الحمد لله رب العالمين
الحمد لله، كلمةُ مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر، وهذا من فضل الله على عباده، الكلمة التي اختارها الله فاتحةً لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها لا تنفد، يقول سيّد قطب رحمه الله: والحمد لله، هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله، فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضًا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء، وفي كلّ لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوةٍ تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلّها، وبخاصة هذا الإنسان، ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختامًا قاعدة من قواعد التصور الإسلامي (1).
الحمد: هو ما ينبعث في النفس من تقدير المحسن، وما ينشأ فيها من الثناء على المنعم المتفضِّل، فالامتنان الذي نقابل به من ساق لنا الخير حمدٌ، والثناء الذي نرجع به على من أوْلانا النعمة وصدر عنه الخير حمد، وجحود الفضل وإنكار النعمة وازدراء الإحسان ذم وكفر.
قال ابن القيم: فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه (2).
وقيل الحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فإن خلا عن الحب والإجلال صار مدحًا، فالمدح والحمد يشتركان في الثناء بالصفات والأفعال، فإذا كان مع الثناء حب وإرادة وإجلال فهو الحمد، وإن خلا عن الإرادة والحب والإجلال فهو المدح (3).
فالله تعالى يحمد على كل حال، يحمد على الخير، ويحمد على الضرر، وذلك أنه إنما يسلط الضرر والشر أو البلاء لحِكَمٍ هو أعلم بها، فلأجل ذلك يحمد على الخير، ويحمد على الشر.
ولا يحمد على الشر سواه، وذلك أنه لا يبتلي بالشر كالمصائب والآفات والفقر والأذى والأمراض ونحوها، إلا لحكم ومصالح، فلأجل ذلك تحمده إذا أصابك مرض أو ألم، وإن أصابك فقر أو أذى فإنك تحمده على ذلك، وإن أصابك سجن أو جلدٌ أو أذى من خلق يسلطهم الله عليك فإنك تحمد الله على ذلك؛ وإن كان ذلك لا يستدعي الفرح بذلك، ولا الرضا به.
والحمد إذن حالة نفسية، تقوم في النفس تجاه المحسن المتفضِّل عندما نرى فضله وإحسانه، ولا يُحمد الشيء إلَّا إذا كان جامعًا لكل خير من كل وجه، وخاليًا من كل شائبة ونقص.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يديه- أو قال: يده- قال: «الحمد لله الذي يطعِم ولا يطعَم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصر من العماية، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا، الحمد لله رب العالمين» (4).
الله تعالى هو المحمود أبدًا، المعبود على طول المدى؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنزيله، حيث يقول تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأول وفي الآخر، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، في جميع الأحوال؛ ولهذا جاء في الحديث: «إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» (5)، وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم، فتكرر وتعاد وتزاد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه (6).
الحمد للّه وحده، فهو خالقنا ورازقنا، ورازق الخلائق كلها، وله المنَّة والفضل، على نِعَم السمع والذوق والبصر والأمطار والثمار والطعام والشراب، والحياة والمشاعر والمسرَّات والعلاجات، وما ينتج عنها من خيرات.
حمد الله تعالى نوعان:
(أ) حمد مستحق واجب لذات الله سبحانه وتعالى؛ لأنه متصف بصفات الكمال، وهو مصدر النعم، فهو أحق بالحمد من كل محمود.
(ب) وحمد على إحسانه تعالى إلى عباده، وتفضله عليهم بالنعم، وهو نوع من الشكر.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وإن سألت عن حمده فهو الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها وأحسنها، والمستحق لكل حمد ومحبة وثناء لكمال أوصافه وجميل معروفه وهباته وعدله، ولما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفة الجمال والجلال، لما أنعم به على خلقه من النعم الجزال التي لا يمكن للعباد إحصاؤها، ويتعذر عليهم استقصاؤها (7).
