كيف تبني نفسك؟
لكل بناء أساسات، ومتى ما كانت أساسات البناء قويةً عاش ذلك البناء طويلًا، وأمِن ساكنوه، والإنسان مثل البناء تمامًا؛ يحتاج إلى اهتمام بأساساته، حتى يستطيع شق طريقه في الحياة؛ ليحقق أعلى طموحاته، ويساهم في عمارة هذه الأرض، واعلم أن كل إنسان ناجحٍ في هذه الحياة كان بالأمس طفلًا باكيًا، وكل بناء شامخٍ كان يومًا ما أرضًا جرداء، فليس المهم من أنت اليوم؛ بل المهم من ستكون غدًا، ولكي يستطيع الشباب بناء أنفسهم جيدًا يتطلب منهم الشروع مبكرًا في وضع أساسات جيدة لمهاراتهم وقدراتهم، والعمل على صقلها وتطويرها.
ومن الأساسات التي أُوصي بالاهتمام بها:
1- العلاقة مع الله:
اجتهد أيها الشاب في علاقتك مع رب العباد، وراقِبْه سبحانه في السر والعلن، وحافِظْ على الصلاة في جماعة؛ فإنها مكفرة للذنوب؛ لحديث: «أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟»، قالوا: «لا يبقى من درنه شيء»، قال: «فذلك مَثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا»(2)، واجعل لك نصيبًا من قيام الليل «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل»(3).
واجعل لك نصيبًا من صيام النافلة؛ ليباعد الله به وجهك عن النار، وقد جاء في النسائي: «لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله تعالى بذلك اليوم النارَ عن وجهه سبعين خريفًا»(4)، والصوم أيضًا حصن ووِجاءٌ للشاب غير المتزوج «... ومَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجاء»(5).
وعليك بالمحافظة على الأذكار؛ {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، والزم الدعاء واجعله كالهواء في كل حين، لا كالدواء الذي نستخدمه عند حاجتنا للشفاء، وزد رصيدك في أداء بقية الشعائر الدينية.
واعلم أن الشاب الذي ينشأ في عبادة الله يظله الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعةٌ يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله»، وذكر منهم: «وشاب نشأ في عبادة الله...»(6)، واحذر أن تُسخِّر حياتك من أجل المال والشهرة؛ بل اجعلهما مطية لك إلى طاعتك لرب العباد.
2- الاجتهاد في الدراسة:
اجتهد في دراستك، وابتعد عن الكُسالى والمثبطين، وتحلَّ بحلية طالب العلم، كما أوردها العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وحَوِّل المعارف التي تعلمتها إلى مهارات، واعمل على تطبيقها في تعاملاتك في الحياة، واعلم أنه لا توجد طريقة تدافع بها عن نفسك في هذا العالم سوى أن تتعمق في معرفة عالمك لتزداد قوة، يقول أينشتاين: «المعرفة في حد ذاتها ليست مهمة، أمَّا ما نصنعه بالمعرفة وكيف نستفيد منها فهذا هو المهم»، واعمل على تنظيم وقتك بكفاءة، ولا تيأس عند الفشل؛ فما هي إلا خطوات على طريقك للنجاح؛ فمخترع الكهرباء (أديسون) لم ينجح في اختراع الكهرباء إلا بعد 999 محاولة فاشلة، وتأكد أن النجاح= 1% إلهام + 99% اجتهاد، وإياك والكِبْرَ والغرور؛ فهو عدو للعلم، فالغرور= 1 ÷ المعرفة، بمعنى أنه كلما زاد مقام المعرفة قلَّت قيمة الغرور، والعكس صحيح.
