logo

العزلة بين الضرر والضرورة


بتاريخ : السبت ، 15 جمادى الآخر ، 1436 الموافق 04 أبريل 2015
بقلم : تيار الاصلاح
العزلة بين الضرر والضرورة

البشرية لا تعيش أفرادًا إنما تعيش جماعات وأممًا، والإنسان اجتماعي بطبعه، يحب تكوين العلاقات وبناء الصداقات، فمن حاجات الإنسان الضرورية حاجته للانتماء، ومن الفطرة أن يكون الإنسان اجتماعيًا، والفطرة السليمة ترفض الانطواء والانعزال، وترفض أيضًا الانقطاع عن الآخرين، والفرد مهما كان انطوائيًا فإنه يسعى لتكوين علاقات مع الآخرين، وإن كانت محدودة، ويصعب، وربما يستحيل، عليه الانكفاء على الذات والاستغناء عن الآخرين.

 

وتحتل دراسة الشخصية مكانة هامة جدًا في علم النفس؛ وذلك لأن فهم الشخصية بشكل صحيح يساعد، بشكل كبير، على فهم طبيعة الإنسان بصفة عامة، وكذلك فهم العديد من الأنماط السلوكية للبشر وتفسيرها بشكل صحيح، كما أنك إذا فهمت شخصية الآخر فإن ذلك يُسهل لك التعامل معه؛ بل وتوقع سلوكه أيضًا.

 

والشخص المُنعزل هو من يعزل نفسه بإرادته عن البشر، فهو يعيش في عالمه الخاص، واهتمامه كله مركز حول ذاته، فهو لا يعنيه الآخرون في شيء، ولا يهتم بهم أبدًا؛ لأنه مُنشغل بنفسه فقط.

 

ويقول علماء النفس أن هذا النمط من الشخصية ليس مرضًا؛ وأن الشخص الانعزالي قد ينجح في مجالات عديدة، خاصة تلك المجالات التي تتطلب الهدوء والانعزال وفراغ الذهن.

 

وقد يكون الباعث لهذا الاختلاء والعزلة اشتداد الوحشة من سوء حال الناس، والهرب منها إلى الأنس بالله تعالى، والرجاء في هدايته إلى المخرج منها.

 

العزلة عبادة:

 

كان سعيد بن المسيب يقول: «العزلة عبادة»، فالعزلة خير من الجليس السوء، والجليس الصالح خير من العزلة.

 

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء قبل البعثة بثلاث سنوات، أي يتطهر ويتعبد، وكان تحنثه عليه الصلاة والسلام شهرًا من كل سنة هو شهر رمضان، يذهب فيه إلى غار حراء، على مبعدة نحو ميلين من مكة، ومعه أهله قريبًا منه، فيقيم فيه هذا الشهر، يُطعِم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة.

 

وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.

 

وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له؛ ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم.

 

ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة، ويفرغ لموحيات الكون ودلائل الإبداع، وتسبح روحه مع روح الوجود، وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال، وتتعامل مع الحقيقة الكبرى، وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.

 

ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.

 

لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة؛ فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره، أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدر به على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع! وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ، دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.

 

فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفًا ثقيلًا، وجهادًا طويلًا، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «قم».. فقام وظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا! لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى(1).

 

العزلة يمكن أن تكون مصنعًا للإنتاج، ومعملًا للأفكار، ومدرسة لتنظيم الحياة، والانفتاح على المستقبل!

 

وإذا ما توفرت في حياة العزلة شروط السكون النفسي، ووسائل التحصيل المعرفي، ومولدات الإلهام، فثمة مجال للإبداع الإنساني ابتداءً، وصولًا إلى الثورة العارمة انتهاءً!

 

وفي كتب التاريخ والتراث أخبار عن الإبداع في العزلة، كانت فيها العزلة سببًا لاختراق الفكر، وانسجام النفس، وإطلاق نظريات ورؤى تجديدية، عبر بوابات التأمل والمراجعة والهدوء.

