logo

روائع الحضارة الإسلامية


بتاريخ : السبت ، 20 رجب ، 1436 الموافق 09 مايو 2015
بقلم : د. مصطفى السباعي
روائع الحضارة الإسلامية

تبدأ قصة الحضارة منذ خُلِقَ الإنسان، وهي حلقة مُتصلة تسلمها الأمَّة المُتحضرة إلى من بعدها، ولا تَختص بأرض ولا عِرْق، والحضارة الإسلامية حلقة من سلسلة الحضارات الإنسانية، سبقتها حضارات، وتبعتها حضارات، وأبرز ما يلفت نظر الدارس للحضارة الإسلامية أنها تميزت بخصائص منها:

 

- الوحدانية المُطْلقة في العقيدة.

- إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة.

- اهتمامها بالمبادئ الأخلاقية في كل نظمها.

- الإيمان بالعلم في أصدق أصوله، والعقيدة في أصفى مبادئها.

- التسامح الديني العجيب.

 

وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد؛ ولكنها كانت للأديان جميعًا، وأعرض في الأحاديث التالية نماذج من روائع الحضارة الإسلامية، نستدل بها على خلود الحضارة التي شيدتها الأمة، التي وصفها أعدل حاكم وأصدق قائل بأنها: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].

 

آثار الحضارة الإسلامية في التاريخ:

تكلمنا في الحديث الماضي عن الخصائص البارزة للحضارة الإسلامية، وقلنا: إن الحضارات إنما تخلُد بمقدار ما تُقدمه في تاريخ الإنسانية من آثار خالدة، في مُختلف النواحي الفكرية، والخلقية، والمادية، كما قلنا: إن الحضارة الإسلامية لعبت دورًا خطيرًا في تاريخ التقدم الإنساني، وتركت في ميادين العقيدة والعلم، والحكم والفلسفة، والفن والأدب وغيرها آثارًا بعيدة المدى، قوية التأثير فيما وصلت إليه الحضارة الحديثة، فما الآثار؟ وما أهميتها؟

نستطيع أن نجمل الآثار الخالدة للحضارة الإسلامية في ميادين خمسة رئيسة:

 

أولًا: في ميدان العقيدة والدِّين:

فقد كان لمبادئ الحضارة الإسلامية أثر كبير في حركات الإصلاح الدينية، التي قامت في أوروبا، منذ القرن السابع حتى عصر النهضة الحديثة؛ فالإسلام الذي أعلن وحدانية الله، وانفراده بالسُّلطان، وتنزيهه عن التجسيم والظلم والنقص، كما أعلن استقلال الإنسان في عبادته وصلته مع الله، وفهمه لشرائعه دون وساطة رجال الدين، كان عاملًا كبيرًا في تفتّح أذهان الشعوب إلى هذه المبادئ القوية الرائعة، وقد كانت الشعوب يومئذ ترسف في أغلال من الخصام المذهبي العنيف، والخضوع لسلطان رجال الدين على أفكارهم وآرائهم وأموالهم وأبدانهم، فمن الطبيعي، وقد وصلت فتوحاته في الشرق والغرب إلى ما وصلت إليه، أن تتأثر الأمم المجاورة له بمبادئه في العقيدة قبل كل شيء، وهذا ما حدث فعلًا؛ إذ قام في القرن السابع الميلادي في الغربيين من ينكر عبادة الصور، ثم قام بعدهم من ينكر الوساطة بين الله وعباده، ويدعو إلى الاستقلال في فهم الكتب المقدسة، بعيدًا عن سلطان رجال الدين ومراقبتهم.

 

ويؤكد كثير من الباحثين أن (لوثر)، في حركته الإصلاحية، كان متأثرًا بما قرأه للفلاسفة العرب، والعلماء المسلمين من آراء في الدين والعقيدة والوحي، وقد كانت الجامعات الأوربية في عصره لا تزال تعتمد على كتب الفلاسفة المسلمين، التي ترجمت منذ عهد بعيد إلى اللاتينية، ونستطيع أن نؤكد أن حركة الفصل بين الدين والدولة، التي أعلنت في الثورة الفرنسية، كانت وليدة الحركات الفكرية العنيفة، التي سادت أوروبا ثلاثة قرون أو أكثر، وكان للحضارة الإسلامية فضل في إيقاد جذوتها عن طريق الحروب الصليبية والأندلس.

 

ثانيًا: في ميدان الفلسفة والعلوم، من طب ورياضيات وكيمياء وجغرافيا وفلك:

أفاقت أوروبا على صوت علمائنا وفلاسفتنا يُدَرِّسون هذه العلوم، في مساجد إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها، وكان رواد الغربيين الأول بمدارسنا شديدي الإعجاب والشغف بكل ما يستمعون إليه من هذه العلوم، في جو من الحرية، لا يعرفون له مثيلًا في بلادهم؛ ففي الوقت الذي كان فيه علماؤنا يتحدثون، في حلقاتهم العلمية ومؤلفاتهم، عن دوران الأرض وكرويتها، وحركات الأفلاك والأجرام السماوية، كانت عقول الأوربيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كلها.