3- اختيار التخصص المناسب لميولك وقدراتك:
اذهب للتخصص المناسب لميولك وقدراتك، واستشر معلميك ومرشدك الطلابي، واستعن في تحديد قدراتك ببعض المقاييس؛ كاختبار هولاند، واختبار تحديد تخصصك الجامعي لناصر الخزيمي، واختبار MBTI، وغيرها من المقاييس المتاحة على الشبكة، واحذر من البناء على تجارِب الآخرين؛ فكثير من الناس يتحولون إلى مستشارين، وخاصة لخريجي الثانوية العامة، وتأكد أن تجاربهم هي بمثابة الحُفَر التي سوف تعترض طريقك في اختيار التخصص المناسب، ولا تَنْسَقْ وراء نظرة المجتمع لبعض التخصصات؛ كالطب والهندسة والمحاماة؛ فقد يكون تخصصك في قسم نظري أفضل بكثير مما لو ذهبت لأحد التخصصات العلمية، التي لا تتناسب مع ميولك ورغبتك.
وعليك أن تفرِّق بين الحقائق والآراء، وهذا يشبه حال اثنين من الأصحاب؛ أحدهما اشترى سيارة (تويوتا شاص)، وآخر اشترى سيارة صغيرة (كامري) مثلًا، فاتفقا أولًا أن يذهبا في رحلة للصحراء لـ(التطعيس)، فهنا لا شك أن صاحب الشاص سيكون أكثر متعة، وسيصل لوجهته دون عناء.
بينما لو اتفقا أن يذهبا من الرياض إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فهنا سينعكس الوضع، وسيكون صاحب السيارة الكامري أكثر راحة، وسيصل لوجهته قبل صاحبه بوقت طويل، فاختر الوسيلة المناسبة لوجهتك دون تأثير الآخرين.
وهذا يشبه تمامًا من يذهب لتخصص لا يتناسب مع قدراته، وتَمَثَّل أيضًا بحال الفراشة والنحلة؛ فالفراشة كثيرة الحركة لكنها تنهي جلسة عملها دون رحيق، بينما النحلة تكون أقل منها حركة لكنها تنهي عملها بشَهْدٍ فيه شفاء للناس، وما أكثر الفراشات في الجامعة! حيث ينتقل الطالب من قسم إلى قسم، أو يستمر في قسم واحد لكنه يقضي فيه ما يقرب من ثمان سنوات، وقد تزيد أحيانًا.
4- ضع لك أهدافًا واقعية قابلة للتحقق:
فالأهداف هي التي تساعدنا على تحقيق الأحلام، والشخص الذي لا يملك أهدافًا في الحياة هو كمن يمشي في طريق لا نهاية له، أو يريد الدخول على موقع لا عنوان له، وكالذي لا يعرف إلى أين يتجه، حيث سيصل إلى المجهول، والعبقري هو من يصيب هدفًا لا يراه الناس، ومن أكبر الأخطاء أن نُراهن على أهداف صغيرة تقل كثيرًا عن إمكاناتنا وما ينتظره منا المجتمع، وتحتاج الأهداف منا إلى تركيز ومثابرة، والأهداف التي لا تُترجَم إلى خطط وأفعال هي مجرد أمانٍ وأحلام، وليس العاجز هو من لا يملك قدمًا وساقًا؛ وإنما العاجز من لا أهداف له، واعلم أنه لا يوجد هدف دون عائق، وتبقى الفروقات بين الناس أمام أهدافهم بين صامد ومكافح أو منهار أمام أصغر العقبات.
يقول جون ماسون براون: «السعادة الحقيقية هي أن نفني أنفسنا من أجل تحقيق غاية عظيمة في الحياة».
5- فن التعامل مع الناس:
التودد إلى الناس نصف العقل، ويتطلب من الإنسان أن يتعلم مهارات الحوار والإقناع والإيجابية والتعاون، ولدى الغرب معاهدُ خاصة تدرس المهارات الاجتماعية؛ كطريقة التحدث المثلى، وكيف يكسب ثقة الآخرين، وكيف يكون لبقًا في حديثه، وغيرها من المهارات، وفي الإسلام منهج واضح للتعامل مع الغير، ولكن، للأسف، لا يطبق المسلمون منه إلا القليل، وحسن الخلق من الدين؛ فالدين المعاملة، وفي الحديث: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمَن حسُن خلُقه»(7)، وجماع حسن الخلق في أمرين: بذل الخير، وكف الشر، واحرص على الانطباع الأول؛ لأن العلاقة المستقبلية سوف تُبنى عليه بدرجة كبيرة.
