مآخذ على بعض الأئمة في دعاء القنوت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين... أمَّا بعد:
فإن مما يُفرح قلوب المؤمنين ويُثلج صدورهم ويغيظ قلوب أعدائهم ما نراه اليوم من كثرة المساجد التي تُقام فيها صلاة التراويح مع أئمة نحسبهم والله حسيبهم من خيرة شباب الأمة حرصًا ونصحًا لها، وتزداد هذه الفرحة حينما يرى أن كثيرًا من هؤلاء الأئمة من حملة المنهج الصحيح علمًا وعملاً، لكن مما يؤسف له أن بعضًا منهم لا يسلم من أخطاء يرتكبها أثناء صلاته، بحسن نية، ومن هذه الأخطاء ما هو متعلق بقنوت الوتر في صلاة التراويح، الأمر الذي يوجب التنبيه عليها لكثرة الوقوع فيها، وقلة المنبهين عليها، حتى أصبحت تلك الأخطاء سنة متبعة، مع أنها مما لا أعلم فيه خلافًا بين السلف في النهي عنه وكراهته.
قال ابن مسعود _رضي الله عنه_: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة؛ إذا غيرت قالوا: غيرت السنة"، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: "إذا كثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة"، رواه الدرامي (64/1) والحاكم (51/4- 515) بسند صحيح.
أمَّا ما فيه خلاف قديم مثل: كون دعاء القنوت في رمضان كله أم في النصف الأخير منه، وهل يكون قبل الركوع أم بعده؟ ونحو هذا فلن نتعرض له هنا.
فمن هذه الأخطاء:
1 ـ المبالغة في رفع الإمام صوته في الدعاء فوق الحاجة، حتى يصل أحيانًا إلى حد الصياح:
هذا يحدث مع أن الله _عز وجل_يقول: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". قال شيخ الإسلام في (الفتاوى 24/15): وقوله _تعالى_: "إنه لا يحب المعتدين" عقيب قوله: "ادعو ربكم تضرعا وخفية" دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم. اهـ.، ويقول _سبحانه_: "وَلا تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيْلاً"، وأخرج البخاري في صحيحه 2331/5: عن عائشة _رضي الله عنها_ في قوله _تعالى_: " وَلا تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا " أنها قالت: أنزلت في الدعاء.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: ((يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنما تدعون سميعًا بصيرًا...)).
فإذا كان الإنسان يدعو بمفردة فالأصل في ذلك الإسرار بالمناجاة كما قال _تعالى_: "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية"
لكن إن كان معه من يُؤمن على دعائه، كالإمام في القنوت، أو الاستسقاء أو نحو ذلك، فإنه يرفع صوته على قدر الحاجة، ويُؤمن من خلفه على دعائه دون صياح ورفع زائد على القدر المُحتاج إليه؛ لأن ذلك قد يتنافى والأدب مع الله _عز وجل_.
وقد فسر بعض السلف قوله _تعالى_: " إنه لا يحب المعتدين" بالذين يرفعون أصواتهم رفعًا زائدًا على الحاجة. (انظر كتاب الدعاء للطرطوشي).
قال ابن المُنيّر رحمه الله: "وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية، فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه".
ورفع الصوت بالدعاء بالإضافة إلى مخالفته للسنة، فهو مُذهبٌ للخشوع مجلبٌ للرياء والعياذ بالله.
وعن الأوزاعي قال: ليس في القنوت رَفْعٌ، ويُكره رَفْعُ الأصوات في الدُّعَاءِ
وقيل للحسن البصري: إنَّهم يَضُجُونُ في القنوت، فقال: أخطؤوا السُّـنَّة، كان عُمر يَقْنُتُ ويُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ.
وقال النووي: يُستحب أن يَخْفِضَ صوته بالدُّعَاءِ، ويُكْرَهُ الإفْرَاطُ في رَفْعِ الصَّوْتِ.
وقال شيخ الإسلام في الاستقامة 322/1: إن رفع الأصوات في الذكر المشروع لا يجوز إلا حيث جاء به السنة كالأذان، والتلبية، ونحو ذلك، فالسنة للذاكرين والداعين ألا يرفعوا أصواتهم رفعا شديدًا..
