متى يكون فهم النص مقدسا؟
منذ فترة ولا يكاد يمر علينا شهر إلا ويطل علينا فيه نابغة من الكتاب والصحفيين، منصبا نفسه إماما في الفقه، ومجتهدا مجددا في الدين، ليعلمنا من الأحكام الشرعية، والتفسيرات القرآنية ما لم نعلمه نحن ولا آباءنا الأولون، فإذا بنا نكتشف بفضل ذكاء هؤلاء وألمعيتهم أن حجاب المرأة الذي تعبدت الأمة به ربها عبر القرون المديدة، وظل سمة من أخص سماتها التي تميزها عن أمم الانحلال والتسيب، عادة عربية لا علاقة لها بالدين، وأن جهاد الطلب الذي طبع تاريخ عزة الإسلام والمسلمين نزعة عدوانية توسعية جاءت استجابة لطمع بعض الخلفاء والسلاطين المسلمين، وأن الإسلام لم يحرم شرب الخمر، إنما حرم الإسكار فقط، وليس في القرآن آية تدل على التحريم، وأن الرجم ليس من شريعة الإسلام في شيء بل هو من شريعة اليهود المنسوخة، وأن حد الردة يناقض الحرية الدينية التي جاء بها الإسلام، وأن المناداة بحاكمية الشريعة في السياسة والحكم وكل شؤون الحياة عدوان على الدين وتدنيس لطهره ونزاهته، إلى غير ذلك من الأفكار الضالة التي تسوق لعلمانية جديدة وانسلاخ تام من الإسلام باسم الإسلام.
وأكثر ما يردده هولاء الثائرون على ثوابت الشريعة والداعون للانقلاب على قطعياتها حين يوضعون في مواجهة النصوص الشرعية أن يقولوا: نحن لا نرفض النص أبداً إنما نرفض الفهم الخاطئ للنص، والقراءة المنقوصة له، وندعو للتعامل الحر المباشر مع النصوص المقدسة، فالنص هو المقدس وهو المعصوم، أما فهمه وتفسيره فليس له أي قدسية حتى لو اجتمعت عليه الأمة بأسرها، ثم يطلقون لأقلامهم العنان لتعبث بالدين وأحكامه وفق أهوائهم وتبعاً لما تمليه عليهم رغبات أسيادهم من أعداء الإسلام.
وهم بهذا يلغون فهم أمة الإسلام لدينها ونصوص شريعتها ابتداءً من الصحابة وأئمة الإسلام عبر التاريخ حتى أيامنا المعاصرة، ولا يقيمون وزناً للإجماع القولي والعملي الذي استقرت عليه الأمة في مختلف عصورها، ويرون أنه من الجائز أن تكون الأمة ممثلة بأئمتها وعلمائها وعبر أربعة عشر قرنا من الزمان قد اجتمعت على خطأ، وضلت عن سواء السبيل، وأنهم هم من أجرى الله الحق على ألسنتهم، ووفقهم لتصحيح أخطاء الأمة في فهمها للدين وردها إلى رشدها وصوابها، مؤسسين بذلك لنسف أحكام الشريعة كلها، وجعلها ألعوبة بأيدي العابثين.
ونظراً لانخداع كثير من شباب المسلمين وشاباتهم- ومنهم بعض الطيبين من طلبة العلم الشرعي- بهذه الفكر الضال، فلا بد من بيان منشأ ضلال فكر أصحاب هذه المدرسة قبل الخوض معهم في جدل في آحاد المسائل التي يطرحونها؟
إن الأساس الباطل الذي بنى عليه هؤلاء العابثون بالدين فكرهم ومقولاتهم، تجويزهم أن تجتمع الأمة كلها على ضلالة، وظنهم أنه من الممكن أن يضيع الحق الذي أنزله الله ردحا من الزمن، وأنه ربما يخلو عصر بل عصور من قائم لله بحجته، وفكرهم هذا مناقض لوعد الله القاطع بحفظه للدين حيث قال: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لله لحافظون فإذا ضلت الأمة في وقت من الأوقات عن معرفة الحق فقد تخلف وعد الله، فكيف إذا كان ضلالها لقرون متلاحقة؟ كما أنه مناقض لبشارات النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره ببقاء الدين ظاهرا على مر العصور فقد روى الإمامان البخاري ومسلم– واللفظ لمسلم – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
وروى الإمام البخاري أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يُرِد الله به خيرا يفقهه في الدين, وإنما أنا قاسم, ويعطي الله, ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة, أو حتى يأتي أمر الله). فلفظ (لا يزال) صريح في استمرار وجود من يقوم بالحق ويظهر به, وصريح في استمرار استقامة حال هذه الأمة, وهو صريح في أنه يستحيل أن يخلو عصر من الأعصار من ناطق بالحق, فلابد في كل عصر مِنْ ظهورِ مَنْ ينطق بالحق في كل مسألة من مسائل الشرع.
وهل يعقل أن يكون الدين ظاهرا وأمر الأمة مستقيما ثم تضل الأمة عن معرفة الحق وفهم القرآن والسنة قرونا من الزمن ليظهر هذا الحق على أيدي عباقرة زماننا المتعالمين أصحاب الأهواء؟
ثم إن الغاية من بعثة الأنبياء والمرسلين أن تقوم الحجة على الناس قال تعالى "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة"، وكيف تقوم الحجة مع تجويز أن تمضي قرون من الزمن والأمة على باطل لا تعرف أحكام دينها على الوجه الصحيح الذي يريده الله ورسوله.
