logo

الحج وصناعة المفاهيم


بتاريخ : الخميس ، 4 ذو الحجة ، 1444 الموافق 22 يونيو 2023
بقلم : مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
الحج وصناعة المفاهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 مفهوم الجماعة والأمة الواحدة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:

حين أذن الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام أن يبني بينه أمره بأن ينادي في الناس لحجه وتعظيمه والقيام بشعائره فقال تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) ومن تلك اللحظة إلى يومنا هذا وبيته يعج بالحجاج والمعتمرين والعاكفين والطائفين والمصلين إجابة لذلك النداء في تلك الحقبة من الزمن.

وعين الناظر من ذلك الزمن إلى يومنا هذا بهيجة من الفرح وهي ترى ذلك المشهد الذي يجتمع فيه الحجيج في بقعة واحدة من أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وبيئاتهم وألوانهم لا يفصل بينهم شيء وكلهم يلهج بذات الدعوة (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) في حين لو اجتمعت قوى التاريخ على أن تحدث جزءاً من هذه المشهد في بقعة من الأرض لعجزت! المُبهج في المشهد أنهم بلباس واحد ويتجهون لذات الغاية ويتحركون وفق منهج مرتب لا يستطيعون أن يخالفوه في شيء.

هكذا يصنع الحج مفهوم الوحدة لا يتحدث عنها حديثاً نظرياً أو يرددها أمنية وإنما يملؤ أعين المسلمين بهجة بمشاهدها الواقعية ويبعث في نفوسهم الأمل أن ظلام الفرقة والاختلاف سيبيد يوماً ما وإن طال زمان ذلك الظلام! إن الدرس المتين الذي يجب أن يشبع منه قارئ هذه الرسالة وهو يرى مشهد الحج أنه أحوج ما يكون إلى درس الوحدة وأن عليه أن يرمم علاقته بأسرته وأرحامه وجيرانه ومجتمعه وكل من تجمعه به رابطة الدين حتى يكون في النهاية جزءاً من هذا البناء وحلقة وصل في منظومته الكبرى.

مشهد الحج بالذات يرمم صور الخلاف بين الجماعة الواحدة ويسد فرج النزاع بين المختلفين ويذكّر كل فرد بأن يكون جزءاً من المنظومة لا نشازاً فيها.

وعلى الأمة أن تفقه أن أول درس في الحج هو الاجتماع والائتلاف ونبذ الفرقة والخلاف وإعادة تصحيح الرؤية بشأن هذا المفهوم والبدء بخطوات التصحيح عملياً حتى تأتي في النهاية على أحلامها التي تريد.

مفهوم العمل ولحركة الفاعلة:

لم يأت في كتاب الله تعالى مدحاً لأهل الإيمان مجرداً من العمل وكل الآيات في هذا الشأن متبوعة بالعمل الصالح كقوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) وقوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وغيرها مما هو مبسوط في كتابه تعالى وفي هذا دليل على أنه لا قيمة للمعتقدات التي نؤمن بها ونتبناها إلا من خلال الأدلة والبراهين التي نقيم شواهدها في واقع الحياة.

يؤكد لنا الحج اليوم قيمة العمل والحركة الفاعلة وأن بلوغ أهدافنا التي نحلم بها مرهوناً بالجهد الذي نبذله بعد ذلك في تحقيقها. (من حج البيت) فخرج من وطنه وترك مألوفاته وغادر أرضه وودع علائقه ثم التزم بتكاليف الطريق (فلم يرفث ولم يفسق) وتحمّل أعباء الطريق تحقق له ذلك الجزاء الذي يريد (رجع كيوم ولدته أمه) يذكرنا هذا المشهد اليوم بحاجة الأمة للعمل والبناء والتضحية وعلى أفرادها أن يتحوّلوا من مجرد أماني النصر التي يهتفون بها وهم على أرائكهم إلى مشاريع ناهضة يخرجون بها من أسر القعود والخمول إلى روح الجماعة والمشاركة الفاعلة في واقع الأحداث.