6- اعتن بوقتك واستثمره في المفيد، واحذر لصوص الوقت:
يقول أسطورة التنمية البشرية كوب ماير: «افعل ما يجب عليك فعله وقتما يتحتم عليك فعله، سواء أكنت تحب ذلك الفعل أم كنت لا تحبه»، ومن وسائل تعويد الإنسان على الدقة في الوقت هو أن يتعود مع أشخاص آخرين لتَكُون التربية جماعية، ومن أحسن طرق استثمار الوقت تنظيمه؛ فالتنظيم أساس النجاح، وعوِّد نفسك على الاستيقاظ المبكر، وكن من جوقة المبكرين Early Rise، قال بعض السلف: «عجبتُ لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يُرزَق؟»، وقال بعضهم: «من يصل مبكرًا يجد له موقعًا».
7- استثمر الإجازات الكبيرة في التطوع أو العمل لكسب الخبرة:
فالوقت مما يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؛ ولهذا أنصح الشباب باستغلال الإجازات الصيفية بالعمل في الشركات؛ كي يكتسبوا خبرة تنمي مهاراتهم، كما أنصحهم أيضًا بالانخراط في الأعمال التطوعية، فهذا مما يفتح لهم أبوابًا نحو المستقبل، وجاء في نصائح جاكسون براون لابنه عندما دخل الجامعة قوله: «شَجِّع أبناءك على العمل في أوقات فراغهم حالما يبلغون سن 16 سنة».
8- جرب ولا تخف من الفشل:
وتأكد أن الألماس والذهب لا يلمعان بدون احتكاك، وكذلك الإنسان لا يُصقل بدون تجارب، والكعكة لا تفوح رائحتها الزكية إلا عندما تمسها النار، فلا تَهَبِ التجارب، واستفد منها لصقل خبرتك، ودَوِّن في مذكراتك المحاولات الخاطئة والآليات التي اتبعتها؛ حتى لا تكررها مرة ثانية؛ لأنها لن توصلك للحل الصحيح، يقول أينشتاين: «الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى بنفس الخطوات، ثم تتوقع نتائج مختلفة»، ويقول أيضًا: «المعرفة تأتي بعد الخبرة، فالمعرفة ليست المعلومة، وإنما مصدر المعرفة الوحيد هو التجربة والخبرة»، وقديمًا قيل: «خير لك أن تسأل مرتين من أن تخطئ مرة واحدة».
9- اعمل على شحن بطاريتك:
نعني بالبطارية هي عزمك وطاقاتك وإيمانك وإيجابيتك، وهي تلك القوة التي تدفعك داخليًّا للعمل، وتؤكد عليك يومًا بعد يوم أنك قادر على تحقيق الكثير من أهدافك في الحياة، وأن طموحك يجب أن يظل عاليًا، وأنك قادر على الوصول إليه، وأن متعة الحياة هي أن تظل دومًا تضيف لنفسك الجديد؛ ولذا عليك أن تطور ذاتك بالقراءة وحضور الدورات التي تصقل مهاراتك؛ فالحياة ليست بحثًا عن الذات، ولكنها رحلة لصنع الذات، فاصنع من نفسك نموذجًا يصعب تقليده، وتعلم من كل شخص تقابله يمتلك شيئًا مميزًا لتضيف لنفسك شيئًا جديدًا، وتأكد أن مما يساعدك على الاحتفاظ بطاقتك أن يكون قلم التصحيح بيدك لا بيد الآخرين، وكن صادقًا مع نفسك عند تقييم معايير مشاريعك في الحياة، وزِن الأمور بميزان العقل، وساهم في شحن بطارية كل من تتعامل معه بالابتسامة، والكلمة الطيبة، والتحفيز، والمشورة الصادقة، وثِق أنك ستكون أول المستفيدين؛ لأنك ستضمن لنفسك العيش في بيئة إيجابية.
