logo

القيادات المستقبلية


بتاريخ : الاثنين ، 3 صفر ، 1439 الموافق 23 أكتوبر 2017
بقلم : د. طارق محمد السويدان
القيادات المستقبلية

في ظل حديثنا عن مسلسل الأزمات التي تعيش الأمة في ظلالها، وتتجرع آلامها، كان لا بد لنا أن نمر على جميع ما نراه يُشكِّل أزمة حقيقية، سواء كانت الأزمة شعبية، تجد صدًى عند الجماهير؛ كالتخلف الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي، والتي تحدثنا عنها جميعًا، أم كانت الأزمة تتعلق بمصير الأمة ومكانتها، والتي يكون الاهتمام الشعبي  بها عادة أضعف من الأولى؛ كالتخلف الثقافي، وكذلك ما سنتحدث عنه اليوم، وهو أزمة ضعف وغياب إعداد واكتشاف القيادات المستقبلية.

فأهلًا بكم من جديد أحباء ونصحاء وقراء، ونشكر لكم اهتمامكم ومتابعتكم وإثراءكم لكل ما نطرحه في هذه الزاوية (أريد أن أحلم).

غياب الإعداد:

في معظم بلداننا العربية والإسلامية ترفع صورة الرئيس أو الحاكم على أنه القائد الخالد الفذ، الباني للحاضر والمستقبل، فنحن معه في أمان، وبوجوده يمكننا حل جميع المشاكل، ودحر جميع الأعداء، والويل لمن تجرأ وخالفه، أو اتخذ قرارًا بحضرته، أو سوّلت له نفسه الأمارة بالسوء أن يرفع رأسه أمام جنابه.

في ظل هذه العقلية،عقلية العبودية والدونية، والتي يرافقها غياب تام للرؤية المستقبلية والأهداف الاستراتيجية الحقيقية، كيف لنا أن نعد أو أن نتوقع وجود قادة لمستقبلنا، وأن نهيئ الظروف لإعداد جيل من الشباب الموهوب والقوي لقيادة الأمة في المرحلة المقبلة؟!

معنى القيادة:

القيادة هي باختصار: القدرة على تحريك الناس نحو الهدف، فهي مكونة من ثلاثة عناصر:

1- وجود هدف يُحرَّك الناس إليه.

2- وجود مجموعة من الأفراد يحركهم هذا القائد.

3- وجود قائد لديه قدرات خاصة، ويجعل ذلك في قوالب عملية تؤثر في الناس.

ورغم عدم وجود تعريف متفق عليه بين العلماء للقيادة إلا أن التعريف الذي ذكرناه يعتبر كافيًا ووافيًا، لكن المأساة تكمن عندما لايوجد هدف أصلًا لدى الأمة!! فكيف لها أن تسير نحو هدفها، وكيف لأحد أن يقودها نحو المجهول؟

الفرق بين القيادة والإدارة:

الكثير من الناس يخلط بين الإدارة والقيادة، ورغم أهمية كل منهما، وتشابههما إلى حد كبير، إلا أن هناك فرقًا جوهريًا بينهما؛ فالقيادة تركز على العلاقات الإنسانية، وتهتم بالمستقبل، فهي تهتم بالرؤية والتوجهات والاستراتيجية، وتمارس أسلوب القدوة والتدريب وقضاء الأوقات الطويلة مع الأتباع، والاهتمام بهم كبشر، وباختصار (القيادة = المستقبل والعلاقات).

بينما تركز الإدارة على الإنجاز والأداء في الوقت الحاضر، فهي تهتم بالمعايير، وحل المشكلات، والاهتمام باللوائح والنظم، وباختصار (الإدارة = الإنجاز الآن).

فأنت ترى أن كلاهما مهم ويكمل الآخر، لكن لاشك أن القيادة أكثر حساسية وأندر وجودًا.

وإذا أردت معرفة المزيد من الفروق بينهما فيمكنك الرجوع إلى كتابنا (القيادة في القرن الواحد والعشرين) أو (صناعة القائد)  فإن فيه تفصيلًا وجداول تبين ذلك كله.

مظاهر وأسباب غياب القادة:

نحن لا نتهم المؤسسات الرسمية والحكومية ونحملها المسئولية وحدها عن غياب روح القيادة لدى الشباب والناس عامة، ولاندّعي أنها وحدها تستطيع أن تخلق قادة عبر مؤسساتها ومدارسها إن أحسنت استغلالها؛ بل المجتمع، بكل مكوناته، ينبغي أن يشارك في هذه الصناعة (صناعة القائد)، بدءًا من الأهل ومرورًا بالمدرسين والعلماء، ثم بعد ذلك يأتي دور الدولة لترعى هذه المواهب وتصقلها، وتعطيها الفرصة للتجربة والتدريب.

ومن الأسباب التي ساعدت في غياب روح القيادة:

1- رواسب تربوية وطرق خاطئة في تنشئة الأولاد؛ حيث قمع الأطفال ولجم التساؤل والاستكشاف وروح المغامرة والمبادرة لديهم؛ مما أدى إلى إحداث حاجز نفسي قاتل بأنهم ينبغي أن يتلقوا الأوامر ولا يفعلوا شيًئا من أنفسهم.

2- الإهمال والتسيب الإداري، بالإضافة إلى الروتين القاتل؛ والذي أدى إلى كبت الروح القيادية لدى الأفراد.

