقم:652.

(3) أدب الدنيا والدين (1/ 186).

(4) الروح (1/ 238).

(5) تفسير ابن كثير (7/ 377).

(6) التحرير والتنوير (18/ 174-175).

(7) البحر المحيط في التفسير (8/ 21-22).

(8) لباب التأويل في معاني التنزيل )3/ 288).

(9) الزواجر عن اقتراف الكبائر (9/ 2).

(10) تفسير الطبري (22/ 303-304).

(11) أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563).

(12) شرح النووي على مسلم (16/ 119).

(13) عمدة القاري (22/ 136).

(14) إحياء علوم الدين (3/ 151).

(15) المصدر السابق.

(16) الآداب الشرعية (1/ 47).

(17) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 261).

(18) الاستذكار (8/ 291).

(19) شرح صحيح البخاري (9/ 261).

(20) المصدر السابق.

(21) شرح الرسالة التدمرية، ص259.

(22) أخرجه أبو داود (4972).

(23) أخرجه البخاري (6967)، ومسلم (1713).

(24) أخرجه مسلم (96).

(25) أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

(26) أخرجه البخاري (2101)، ومسلم (2628).

(27) أخرجه البخاري (52).

(28) أخرجه الترمذي (2518).

(29) أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2175).

(30) أخرجه مسلم (2184).

(31) أخرجه البخاري (6069).

(32) إغاثة اللهفان (1/ 61).

(33) تجريد التوحيد المفيد، ص49-50.

(34) زاد المعاد (3/ 211).

(35) إحياء علوم الدين (3/ 36).

(36) سوء الظن، موقع: الكلم الطيب.