تغافل مقصود وحِمل تضعه
1- {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].
روى الطبري عن عبد الرحمن بن زيد قال: "قال ابن زيد، في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} قوله لها: لا تذكريه {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} وكان كريمًا صلى الله عليه وسلم".
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: "قال كثير من المفسرين: هي حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، أسر لها النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وأمر أن لا تخبر به أحدًا، فحدثت به عائشة رضي الله عنهما، وأخبره الله بذلك الخبر الذي أذاعته فعرفها صلى الله عليه وسلم ببعض ما قالت، وأعرض عن بعضه، كرمًا منه صلى الله عليه وسلم، وحلمًا".
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "ونعلم أن الله قد أطلع نبيه على ما دار بين زوجيه بشأن ذلك الحديث الذي أسره إلى بعض أزواجه. وأنه صلى الله عليه وسلم حين راجعها فيه اكتفى بالإشارة إلى جانب منه. ترفعًا عن السرد الطويل، وتجملا عن الإطالة في التفصيل، وأنه أنبأها بمصدر علمه وهو المصدر الأصيل".
2- قال الإمام أحمد: "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ما زال التغافل من فعل الكرام"، وقال: "ما استقصى كريم قط"، وقال الأعمش رحمه الله تعالى: "التغافل يطفئ شرًا كثيرًا"، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل".
ويقول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
3- إنها قاعدة في التربية وحسن الخلق، في الأسرة وفي معاشرة إخوانك، وفي التعامل مع عموم الناس.
إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، والله تعالى حيي كريم، وهو تعالى يعامل خلقه بجزائه من جنس ما عاملوا عبيده به.
إن الناس ترهق بالوقوف على تفصيلاتها الكثيرة، وتحب أن تسامح وأن ييسر عليهم، ولذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مُعاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، زودهم بحسن الخلق وبما يجتمع عليه الناس وبما يستطيعون أن يسوسوهم به، فقال صلى الله عليه وسلم: «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا..» الحديث.
إن الناس يطيب لها أن تقف على حسن نياتهم وطيب مقاصدهم وصحة أفعالهم الأساسية وتوجهاتهم الرئيسية، ويرفعهم نصيحة طيبة تراعيهم لا تقصمهم، وترتفع بهم ولا تسحقهم، ويرونها في مقدورهم لا إرهاقًا عليهم، ولا يتهمون في قصدهم ونواياهم.
والناس تحب وتحتاج أن تصحح لهم مقاصدهم ونواياهم وتوجهاتهم وأفعالهم التي في مقدورهم، الأفعال الأساسية.
هكذا أمر الله تعالى، فأمر بمجامع الخير وأصوله، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وحرّم أصول الشر: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151]، بل لما اشتكى بعض أهل مصر إلى عمر رضي الله عنه دقائق بعض الأمور لا يُعمل بها في ما رأوا في مصر فنهر عمر صاحب الشكوى بشدة.
إذا علمت حسن التوجه من إنسان وبذله ما استطاع في عمله، أو اعتذر عن خطئه أو اعترف بتقصيره، أو شعرت بأنه اجتهد فأخطأ وهو ساع جهده للخير وفاته ما فاته، فارتفع عن الإغراق في التفاصيل ولا تذبحهم وارحم خلقه يرحمك الله، وإن وجّهت إلى خير فدلهم على مأخذ عام وأصول جامعة، ولا تدقق إلا فيمن بلغ أن يدقق معه وهم قلة.
في دلّك لهم على الخير والنصح به فرصة لهم وخير يساق، وفي المأخذ العام تندرج تحته مئات الأقوال والأفعال، وفي الترفع والإغضاء المقصود لما هو أهم كرم لك ورحمة لهم والسير بهم خطوات ومراحل للخير وارتفاع بهم، وإلا انقطع الناس وأرهقت نفسك ولم تجد ثمرة لجهدك وانقلب الخير المحبوب حملا لا يطاق وبغّضت الناس فيما يساق لهم من الخير، وإما أن يكرهك الناس وتثقل عليهم، أو لثقتهم بك ييأسون من نفوسهم ويعتقدون أنهم لا أمل فيها.
ـــــــــــــــ
المصدر: موقع طريق الإسلام