 

ففي الجزائر لا تزال مغارة ابن خلدون الواقعة في مدينة فرندة، غرب العاصمة الجزائرية، شاهدة على مخاضات ولادة (المقدمة الخلدونية)، حيث فيها كان يجد السكينة ويعيش الإلهام.

 

وفي البئر أملى الإمام السرخسي كتابه المبسوط في خمسة عشر مجلدًا من عقله، وأملى شرح السير الكبير للشيباني في مجلّدين.

 

قال في المبسوط عند فراغه من شرح العبادات: هذا آخر شرح العبادات، بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمعة والجماعات.

 

وقال في آخر كتاب الطلاق: هذا آخر شرح كتاب الطلاق، بِالْمُؤْثَرَة من المعاني الدقاق، أملاه المحبوس عن الانطلاق، المبتلى بوحشة الفراق، مصليًا على صاحب البراق، وآله وصحبه أهل الخير والسباق، صلاة تتضاعف وتدوم إلى يوم التلاق، كتبه العبد الْبَرِيُّ من النفاق.

 

وقال في آخر كتاب العتاق: انتهى شرح العتاق، من مسائل الخلاف والوفاق، أملاه المستقبل للمحن بالاعتناق، المحصور في طرف من الآفاق، حامدًا للمهيمن الرزاق، ومصليًا على حبيب الخلاق، ومرتجى إلى لقائه بالأشواق، وعلى آله وصحبه خير الصحب والرفاق.

 

وقال في آخر شرح الإقرار: انتهى شرح كتاب الإقرار، المشتمل من المعاني ما هو سر الأسرار، وإملاء المحبوس في موضع الأشرار، مصليًا على النبي المختار(2).

 

العزلة الوقائية:

 

ففي الحديث: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»(3)، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.

 

وهذه الحالة المستثناة لجواز العزلة عن الناس، باتفاق العلماء، مقصورة على حال خشية الفتنة في الدين، وأما ما عدا ذلك فالمخالطة أفضل من العزلة.

 

قال العلماء: الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت، وقد جاء في الخبر: إذا كانت الفتنة فأخف مكانك، وكف لسانك، ولم يخص موضعًا دون موضع.

 

وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم، وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم، فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.

 

وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما النجاة يا رسول الله؟ فقال: «يا عقبة، أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»(4).

 

عن ميمون بن مهران قال: إن سعدًا لما دعوه إلى الخروج معهم أبى عليهم، ثم قال: لا، إلا أن تعطوني سيفًا له عينان بصيرتان، ولسان ينطق بالكافر فأقتله، والمؤمن فأكف عنه، وضرب لهم مثلًا فقال: مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء، فبينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق، والتبس عليهم، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين، فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح فنيخ فأناخوا، فأصبحوا، فذهب الريح وتبين الطريق، فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن.

 

قال أبو سليمان: قال ميمون: فصار الجماعة والفئة التي تدعي عليه الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه، الذين اعتزلوا الفتن حتى أذهب الله الفرقة، وجمع الألفة، فدخلوا الجماعة، ولزموا الطاعة وانقادوا، فمن فعل ذلك ولزمه نجا، ومن لم يلزمه وقع في المهالك(5).

 

وقال تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16]، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة، {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}، ولفظة {يَنْشُرْ} تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمة، وتتسع خيوطها، وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء، إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق، إنه الإيمان(6).

 

ومثل ذلك قول الله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، فقدم اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم، وقال تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ} [الكهف:16] الآية، فأشار إلى اعتزالهم واعتزال ما يعبدون من دون الله، وهذه أدلة كافية في وجوب مباينة الكفار، ومباينة الأفعال الخاصة بهم لمن كان قصده الحق والاهتداء بهداه، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك؛ ولكنه لا يعادي المشركين ولا يعتزلهم، فلا يكون بذلك مسلمًا؛ لأنه بعمله هذا مخالف لملة جميع الرسل، فلم يقل ولم يفعل كما أمره الله، وكما ذكر الله عن أبينا إبراهيم عليه السلام حيث يقول: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فتأمل كيف قدم الباري جل وعلا العداوة على البغضاء؛ لأن الأولى أهم من الثانية.