وقال الآلوسي في روح المعاني ج139/8: "وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتستد، ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وكون ذلك في المسجد، وروى ابن جرير عن ابن جريج: إن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: ?إنه لا يحب المعتدين?" اهـ.
ومما ينبغي: التأمين في المواضع المناسبة، فإن من الناس من يؤمِّن على دعاء الإمام سواء كان دعاءً أو خبرًا، والذي ينبغي أن يعقل المأموم ما يسمعه، فيؤمن في موضع التأمين ويسكت في موضع السكوت، قال معاذ القاري _رضي الله عنه_ (أحد صغار الصحابة وكان عمر يقيمه لصلاة التراويح) قال في قنوته: اللهم قحط المطر، فقالوا: آمين، فلما فرغ من صلاته قال: قلت: اللهم قحط المطر فقلتم: آمين، ألا تسمعون ما أقول ثم تقولون: آمين. ذكره المروزي في (مختصر قيام الليل).
والمشروع في التأمين على الدعاء في غير الفاتحة داخل الصلاة هو عدم رفع الصوت به؛ لأنه دعاء معناه "اللهم استجب"، والمشروع في الدعاء هو التضرع وعدم رفع الصوت به؛ لقوله _تعالى_: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً" (الأعراف: من الآية55)، ولأن عدم الجهر هو الأصل، وهذا بخلاف التأمين في الصلاة بعد الفاتحة فإن المشروع فيه هو رفع الصوت؛ لحديث وائل بن حجر عند أبي داود قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قرأ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ"، فقال: آمين، ورفع بها صوته. قال ابن حجر: إسناده صحيح.
2 ـ المبالغة في رفع الصوت بالبكاء:
ينبغي للإمام إذا تأثر بالقرآن أو بالدعاء أن يدافع البكاء، فلم يكن من هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن يبكي في الصلاة بصوت عالٍ ليُبكي من خلفه، كما يفعله بعض الأئمة هداهم الله اليوم فيستدعون ببكائهم بكاء غيرهم، ناهيك أنهم يبكون بنحيب وعويل وشهيق، بل كان _صلى الله عليه وسلم_ يكتم بكاءه في صدره حتى يصبح له أزيز كأزيز المرجل (أي كغلي القدر)، قال ابن القيم رحمه الله عن هديه _صلى الله عليه وسلم_ في البكاء: "وأما بكاؤه _صلى الله عليه وسلم_ فكان من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت"، ولم يشعر ابن مسعود _رضي الله عنه_ ببكاء النبي _صلى الله عليه وسلم_ لما قرأ عليه طرفًا من سورة النساء، إلا بعد أن نظر إليه فوجد عينيه تذرفان، والقصة في صحيح البخاري، فمدافعة البكاء اتباعٌ للسنة ومدعاة للإخلاص.
3 ـ الإطالة المفرطة في الدعاء:
الإطالة المملة في الدعاء والتي تشق على الناس وتثقل عليهم العبادة، فيؤمنون وقلوبهم قد كلت وسئمت، وهذا من فتنة الناس عن العبادة وتثقيلها عليهم، ولذلك نهى النبي _صلى الله عليه وسلم_ أشد النهي عن إطالة الصلاة؛ فقد روى البخاري (1/172- 173) عن أبي مسعود _رضي الله عنه_ أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا. قال: فما رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في موعظة أشد غضباً منه يومئذ، ثم قال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة".
