الفرد والمؤسسة
خلق الله الإنسان كائنًا اجتماعيًا، لا يكاد يستطيع العيش، فضلًا عن الإنتاج والعطاء والتطور...، من غير تعاون مع أبناء جنسه، وهذا أمرٌ ظاهر في جميع العصور، لدى جميع الأمم.
وكثير من الناس من يملك توجهًا سياسيًا أو فكريًا أو فنيًا، ويحاول تعزيز توجُّهه هذا بالانتماء إلى حزب أو نادٍ أو جمعية...، أو يكتفي بجهوده الفردية لخدمة هذا التوجه.
وهنا يدور الجدل حول أهمية الفرد (المفكر أو المجدد أو المجاهد أو الرياضي...)، والمؤسسة (الحزب أو النادي أو الرابطة...): أيهما هو المهم أو الأهمّ؟!
ويحتدّ الجدل أكثر حين يحدث الفصام بين الفرد المتميز والمؤسسة التي انتمى إليها، فهو ينسب كل فضل ونجاح وتفوق إلى نفسه، ويرى أن أمجاد المؤسسة إنما بنيت على كتفيه وبجهوده، وأنه هو الذي أفاد المؤسسة ولم يستفد منها...، ولعل المتنبي، وهو الشاعر المتميز الفخور، يمثل هذا الاتجاه عندما قال:
لا بقومي شرُفْتُ بل شَرُفوا بي وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
وقد يَعُدُّ انتماءه إلى المؤسسة، في الحقبة التي سبقت الفصام، سببًا لتعويقه وتطويقه ومنعه من الانطلاق.
والمؤسسة تقول: بل إنه لم يكن شيئًا لولا ما تعهدته به المؤسسة، وطورته، وهيأت له ظروف النجاح والشهرة...، ولولا الله ثم هذه الظروف ما كان له أن يحقق شيئًا...، ومن حقها، إذًا، أن تنسب كل إنجازاته وعطاءاته وفضائله إلى نفسها، بينما تتبرأ من كل نقيصة فيه وانحراف...؛ لأن ذلك نتيجة عجبه وغروره؛ بل إنه إنما أُبعد عن المؤسسة بسبب استعلائه وتفرده، وضعف روح العمل الجماعي في نفسه.
ولا يخلو أن يكون لدى كل من وجهتي نظر الفرد والمؤسسة حقٌّ أو شبهة حق؛ كالذي يقال عمن ينظر إلى أحد نصفي الكأس المملوء والفارغ، وحتى نخرج من التطرف في الرؤية إلى الاعتدال والموضوعية يمكن أن نثبت بعض النقاط:
1- الفكرة المبدعة تكون دائمًا من نتاج الفرد وليس من نتاج المؤسسة، وقد تكون المؤسسة قد أسهمت في تربية الفرد أو لم تسهم، وقد تسهم في تطوير الفكرة المبدعة وتشذيبها أو لا تسهم...، لكن هذا كله لا يلغي حقيقة أن الفكرة نتاج الفرد المبدع، ويكفي أن نذكر مثالًا واحدًا هو الإمام حسن البنا رحمه الله، فإن فكرة الفهم الشامل للإسلام والعمل لأجل نشره ونصرته إنما تولدت في نفسه، ولئن قيل: إن هذا الإمام لا يصلح أن يكون مثالًا؛ لأنه إنسان مبدع غير عادي، فالجواب أن حديثنا كله عن الفكرة المبدعة والفرد المبدع؛ بل إن أصحاب الإبداع الجزئي كذلك هم أناس موهوبون بقدر إبداعهم، وهم الذين يسهمون بالتطوير، ثم تتبعهم العامة من الناس.
2- المؤسسة تتوافق على قيم وأنظمة وأعراف...، تشكل ثقافة راسخة بين أفراد المؤسسة، تضبط مواقفهم من ناحية، وتقيد تفكيرهم من ناحية أخرى، فلا يكادون يفكرون إلا بما ينسجم مع تلك الثقافة، ومن طبيعة التفكير الإبداعي الانطلاق من القيود، فكلما كانت القيم والأنظمة السائدة أكثر صرامة كانت أكثر تحديدًا للإبداع، فإذا كان قادة المؤسسة ومدراؤها على قدر من المرونة والتسامح، وأعطَوا مساحة مناسبة للحوار الحر، والتفاعل الفكري، أمكن توليد الأفكار، وتنشيط الإبداع، كما أمكن استيعاب المبدعين، والإفادة من طروحاتهم، وتوظيفها بما ينسجم مع الثقافة الراسخة في المؤسسة؛ بل أمكن، أحيانًا، إعادة النظر في تلك الثقافة، ولو جزئيًا، نتيجة ما تفتَّقَتْ عنه أفكار المبدعين.
3- لا غنى للمؤسسة عن المبدعين إذا أرادت أن تحقق التقدم، وتخوض غمار المنافسة، وتثبت قدمًا في ساحات الصراع...، وعليها أن تصبر بعض الشيء على المسالك الشاذة أحيانًا، من أولئك المبدعين، وأن تعمل على استيعابهم والحيلولة دون تحولهم إلى منافسين للمؤسسة أو مخرِّبين لأعمالها، ولعل الطريقة الممكنة في ذلك أن تُوجِد لهم، بل لكل منهم، كيانًا خاصًا، تتواصل معهم فيه عبر بعض المدراء الذين يَتَّصفون بقدر كبير من المرونة.