3- غياب دور العلماء الباذلين والموجهين، وكذلك دور المدرسين الحقيقي في تربية النفوس وتوجيهها وتهيئتها للمستقبل.

4- عدم إتاحة الفرصة للشباب والمراهقين في أن يتولوا شئونهم بأنفسهم، ويباشروا بعض الأعمال الخاصة، وهو مايقوّي روح القيادة والمنافسة لديهم.

5- عدم وجود مراكز كافية لتنمية المواهب والروح القيادية بشكل كاف، ومع أننا بدأنا نلاحظ جهودًا جديدة في هذا المجال إلا أنها مازالت في بداياتها، وتحتاج التطوير والانتشار، ولعلها بادرة خير وصفحة جديدة مشرقة، وقد كانت لنا مساهمة في هذا المجال ورؤية واضحة منذ سنوات، فأنشأنا مركز الرواد لتدريب وتأهيل الشباب للقيادة، بالاشتراك مع الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية في الكويت، وهي كانت من أولى التجارب في إحداث مراكز عربية لتأهيل القادة.

6- التخوف من إعطاء الشباب أي فرصة في اتخاذ القرار، سواء على المستوى العائلي أو الاجتماعي أو السياسي؛ خوفًا من فشلهم، علمًا أن الدراسات تظهر أن الشاب الذي يعطى فرصة في صغره للتجربة، حتى وإن أخطأ، يكون أقدر على القيادة واتخاذ القرار ممن لم يعط فرصة في صغره.

7- انتشار ثقافة السلبية في شتى نواحي الحياة؛ فالموظف جل همه أن يتقاضى راتبه آخر الشهر، ثم لايأتيه إنذار أو خصم أوتنبيه، والمواطن كل مايريده أن يأخذ حقوقه كاملة من الدولة ومن الشعب، ثم يماطل في الواجبات التي عليه، أو أن يؤديها ثم يركن لبيته وأهله، وهكذا الكل لا يريد أن يحمل نفسه أي عبء أو التزام.

8- غياب أو ضعف التشجيع المادي والمعنوي لمبادرات الشباب وإبداعاتهم .

هل يمكننا أن نصنع قادة؟

هذا السؤال يطرح أحيانًا على الشكل التالي: هل يمكن تعلم القيادة؟ وحيثإننا نتكلم عن إعداد واكتشاف قادة المستقبل فقد طرحناه بالصيغة السابقة.

وللجواب عن هذا السؤال فإني أجيب، بناءً على تجربتي الشخصية في إدارة مركز الرواد للتدريب القيادي للشباب، بالإضافة إلى تدريب ما يزيد على 60 ألف متدرب والحمدلله، فأقول وبالله التوفيق:

إن 2% من الناس يولدون قادة بالفطرة، ولايحتاجون لمساعدة خارجية، وربما نجد في تاريخنا أمثلة لهؤلاء؛ مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما،يقول عمر رضي الله عنه: «ما ينبغي لعمرو أن يسير على الأرض إلا أميرًا».

كما أن هناك 2% من الناس لايصلحون للقيادة ابتداءً؛ وذلك إما لضعف في الشخصية أو النفسية، أو لإعاقة بدنية أو فكرية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله تعالى عنه:«إنك ضعيف، لا تولين على اثنين»؛ أي إذا كنت مع شخص آخر فهو الأمير وليس أنت، مع أن أبا ذر من أعلى الصحابة مكانًا وفضلًا.

أما الباقي، وهم حوالي 96% من الناس، فإنهم قادرون على أن يصبحوا قادة إذا تلقوا التدريب والخبرة الكافية.

إذًا يمكننا أن نساهم في صنع قيادات المستقبل، من خلال إعطاء الفرصة والمشاركة، واختيار الموهوبين والمميزين والمبدعين، ووضع خطط وإيجاد مراكز لهذا الغرض، وتجاوز أزمتنا في غياب إعداد واكتشاف قيادات المستقبل.

لانريد أن نستبق الأمور ونتحدث في كيفية إعداد القادة، فهذا موضوع آخر نتكلم عنه إن شاء الله عند حديثنا عن الحلم المنشود، لكننا الآن أردنا فقط أن نتحدث عن هذه الأزمة؛ لأن القيادة من المسائل الهامة، والتي تتعلق بها مصائر الأمم، وتتوقف عليها أهدافها وتحقيق تلك الأهداف.

وأحب أن أؤكد أني لا أتحدث هنا عن الأزمة في إعداد القادة السياسيين فقط،وإن كانت هي الأوضح والأكثر تأثيرًا، ولكني أتحدث عن القادة في مجالات الاقتصاد والإدارة والتعليم والصحة والمجتمع وكل جوانب الحياة؛ فالقيادة لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجال.

لكننا نريد أن نوضح أمرًا قبل أن نختم مقالتنا، وهو أننا حين نتحدث عن القادة فإننا لانكرس الوهم الموجود عند البعض، من انتظار القائد المخلّص والمنقذ، الذي ننتظره ليأتينا ويخلصنا من أزماتنا ومشاكلنا، ويبدل ضعفنا قوة، وذلنا عزًا، لكننا ندعو لتهيئة الناس لتحمل المسئولية، وتفعيل روح القيادة واستشراف المستقبل.

ومازال لدينا من الأزمات ما نتحدث عنه، فانتظرونا في الأسابيع المقبلة، والله ولي التوفيق.

موقع د. طارق سويدان