logo

معالم التربية الوقائية في المنظور الإسلامي


بتاريخ : السبت ، 12 جمادى الآخر ، 1443 الموافق 15 يناير 2022
بقلم : د. حسان عبد الله
معالم التربية الوقائية في المنظور الإسلامي

تفرد الإسلام في نظرته إلى حياة الإنسان؛ فلم تكن مثل نظرة بعض الفلسفات أو أصحاب الشرائع الذين لم تقع أفهامهم على مقصودات التشريع منها، فراحوا يزدرون تلك الحياة، أو يحقرون من شأنها، ويعتبرونها دنسًا لا بد أن يتخلى المؤمن عنها، وهو ما سجله الوحي بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27]، ومن ناحية أخرى لم ينظر للحياة على أنها مسرح للعبث وممارسة الرذائل والفواحش، وجعل مؤشر اللذة والألم هما مقياس حركة الإنسان ونشاطه كما في مذهب الدهريين {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].

جاء المنهج الإسلامي في نظرته إلى الحياة الإنسانية متفرداً، ويظهر ذلك التفرد في إقرار قيمتها باعتبارها مسرحاً لممارسة الاستخلاف على الأرض، وأداء الأمانة، وهو ما جعل تكوين الإنسان يجمع بين مكون روح الخالق ومكون الأرض التي يسكن عليها، ويصبح الجسد مسؤولاً عن احتواء تلك الروح، التي تسكن بداخله منذ خَلْقِها، والجسد بذلك هو مسرح عمل الروح، ولم يخلقه الله عبئاً أو حملاً زائداً عليها، ينبغي أن تتخلص منه؛ بل يتكاملان ليكوّنا هذا الخلق الفريد بين المخلوقات وهو "الإنسان".

مقصد حفظ الحياة:

أعلن الإسلام منذ الوحي أن الحفاظ على حياة الإنسان من المقاصد العليا لهذا المنهج، فحرم قتل النفس، واعتبر أن قتل نفس واحدة هو قتل للناس جميعًا، وهو على سبيل الحقيقة في الواقع الاجتماعي، ومنه أيضاً جاء تحريم أن يهدر الإنسان حياته، وتحريم قتل الأولاد خشية الفقر أو ما إلى ذلك؛ فكان النهي عن تعمد إفناء الحياة عن طريق تعرض الجسد لأي من عوامل الفناء.

وفي ضوء ذلك رسم الإسلام خارطة المحرمات التي من شأنها أن تساهم في هلاك الجسد، أو تدفعه إلى مشارف الهلاك، فحرم الخبائث التي تضر الجسد، سواء بطريق مباشر مثل بعض أصناف الطعام (الميتة والدم ولحم الخنزير...)، وهو ما أثبت العلم لاحقاً آثاره المُمْرضة على الجسد، أو بطريق غير مباشر؛ كتحريم بعض أصناف الشراب (الخمور)؛ لأنها تذهب بالعقل الذي يفقد الإنسان على السيطرة على أفعاله، ومن ثم يعرض حياته للخطر.

كما دفع الإسلام إلى تلبية كل حاجات الجسد (باعتباره ممثل الحياة الإنسانية)، والمظهر الأساس لحياة النوع الإنساني، فأقر له المباحات من الطعام والشراب، وأقر له احتياجاته الأساسية، وشهواته المجعولة فيه، ورشدها ووضع لها برنامجًا سويًا للإشباع والتلبية، كما خص ذلك المنهج أيضًا خصائص التوازن، والاعتدال في تلبية احتياجات الجسد، وشرع الصوم تطهيراً له، ووقاية من كثير من الأمراض التي يمكن أن يصاب بها الإنسان في مسيرة حياته الطبيعية؛ فكان المنهج الإسلامي استجابة متوازنة ومعتدلة للتعامل مع الجسد من منظور قيمي وأخلاقي وواقعي في ذات الوقت.

ويأتي مقصد حفظ الحياة الإنسانية، في باب مقصد حفظ النفس –تالية لحفظ الدين كما عند الإمام الشاطبي- ويكون حفظها بحفظ وجودها من الهلاك بصورة مباشرة (أي بقتل النفس)، وما يتطلبه ذلك الوجود من الغذاء الطيب والمشرب الصحيح، وكذلك ما يدرأ عنها من كل ما يعرضها –أو يتوقع أن يعرضها- للضعف والهلاك.

يذكر الشاطبي في حفظ النفس ومتطلباتها قوله: «.. فأما أصول العادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضاً؛ كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وفي التحسينات كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات»(1).

وعلى هذا فمقصد حفظ النفس/ الحياة الإنسانية، يقوم على جانبين؛ الأول: ما يحقق لها الوجود، والثاني: ما يدفع عنها كل اختلال أو اضطراب؛ أي الوقاية لحفظ ذلك الوجود للقيام بالدور الاستخلافي.

