جيلنا وجيل الصحابة
فضل الصحابة رضوان الله عليهم:
قال ابن مسعود رضي الله عنه من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا وأقومها هديًا وأحسنها حالًا، قومًا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم رواه ابن عبد البر في الجامع، رقم (1810).
وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين؛ فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل، وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم؛ ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك (فتاوى ابن تيمية: 19/200).
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تسُبُّوا أَحدًا من أصحابي، فإنَّ أحدكم لو أَنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2541) واللفظ له.
يقول الخطيب البغدادي رحمه الله في الكفاية (49):
على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين؛ القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء انتهى.
أسباب اختلافنا عن ذلك الجيل:
1. اختلاط النبع الأول: حيث اختلط تفسير القرآن وكذا العلوم الإسلامية بفلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود، ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات.
وقد ابتليت الأمة الإسلامية بتعريب كتب اليونان، التي ابتدأ دخولها في العهد الأموي بدون توسع ولا انتشار؛ حيث كان المشتغلون بالفلسفة اليونانية، المعجبون بالمنطق الأرسطي؛ آحاد الناس على خفية من علماء أهل السنة والجماعة الذين حذَّروا منها؛ لما تنطوي عليها من ملابسة العلوم الفلسفية المباينة للعقائد الصحيحة، إلاَّ أنها شاعت كتب اليونان في عهد الدولة العباسية، وعظم ذلك وقوي أيام المأمون لما أثاره من البدع، وكان حرصه على نشره والحث عليه أعظم من الاشتغال بعلوم الأوائل(انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/265، وصون المنطق للسيوطي: 12).
2. اختلاف منهج التلقي: لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، وإنما ليتلقى أمر الله فيعمل به فور تلقيه، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها.
عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، قال: - وكانت حديقة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويستظل بها ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ يا أبا طلحة ذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه. أخرجه البخاري (2758).
وكذلك كان النساء؛ فهذه أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنهما-: يَصفْنَ حال نساء الصحابة -رضي الله عنهن- عند نزول آية الحجاب، انظر رَحِمك الله إلى المسارعة في طاعة الله ورسوله، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31] شققن مروطهن فاختمرن بها أخرجه البُخاري (4758).
لقد كان لدى الصحابة يقين وإدراك جيد أن كل آية تنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين هي للتطبيق لا للتلاوة وابتغاء الثواب فحسب.
عن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ أخرجه الطبري في تفسيره بإسناد صحيح (1/80).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقرءون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشرة الأخرى حتى يعملوا بما في هذا من العمل والعلم، قال: فعلمنا العمل والعلم (إتحاف الخيرة:1/204).
وهكذا كان امتثالهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففي «صحيح مسلم» عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «كُنَّا نُحَاقِلُ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله ﷺ، فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِي، فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ الله ﷺ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ الله وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْضِ فَنُكْرِيَهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ».
تأمَّلْ معنى ما يقوله هذا الصحابي الجليل، يقول: نهينا عن أمرٍ ظاهره أنه فيه مصلحة لنا، لكننا أيقنا أن طواعية الله ورسوله هي أنفع شيء لنا، فنفضوا ما في أيديهم، وأقبلوا على أمر الله ورسوله.
وفي مراسيل عروة بن الزبير وغيره: جاء عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى المسجد ذات يوم، فسمع النبي ﷺ يخطب يتكلم يَعِظُ أصحابه، وكان الوقت وقت هاجرة وشدة حر، فسمع عبد الله بن رواحة النبي ﷺ يقول: «اجْلِسُوا»، فجلس عبد الله بن رواحة في الحر، فما تقدم ولا تأخر عن مكانه؛ بل ما أن سمع هذه الكلمة من النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام: «اجْلِسُوا»؛ حتى بادر إلى الامتثال! نعم إنها مثال عملي للطواعية التامة العامة، لله تعالى ورسوله ﷺ، وأن ذلك من صميم الإيمان.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرّجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (رواه مسلم).
