logo

سرعة البديهة في الإلقاء والكلام


بتاريخ : الخميس ، 9 جمادى الأول ، 1445 الموافق 23 نوفمبر 2023
بقلم : إسماعيل علي محمد
سرعة البديهة في الإلقاء والكلام

 ونقصد بالبديهة: سداد الرأي عند المفاجأة، كما جاء في كتب اللغة (1).

ذلك أن الخطيب عُرضةٌ لأي أمر قد يطرأ في أثناء الخطبة، أو مقاطعةٍ تصدر من أحد المستمعين بقصد إحراجه، أو اعتراضٍ يواجهه.. وما شابه ذلك، فعليه في هذه الحال أن يحسن الجواب عما يعترضه، أو يحسن التخلص إن لم يستطيع الإجابة.

ذكر الأستاذ عبد البديع صقر رحمه الله: أن زعيمًا اشتُهر بالقدرة الخطابية، وذات مرة فاجأه أحد السامعين أثناء المحاضرة بقوله: هذا غير صحيح، وفطن الخطيب إلى ما يريده المعترض، فاكتفى بقوله: هذا رأيك، واستمر دون أن ينقطع.

وكان طالبٌ يؤدي اختبارًا في دروس التربية العملية، تحت إشراف أحد الأساتذة، فوقف أحد التلاميذ ووجه إليه سؤالاً كان لا يعرف الإجابة عليه، وكان الطالب سريع البديهة، فقال للتلميذ: "ذكرني في آخر الدرس"، وبمجرد أن دق الناقوس خرج التلاميذ يهرعون إلى فناء المدرسة، ونسي التلميذ سؤاله، فكتب المشرف الملاحظة الآتية: المعلم ذكي حسن التخلص (2).

وخطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه، فقال أحد السامعين: " أذكّرك من ذَكّرت به" فأجاب أبو جعفر بلا تفكير ولا روية: سمْعًا سَمْعًا لمن حفظ عن الله وذكّر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عنيدًا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين، وأنت أيها القائل فوالله ما أردت بها وجه الله ولكن ليقال: قام فعوقب فصبر، وأهوِنْ بها لو كانت، وأنا أنذركم أيها الناس أختها، فإن الموعظة علينا نزلت، وفينا انبثّت ثم عاد إلى الخطبة (3).

وكان لو يد جورج الإنجليزي المعروف، يخطب، ويَعد بالحكم الذاتي، فيقول: سنعطي الحكم الذاتي لكندا، وسنعطيه لأيرلندة، وسنعطيه... ولم يتم الكلمة حتى قال أحد المستمعين: "لجهنم" فرد عليه لويد جورج بقوله: هو ذاك، يعجبني أن يتذكر كل إنسان وطنه (4).

وكان الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- يخطب في مجلس الوعظ، وقام إليه رجل بغيض، فقال: يا سيدي نريد كلمة ننقلها عنك، أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال: اجلس، ثم قام فأعاد مقالته، فأقعده ثم قام، فقال: اقعد فأنت أفضل من كل أحد (5).

وسأله آخَر أيام ظهور الشيعة، فقال: أفضلهما من كانت بنتُه تحته، وهذه عبارة محتمِلة تُرضي الفريقين (6).

ثم إن الخطيب قد يتعرض لنسيان ما كان قد أعده للموقف من مادة علمية، أو يعتريه الرّتَج والحصَر (7)، ونحو هذا من المآزق الحرجة؛ وهنا لابد أن يكون حسن التصرف، سريع التخلص في موقفه، كي لا يكون في وضع محرج وموقف لا يحسد عليه، وليستعن بالله تعالى بضراعة وإخلاص أن يوفقه إلى مخرج حسن.

إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجني عليه اجتهاده

 ومن الخطباء من تعرضوا لمواقف صعبة، فأسعفتهم بديهة حاضرة، ونجوا من الإحراج، ومنهم من ارتبكوا وأخفقوا في إيجاد عذر أو مخرج حسن مما حلّ بهم، والإكثار من قراءة تلك النماذج، يزود الخطيب بخبرة نافعة في هذا الأمر، ويمرّنه على كيفية التصرف المناسب عند اللزوم، وخاصة إذا تشابهت المواقف، ونورد هنا طرفا من أخبار هؤلاء وأولئك تعميما للنفع:

أ- من أُرتِج عليه فحسن تخلصه، بحضور بديهته:

ذكر صاحب العقد الفريد أن أول خطبة خطبها عثمان بن عفان رضي الله عنه أُرْتج عليه فيها، فقال: أيها الناس إن أول كلِّ مركبٍ صعب؛ وإن أَعِش تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسرًا إن شاء الله.

وقدم يزيد بن أبي سفيان الشام واليا عليها لأبي بكر، وخطب الناس فأُرْتِج عليه؛ فعاد إلى الحمد لله، ثم أرْتِج عليه، فعاد إلى الحمد، ثم أُرْتِج عليه، فقال: يا أهل الشام عسى الله أن يجعل بعد عسر يسرًا، وبعد عِيٍّ بيانًا، وأنتم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل، ثم نزل، فبلغ ذلك عمرَو بنَ العاص فاستحسنه.