خارطة الوقاية:

تقوم فكرة الوقاية في المنهج الإسلامي على مبدأين أصيلين:

الأول: مبدأ «التقوى»؛ أي الوقاية والتجنب لكل ما يسبب الضرر المعنوي والمادي للإنسان، سواء في عالم الشهود أو عالم الغيب، «والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال: وَقَيْتُ الشيءَ أَقِيِه وِقايةٌ ووِقاء، والتقوى: جعل النفس في وقاية مما يخاف تحقيقه»(2)، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من يتوق الشر يوقه»(3).

الثاني: نفي الضرر مطلقاً وكل ما يؤدي إليه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»(4).

والذي نقصده هنا بالمنهج الوقائي الخارطة التي يمكن أن يسلكها الإنسان نحو ما يخشى منه أن يعرضه للهلاك أو الضعف أو المرض، ونشير في ذلك إلى أهم مكونات خارطة ذلك المنهج كما يلي:

1- الحياة الطيبة:

يؤكد المنهج الإسلامي فكرة «الحياة الطيبة» التي يجب أن يعيشها الإنسان كي يحافظ على سلامته المادية والمعنوية، وذلك في مقابل تحريم الخبائث التي تفسد تلك السلامة المادية والمعنوية، وقد جاء الوحي مؤكداً هذا المبدأ ويدفع إليه؛ {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وارتبط كذلك ذكر الطيبات والدفع إليها بالتحذير من الخبائث وتحريمها على الإطلاق؛ {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

إن فكرة الطيبات التي تحافظ على السوية الجسدية تتناقض مع فكرة الخبائث التي تفسد تلك السوية، وبينما جعل الخبائث محدودة في أنواع معينة من الشراب (الخمور)، وبعض أنواع الطعام (مثل: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير..)؛ جعل مساحات الطيب والطيبات واسعة ولا حدود لها، بل اعتبرها كل ما في الأرض؛ {كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا} (البقرة: 168).

هذا يعني أن الإنسان ينبغي له أن يتحرى «الطيب» في كل ما يحصل عليه لسد احتياجاته الطبيعية في الحياة، وتجنب الفاسد منه، والأول يرتبط بالنفع، والثاني يرتبط بالضار.

2- الاجتناب:

الاجتناب: الابتعاد، والترك، لما متوقع منه أن يؤذي أو يخشى من مئالات الاقتراب منه، وقد أقر المنهج القرآني مبدأ «الاجتناب» لكل مصادر الأذى وأنواعها، ومما ذكره في ذلك: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90)؛ أي: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه، وربط بين ذلك الاجتناب وحصول الفلاح للإنسان، فالأذى الذي تسببه هذه المضارات (كما ثبت علميًا) يرتبط بلا شك بالفشل وتعرض الإنسان لما يعقبه من هزيمة الجسد والروح إذا حدث ذلك الارتباط بهذه المضارات.

لذا كان الوحي منبهاً للمحرمات التي يجب اجتنابها أكثر من تنبيهه لما يجب إتيانه، لأن دائرة الأولى ضيقة، بينما دائرة الثانية متسعة، واعتنى القرآن في ذلك بألفاظ: «لا تقربوا»، «ذروا»، «اجتنبوا».

3- التطهر:

يقوم هذا المبدأ على مركزية التطهر في حياة المسلم التي تظهر في جميع نشاطه اليومي والمعتاد، حيث ورد عن النبوة عشرات إن لم نبالغ مئات الأحاديث في غسل اليدين قبل الأكل وبعده، والاغتسال من الجنابة، ومن الجماع، ومن التغوط، بل اعتبرت النبوة الطهارة نصف الإيمان.

4- التحرز:

يقوم هذا المبدأ على فكرة وجوب التحرز من الضرر المتوقع، يذكر الشاطبي في ذلك قوله: «إن المؤذيات والمؤلمات التي خلقها الله تعالى ابتلاءً وتمحيصاً وتسليطاً.. فهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق، بل أذن التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع.. ومن ذلك دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد، وفي التداوي عند وقوع الأمراض، وفي التوقي من كل مؤذٍ، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها»(5).

تلك أبرز معالم التربية الوقائية التي ينبغي أن يتوخاها الفرد والمجتمع والدولة حتى تتجنب بها آثار النوازل والمستجدات والملمات، التي قد تصيب الفرد والمجتمع لأسباب مختلفة ومتعددة.

الهوامش:

(1) الموافقات في أصول الشريعة، كتاب المقاصد، ص 8.

(2) مفردات الراغب، ص 881.

)3) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه بإسناد حسن.

)4) رواه الدار قطني، وابن ماجة.

(5) الشاطبي مرجع سابق، ص 114.

المصدر: موقع مجلة المجتمع