 

بيد أنه لا ينبغي أن يفهم معنى العزلة كما شذ البعض ففهموها حسب شذوذهم، وهو الانصراف عن الناس، واتخاذ الكهوف والجبال موطنًا، فذلك مخالف لهدية صلى الله عليه وسلم، إنما المراد هو استحباب اتخاذ الخلوة دواء لإصلاح الحال، والدواء لا ينبغي أن يؤخذ إلا بقدر وعند اللزوم، وإلا انقلب إلى داء ينبغي التوق منه.

 

فإن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعًا متماسكًا متناسقًا، فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.

 

وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: {صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ}، بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها؛ لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها، تقدمت أو تأخرت سواء، وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء(7).

 

فوائد هذه العزلة:

 

الفائدة الأولى: تقوية الصلة بالله عز وجل، وهذا أهم الجوانب وآكدها، فكل ما بعده إنما هو ثمرة ونتيجة له، ومن وسائل تحقيق ذلك: عناية الإنسان بالفرائض واجتناب المعاصي، ومحاسبة النفس على ذلك ومبادرتها بالعلاج حين التقصير، وبعد ذلك استزادته من النوافل كنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة والصيام والتلاوة والذكر.

 

الفائدة الثانية: التفرغ للفكر، والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق، فإن ذلك يستدعي فراغًا، ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك، خصوصًا في البداية.

 

قال أويس القرني رضى الله عنه: ما كنت أرى أن أحدًا يعرف ربه فيأنس بغيره، ومن تيسر له بدوام الذكر الأنس بالله، أو بدوام الفكر تحقيق معرفة الله، فالتجرد لذلك أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة.

 

قيل لبعض الحكماء: ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة؟ فقال: يستدعون بذلك دوام الفكرة، وتثبيت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة، ويذوقوا حلاوة المعرفة، وقيل لبعضهم: ما أصبرك على الوحدة! فقال: ما أنا وحدي، أنا جليسي الله تعالى، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه، وإذا شئت أن أناجيه صليت، وقال الفضيل: إذا رأيت الليل مقبلًا فرحت، وقلت: أخلو بربي، وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس، وأن يجيئني من يشغلني عن ربي.

 

الفائدة الثالثة: الابتعاد بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبًا بالمخالطة، ويسلم منها في الخلوة، مثل: الغيبة، والنميمة، والرياء، والتزين للناس، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه»(8).

 

وقال الخطابي: ولو لم يكن في العزلة إلا السلامة من آفة الرياء والتصنع للناس، وما يدفع إليه الناس إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم، وخداع المواربة في رضاهم، لكان في ذلك ما يرغب في العزلة ويحرك إليها(9).

 

الفائدة الرابعة: الخلاص من الفتن والخصومات، وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها، وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات، فالمعتزل عنهم في سلامة منها.

 

فيتعين على الإنسان الاعتزال، وذلك عندما لا يكون هناك فائدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من المستطاع الاحتفاظ بالمبادئ والقيم، ويكون في هذه الحالة من الأولى التزام البيوت؛ سلامة للدين، وحفظًا للذات من الانسلاخ.

 

الفائدة الخامسة: السلامة من شرور الناس وحسدهم، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالتهمة، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفى العزلة خلاص من ذلك، وبالجملة، أن ينقطعَ الناسُ عنك، وينقطع طمعك عن الناس.

 

وبالجملة، فالعزلة استثمار العقل، وقطف جنى الفكر، وراحة القلب، وسلامة العرض، وموفور الأجر، والنهي عن المنكر، واغتنام الأنفاس في الطاعة، وتذكر الرحيم، وهجر الملهيات والمشغلات، والفرار من الفتن، والبعد عن مداراة العدو، وشماتة الحاقد، ونظرات الحاسد، ومماطلة الثقيل، والاعتذار على المعاتب، ومطالبة الحقوق، ومداجاة المتكبر، والصبر على الأحمق.