فإذا كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد أنكر على معاذ إطالته قراءة القرآن في الصلاة، فكيف بإطالة الدعاء، وبعض الأئمة ربما جعل دعاء قنوته أطول من صلاته، وهذا خلاف هديه _صلى الله عليه وسلم_؛ إذ كان يدعو بجوامع الكلم، بخلاف ما عليه كثير من الأئمة في هذه الأيام، فمنهم من يجعل الدعاء موعظة يذكر فيها الجنة وصفاتها، والنار وما فيها من أهوال، وعذاب القبر وما فيه من وحشة وظلمة، في سجع متكَلفٍ يستثير به عواطف الناس ويستدعي بكاءهم لا تجد معشاره أثناء قراءة القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المَشْرُوعُ للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدُّعَاءَ من أفضل العبادات، وقد نَهَانَا الله عن الاِعْتِدَاءِ فيه، فينبغي لنا أن نَتَبِعَ ما شُرِّعَ وسُنَّ، كما أنه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، والذي يَعْدِلُ عن الدُّعَاءِ المُشْرُوعِ إلى غيره، الأحْسَنُ له ألا يَفُوتَهُ الأكْمَلُ والأفْضَلُ، وهي الأدْعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ، فإنَّها أفْضَلُ وأكْمَلُ باتفاق المسلمين من الأدعية التي ليست كذلك وإن قالها بعض الشيوخ، فكيف وقد يكون في عَيْنِ الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك؟!
ومن أشَدِّ الناس عَيْبًا من يَتَّخِذُ حِزْبًا ليس بمأثور عن النَّبِيِّ _صلى الله عليه وسلم_، وَيَدَعُ الأحزاب النَّبَوِيَّة التي كان يقولها سَـيُّدُ بَنِي آدَمَ وإمَامُ الخَلْقِ وحُجَّةُ الله على عباده. اهـ. من (مجموع الفتاوى، ج 22، ص 308).
وربما يؤدي ترك المأثور إلى الوقوع في دعاء يخالف المنقول؛ كقول بعضهم: "اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه"، فهذا معارِض لما في الحديث الحسن: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء)) فكيف لا ندعو الله برد القضاء؟!.
فليس هناك أفضل مما ورد عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ من أدعية مأثورة، لأنه يترتب عليها أجران: أجْرُ الاِتِّباَعِ، وأجْرُ الذِّكْرِ. كل هذا مع أنه لم يُرو عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ في دعاء القنوت إلا حديث الحسن بن علي _رضي الله عنهما_: "اللهم اهدنا فيمن هديت..."، وقد ورد الدعاء على الكفرة بعد النصف من رمضان من فعل أبيِّ بن كعب في عهد عمر _رضي الله عنهما_، وجاء عن الإمام مالك أنه قال: لَعْنُ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ إذَا أوْتَرَ النَّاسُ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَرَكَعَ فَإذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَقَفَ يَدْعُو عَلَى الْكَفَرَةِ وَيَلْعَنُهُمْ وَيَسْتَنْصِرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُو، قَالَ وَكُلُّ ذَلِكَ شَيْءٌ خَفِيفٌ غَيْرُ كَثِيرٍ. اهـ.، ولسنا بمحرِّجين على مَن دعا بغير ذلك لكنًّ الكلام هنا في الإطالة المفرطة في الدعاء بصورة تشق على كثير من المصلين مع أن الغالب أن فيهم المريض والكبير والمرأة.
4 ـ الاعتداء في الدعاء بتكثير الكلام الذي لا حاجة له، والتطويل في تشقيق العبارات، والتكلف في ذكر التفاصيل:
فتراه يفصل عند الدعاء في أحوال البرزخ ويوم القيامة بطريقة تحول الدعاء إلى موعظة؛ فربما سمعت من يدعو بالثبات عند الممات إذا بردت القدمان وشخصت العينان، ويبس اللسان... في وصف طويل لحالة الاحتضار، وهذا من الوعظ وليس من المسألة في شيء، ومثله من يقول: "اللهم ارحمنا إذا ثقل منا اللسان، وارتخت منا اليدان، وبردت منا القدمان، ودنا منا الأهل والأصحاب، وشخصت منا الأبصار، وغسلنا المغسلون، وكفننا المكفنون، وصلى علينا المصلون، وحملونا على الأعناق، وارحمنا إذا وضعونا في القبور، وأهالوا علينا التراب، وسمعنا منهم وقع الأقدام، وصرنا في بطون اللحود، ومراتع الدود، وجاءنا الملكان..." إلخ، حتى جعلها موعظة يرقق بها القلوب.