وصعد ثابت بن قطنة منبر سجستان، فقال: الحمد لله، ثم أُرْتِج عليه، فنزل وهو يقول:

فإلا أكن فيهم خطيبًا فإنني *** بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب

فقيل له: لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.

وخطب معاوية بن أبي سفيان لما ولي فحَصِر، فقال: أيها الناس: إني كنت أعددت مقالا أقوم به فيكم، فحُجِبت عنه فإن الله يحول بين المرء وقلبه، كما قال في كتابه، وأنتم إلى إمام عدل، أحوج منكم إلى إمام خطيب، وإني آمركم بما أمر الله به ورسوله، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم.

وصعد خالد بن عبد الله القسريّ المنبر فأُرتِجَ عليه، فمكث مَلِيًّا (8) لا يتكلم، ثم تهيأ له فتكلم، فقال: أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحيانًا ويعزُب (9) أحيانًا، فيسِحّ (10) عند مجيئة سيبُه (11)، ويَعِزّ عند عُزوبه طلبُه، ولربما كُوبِر فأبى، وعُولِج فنأى، فالتأنّي لمجيّه، خير من التعاطي لأبيّه، وترْكُه عند تنكره، أفضل من طلبه عند تعذره، وقد يُرتَجْ على البليغ لسانه، ويَختلِج (12) من الجريِّ جَنانُه، وسأعود فأقول إن شاء الله (13).

ب- من أُرتج عليه فأخفق في حسن التخلص:

ذكر الجاحظ أنه قد خطب مصعب بن حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحَصِر، فقال: لَقِّنوا موتاكم قولَ لا إله إلا الله، فقالت أم الجارية: عجّل الله موتك، ألهذا دعوناك؟ (14).

وقيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر وتكلم، فلما صعد حصر، وقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء، وبقي ساكتًا، فأنزلوه.

وصعد آخر فلما استوى قائمًا، وقابل بوجهه وجوه الناس، وقعت عينه على صَلَعة رجل، فقال: اللهم العن هذه الصّلَعة.

وقيل لوازعٍ اليشكريِّ: قم فاصعد المنبر وتكلم، فلما رأى جمع الناس قال: لولا أن امرأتي حملتني على إتيان الجمعة اليوم ما جَمَّعت (15)، وأنا أُشهِدكم أنها مني طالق ثلاثًا (16).

ولذلك قال الشاعر:

وما ضَرَّني ألا أقوم بخطبة *** وما رغبتي في ذا الذي قال وازع (17)

إن حضور البديهة، أو سداد الرأي عند المفاجأة له أثره الطيب على الخطيب والخطبة، وهو مرتبط ارتباطا وثيقًا بأمر آخر من مقومات الخطيب وهو الثبات، والذي نشير إليه في السطور التالية.

___

(1) المعجم الوسيط (1/ 46).

(2) كيف ندعو الناس/ عبد البديع صقر (ص: 35).

(3) فن الخَطابة د/ أحمد الحوفي (ص: 22) نقلًا عن تاريخ الطبري (9/ 311).

(4) المرجع السابق (ص: 24) نقلًا عن الخَطابة، نقولا فياض.

(5) أفضل: من الفُضول.

(6) سير أعلام النبلاء (21/ 371).

(7) رَتِجَ على وزن فرِح، رتَجًا: استغلق عليه الكلام وأُرتِج عَلى القارئ - بالمبني للمجهول - وارُتتِج واستُرتِج إذا استغلق عليه الكلام ولم يقدر على القراءة، كأنه أُطبِق عليه كما يُرْتَج الباب، ولا تقل: ارتُجّ بالتشديد، بتصرف عن المعجم الوسيط (1/ 339)، مختار الصحاح للرازي (ص: 98)، القاموس المحيط (ص: 43)، والحَصَر هو احتباس الكلام وامتناعه.

(8) مَلِيًّا: زمانًا طويلًا، مختار الصحاح (ص: 264).

(9) عزَب: بعُد وغاب، وبابه دخَل وجلَس، المرجع السابق (ص: 180).

(10) سحَّ الماءَ صبّه، وسَحّ الماءُ بنفسه سال من فوق، وكذا المطر والدمع، وبابهما ردّ، المرجع السابق (ص: 122).

(11) ساب سَيْبًا وسَيَبانًا: ذهب حيث شاء، وساب فلانٌ في كلامه أفاض فيه من غير رويّة (المعجم الوسيط (1/ 484).

(12) اختلج: اضطرب المصدر السابق (1/ 257).

(13) العقد الفريد (4/ 231- 232).

(14) البيان والتبيين (2/ 250).

(15) جَمّع القوم تجميعًا: شهدوا الجمعة وقضوا الصلاة فيها، مختار الصحاح (ص: 47)، ويُقال أيضًا: عيّد الناس: شهدوا العيد، ووسّموا: حضروا المُوسِم، وعرّفوا: حضروا عرفة.

(16) البيان والتبيين (2/ 251).

(17) المصدر السابق (2/ 252).

المصدر: موقع الخطباء