 

ومن ثَم ابتدأت عند الغربيين حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وغدت كتب علمائنا تُدَرس في الجامعات الغربية؛ فقد ترجم كتاب (القانون) في الطب لابن سينا في القرن الثاني عشر، كما ترجم كتاب (الحاوي) للرازي، وهو أوسع من القانون وأضخم، في نهاية القرن الثالث عشر، وظل هذان الكتابان عمدة لتدريس الطب في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر، أما كتب الفلسفة فقد استمرت أكثر من ذلك، ولم يعرف الغرب فلسفة اليونان إلا عن طريق مؤلفاتنا وترجماتنا، ومن هنا يعترف كثير من الغربيين المنصفين بأننا كنا، في القرون الوسطى، أساتذة أوروبا مدة لا تقل عن ستمائة سنة.

 

يقول العلامة المستشرق "سيديو": «كان العرب وحدهم حاملين لواء الحضارة الوسطى، فدحروا بربرية أوروبا التي زلزلتها غارات قبائل الشمال، وسار العرب إلى منابع فلسفة اليونان الخالدة، فلم يقفوا عند حد ما اكتسبوه من كنوز المعرفة؛ بل وسعوه وفتحوا أبوابًا جديدة لدرس الطبيعة»، ويقول أيضًا: «والعرب حين زاولوا علم الهيئة عنوا عناية خاصة بالعلوم الرياضية كلها؛ فكان لهم فيها القدح المعلى، فكانوا أساتذة لنا في هذا المضمار بالحقيقة».

 

وإذا كان روجر الأول قد شجع على تحصيل علوم العرب في صقلية، لا سيما كتب الإدريسي، فإن الإمبراطور فردريك الثاني لم يبد أقل حضًا على دراسة علوم العرب وآدابهم، وكان أبناء ابن رشد يقيمون ببلاط هذا الإمبراطور، فيعلمونه تاريخ النباتات والحيوانات الطبيعي، ويقول "هومبلد" في كتابه عن الكون: «والعرب هم الذين أوجدوا الصيدلة الكيماوية، ومن العرب أتت الوصايا المحكمة الأولى التي انتحلتها مدرسة (ساليرم)، فانتشرت في جنوب أوروبا بعد زمن، وأدت الصيدلة ومادة الطب، اللتان يقوم عليهما فن الشفاء، إلى دراسة علم النبات والكيمياء في وقت واحد، ومن طريقين مختلفين، وبالعرب فُتِح عهد جديد لذلك العلم».

 

ويقول "سيديو" عن الرازي وابن سينا: «إنهما سيطرا بكتبهما على مدارس الغرب زمنًا طويلًا، وعرف ابن سينا في أوروبا طبيبًا؛ فكان له على مدارسها سلطان مطلق مدة ستة قرون تقريبًا، فترجم كتابه (القانون)، المشتمل على خمسة أجزاء، وطبع عدة مرات؛ لعده أساسًا للدراسات في جامعات فرنسا وإيطاليا".

 

ثالثًا: في ميدان اللغة والأدب:

فقد تأثر الغربيون، خاصة شعراء الإسبان، بالأدب العربي تأثرًا كبيرًا؛ فقد دخل أدب الفروسية والحماسة، والمجاز والتخيلات الراقية البديعة إلى الآداب الغربية، عن طريق الأدب العربي في الأندلس على الخصوص؛ يقول الكاتب الإسباني المشهور "أبانيز": «إن أوروبا لم تكن تعرف الفروسية، ولا تدين بآدابها المرعية، ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس، وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب».

 

ومن عباقرة الأدب في أوروبا في القرن الرابع عشر وما بعده، من لا يشك أبدًا في تأثير الآداب العربية على قصصهم وآدابهم؛ ففي سنة 1349هـ كتب "بوكاشيو" حكاياته المسماة بـ "الصباحات العشرة"، وهي تحذو حذو ألف ليلة وليلة، ومنها اقتبس شكسبير موضوع مسرحيته "العبرة بالخواتيم"، كما اقتبس لسنغ الألماني مسرحيته "ناتان الحكيم".

 

وكان شوسر، إمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية، أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه؛ فقد لقيه في إيطاليا، ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم (حكايات كانتربري).

 

أما (دانتي)، فيؤكد كثير من النقاد أنه كان في (القصة الإلهية)، التي يصف فيها رحلته إلى العالم الآخر، متأثرًا برسالة الغفران للمعري، ووصف الجنة لابن عربي.