ويزداد عجبك عندما تسمع بكاء الناس ونشيجهم وهم يؤمنون على هذا الدعاء، بل ويتسابقون على التبكير إلى هذا المسجد والصلاة خلف هذا الإمام، وقد تسمع من بعض الأئمة وهو يدعو على الأعداء فيقول: "اللهم لا تدع لهم طائرة إلا أسقطتها، ولا سفينة إلا أغرقتها، ولا دبابة إلا نسفتها، ولا فرقاطة إلا فجرتها، ولا مدرعة إلا دمرتها، ولا.. ولا..." إلخ، وكأنه يملي على الله كيف يفعل بالأعداء، فضلا عن أنه قد أقحم قنوت النوازل مع قنوت الوتر، مع أن لكل وقته وأحكامه وأدعيته التي وردت في السنة، فتنبه!!، بينما كان يكفيه أن يقول: اللهم عليك بهم، أو اللهم انتقم منهم، ونحو ذلك.
ومثله من يسأل أن يجيرنا الله من النار إذا جيء بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، فأين هذا كله من الدعاء القرآني الجامع "وقنا عذاب النار"؛ ومثل ذلك: التفصيل في ذكر نعيم الجنة والذي هو لازم دخولها.
ولذا فقد أخرج أبو داود وغيره: ((عن أبى نعامة عن ابن سعد ابن أبي وقاص أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا، فقال: يا بُني: إني سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء"، فإياك أن تكون منهم، إن أُعطيت الجنة أُعطيتها وما فيها، وإن أعذتَ من النار أُعذت منها وما فيها من الشر))، حسنه ابن حجر والألباني، فسمى التفصيل في الدعاء اعتداءً.
وأخرج أبو داود عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بُني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". حديث صحيح.
ومن ذلك التكلف: دعاء ربه أن يرحمه إذا وضع في اللحد تحت التراب والثرى، وبين الصديد والدود، وأن يرحمه إذا سالت العيون وبليت اللحوم، وأن يرحمه إذا تولى الأصحاب، وقسم ماله وترك دنياه.
وهذا التفصيل يخرج بالدعاء عن مقصوده وهو المسألة، إلى باب آخر وهو الوعظ والتذكير والترقيق، وهو مطلوب ولكن في غير هذا الموقف.
إن الاسترسال بهذه الطريقة يشعرك بأنك تستمع إلى خطيب قد ولاَّك ظهره وليس إلى قانت يسأل لك ربه.
ومن الاعتداء في الدعاء بالتكلف في ذكر التفاصيل: أن يدعو على عدوه أن يخرس الله لسانه، ويشل يـده، ويجمد الـدم في عـروقه وأن يسلب عقله فيكون مع المجانين، والدعاء على الكفار، بتجميد الدماء في عروقهم، وحبسهم في جلودهم، وأن يتمنوا الموت فلا يجدوا إليه سبيلاً وأن ترمل نساؤهم وييتم أطفالهم، في طائفة من هذا النوع طويلة، فأين هذا مما ورد في الدعاء على المعتدين "اللهم اهزمهم وزلزلهم" "اللهم أشدد وطأتك عليهم" "اللهم اكفناهم بما شئت" ونحوه.
بل إنك تعجب غاية العجب عندما تسمع تعميم الدعاء على كل كافر، من اليهود والنصارى والشيوعيين، بالفناء والهلاك والاستئصال، حتى لا يُبق منهم أحدًا، وهذا فيما نحسب من الاعتداء في الدعاء لأمور منها:
(أ) أننا نعلم بخبر نبينا أن ذلك مخالف لقدر الله _عز وجل_ الذي قدره، وخبر رسول _صلى الله عليه وسلم_ الذي أخبر، فالروم في آخر الزمان أكثر الناس، وستجري الملاحم الكبرى في آخر الزمان مع الكفار، وستقوم الساعة على شرار الناس، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [هود:118].
(ب) أننا على يقين أن من الكفار من لهم نفوس مهيأة لقبول الدعوة وتلقى الهداية، كما قال جل وعلا عن مشركي قريش "عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة"، ولو أيقنا أن كل الكفار قد شُد على قلوبهم، لما كان لرواية حديث: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" كبير معنى، ولم يكن لكل جهد نبذله في الدعوة مبرر ولا جدوى.