 

وفي العزلة سترٌ للعورات: عورات اللسان، وعثرات الحركات، وفلتات الذهن، ورعونة النفس.

 

فالعزلة حجابٌ لوجه المحاسن، وصدفٌ لدر الفضل، وأكمامٌ لطلع المناقب، وما أحسن العزلة مع الكتاب، وفرةً للعمر، وفسحةً للأجل، وبحبوحةً في الخلوة، وسفرًا في طاعة، وسياحةً في تأمل.

 

وفي العزلة تحرص على المعاني، وتحوز على اللطائف، وتتأمل في المقاصد، وتبني صرح الرأي، وتشيد هيكل العقل(10).

 

العزلة العلاجية:

 

وفي قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم، ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى أعلاها الشرع، وتسلسل بها إلى الخصوصيات في البيت، فعزل هؤلاء الثلاثة عن زوجاتهم، فأمر كلًا منهن ألَّا يقربها زوجها إلى أن يحكم الله في أمرهم، حتى أن واحدة من هؤلاء جاءت لرسول الله وقالت: يا رسول الله، إن زوجي رجل كهدبة الثوب (يعني: ليست له رغبة في أمر النساء)، فأذن لها رسول الله في أن تخدمه على ألَّا يقربها.

 

ظل هؤلاء الثلاثة ثلاثين يومًا في هذا الامتحان العام، وعشرة أيام في الامتحان الخاص، ونجح المجتمع العام، ونجح المجتمع الخاص، وهكذا علَّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل الجريمة، فعزل المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع، لذلك كان وَقْع هذه العزلة قاسيًا على هؤلاء.

 

فهذا كعب بن مالك يحكي قصته ويقول: لقد ضاقت بي الأرض على سعتها، والحق يقول في وصف حالهم: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة:118].

 

فلما استوى المجتمع العام والمجتمع الخاص على منهج الله فرَّج الله عن هؤلاء الثلاثة، ونزل قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة:118].

 

إذن، ينبغي أن نعزل المجتمع كله عن أصحاب المنكر، لا أن نعزلهم هم في السجون، لكن مَنْ يضمن لنا استقامة المجتمع في تنفيذ هذه العزلة كما نفذها المجتمع المسلم على عهد رسول الله؟

 

العزلة المعاصرة:

 

هناك عزلة كاملة يعاني منها الشباب المسلم اليوم، عزلة كاملة عن دينه وعن تاريخه، وعن كل ما يهمه، ويجب عليه أن يعرفه، وهذا ما يعاني منه شباب الإسلام في معظم بقاع الدنيا؛ فهم أبناء الجيل الأول وأحفاد الصحابة الكرام، وحملة الأمانة، الأمانة التي حملتها هذه الأمة المباركة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].

 

ولكنهم مع ذلك لا يعلمون من هذه الأمانة ومن هذا الحمل شيئًا؛ بل يعيشون كما يعيش أبناء اليهود، والنصارى، والمجوس، وعباد البقر، والأصنام، لا يعملون شيئًا إلا لشهواتهم ولدنياهم، قد حببت إليهم هذه الحياة الدنيا، وغفلوا غفلة تامة عن الحياة الأخرى, وحبب إليهم كل كتاب إلا كتاب الله سبحانه وتعالى،وكل عظيم من العظماء أو العباقرة أو الأبطال إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام, وعظُم لديهم كل عالم في الدنيا إلا أن يكون عالمًا من علماء الأمة الصابرين المجاهدين.

 

وهذه عزلة عظيمة، وقع فيها وكان ضحيتها الشباب المسلم في أكثر أرجاء الأرض.

