logo

السفر


بتاريخ : الاثنين ، 2 ربيع الأول ، 1442 الموافق 19 أكتوبر 2020
السفر

المسافة والمدة التي يقصر فيها المسافر الصلاة، ومسائل هامة في أحكام القصر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واقتفى أثره، وخطى خطاه، وبعد:

فإن من المسائل التي قد يحتار فيها المسلم – نظرا لتعدد مذاهب العلماء -: ما هو السفر الذي يقصر فيه الصلاة إذا سافر؟ ومتى يتم صلاته إذا أقام فترة من الزمن في المحل الذي وصل إليه مسافرا؟

ولما كانت تلك المسألة تتعلق بركن هو أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولما كانت وجهات الفقهاء قد تعددت في تلك القضية، كان من الأهمية بمكان أن نلخص ما يهم المسلم من ذلك، مبرزين خلافهم – عند الحاجة – وبما يقتضيه المقام، ومختارين ما نراه صوابا من أقوالهم مدعما بالدليل.

بيان مشروعية القصر:

القصر شرعه الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) النساء:101.

ويلاحظ في الآية الكريمة أن القصر علق على الخوف من فتنة الذين كفروا، ولكن هذا التعليق – كما نص أهل العلم – إنما جاء لبيان الواقع، حيث إن أغلب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت كان فيها خوف فيجوز القصر أيضاً حالة الأمن.

ويدل على ذلك حديث علي بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فقد أمن الناس قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته)[1].

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك)[2].

والغرض أن قصر الصلاة الرباعية في الأسفار سنة مؤكدة، عند جمهور الفقهاء[3].

السفر الذي تقصر فيه الصلاة

ومع حصول الاتفاق بل الإجماع على مشروعية قصر الصلاة في السفر، فقد اختلف الفقهاء؛ فرأى بعضهم أن ذلك مقصور على السفر المتقرب به كالحج والعمرة والجهاد، وممن قال بهذا القول الإمام أحمد[4].

ومنهم من أجازه في السفر المباح دون سفر المعصية، وبهذا القول قال مالك والشافعي.

ومنهم من أجازه في كل سفر قربة كان أو مباحا أو معصية، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وأبو ثور[5].

والسبب في اختلافهم: معارضة المعنى المعقول أو ظاهر اللفظ لدليل الفعل، وذلك أن من اعتبر المشقة أو ظاهر لفظ السفر لم يفرق بين سفر وسفر. وأما من اعتبر دليل الفعل قال: إنه لا يجوز إلا في السفر المتقرب به; لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يقصر قط إلا في سفر متقرب به.

وأما من فرق بين المباح والمعصية فعلى جهة التغليظ، والأصل فيه: هل تجوز الرخصة للعصاة أم لا؟ وهذه مسألة عارض فيها اللفظ المعنى، فاختلف الناس فيها لذلك[6].

هل يشترط لصحة قصر الصلاة: نية القصر؟

قال بذلك طائفة من أهل العلم، وهذا يقع كثيراً؛ يكبّر الإِنسان في الصلاة الرباعية، وهو مسافر، ولا يخطر على باله القصر، لكن بعدما يكبّر ويقرأ الفاتحة أو يركع أو ما أشبه ذلك يذكر أنه مسافر فينوي القصر، فعلى اختيار بعض المذاهب الفقهية: يجب عليه الإِتمام[7].

والصحيح أنه لا يلزمه الإِتمام، بل يقصر؛ لأن القصر هو الأصل في صلاة المسافر، وكما أن المقيم لا يلزمه نية الإِتمام، كذا المسافر لا يلزمه نية القصر[8].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الصواب: أن القصر لا يحتاج إلى نية، بل دخول المسافر في صلاته كدخول الحاضر، بل لو نوى المسافر أن يصلى أربعاً لكره له ذلك، وكانت السنة أن يصلى ركعتين)[9].

وقال: (وما علمت أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر، ولا في جمع، ... ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلى خلفهم، مع أن المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين، وخلفه أمم لا يُحصي عددهم إلا الله، كلهم خرجوا يحجون معه، وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد، لا سيما النساء، صلوا معه ولم يأمرهم بنية القصر)[10].

هل المعتبر في السفر نية الأصل أو التابع؟

 النَّاس بحذاء السّفر صنفان: أحدهما مُسَافر بسفر نَفسه، وَالْآخر مُسَافر بسفر غَيره، وَكَذَلِكَ الْمُقِيم.