فما من حادثة تحدث، ولا مصيبة أو ضائقة تلم وتنزل، ولا عسر أو يسر، ولا مرض أو شفاء، وما من همٍّ أو غم، ولا نصرة أو خذلان، وما من واقع يقع في هذا الكون، من عطاء ورخاء، أو علاجٍ، إلَّا وهو منه تعالى محض الخير والفضل والإحسان، فهو سبحانه يُحمد على كل حال، وهو تعالى يستحق الحمد، وله الحمد في كل ما يسوقه لهذه المخلوقات، أدرك طرفًا من ذلك أولو العلم والبصائر، ولو انكشف الغطاء، لما اخترت إلَّا ما اختاره الله لك، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌّ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وكيف لا يُحمد الله تعالى على ما يسوقه لعباده، وهو الرَّحمن الرَّحيم؟
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن عبدًا من عباد الله قال: «يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا، إن عبدًا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله- وهو أعلم بما قال عبده- وما الذي قال عبدي؟ قالا: يا رب، أنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» (8).
الفرق بين الحمد والشكر:
الحمد يكون باللسان، والشكر يكون بالقلب واللسان الجوارح، أي: بالقول والفعل والنية، والحمد نقيض الذم، والشكر نقيض الكفر، والحمد أعم من الشكر؛ لأن الشكر يكون مقابل النعمة، بخلاف الحمد، فإنه يكون مستحقًا لذات الله تعالى.
ويجب أن يُترجم الشكر باللسان، إلى العمل الذي يمتد إلى العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة، ولكي يكون المرء حامدًا لله تعالى، فلا بد أن تكون أقواله وأفعاله وأحاسيسه ومشاعره وانفعالاته كلها لوجه الله تعالى، ففي ذلك دليل يشهد على صحة القول والفهم.
وحمد الله تعالى بالقلب يكون باعتقاد أنه سبحانه موصوف بصفات الكمال والجلال.
وحمد الجوارح يكون بفعل ما أمره الله به، وترك ما نهى عنه.
وحمد اللسان يكون بذكر الله تعالى وشكره.
وحمد الله تعالى كلمة ثقيلة تملأ ميزان العبد بالحسنات، فعن أبي مالك الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض...» (9)، أي: عِظَم أجرها يملأ ميزان الحامد لله تعالى.
ما أعظم هذا الفيض، وما أجزل هذا العطاء والكرم الذي لا يمكن مجرد تصوّره، كلمةٌ واحدة تملأ الميزان بالثواب والعطاء، تجده موفرًا يوم توزن الأعمال، كم بين السماوات والأرض من مسافات هائلة لا يعلم مداها إلا الله؟ مسافاتٌ ليست بالأمتار، بل بمئات الملايين من السنين الضوئية، سبحان الله والحمد لله تملآن هذه المسافات، إن هذا العطاء لا يقدر عليه إلا من يعطي بغير حساب.
وفي القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت في الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده، ولكن كان لكل سورة منهج خاص في بيان أسباب ذلك الحمد.
أما السورة الأولى فهي سورة الفاتحة التي تقول في مطلعها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}، أي: أن الحمد لله وحده، الذي ربي هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوى التفكير والإدراك، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التي أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية، عن طريق الإيجاد والتصوير، كما تنتظم التربية التشريعية التي أساسها الأحكام التي أوحاها الله إلى أنبيائه ورسله.
وتجيء بعد سورة الفاتحة في الترتيب المصحفي سورة الأنعام، فأثبتت أيضًا استحقاق الحمد لله وحده، لأنه {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، فهي تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية، وهو التربية الخلقية التي أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير الحقيقي.
ثم تجيء بعدهما سورة «الكهف» فتثبت أن الحمد لله، لأنه {أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التي تهذب الروح، وتهدى الفكر.
والسورة الرابعة التي افتتحت بإثبات أن الحمد لِلَّهِ هي سورة سبأ، لأنه سبحانه {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، ثم تراها بعد ذلك زاخرة بالحديث عن أنواع التربية المطلقة التي تنجلي في إرساء مظاهر علم الله الشامل، وملكه المطلق، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التي تجعله أهلًا لكل حمد وثناء.
أما السورة الخامسة فهي سورة فاطر، فقد أثبتت في مطلعها أن الحمد لله، لأنه {فَاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية، فهي تذكر خلق السماوات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر، كما تذكر أنواع الناس في الانتفاع بوحي الله، وبهدى أنبيائه ورسله.
وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت في أنها افتتحت بجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وفي قصر الحمد والثناء عليه وحده؛ إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجًا خاصًا في تقرير هذه الحقيقة، وفي إقامة الأدلة على صدقها (10).
وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية السماوات والأرض في قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 18]، وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية: الدنيا والآخرة في قوله: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70]، وقال في أول سورة سبأ: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]، والألف واللام في (الحمد) لاستغراق جميع المحامد، وهو ثناء أثنى به تعالى على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه به (11).
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» (12)، وقال الحسن: ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها (13).
أقول: هاهنا دقيقة أخرى، وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية، وقوله الحمد لله حمد غير متناه، ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناه، فكأنه تعالى يقول: عبدي، إذا قلت الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية، فلا بد من مقابلتها بنعمة غير متناهية، فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي، فثبت أن قول العبد الحمد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها (14).
الحمد لله كلمة شريفة جليلة لكن لا بد من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها، قيل للسري السقطي: كيف يجب الإتيان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال: وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور، فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد لله، وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس، وكان حق الدين والمروءة ألا أفرح بذلك، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد لله.
فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها.
ثم إن نعم الله على العبد كثيرة، إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين: نعم الدنيا، ونعم الدين، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة، وقولنا الحمد لله كلمة جليلة شريفة، فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا، بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين، ثم نعم الدين قسمان: أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، والقسم الثاني أشرف، ثم نعم الدنيا قسمان: تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم، وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم، والقسم الثاني أشرف، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد لله موافقًا لموضعه لائقًا بسببه.
أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله، وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد لله، أما الأول: فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد لله رب العالمين، وأما الثاني: فهو قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد، فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقرونًا بهذه الكلمة، فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير (15).
وتحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد لله، لأن قولنا الحمد لله إخبار عن حصول الحمد، والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه، فوجب أن يكون تحميد الله مغايرًا لقولنا الحمد لله، فنقول: حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا.
وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب، أو فعل اللسان، أو فعل الجوارح، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفًا بصفات الكمال والإجلال، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظًا دالة على كونه موصوفًا بصفات الكمال، وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفًا بصفات الكمال والإجلال، فهذا هو المراد من الحمد (16).
يظلّ العبد حامدًا لله، ديمةً عند استيقاظه وعند منامه. في خلوته وفي جلوته، بعد إطفاء نار عطشه، وبعد سدّ جوعة بطنه، في حال سقمه أو بعد ما يأذن الله له بشفائه، عندما يواري عورته باللباس والزينة، أو يأوي إلى بيته وفراشه في كل شؤونه وتصريفاته إلى وقت نزع روحه من بين جنبيه، ثم هو حمدٌ لا يفتر في الجنة كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه: «يُلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس» (17).
حمد لله على ذهاب الحزن والكروب، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 33- 34].
وحمدٌ على منة الهداية التي خولتهم دخول الجنة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 42- 43]
وإن أقصى ما يشغل أهل الجنة تسبيح الله أولًا وحمده آخرًا، يتخللهما تحيات السلام، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
الحمد لله على هلاك الظالمين وتمكين الموحدين، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].
وهل يحمد الله على نعمة، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين؟
-----------
(1) في ظلال القرآن (1/ 22).
(2) بدائع الفوائد (2/ 93).
(3) شرح الوصية الكبرى لابن تيمية - الراجحي (1/ 10).
(4) أخرجه الحاكم (2003).
(5) أخرجه مسلم (2835).
(6) تفسير ابن كثير (4/ 250- 251).
(7) فتح الرحيم الملك العلام (ص30) بتصرف.
(8) أخرجه ابن ماجه (3801).
(9) أخرجه مسلم (223).
(10) التفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 28).
(11) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 5).
(12) أخرجه مسلم (2734).
(13) تفسير القرطبي (1/ 131).
(14) تفسير الرازي (1/ 194).
(15) تفسير الرازي (1/ 195).
(16) تفسير الرازي (1/ 197).
(17) أخرجه مسلم (2835).