10- ليكن لك مشروع في الحياة:
الميلاد الحقيقي للإنسان هو اللحظة التي يعثر فيها على مشروعه في الحياة، والشيخوخة المبكرة هي ألا تجد فكرة تعيش من أجلها، والله سبحانه وتعالى قسم بين العباد أرزاقهم، وكذا أعمالهم، فقد تجد من فتح الله عليه في الصلاة، وثانيًا في الصوم، وثالثًا في الجهاد، وآخر في العلم، وهكذا، فالله لم يخلقنا هملًا في هذه الحياة؛ بل أَوجدَنا لعمارة الأرض وصناعة التاريخ، ومشروع العمر بدايته حلم، لكنه هو ما يُترجَم إلى واقع، وهو ذلك المشروع الذي يتبناه الإنسان فيكرس حياته من أجله، حتى يغدو خدمة يتعدَّى نفعها إلى مجتمعه المحلي، وقد يمتد إلى الإنسانية جمعاء.
وهناك نجوم من أصحاب المشاريع التي خدمت الأمة على مر العصور، نذكر منهم: الخلفاء الراشدون، والصحابة رضوان الله عليهم؛ كابن عباس، وأُبَي بن كعب الأنصاري، وهناك من أجيال التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا؛ كالبخاري، ومسلم، وابن قدامة، وجابر بن حيان، ومحمد بن عبد الوهاب، والملك عبد العزيز، وابن باز، وابن عثيمين، والسميط، وغيرهم، ومن غير المسلمين (توماس أديسون) مخترع الكهرباء، و(لاري بايج) وزميله (سيرجي برين) مصمما جوجل، ومخترع الإطارات المنفوخة للسيارات (دانلوب)، وغيرهم ممن خدم الإنسانية، وهناك من الآباء من ينذر ابنه لله عند الولادة، كما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
11- اعرف حقوقك وواجباتك:
عندما يعرف الإنسان كامل حقوقه فإنه يستفيد من كل الميزات التي وُضعت لرفاهيته، وفي المقابل إذا عرف واجباته وقف عندها فانتفى ظلم الغير، فعاش الناس في أمان ووئام، ومما يؤخذ على الكثير من الناس جهلهم وضعف ثقافتهم في مجال الحقوق والواجبات، كما يؤخذ على البعض مطالبتهم بحقوقهم مع نسيانهم للواجبات المطلوبة منهم، بينما هناك من يضحي ويبذل دون مُحاصَّة، وهؤلاء هم نجوم المجتمع.
12- محاسبة النفس:
يتطلب من الإنسان أن ينشئ لنفسه (فلترًا) يعرض عليه أعماله بين الحين والآخر؛ ليميز بين النفيس من الزائف، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا»، واعلم أن الله سبحانه سيحاسب العبد على الصغير والكبير، والفتيل والقطمير، يقول تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]، ويقول ميمون بن مِهران: «لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه»، ثم تأكد أيضًا أن قيمتك في المجتمع تتناسب طرديًّا مع محاسبتك لنفسك، فترتفع القيمة عند التدقيق والمحاسبة، وتنخفض عند التساهل أو الترك والإهمال.
وبعدُ أيها الشاب المبارك، هذه هي أبرز مناجم شحن الطاقة الإيجابية للنفس، فتزوَّد منها بما يمدك من حيوية تجعلك فاعلًا في الحياة، وإن احتجت لمزود طاقة آخر غير هذه فخذ منه قدر حاجتك، والله معك، {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
______________
(1) د. علي أحمد الشيخي: مساعد مدير تعليم القنفذة سابقًا (متقاعد)، دكتوراه علم نفس تربوي، أخصائي تقويم تعليم بهيئة تقويم التعليم.
(2) صحيح مسلم (1/ 462).
(3) صحيح البخاري (2/ 49).
(4) سنن النسائي (4/ 174).
(5) مسند أحمد (2/ 15).
(6) صحيح البخاري (8/ 163).
(7) سنن أبي داود (4/ 253).