فَالَّذِي هُوَ مُسَافر بسفر غَيره على خَمْسَة أوجه: أحدها: الْجَيْش مَعَ الامير. وَالثَّانِي: العبيد مَعَ السَّيِّد. وَالثَّالِث: النسوان مَعَ الازواج. وَالرَّابِع: الْأَجِير مَعَ الاستاذ. وَالْخَامِس: المتعلمون مَعَ الْعَالم اذا كَانُوا متابعين لَهُ ملازمين اياه على الدَّوَام فهم مسافرون بِسَفَرِهِ يُقِيمُونَ بإقامته.

والمعتبر في النية هو نية الأصل دون التابع حتى يصير العبد مسافرا بنية مولاه، والزوجة بنية الزوج، وكل من لزمه طاعة غيره كالسلطان وأمير الجيش؛ لأن حكم التبع حكم الأصل.

وأما الغريم مع صاحب الدين: فإن كان مليا فالنية إليه؛ لأنه يمكنه قضاء الدين والخروج من يده، وإن كان مفلسا فالنية إلى الطالب؛ لأنه لا يمكنه الخروج من يده فكان تابعا له[11].

هل السجين يقصر الصلاة؟

المسجون في موضع يبعد عن وطنه مسافة القصر، إما أن يكون مسجونًا بظلم أو بحق، فإن كان مسجونًا بظلم فإنه يقصر الصلاة، ولو طالت مدته.

قال في مطالب أولي النهى - في فقه الحنابلة - في بيان من يباح له القصر: " أو حبس ظلمًا أو حُبس بنحو مرض، كثلج وجليد ومطر، أي فيقصر أبدًا "، إلى أن قال:" قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسافر يقصر ما لم يُجمع إقامة، ولو أتى عليه سنون، وقوله: ما لم يجمع، أي ما لم يعزم على الإقامة وينوها. فإن حبس بحق لم يقصر "[12].

وقال في الإنصاف: " يقصر من حُبس ظلمًا، أو حبسه مرض أو مطر ونحوه، على الصحيح من المذهب، بخلاف الأسير"[13].

ووجه عدم القصر لمن حبس بحق، أنه عاصٍ، فلا يترخص؛ إذ الرخص لا تناط بالمعاصي.

والذي يظهر أن الحنابلة رخصوا للمحبوس ظلمًا في القصر؛ لأنه لا يدري متى يخرج من حبسه، ولا يعلم أنه يبقى أربعة أيام فأكثر فيه، ولهذا نقول: إن المحبوس ظلمًا اليوم، إن حُددت مدته وكانت أكثر من أربعة أيام، فليس له القصر، وإن كان لا يدري أيخرج اليوم أو غداً فهذا يقصر، وفي هذا القول احتياط للعبادة[14].

من كان سفره دائماً هل يقصر الصلاة، ويترخص برخص السفر؟

قصر الصلاة متعلق بالسفر، فما دام الإنسان مسافراً فإنه يشرع له قصر الصلاة، سواء كان سفره نادراً أم دائماً، إذا كان له وطن يأوي إليه ويعرف أنه وطنه[15].

الحكم لو أقام المسافر في بلد غير بلده الأصلي بنية الاستيطان

المسافر إذا انتقل عن بلده الأصلي انتقالاً كاملاً، فإن حكمه يكون كحكم المستوطنين الأصليين في كل شيء، فلا يترخص برخص السفر في هذا البلد الذي انتقل إليه، بل يترخص إذا سافر منه ولو إلى بلده الأصلي، كما لو كان بلده الأصلي مكة فانتقل للسكنى في المدينة فإنه يعتبر في المدينة كأهلها الأصليين.

فلو سافر – مثلا - إلى مكة للعمرة أو الحج أو طلب العلم أو زيارة قريب أو تجارة أو غيرها فحكمه في مكة حكم المسافرين وإن كان قد تزوج فيها من قبل وتأهل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة في غزوة الفتح وحجة الوداع مع أنه قد تزوج في مكة وتأهل فيها من قبل[16].

ما هي رخص السفر؟ ومتى يترخص المسافر برخص السفر:

رخص السفر: صلاة الرباعية ركعتين، والفطر في رمضان، ويقضيه عدة من أيام أخر، والمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها ابتداء من أول مسح.

وسقوط المطالبة براتبة الظهر والمغرب والعشاء، أما راتبة الفجر وبقية النوافل فإنها باقية على مشروعيتها واستحبابها.

