logo

مِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ حُسْنُ التَّلَقِّي وَطَلَبُ الْمَزِيدِ


بتاريخ : الأربعاء ، 20 ذو القعدة ، 1442 الموافق 30 يونيو 2021
بقلم : عبد الحميد بن باديس
مِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ حُسْنُ التَّلَقِّي وَطَلَبُ الْمَزِيدِ

{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}

•---------------------------------•

لا حياه إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالماً إلا من كان متعلماً، كما لن يصلح معلماً إلا من قد كان متعلماً. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله معلماً، كان أيضاً متعلماً. علمه الله بلسان جبريل، فكان متعلماً عن رب العالمين ثم كان معلماً للناس أجمعين. أرأيت أصل العلم ومن معلموه ومتعلموه؟ ثم أرأيت شرف رتبة التعلم والتعليم، لا جرم كان لرتبة التعلم آدابها ولرتبة التعليم آدابها. وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في آدابهما بما أدبه الله وأنزل عليه من الآيات فيهما، مثل آيتنا اليوم وغيرها.

لزوم الصمت عند السماع:

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنزل عليه جبريل- عليه السلام - بالوحي وقرأه عليه قرأ معه وساوقه في القراءة وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم لحرصه على حفظه وعدم نسيانه، حتى يبلغه كما أنزل عليه. ولأن تعلق قلبه بما يسمع من جبريل وامتلاءه به واستيلاء ذلك المسموع على لبه يدعوه إلى النطق به لما بين القلب واللسان من الارتباط، ولأن شوقه إلى ذلك المسموع ومحبته ورغبته فيه تبعثه على التعجيل بقراءته، غير أن القراءة عند السماع وقبل تمام الإلقاء تمنع تمام الوعي، لأن عمل اللسان بالنطق يُضْعِفُ عمل القلب بالوعي والحفظ، فلذا أوصى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل من قبل أن يقضي ويتمم إليه وحيه فقال تعالى:

{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}

تأكيد الصمت بكف اللسان:

لا يتم تفرغ القلب للوعي إلا بسكون اللسان فلا يكفي في تفرغه ترك القراءة الجهرية عند السماع حتى ينكف اللسان عن الحركة فلا تكون قراءة لا جهرًا ولا سرًا فلذا أكد الله تعالى طلب ترك القراءة بالنهي عن تحريك اللسان فقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (1) ثم بين أن الله يجمعه في قلبه - صلى الله عليه وآله وسلم - بالحفظ وأنه يطلق بقراءته لسانه بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (2) أي قراءتك إياه، ثم أمره أن يتبع قراءة جبريل إذا قرأه عليه فيقرأه كما قرأه بعد فراغه بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (3) أي فإذا قرأه جبريل وفرغ منه فاتبع قراءته فاقرأ كما قرأه. وأنه تعالى يبينه بأقوال نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - وأفعاله بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (4).

هذا الأدب أدب عام:

إنما المقصود من الكلام البيان عن المراد، وإنما المقصود من السماع وعي الكلام ليفهم المراد. فكما كان على المتعلم أن يسكت حتى يفرغ معلمه من القدر المرتبط بعضه ببعض مما يلقيه إليه حتى يفرغ المعلم من إلقائه كذلك على المناظر أن يستمع لمناظره حتى يستوفي دعواه وحجته، وعلى كل قارئ لكتاب أن يستوفي ما يرتبط بعضه ببعض منه، ثم يبدي رأيه فيه وعلى كل مستمع لمتكلم كذلك فبهذا الأدب يتم وعي المتعلم فيحفظ وفهم المناظر فيرد ويقبل وفهم القارئ فيعرف ما يأخذ ويترك وفهم السامع لتحصل فائدة الاستماع، وبترك هذا الأدب كثيرًا ما يقع سوء الوعي أو سوء الفهم وفوات القصد من المناظرة أو القراءة أو الكلام.

دوام التعلم للازدياد من العلم:

يتعلم الإنسان حتى يصير عالمًا ويصير معلمًا، ولكنه مهما حاز من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعليم وتوسع فيه وتكمل به فلن يزال بحاجته إلى العلم ولن تزال أمامه فيما علمه، وعلمه أشياء مجهولة يحتاج إليها فعليه أبداً أن يتعلم وأن يطلب المزيد. ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الأعظم - أن يطلب من الله - وهو الذي علمه ما لم يكن يعلم - أن يزيده علمًا فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

تحذير واقتداء:

ما أكثر ما رأينا من قطعهم ما حصلوا من علم عن العلم فوقف

بهم عندما انتهوا إليه فجمدوا وأكسبهم الغرور بما عندهم فتعظموا وتكلموا فيما لم يعلموا فضلوا وأضلوا وكانوا على أنفسهم وعلى الناس شر فتنة وأعظم بلاء فبمثل هذه الآية الكريمة يداوي نفسه من ابتلى بهذا المرض فيقلع عن جموده وغروره ويزداد مما ليس عنده ممن عنده علم ما لم يعلم. ويحذر من أن يقف عن طلب العلم ما دام فيه زمن من الحياة، ويقتدي بهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - فلن يزال يطلب من الله تعالى أن يزيده علماً بما ييسر له من أسباب وما يفتح له من خزائن رحمته وما يلقيه في قلبه من نور وما يجعل له من فرقان وما يوفقه إليه من أصل ذلك كله وهو تقوى الله والعمل بما عليه.

نسأل الله لنا وللمسلمين العلم النافع والعمل الصالح. فهو ولي الهداية والتوفيق.

 

المصدر: آثار ابن باديس (1/ 349).