إن الفرد الذي استطاع أن يتغلّب على شهواته في مشاهد الحج، ويعيش ضمن هذه المنظومة، ويتفاعل معها، ويصبر على لأواء الطريق، ويتحمل تبعات الرحلة وتكاليفها الكبرى يستطيع أن يشارك في بناء الأمة، ويحوّل بعض مسافات الصحراء فيها إلى مساحات من الربيع.

إن النتائج الكبرى فرع عن العمل، واستنهاض الأرواح لا يتم إلا من خلال برامج ومشروعات ناهضة تحرك الفرد وتؤهله للتضحية والمشاركة الفاعلة كل على قدر جهده وإمكانيته، وعلى كل فرد في المقابل أن يستوعب دوره ويتحوّل من مجرد الشكوى التي يبثها عبر وسائل التواصل إلى البحث عن مشروعه الشخصي ودائرته المؤثرة ومساحته الممكنة التي يملأ بها واقع الأحداث ويخلق من خلالها مساحات النصر. فما أنت صانع لنفسك ومجتمعك ووطنك وأمتك بعد وداع مشاهد الحج؟!

مفهوم التجرد والإخلاص:

فإن الناظر في مشاهد الحج سيجد بأن موضوع توحيد الله تعالى من أعظم المقاصد الكبرى التي يكرسها هذا المشهد في نفوس أصحابه بدءاً من التلبية والتي هي شعاره (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) وانتهاء بمشاهد الحج والتي تعج بمشاهد التوحيد في كل جزء منها.

فإذا ما استعرضت حال النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة أدركت كيف كانت مشاهد التجرد والإخلاص تتجلى منه في ذلك الموقف. لقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) فتأمل هذا المعنى وانظر ما ذا يعني لك وأنت تردده في مثل هذا اليوم! (لا إله إلا الله) في سرّائك وضرّائك! لا إلا الله في عافيتك ومرضك! لا إله إلا الله في صحتك وسقمك! لا إلا الله في نجاحك وإخفاقك! لا إله إلا الله في كل ظروفك التي تواجهك وأحداثك التي تمر بك! لا إله إلا الله فهو الذي ينفع ويضر ويعطي ويمنع، ويبسط ويقبض!) وإذا أعدت النظر في نسكه صلى الله عليه وسلم وجدت أنه رفع يديه داعياً متضرعاً خاشعاً منيباً مقبلاً من بعد صلاة الظهر حتى غربت الشمس للدرجة التي سقط خطام ناقته من يده فأخذه بيد واليد الأخرى مرفوعة! في منظر يبعث مشاهد مثيرة من التجرد والإخلاص والخضوع في حياة أعظم رسله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا اليوم.

إنني أذكّر نفسي في مثل هذا اليوم وكل قارئ لهذه الرسالة أن يتخلى من حوله وقوته ويتجرد من حظوظ نفسه ويقبل على ربه إقبال الخائفين ويمسك جاداً بالفأل والأمل ويدفع ما استطاع دروب اليأس والتشاؤم والإخفاق.

اليوم يوم الحاجات! اليوم يوم الندم على سرائر السوء، وظلمات الخلوات وحقوق المستضعفين المساكين! كم من طريد اليوم آواه الله، وكم من ضال هداه! وكم من فقير مسكين أعطاه وأغناه! وكم من مستضعف ذليل أمده وقوّاه! يا أهل عرفة ما رئي الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في مثل هذا اليوم لما يرى من تنزّل الرحمات وتجاوز الله عن الذنوب العظام، فزيدوا مساحة ذلك بالافتقار لله! اليوم يتنزّل الله تعالى في عشية عرفة ثم يقول: ما ذا أراد هؤلاء! أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم!!

هذا يوم الفرص! وكم من عارض لا يعود! وما استقبل أحد هذا اليوم بمثل الصدق، وسلامة القلب، والاضطرار في الحال، والإلحاح في السؤال.

والله المسؤول أن يجعلنا وإياكم في هذا اليوم من المقبولين.

المصدر: موقع صيد الفوائد