والجمع بين الصلاتين اللتين يجمع بعضهما إلى بعض، وهما الظهر والعصر أو المغرب والعشاء، ولا يجوز تأخير المجموعتين عن وقت الخيرة منهما، فلا يجوز تأخير الظهر والعصر المجموعتين إلى غروب الشمس، ولا تأخير المغرب والعشاء المجموعتين إلى ما بعد نصف الليل[17].

وقد ذكر العلماء- رحمهم الله - انه لا يشترط لفعل القصر والجمع، حيث أبيح فعلهما، أن يغيب الإنسان عن البلد، بل متى خرج من سور البلد جاز له ذلك، وتبدأ أحكام السفر إذا فارق المسافر وطنه وخرج من عامر قريته أو مدينته وإن كان يشاهدها، ولا يحل الجمع بين الصلاتين حتى يغادر البلد إلا أن يخاف أن لا يتيسر له صلاة الثانية أثناء سفره.

قال النووي رحمه الله: (مذهبنا أنه إذا فارق بنيان البلد قصر، ولا يقصر قبل مفارقتها وإن فارق منزله، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء)[18].

مسافة القصر:

  • جمهور الفقهاء يضبطون السفر المبيح للقصر بالمسافة، وإن اختلفوا في مقدارها أو تحديدها

اختلف الفقهاء أيضا في مسافة السفر التي يشرع من أجلها القصر؛ فمنهم من يقدرها، وهم الجمهور؛ فقدروها بسبعين كيلو مترا، فما زاد: سبعة وسبعين، وثمانين، وواحد وثمانين، واثنين وثمانين، وخمسة وثمانين، وستة وثمانين، وسبعة وثمانين، وتسعين، واثنين وتسعين كيلو متراً [19].

قال الشيخ عبد الله البسام: (اختلف العلماء في تقدير المسافة التي تقصر فيها الصلاة ويباح فيها الرخص السفرية: فذهب أبو حنيفة إلى أن أقل مسافة تقصر فيها الصلاة هي مسيرة ثلاثة أيام وتقدر بثلاث مراحل لسير الإبل المحملة ولا يصح بأقل من هذا المسافة.

وذهب الأئمة الثلاثة إلى أن أقل مسافة للقصر هي مرحلتان لسير الإبل المحملة أيضاً. وتقدر المسافة بأربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فتكون على وجه التقريب حوالي77كيلومتر، وتباح رخص السفر ولو قطع هذه المسافة في ساعة واحدة، كما لو قطعها بسيارة أو طيارة أو غير ذلك)[20].

وقال الشيخ ابن باز: (فإذا سافر ما يعد سفراً من سبعين كيلو.. ثمانين كيلو.. أكثر ذلك، وهما في العهد الأول مرحلتان للإبل، يعني: يومين قاصدين، فلما ذهبت الإبل صارت السيارات الآن سبعين كيلو.. ثمانين كيلو أو ما يقاربها مرحلة تعد سفراً، هذا هو الأحوط للمؤمن، إذا كان في هذه المسافة قصر، وإذا كان في أقل منها كالخمسين والأربعين فالأحوط ألا يقصر؛ لأنها تشبه الضواحي للبلد، وتقرب من البلد بالنسبة إلى سرعة السيارات)[21].

فيجوز عند هؤلاء للمسافر القصر إذا قطع تلك المسافة، بغض النظر عن وسيلة السفر، سواء سافر بالطائرة أو بالسيارة أو بالباخرة[22].

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو ‏ ‏محرم ‏ ‏منها"[23].  قالوا: فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيرة الثلاثة أيام سفراً. ومنهم من حدد المسيرة وهي 24 فرسخاً أي : 72 ميلاً ، أي : ما يقارب 130 كيلاً.

 

  • مذهب طائفة من العلماء أن السفر المبيح للقصر ينضبط بالعرف لا غير

ومن العلماء من لا يرى التحديد بالمسافة، ويرجع الأمر في ذلك إلى العرف؛ فكل ما يعده العرف سفرا فهو الذي يشرع فيه القصر وغيره من الأحكام التي تتعلق بالسفر، وإن لم يبلغ الثمانين كيلو متراً، وما لا يعده العرف كذلك، وقال الناس عنه: إنه ليس بسفر فليس بسفر ولو بلغ مائة كيلو متر أو أكثر، فلا يشرع فيه أحكام السفر[24].

وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وطائفة من الفقهاء، وعللوا بأن الله تعالى لم يحدد مسافة معينة لجواز القصر، بل آية سورة النساء: (وإذا ضربتم في الأرض) جاءت مطلقة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد مسافة معينة لجواز القصر. وقال أنس بن مالك رضى الله عنه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال او فراسخ قصر الصلاة وصلى ركعتين))[25].

قالوا: فلما لم يرد تحديد المسافة في الكتاب ولا في السنة، كان المرجع في هذا إلى العرف.

بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر امرأة بريداً إلا ومعها محرم يحرم عليها)[26].

وعن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلاً أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين فقلت له، فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل[27].

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وتقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً سواء قل أو كثر ولا يتقدر بمدة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره صاحب المغني، وسواء كان مباحا أو محرما، ونصره ابن عقيل في موضع، وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي ...)[28].

وقال أيضا: (فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع ولا لغة، ولا عرف ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال ولا فراسخ)[29].

وقال أيضا: (وقد تنازع العلماء هل يختص بسفر دون سفر أم يجوز في كل سفر؟ وأظهر القولين أنه يجوز في كل سفر قصيرا كان أو طويلا؛ كما قصر أهل مكة خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ...) إلى أن قال: (ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم مسافة القصر بحد لا زماني ولا مكاني، والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة ليس على شيء منها حجة وهي متناقضة، ولا يمكن أن يحد ذلك بحد صحيح، فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار، وحركة المسافر تختلف.

والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، ويقيد ما قيده، فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر، وكذلك في جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة والمسح على الخفين. ومن قسم الأسفار إلى قصير وطويل، وخص بعض الأحكام بهذا وبعضها بهذا، وجعلها متعلقة بالسفر الطويل فليس معه حجة يجب الرجوع إليها)[30].

  • إذا كان العرف يقضي بأن السفر هو ما كان فيه أخذ الأهبة والاستعداد بالزاد والمزاد؛ فهو معتبر

وهؤلاء يضبطون ذلك العرف بالحاجة إلى إعداد العدة والتأهب للسفر؛ فإذا احتاج إلى زاد ومزاد، أي طعام وماء، فهذا يعد سفرا وإن لم يبلغ المسافة المقررة عند من قال بها.

قال شيخ الإسلام: (ولهذا قال طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ إنه يقصر في السفر الطويل والقصير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت للقصر مسافة، ولا وقتًا، وقد قصر خلفه أهل مكة بعرفة ومزدلفة، وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو أصح الأقوال في الدليل‏.‏ ولكن لابد أن يكون ذلك مما يعد في العرف سفرًا، مثل أن يتزود له، ويبرز للصحراء، فأما إذا كان في مثل دمشق، وهو ينتقل من قراها الشجرية من قرية إلى قرية، كما ينتقل من الصالحية إلى دمشق، فهذا ليس بمسافر، كان أن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بمنزلة القرى المتقاربة عند كل قوم نخيلهم ومقابرهم ومساجدهم، قباء وغير قباء، ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفرًا. ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقصرون في مثل ذلك، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏}‏ ‏[‏التوبـة‏:‏ 101‏]‏، فجميع الأبنيـة تدخل في مسمى المدينة، وما خرج عن أهلها، فهو من الأعراب أهل العمود‏.‏ والمنتقل من المدينة من ناحية إلى ناحية، ليس بمسافر، ولا يقصر الصلاة)[31].

وقال أيضا: (والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا‏.‏ فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني‏.‏ فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا‏. فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرًا لأجله‏.‏ والعمل لا يكون إلا في زمان‏.‏ فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد، سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد، لم يسم سفرًا، وإن بعـدت المسافـة‏.‏ فالأصل هـو العمل الذي يسمي سفـرًا، ولا يكون العمـل إلا في زمـان، فيعتبر العمل الذي هو سفر‏.‏ ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم، ليس له حد في الشرع ولا اللغة، بل ما سموه سفرًا فهو سفر‏.).

وقال: (وقد يركب الرجل فرسخا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ولا يسمي مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه‏)[32].

الترجيح:

الذي يظهر أن قول شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن معه، بالرجوع للعرف، أقرب إلى الصواب، وذلك لقوة حجته، ولأنه أقرب إلى روح الشريعة التي جاءت بالتيسير، وهو الذي يتماشى مع الترخيص للمسافر في إسقاط كثير من الواجبات، ولأن كثرة التقديرات عند من يرى التحديد بالمسافة، وهم الجمهور، تشعر بضعف هذا الاتجاه، واضطراب هذا القول. ومع ذلك فلا حرج عند اختلاف العرف في هذا الباب أن يأخذ الإنسان بالقول بالتحديد، فيعمل بقول الجمهور عند الاشتباه، احتياطا للعبادة، أما مادام الأمر منضبطاً فالرجوع إلى العرف هو الصواب[33].