ومثل ذلك الدعاء على الكفار أن يقطع الله نسلهم، ونحن نتذكر أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ استأنى بقومه وهو يقول "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا"، وقوله _صلى الله عليه وسلم_، وقد قيل له: يا رسول الله ادع على المشركين، فقال _صلى الله عليه وسلم_: "إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة"، رواه مسلم.
نعم إن من أسباب هذا الانفعال كله، الشعور بحرارة الظلم والبغي من الدول الكبرى والذي أمض القلوب، وأقض المضاجع، وعقد المرارات في أفواه المسلمين، ولكن المسلم يَصدُر في دعائه وسائر عباداته من الأدلة الشرعية وليس المشاعر النفسية.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يتخير من الدعاء أجمعه.
أخرج أبو داود من حديث عائشة _رضي الله عنها_ قالت: "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يستحب الجوامع من الدعاء، ويدعُ ما سوى ذلك"، حديث صحيح.
وأخرج أيضًا عن قتادة رحمه الله أنه سأل أنسًا _رضي الله عنه_: أي دعوة كان يدعو بها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
وجاء عند البخاري من حديث أنس: "كان أكثر دعاء النبي _صلى الله عليه وسلم_: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
5 ـ تكلف السجع في الدعاء:
من الآثار السيئة لترك السنة والاكتفاء بالدعاء بالمأثور: العدول عن ذلك باستعمال غرائب الأدعية المسجوعة والمتكلفة، مع أن السجع المتكلف قد كرهه السلف ونهوا عنه، قال ابن عباس لمولاه عكرمة كما في صحيح البخاري: "انظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب".
وقال القُرْطبِيُّ في موضع آخر عن الاعتداء في الدعاء هو: أن يَدْعُو بما ليس في الكِتَابِ والسُّـنَّةِ؛ فَيَتَخَير ألفاظًا مُفْقِرَة وكلمات مُسجَعَة، قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا مُعَول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دَعَا به رسولـه _عليه السلام_، وكُل هذا يَمْنَعُ مِن اِسْتَجَابَةِ الدُّعَاءِ. اهـ.
6 ـ المبالغة في التلحين والتطريب والتغني في الدعاء:
عند الطبراني مرفوعًا إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_: "بادروا بالأعمال ستًا" (وفي رواية: "أخاف عليكم ستًا")، وذكر منها: "ونَشْءٌ يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليغَنِّيهم وإن كان أقلهم فقهًا". صحيح.
إن مما يبعث على الأسى والحزن لجوءُ كثيرٍ ممن يُظن أنهم من مقتفي الأثر، إلى المبالغة في الترنيم والتلحين والتطريب، بل والتجويد أحيانًا حتى كأن أحدهم يقرأ السورة من القرآن، فتجده يطبق أحكام التجويد كالإدغام والإخفاء والمدّ حتى يظن الظان أنه يتلو آيات من الكتاب العزيز، وما هو من الكتاب، ويزداد الطين بلة إذا ضمن دعاءه آياتٍ من كلام الله بحيث يعسر على العوام التفريق بينهما، ونتيجة لذلك فإن بعض الناس يتأثر بتلحين الإمام أكثر من تأثره بالدعاء نفسه، ولا يفهم من هذا ألا يحسن الداعي صوته، فهذا لا بأس به، لكن الذي نراه اليوم من كثير من الأئمة مبالغة في التلحين والتطريب، بصورة إذا جمعت معها رفع الصوت وخفضه، واعتداء مذموم، ثم أخطاء قد تكون عقدية،، ذكَّرك ذلك بدعاء بعض أهل البدع في مناسباتهم.
ولو أنك سألت الخطيب: هل تتغنى بالدعاء على المنبر؟ فقال: لا، ولو سألت المصلي هل يتغنى بالدعاء في سجوده؟ فقال: لا، ولو سألت المصلي الذي في المسجد ينتظر الصلاة: هل تتغنى بالدعاء؟ فقال: لا، إذًا فما الذي خص دعاء القنوت بهذا التغني والتلحين والترتيل الذي نسمعه اليوم دون بقية الحالات؟؟؛ فإن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات.
وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة برقم (21263) وتاريخ 20/12/1420هـ ما نصه: "وعلى الداعي ألا يشبِّه الدعاء بالقرآن، فيلتزم قواعد التجويد والتغني بالقرآن، فإن ذلك لا يُعرف من هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_، ولا من هدي أصحابه _رضي الله عنهم_".
وقال الكمال ابن الهمام: ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التَّمْطِيطِ، والمبالغة في الصِّيَاحِ، والاشتغال بِتَحْرِيرَاتِ النَّغَمِ إظهارًا للصناعة النَّغَمِيَةِ، لا إقَامَةً لِلْعُبُودِيَّةِ، فإنه لا يَقْتَضِي الإجابة، بل هو من مُقْتَضَيَاتِ اَلْرَدِّ، وهذا معلوم إن كان قَصْدُهُ إعْجَاب الناس به، فكأنه قال: اعْجَبُوا مِنْ حُسْنِ صَوْتِي وتَحْرِيرِي، ولا أرى تَحْرِيرَ النَّغَمِ في الدُّعَاءِ، كما يفعله القرّاء في هذا الزمان، يصدر ممن يفهم معنى الدُّعَاء والسؤال؛ إذ مقام طلب الحاجة: التَّضَرُّع، لا التَّغَنِي، فاستبان أن ذاك (أي التَّغَنِي والتَّمْطِيطُ) من مقتضيات اَلْخَيْبَةِ واَلْحِرْمَانِ0اهـ من (فيض القدير للمناوي حديث رقم: 316، ج1، ص291).
فانظر أيها الأخ الكريم إلى أدعية الرسول عليه الصلاة والسلام كيف كانت جامعة لخير الدنيا والآخرة، وانظر قبل ذلك إلى أدعية القرآن العظيمة، ثم انظر إلى ما أحدثه كثير من الأئمة هداهم الله من الأدعية الطويلة والوقوف الطويل يتغنى بالدعاء، ويتكلف السجع، ويرفع الصوت، وقد سئم الناس طول الانتظار، فقد أعياهم التعب وطول القيام، حتى إن بعضهم يهم بالانصراف أكثر من مرة، ألا يخشى هؤلاء أن يدخلوا تحت حديث المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ "يأيها الناس إن منكم منفرين" متفق عليه.
وإنك لتعجب عندما ترى بعد هذا كله التسجيلات الإسلامية والمؤسسات الإعلامية والشركات الإنتاجية، كيف تتسابق وتتهافت على تسجيل هذه الأدعية المخالفة للسنن، وتتفنن في إخراجها لذلك القارئ، وتخرجها في إصدارات خاصة (دعاء الختمة لفلان... أو جزء عم مع الدعاء...) وهكذا، فإلى الله المشتكى.
وختامًا أدعو الأئمة الذين وفقهم الله فهيأ لهم إمامة صلاة التراويح، أن يقتفوا سنة نبيهم _صلى الله عليه وسلم_ حتى نرى المساجد وقد اكتظت بالمصلين والإمام يدعو لهم بدعاء مأثور لا يطيل فيه ولا يعتدي؛ يدعوه بقراءته المعتادة دون تلحين ولا تطريب ولا تجويد كتجويد القرآن، وإن تأثر فبكى وذرفت عيناه، كتم بكاءه، أو أخفاه فغلبه حتى خرج منه كأزيز المرجل، بلا نحيب ولا شهيق، لا يكاد يشعر به إلا القريبون منه.
وعلى هؤلاء الأئمة أعانهم الله أن يخفضوا أصوات مكبرات الصوت، وتكون بقدر ما يسمع المصلون الحاضرون؛ حتى لا يحصل تشويش على أهل المساجد الأخرى، ومتى تضرر أهل مسجد من آخر، فعليهم نصحهم، حتى لا ينقلب المعروف منكرًا. والله _تعالى_ أعلم.
____________________________
المصدر: موقع المسلم