 

وقد تأثرت القصة الأوربية، في نشأتها، بما كان عند العرب من فنون القصص في القرون الوسطى، وهي المقامات، وأخبار الفروسية، ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والعشق، وكان لألف ليلة وليلة، بعد ترجمتها إلى اللغات الأوربية في القرن الثاني عشر، أثر كبير جدًا في هذا المجال؛ حتى إنها طبعت منذ ذلك الحين حتى الآن أكثر من ثلاثمائة طبعة في جميع لغات أوروبا؛ حتى ليرى عدد من النقاد الأوربيين أن رحلات (جليفر) التي ألفها (سويفت)، ورحلة (روبنسون كروزو) التي ألفها (ديفوه)، مدينة لألف ليلة وليلة، ولرسالة "حيي بن يقظان" للفيلسوف العربي ابن طفيل.

 

ولا حاجة بنا إلى أن نذكر ما دخل اللغات الأوربية، على اختلافها، من كلمات عربية في مختلف نواحي الحياة؛ حتى إنها لتكاد تكون كما هي في اللغة العربية: كالقطن، والحرير الدمشقي، والمسك، والشراب، والجرة، والليمون، والصفر، وغيرها مما لا يحصى.

 

رابعًا: في ميدان التشريع:

فقد كان لاتصال الطلاب الغربيين بالمدارس الإسلامية، في الأندلس وغيرها، أثر كبير في نقل مجموعة من الأحكام الفقهية والتشريعية إلى لغاتهم، ولم تكن أوروبا في ذلك الحين على نظام متقن ولا قوانين عادلة؛ حتى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجم أشهر كتب الفقه المالكي إلى اللغة الفرنسية، ومن أوائل هذه الكتب "كتاب خليل"، الذي كان نواة القانون المدني الفرنسي، وقد جاء متشابهًا إلى حد كبير مع أحكام الفقه المالكي، يقول العلامة "سيديو": «والمذهب المالكي هو الذي يستوقف نظرنا على الخصوص؛ لما لنا من الصلات بعرب إفريقية، وعهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون في أن يترجم إلى الفرنسية كتاب "المختصر في الفقه"، للخليل بن إسحاق بن يعقوب، المتوفى سنة 1422م».

 

خامسًا: في مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكومة:

فقد كان العالم القديم والوسيط ينكر على الشعب حقه في الإشراف على أعمال حكامه، كما يجعلون الصلة بينه وبين الحاكم صلةً بين العبد وسيده، فالحاكم هو السيد المطلق، يتصرف بالشعب كما يشاء، وكانت المملكة تعد مِلكًا خاصًا للملك، تورث عنه كما تورث بقية أمواله، ويستبيحون، من أجل ذلك، أن تقوم الحرب بين دولة وأخرى؛ من أجل المطالبة بحصة أميرة في العرش، أو للخلاف على ميراث الأصهار.

 

أما العلاقة بين الأمم المتحاربة، فهي استباحة الغالب لكل ما في يد المغلوب، وما في وطنه من مال وعرض وحرية وكرامة، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحضارة الإسلامية تعلن فيما تعلن من مبادئها: أن الشعب هو صاحب الحق في الإشراف على حكامه، وأن هؤلاء ليسوا إلا أجراء، يسهرون على مصالح الشعب وكرامته بأمانة ونزاهة، وفي هذا يقع لأول مرة في التاريخ أن يحاسب فردٌ من أفراد الشعب حاكمَه عما يلبس، من أين جاء به؟ فلا يُحْكَم عليه بالإعدام، ولا يقاد إلى السجن، ولا ينفى من الأرض؛ ولكن يقدم له الحاكم حسابه حتى يقتنع ويقتنع الناس، ولأول مرة في التاريخ يقول أحد أفراد الرعية لحاكمه الأكبر: السلام عليك أيها الأجير، فيعترف الحاكم بأنه أجير الشعب، عليه ما على الأجير من حق الخدمة بإخلاص، والنصح بأمانة، أعلنت الحضارة الإسلامية هذا فيما أعلنته وطبقته بعد ذلك، فما هي إلا نسمة الحرية والوعي تهب في الشعوب المجاورة للمجتمع الإسلامي، فتتململ، ثم تتحرك، ثم تثور، ثم تتحرر.

 

وكان مما أعلنته الحضارة الإسلامية في حروبها: احترام العهود، وصيانة العقائد، وترك المعابد لأهلها، وضمان حريات الناس وكرامتهم، فأثارت في الشعوب المغلوبة لحكمها روح العزة والكرامة، ونبهت فيهم معاني الإنسانية الكريمة العزيزة.

 

وكان في التاريخ لأول مرة أن يشكو والد مغلوب الحاكمَ الغالب إلى رئيس الدولة الأعلى، من أن ولد الحاكم قد ضرب ولده الصغير خفقتين بالسوط على رأسه من غير حق، ويغضب رئيس الدولة الأعلى، ويحاسب ولد الحاكم ويقتص منه، ويقرع الحاكم ويؤنبه، ويقول له: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!».

إن هذه روح جديدة، تبعثها حضارتنا في الأفراد والشعوب.

 

المصدر: موقع قصة الإسلام.