قال الشيخ سيد سابق رحمه الله: (وأما ما ذهب إليه الفقهاء من اشتراط السفر الطويل - وأقله مرحلتان عند البعض وثلاث مراحل عند البعض الاخر - فقد كفانا مئونة الرد عليهم الامام أبو القاسم الخرقي قال في المغني: قال المصنف: ولا أرى لما صار إليه الائمة حجة؛ لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف. وقد روي عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا، ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله. وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين:

أحدهما أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها ولظاهر القرآن لان ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الارض لقوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)، وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولا كل ضرب في الارض.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر ثلاثة أيام" جاء لبيان مدة المسح فلا يحتج به ههنا، وعلى أنه يمكن قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم سفرا فقال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم".

والثاني أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الاجماع على خلافه)[34] .

تنبيه هام:

ونشير هنا إلى أن في المسألة قولا ثالثا يجدر اعتباره لكونه مدعما بالأدلة الصحيحة، كسابقه، وهو ليس ببعيد عن قول شيخ الإسلام ومن معه، بل لعله يندرج فيه، ولذا آثرنا مجرد التنبيه عليه، وهو ما اختاره الشيخ الألباني، فقال تعليقا على حديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة. وفي رواية: صلى ركعتين[35]:

(يدل هذا الحديث على أن المسافر إذا سافر مسافة ثلاثة فراسخ (والفرسخ نحو ثمان كيلو مترات) جاز له القصر، وقد قال الخطابي في " معالم السنن " (2 / 49): " إن ثبت الحديث كانت الثلاثة الفراسخ حدا فيما يقصر إليه الصلاة، إلا أني لا

أعرف أحدا من الفقهاء يقول به ". وفي هذا الكلام نظر من وجوه:

الأول: أن الحديث ثابت كما تقدم، وحسبك أن مسلما أخرجه ولم يضعفه غيره.

الثاني: أنه لا يضر الحديث ولا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

الثالث: أنه قد قال به راويه أنس بن مالك رضي الله عنه وأفتى به يحيى بن يزيد الهنائي راويه عنه كما تقدم، بل ثبت عن بعض الصحابة القصر في أقل من هذه المسافة، فروى ابن أبي شيبة (2 / 108 / 1) عن محمد بن زيد بن خليدة عن

ابن عمر قال: " تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال ". وإسناده صحيح، كما بينته في إرواء الغليل (رقم 561).

ثم روى من طريق أخرى عنه أنه قال: " إني لأسافر الساعة من النهار وأقصر ". وإسناده صحيح، وصححه الحافظ في الفتح (2 / 467). ثم روى عنه (2 / 111 / 1) عنه: " أنه كان يقيم بمكة، فإذا خرج إلى منى قصر ". وإسناده صحيح أيضا.

ويؤيده أن أهل مكة لما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى في حجة الوداع قصروا أيضا كما هو معروف مشهور في كتب الحديث والسيرة وبين مكة ومنى فرسخ كما في معجم البلدان. وقال جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول: " لو خرجت ميلا قصرت الصلاة ". ذكره الحافظ وصححه.

ولا ينافي هذا ما في الموطأ وغيره بأسانيد صحيحة عن ابن عمر أنه كان يقصر في مسافة أكثر مما تقدم، لأن ذلك فعل منه، لا ينفي القصر في أقل منها لو سافر إليها، فهذه النصوص التي ذكرناها صريحة في جواز القصر في أقل منها، فلا يجوز ردها، مع دلالة الحديث على الأقل منها. وقد قال الحافظ في " الفتح " (2 / 467 - 468): " وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه.

وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر، لا غاية السفر! ولا يخفى بعد هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكره في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة أصلى ركعتين ركعتين حتى أرجع فقال أنس: فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدئ القصر منه.

ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها. ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به. فإن كان المراد به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم، لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ، فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطا. وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد ابن المسيب: أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم. والله أعلم ". قلت: وإسناد هذا الأثر عند بن أبي شيبة (2 / 15 / 1) صحيح.

وروي عن اللجلاج قال: " كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال فنتجوز في الصلاة ونفطر ". وإسناده محتمل للتحسين رجاله كلهم ثقات غير أبي الورد بن ثمامة روى عنه ثلاثة، وقال ابن سعد: " كان معروفا قليل الحديث ".