وذلك من كمال إيمانه رضي الله عنه، ولو كان ضعيف الإيمان لأخذه وانتفع به ببيع أو بإعطائه أهله أو ما أشبه ذلك
فالمسلم هو الذي يسلِّم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ويطيعه في كل ما أمر به، وينتهي عما نهى عنه، دون ريْبٍ أو تردد أو حرج، ولو كان أمره أو نهيه مخالفاً لهواه؛ قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]
3. ضغط التصورات والتقاليد والعادات البعيدة عن القيم الإسلامية الصافية:
فالتصورات والتقاليد والعادات تمارس سيطرة فعلية على ضمائر أفراد المجتمع، كما أنها تتمتع بقدرة الإلزام والنهي الأخلاقي، وتتصف بالعموم والشمول المطلق، فأحكامها وضوابطها لا تخص فئة أو طبقة اجتماعية دون الأخرى، كما أنها تستمد سطوتها وسيطرتها بما تتمتع به من قداسة وتبجيل، بحيث يشعر كل فرد في الجماعة أنه يواجه قوى كامنة وراء عادات وتقاليد وأعراف وموروثات المجتمع، يخشى مخالفتها كي لا يتعرض للنبذ والجزاءات المتنوعة.
إن واجب المسلم هجر كل عادة أو تقليد يخالف أصلاً من أصول الدين، وأن يتوقف عند كل عاداتها وتقاليدها ويضعها في ميزان المنهج الإسلامي الصحيح، ويحرص على تعديل كل مالا يتفق معه ولا يدور في فلكه، فإذا وجد من بين عاداته وتقاليده ما يخالف بعقيدته ويعارض دينه، فعليه أن يلقي به بعيدًا عنه بلا تردد ولا خجل ولا ندم، وأن ينفر من قبيح عاداته وسيئ تقاليده، ويفر إلى ظلال الإسلام الآمنة، لا يخاف في الله لومة لائم، وليكن قدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الصالحون في عصور الإسلام الذين لبوا نداء الحق وبذلوا الغالي والنفيس لنصرته.
إن العادات والتقاليد الموروثة هي من أخطر الأمور على دين الله، لأنها شيء مألوف معتاد، تميل إليه النفس، ويجتمع عليه الناس، ويصعب إقلاعهم عنه، ومن هنا يعظم دور المسلم في نبذ ما يخالف الشريعة الإسلامية؛ بل ويجب عليه أن يقوم بدور فعال في تغيير مجتمعه، فضلًا عن حمايته؛ لتوافق عادتُه وتقاليده شرعَ الله.
إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة. فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم}
قال البخاري (4226): حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصفا والمروة فقال كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما.
وكان هذا التحرج ثمرة التعليم الطويل، ووضوح التصور الإيماني في نفوسهم، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرزون ويتوجسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية. إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية، وتتوجس أن يكون منهيا عنه في الإسلام. الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة..
كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزا وتغلغلت فيها إلى الأعماق، فأحدثت فيها انقلابا نفسيا وشعوريا كاملا، حتى لينظرون بجفوة وتحرز إلى ماضيهم في الجاهلية; ويحسون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالا كاملا، فلم يعد منهم، ولم يعودوا منه; وعاد دنسا ورجسا يتحرزون من الإلمام به! وإن المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحس بقوة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس.
يحس التغير الكامل في تصورهم للحياة. حتى لكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها، وأعادت تأليف ذراتها على نسق جديد; كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان
وهذا هو الإسلام.. هذا هو: انسلاخا كاملا عن كل ما في الجاهلية، وتحرجا بالغا من كل أمر من أمور الجاهلية، وحذرا دائما من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية. حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه.. فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى، مما لا يرى فيه بأسا. ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي. فإذا أتاه المسلم فلا يلقون من عنت المشركين; وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية ولكن لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام، تستمد أصلها من الإسلام.
ويلزم من ذلك عمليًا:
لزوم الرجوع إلى فهم الصحابة وإلى ما كانوا عليه من حالة دينية وسلوكية.
الاحتياط الشديد في نسبة الخروقات القيمية والأصولية إلى الصحابة.