4- ولا غنى كذلك للمبدعين عن مؤسسة تهيئ لهم المحضن الدافئ والدعم والعون؛ لتُظهر إبداعاتهم وتنضج، ثم لتُسوِّق هذه الإبداعات وتستثمرها وتوصلها إلى أهدافها، وبغير هذا تبقى الأفكار الإبداعية حبيسة النفس، أو حبيسة الأدراج.
وحتى يتحقق ذلك فلا بد لهم من أن يطامنوا من كبريائهم، ويقللوا من نشوزاتهم، ويوطنوا أنفسهم على قبول قرار المؤسسة في نهاية المطاف، ولو خالفت اجتهاداتهم، وعليهم قبل ذلك ألَّا ينسوا فضل المؤسسة التي أسهمت في تكوينهم وهيأت لهم فرص النجاح، وكانت حقلًا لتجاربهم!
5- حين يصعب استيعاب الفرد في المؤسسة، بسبب تعنُّت الفرد أو تشدُّد المؤسسة في أنظمتها...، فلعل الصيغة الأنسب هي البحث عن قواسم مشتركة، والتعاون في حدود هذه القواسم، فلا يتحمل أي منهما مسئولية مواقف الآخر، ويستفيد كل منهما مما يوافقه من مواقف الآخر.
6- المؤسسة التي تريد تطوير نفسها وتحقيق أهدافها عليها أن تراجع هذه الأهداف بين الحين والآخر، وتعيد ترتيب أولوياتها، وتحدّث من أساليبها ووسائلها...، وهذا يعينها أكثر فأكثر على تنمية الموهوبين والمبدعين من أفرادها.
وعلى الأفراد الموهوبين والمبدعين أن يكيّفوا أنفسهم للتعامل الإيجابي مع المؤسسة، دعمًا لأفكارهم المبدعة.
7- الفرد المبدع قد يتمكن من تفعيل أفكاره وتحويلها إلى عمل منجز، وحقائق واقعة؛ لأن أهدافه، في الغالب، محصورة ضمن مجال معين، ولا تراعي بالضرورة الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغالبًا ما تظهر إنجازاته كبيرة ومثيرة للإعجاب؛ لأن صاحب المشروع الشخصي لا يبالي، غالبًا، بالرؤية الاستراتيجية، بخلاف المؤسسة التي تحكمها جملة من الاعتبارات، فتدرس قراراتها في ضوء حجم الإمكانات الداخلية والأهداف والظروف المحيطة...، وهو ما قد يجعل إنجازاتها تبدو أقل تألُّقًا.
8- النجاح الحقيقي يجب أن يقود إلى نجاح تالٍ، وهذا يحتاج إلى تقويم موضوعي، ونظرة ثاقبة نافذة، وإلى معرفة لدور الأفراد والمجموعات ضمن المؤسسة ومن تتعاون معهم في تحقيق النجاح؛ حتى ينسب الفضل إلى صاحبه، وحتى يستمر النجاح.
9- يلاحظ أن النقاط السابقة تدور حول فرد متميّز وعلاقته بالمؤسسة، ولم يكن الحديث عن أفراد عاديين أو نمطيّين، والحقيقة أن الأفراد العاديين هؤلاء لا يكونون عادة محل مشكلة، كما أن ابتعادهم لا يشكل في العادة مشكلة.
هذا الكلام ليس على إطلاقه، فقد يوجد فرد عادي في مؤسسة، لكنه يكون كثير الانتقاد للعمل، قليل الانسجام مع أقرانه ورؤسائه، يرى نفسه شيئًا عظيمًا، وأن الآخرين لا يقدرونه حق قدره، وأنهم لا يأخذون بآرائه حسدًا له، وخوفًا من أن ينافسهم على مواقعهم...، ومع ذلك يتشبث بموقعه، ويطالب بدرجة أعلى...، وتكون هناك مشكلةٌ تمنع من استبعاده عن العمل، كأن يكون ذا حظوة عند بعض المتنفِّذين، أو يكون له جمهور من المؤيدين لاعتبارات بلديّة أو كتليّة.
ولسنا نرى لمثل هذه الحال علاجًا جاهزًا يمكن تطبيقه على أمثال هذا الفرد، فقد يكون الحزم مناسبًا في حال، ويكون الصبر على شذوذه مناسبًا في حال، وقد يكون العلاج الطويل مناسبًا، وقد يحتاج الأمر إلى إصلاحات عامة في المؤسسة لا تمس هذا الفرد بشكل مباشر، إنما تأتي معالجته تبعًا لتلك الإصلاحات.
إنه، كأي مسألة اجتماعية أو إنسانية يكون فيها طرفان، يجب أن يعمل الطرفان على تقريب المسافة والبحث عن حل، وكما قال الله تعالى في مسألة الخلاف بين الزوجين: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
بتصرف
____________