وقد دلت هذه الآثار على جواز القصر في أقل من المسافة التي دل عليها الحديث، وذلك من فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإن السفر مطلق في الكتاب والسنة، لم يقيد بمسافة محدودة كقوله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة) الآية.

وحينئذ فلا تعارض بين الحديث وهذه الآثار، لأنه لم ينف جواز القصر في أقل من المسافة المذكورة فيه، ولذلك قال العلامة ابن القيم في " زاد المعاد في هدي خير العباد " (1 / 189): " ولم يحد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، والله أعلم ".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفرا في عرف الناس، فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم "[36].

وخلاصة ما سبق:

 أنه إذا جاوز المرء محله يريد السفر الذى يتزود له (طعام - شراب - استعداد للمبيت) فإنه بمجرد تجاوزه هذا المحل للسفر يبدأ القصر، كما ثبت هذا عن غير واحد من الصحابة كأنس رضى الله عنه وغيره.

أما إذا تجاوز المحل لا للسفر فإنه لا يقصر، كما كان عليه عمل الصحابة؛ فإنهم كانوا يخرجون من المدينة لزراعاتهم فما كانوا يقصرون[37].

المدة التي يُشرع للمسافر القصر فيها:

وقد اختلف الفقهاء في المسافر إذا وصل إلى البلد الذي أراده بسفره، أو أقام في مكان، ما المدة التي يُشرع له القصر فيها؟ على أقوال عدة تربو على العشرة، ذكر أشهرها ابن رشد المالكي.

أشهر مذاهب الفقهاء في المسألة، وسبب اختلافهم:

قال ابن رشد: (وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: مذهب مالك، والشافعي أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم. والثاني: مذهب أبي حنيفة، وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم. والثالث: مذهب أحمد، وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. وسبب الخلاف: أنه أمر مسكوت عنه في الشرع، والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه جعل لها حكم المسافر)[38].

ونعرض لهذه المذاهب، وما أضيف عليها، مع ذكر الأدلة والمناقشة، محاولة للوصول إلى القول الذي تطمئن إليه النفس، ويسعفه الدليل.

القول الأول: أن المسافر إذا نوى الإقامة أربعة أيام فما زاد لم يقصر، وإن نوى إقامة أقل قصر، وهذا مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة، إلا أن المالكية والشافعية قالوا: أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، والحنابلة حدودها بإحدى وعشرين صلاة. فعندهم ينقطع حكم السفر بنية إقامة مدة يصلي فيها أكثر من عشرين صلاة.

قال النووي في المجموع (شافعي): (قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إن نوى أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج انقطع الترخص وإن نوى ذلك لم ينقطع، وهو مذهب عثمان بن عفان وابن المسيب ومالك وأبي ثور)[39].

وقال المرداوي (حنبلي): (وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من عشرين صلاة أتم، وإلا قصر، وهذه الرواية هي المذهب)[40].

وقال ابن قدامة: عن أحمد رحمه الله أن المدة التي تلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها هي ما كان أكثر من أحدى وعشرين صلاة .. وعنه: أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور[41].

وقال أبو الوليد القرطبي (مالكي): (ولا يزال المسافر يقصر ما لم يمر بموطن يكون له محل إقامة بإجماع، أو ينوي إقامة أربعة أيام على اختلاف. والاختلاف في هذا كثير خارج المذهب)[42].

 وجاء في شرح زروق على الرسالة: (وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع أو ما يصلي فيه عشرين صلاة أتم الصلاة حتى يظعن من مكانه ذلك): يعني أن القصر بشرطه تقطعه نية الإقامة أربعة أيام صحاح فأكثر هذا مذهب ابن القاسم فيلغي يوم دخوله بعد الفجر ويوم خروجه على المشهور في ذلك[43].

القول الثاني: أن المسافر إذا نوى الإقامة عشرة أيام فأكثر أتم، وإن نوى إقامة أقل منها قصر، وهذا قول جماعة من أهل العلم[44].

القول الثالث: أن المسافر إذا نوى الإقامة خمسة عشر يومًا فأكثر أتم، وإن نوى إقامة أقل من تلك المدة يقصر، وهو مذهب أبي حنيفة.