 

إن سبب هذه العزلة هو سيطرة العلمانيين والماديين والملحدين، وغيرهم من الأحزاب الخبيثة، أو من الطواغيت المجرمين الموالين لأعداء الله تعالى في الشرق والغرب، ففرضوا على هذه الأمة المباركة الطيبة المصطفاة هذه العزلة، وأصبحوا يربون الأشبال وأبناء الأسود كما تربى فراخ الدجاج، ولذلك نجد أن هذه الأمة فصلت عن تاريخها، وعزلت عن ماضيها، وعن مصدر حياتها، وعن مقومات وجودها، وأصبح هذا الشباب يعيش على هامش الحياة، وعلى هامش العالم، ونتيجة لذلك ظهرت هذه العزلة في هذا الشباب.

 

ومن نتائج هذه العزلة الانتماءات الكثيرة المتشعبة المتفرقة؛ فهذا يتجه إلى الشرق، وذاك يتجه إلى الغرب، وإذا ظهرت في الغرب اتجاهات فإنهم يتسارعون ويتسابقون إلى أيها يذهبون، وبأيها يأخذون، وكذلك في الغرب، وهكذا، فلا تكاد تجد اثنين من الشباب على قلب واحد، ومن لم تتخطفه الانتماءات المختلفة، ذات اليمين وذات الشمال إلى غير دين الله سبحانه وتعالى؛ فإن الشهوات تفتك به, وإن الإباحية والمادية تحيطان به من كل جهة، وهذا النوع من الشباب نستطيع أن نقول: إنه يعاني من العزلة الكاملة عن الإسلام، وهذا هو الذي يسعى إليه دائمًا أعداء الله سبحانه وتعالى، ويخططون له(11).

 

اعلم أن من السلف من آثر العزلة لفوائدها؛ كالمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم، والتخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة؛ كالرياء، والغيبة، والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، والأعمال الخبيثة من جلساء السوء إلى غير ذلك.

وأما أكثر السلف فذهبوا إلى استحباب المخالطة، واستكثار المعارف والإخوان، والتآلف والتحبب إلى المؤمنين، والاستعانة بهم في الدين تعاونًا على البر والتقوى، وإن فوائد العزلة المتقدمة يمكن نيلها من المخالطة بالمجاهدة ومغالبة النفس، وبالجملة فللمخالطة فوائد عظيمة تفوت بالعزلة.

 

فإن قلت: ما هي فوائد المخالطة والدواعي إليها؟ فاعلم أنها: التعليم والتعلم، والنفع والانتفاع، والتأديب والتأدب، والاستئناس والإيناس، ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق، واعتياد التواضع، واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال، والاعتبار بها(12).

 

ومخالطتك للناس ينبغي أن تكون فيما يعود عليك بالنفع، فإذا رأيت المخالطة قد تجر إلى ما لا تحمد عاقبته، فحينئذ كن حلس بيتك، والزم العزلة، وضابط هذا أن تخالط الناس في الواجبات؛ كالجمع والجماعات وفي المستحبات، ولا تخالطهم في المباحات إلا بما تدعو إليه المصلحة، وأما فضول المخالطة فتحرص على التخلص منه لما له من ضرر على دين العبد، هذه هي جادة أهل العلم والفضل المطروقة فالزمها، ولا تغل أو تجف فيفوتك من الخير بحسب غلوك أو جفائك.

 

وخذ هذا الكلام النفيس للعلامة ابن القيم رحمه الله، واجعله ميزانا للعزلة والمخالطة، يقول رحمه الله: «إن فضول المخالطة هي الداء العضال، الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات، تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة»(13).

 

_____________________________________________________

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (المزمل: 1).

(2) انظر: المبسوط، للسرخسي.

(3) رواه البخاري (19).

(4) رواه الترمذي (2406).

(5) العزلة، للخطابي، ص13.

(6) في ظلال القرآن (الكهف: 16).

(7) المصدر السابق (الصف: 2).

(8) رواه البخاري (6058).

(9) العزلة، ص61.

(10) ضوابط العزلة والخلطة، عصام خضر.

(11) العزلة الفكرية لدى الشباب المسلم، الدكتور سفر الحوالي.

(12) إحياء علوم الدين، للغزالي (2/263)، بتصرف.

(13) بدائع الفوائد، لابن القيم (2/273).