بناء على ما تقدم رأينا العلماء من كافة المدارس والمذاهب وفي مختلف العصور قد اتفقوا على أنه من المحال أن يخلو عصر من قائم لله بحجته.
يقول أبو الوليد الباجي في كتابه "إحكام الفصول " في أصول الفقه:
(هذه أخبار كلها متواترة على المعنى, وإنَّ كل عصر من الأعصار التي توجد فيها أُمَّته , لا يخلو مِنْ قائم فيها بالحق).
ويقول الإمام ابن حزم :
(لا بد أن يكون مع كل عصر من العلماء من يضبط ما خَفِيَ عن غيره منهم, ويضبط غيره أيضا ما خَفِيَ عنه فيبقى الدين محفوظًا إلى يوم القيامة ولا بد وبالله تعالى التوفيق).
ويقول الإمام ابن الجوزي:
(فأنشأ الله عز وجل علماء يذبون عن النقل، ويوضحون الصحيح ويفضحون القبيح، وما يُخلى الله عز وجل منهم عصرًا من العصور).
ويقول الإمام ابن قدامة في كتابه " روضة الناظر " في أصول الفقه:
(لا يخلو الإنسان من خطأ ومعصية , والخطأ موجود من جميع الأمة , وليس مُحَالا , إنما المُحَال: الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا تقوم به طائفة).
ويقول الإمام أبو إسحاق الشيرازي:
(هذا يؤدي إلى خلو الوقت عن قائم لله – تعالى- في الأرض بحجته .., وإذا أخطأ الواحد وسكت الباقون وتركوا الاجتهاد؛ فَقَدْ فُقِدَ ههنا القائم لله بحجته, وذلك لا يجوز).
كما اتفقوا على حجية الإجماع، وأنه من المحال أن تجتمع الأمة على ضلالة، فإذا اتفق جميع علماء العصر على قول واحد في مسألة من مسائل الشرع عَلِمْنَا قطعًا أن هذا القول هو الحق الذي يرضاه الله تعالى وأنه حجة قطعية يَحْرُمُ مخالفتُها .
وفي ذلك يقول الإمام النووي في شرح حديث الإمام مسلم:
(وفى هذا الحديث- يقصد حديث لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين- معجزة ظاهرة؛ فإنَّ هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن, ولا يزال حتى يأتى أمر الله المذكور فى الحديث . وفيه دليلٌ لكون الإجماع حجةً, وهو أصح ما اسْتُدِلَّ به له من الحديث). انتهى
ويقول الإمام الزركشي في كتابه " البحر المحيط في أصول الفقه ":
(أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى الْخَطَأِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ). انتهى
ويقول العلامة علاء الدين البخاري في كشف الأسرار شارحا قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). (النساء: 115).
(وَإِذَا حَرُمَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَجَبَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ؛ فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ سَبِيلُهُمْ).
ويقول الحافظ ابن كثير في تفسيره:
(قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ..والذي عَوَّل عليه الشافعي في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تَحْرُم مخالفته هذه الآية الكريمة، بعد التروي والفكر الطويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها). انتهى
ويقول العلامة محب الله بن عبد الشكور في كتابه (مُسَلَّم الثُّبُوت ) في أصول الفقه, مع شرحه للعلامة عبد العلي الأنصاري (فواتح الرحموت):
(الإجماع حجة قطعا, ويفيد العلم الجازم عند الجميع من أهل القبلة , ولا يُعْتَدّ بشرذمة من الحمقى الخوارج والشيعة لأنهم حادثون بعد الاتفاق؛ يشككون في ضروريات الدين مثل السوفسطائية).
ويقول الإمام أبو المظفر السمعاني:
(إذا تَعَرَّفْنَا حال الأمة؛ وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته, وَلَمْ تَزَل الأمة يَنْسُبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشَقّ العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم, ولا يَعُدُّون ذلك من الأمور الهَيِّنَة, بل يَعدُّون ذلك من عِظَام الأمور, وقبيح الارتكابات, فَدَلَّ أنهم عَدُّوا إجماع المسلمين حجةً يَحْرُم مخالفتها, وفي المسألة دلائل كثيرة ذكرها الأصحاب, وأوردها المتكلمون).
ويقول العلامة سعد الدين التفتازاني في حاشيته :
(وأنه– أي الإجماع -حجة عند جميع العلماء . فإنْ قيل: فقد خالف النظام والشيعة وبعض الخوارج . قلنا: لا عبرة بمخالفتهم؛ لأنهم قليلون من أهل الأهواء والبدع قد نشؤوا بعد الاتفاق).
وعليه يتبين لنا أن كل تفسير للنصوص الشرعية، وكل رأي يخالف ما استقرت عليه الأمة عبر قرونها المتعاقبة هو من الباطل، ومن العدوان على شريعة الله، ومن البهتان والإفتراء على علماء الأمة وأئمتها، وأن الفهم الذي تجتمع عليه كلمة المسلمين مقدس ومعصوم كقداسة وعصمة النصوص الشرعية نفسها، وأن الدافع إلى إنكار حجية الإجماع عند هؤلاء المارقين أدعياء الإجتهاد والتجديد ليس إلا إفساح المجال لتحريفاتهم للدين، والترويج لآرائهم الباطلة، عبر الهروب من سيف إجماع الأمة المسلط على رقابهم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: موقع المسلم