قال السمرقندي: (إذا نوى المسافر إقامة خمسة عشر يوما في مكان يصلح للإقامة فإنه يصير مقيما، فلا بد من ثلاثة أشياء نية الإقامة ونية مدة الإقامة والمكان الصالح للإقامة، فإنه إذا أقام في مصر أو قرية أياما كثيرة لانتظار القافلة أو لحاجة أخرى ولم ينو الإقامة لا يصير مقيما عندنا)[45].

القول الرابع: أنه يقصر تسعة عشر يوما، فإن زاد عليها أتم، وهو مروي عن ابن عباس[46].

القول الخامس: أن المسافر يقصر عشرين يومًا بلياليها ثم يُتمُّ بعد ذلك، نوى الإقامة أو لم ينو، وهو مذهب ابن حزم الظاهري، وتبعه الشوكاني إلا أنه فرَّق بين من نوى الإقامة فقال: لا يقصر فوق أربعة أيام، وبين من لم ينو ولم يعرف متى يخرج فإنه يقصر عشرين ثم يُّتم، وهذا قول عند الشافعية[47].

القول السادس: أن المسافر يقصر أبدًا ما لم ينو إقامة دائمة، وهو مذهب الحسن، وقتادة، وإسحاق، واختاره ابن تيمية، وبه كان يفتي الشيخ ابن عثيمين[48].

أدلة القول الأول (الجمهور): أن المسافر إذا نوى الإقامة أربعة أيام فما زاد يتم، وإن نوى إقامة أقل منها يقصر:

أولا: أن ذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة في حجة الوداع، وهي أكثر مدة ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي فيها يقصر وقد علمها ونواها قبل ذلك، وهو مكثه في مكة لما قدم إلى الحج؛ فقد قدم مكة في اليوم الرابع فصلى بها الظهر وأقام بها الخامس والسادس والسابع وخرج منها في الثامن يوم التروية إلى منى فصلى بها الظهر.

قالوا: فمجموع إقامته أقل من أربعة أيام، وكان عازماً على إقامتها، وقد كان يقصر الصلاة في هذه المدة، فلا يشرع القصر في أكثر منها إبقاء على الأصل وهو الإتمام.

ثانيا: أن السنة بينت أن ما دون الأربعة لا يقطع حكم السفر؛ ففي الصحيحين من حديث العلاء الحضرمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً". وقال: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر"[49].

قالوا: ووجه ذلك أن المهاجر ممنوع من الإقامة في مكة، فدل على أن الثلاثة لا تعد إقامة، وأن الأربعة إقامة، فمن أقام ثلاثة أيام ليس في حكم المقيم، بل هو في حكم المسافر. ولذلك أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في عمرته ثلاثاً يقصر الصلاة.

قال النووي: (ففيه دليل على أن المسافر إذا نوى إقامة دون أربعة أيام سوى يومي الدخول والخروج يقصر وأن الثلاثة ليست إقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام هو والمهاجرون ثلاثًا بمكة فدل على أن الثلاثة ليست إقامة شرعية)[50].

وقال ابن حجر: "وفقه هذا الحديث: أن الإقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، وبهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر"[51].

ثالثا: أثر عمر بن الخطاب: «أنه ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة ثلاث ليال يتسوَّقون بها، ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال»[52].

قالوا: دلَّ الأثر على أن الثلاث حدُّ السفر وما فوقها حد الإقامة، بدليل نهي عمر عن مكث تجار اليهود والنصارى بالمدينة فوق ثلاث. قال الشافعي رحمه الله: (فأشبه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقام المهاجـر ثلاثًا حد مقام السفر، وما جاوزه كان مقام الإقامة... وأجلى عمر رضي الله تعالى عنه أهل الذمة من الحجاز وضرب لمن يقدم منهم تاجرًا مقام ثلاث، فأشبه ما وصفت من السنة)[53].

رابعا: جاءت السنة بأن ضيافة المسافر ثلاثة أيام، فإذا زاد اعتبر مقيمًا[54]. وهذا فيه إشارة إلى حد الإقامة التي تقطع حكم السفر.

خامسا: أن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض[55].

سادسا: أن هذا هو الذي عليه الأكثرون، وفيه احتياط للدين، وبعد عن الخطر بهذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام[56].

مناقشة أدلة الجمهور:

1 -  فأما استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلَّى الصبح في اليوم الثاني، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد عزم على إقامتها.

فيجاب عنه: بأنه ليس فيه أن هذه المدة هي أدنى مدة للإقامة، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام أكثر من تلك المدة يقصر الصلاة، كما في أدلة أصحاب الأقوال الأخرى التي تحد المدة بما يزيد على أربعة أيام.

2 - وأما استدلالهم بحديث العلاء بن الحضرمي: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا».

فيجاب عنه: بأن معنى الحديث أن من هاجر من مكة قبل الفتح يحرم عليه الاستيطان بمكة إلا أن يقيم بعد فراغه من نسكه ثلاثة أيام لا يزيد، وأما المسافر فلا يكره له الزيادة على ثلاثة أيام في مكة فكيف يقاس عليه!! ثم ليس فيه إشارة على المدة التي إذا أقامها المسافر أتمَّ؟!

ثم إن في الحديث أن ما زاد على ثلاثة أيام للمهاجر يكون داخلاً تحت المسافر لا المقيم، وعندهم أن ما زاد على الثلاثة للمسافر فإقامة صحيحة، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم بخلاف قولهم.

3 – وأما أثر عمر بن الخطاب: «أنه ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة ثلاث ليال يتسوَّقون بها، ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال».

فيجاب عنه: بأنه لا يدل على حدِّ السفر بثلاث، كما بينَّا في الذي قبله.

4 – وأما استدلالهم بأن ضيافة المسافر ثلاثة أيام، فإذا زاد اعتبر مقيمًا!

فيجاب عنه: بأنه لا يدلُّ على أقل مدة للإقامة كما هو واضح.

5- وأما قولهم: (... فمجموع إقامته أقل من أربعة أيام، وكان عازماً على إقامتها، وقد كان يقصر الصلاة في هذه المدة، فلا يشرع القصر في أكثر منها إبقاء على الأصل وهو الإتمام).

فجوابه: أن هذا لا يسلم به إلا بعد إثبات القول بتحديد تلك المدة المدعاة. وهيهات هيهات.  فيبطل الاستدلال؛ لأن المخالف يقول: هو ليس بمقيم، بل لا يزال مسافرا.

يقول ابن عثيمين: " الأصل في صلاة السفر هو القصر فلا يحتاج إلى نية، وقول المؤلف رحمه الله الأصل الإتمام، هذا ليس بصحيح، فالحديث صحيح صريح بأن الأصل هو القصر، أول ما فرضت الصلاة ركعتين"[57].

أدلة القول الثاني: أن المسافر إذا نوى الإقامة عشرة أيام فأكثر يتم، وإن نوى أقل منها يقصر:

استدلوا بحديث أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة» قيل له: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: «أقمنا بها عشرًا»[58].

وفي لفظ: «أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أيام نقصر الصلاة».

ونوقش ذلك بما أن الحديث لا يفيد تقييد مدة الإقامة بعشرة أيام، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم، ثبت عنه القصر في إقامة مدة أطول منها، كما سيأتي.

أدلة القول الثالث: أن المسافر إذا نوى الإقامة خمسة عشر يومًا فأكثر أتم، وإن نوى إقامة أقل منها يقصر:

استدلوا بما يلي:

1 – ما جاء عن ابن عباس قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة»[59].

2- ما جاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها»[60].

قالوا: هذا التحديد لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع!!

ونوقش ذلك بما يلي:

يجاب عما احتج به ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزم على الإقامة هذه المدة، وإنما أقام لتأسيس قواعد الإسلام في مكة، وإزالة آثار الشرك من غير أن ينوي مدة معلومة، والمسافر إذا لم ينو مدة معلومة له القصر ولو طالت المدة كما تقدم[61].

وأما قولهم: هذا التحديد لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع!!

فيجاب عنه بأنه قول صحابي قد خالفه غيره فلا يكون حجة، ثم إن الثابت عن ابن عباس وابن عمر خلافه، فقد قال ابن عباس: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا»[62].

أدلة القول الرابع: أنه يقصر تسعة عشر يوما، فإن زاد عليها أتم:

واستدل: بما ثبت عن ابن عباس قال: "أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة. قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا تسعة عشر يوماً قصرنا، وإذا زدنا أتممنا"[63].

ونوقش ذلك بما يلي:

رد جمهور الفقهاء على الحديث الذي استدلوا به بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعزم الإقامة بل كان عليه الصلاة والسلام ينوي الخروج غداً أو بعد حتى خرجت هذه المدة فكانت اتفاقاً، ونحن وأنتم نقول: إن من مكث في بلدة ما ولم يعزم إقامة فإنه يقصر أبداً كما سيأتي.

ورُدَّ هذا: بأنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أنه أقام تسعة عشر يوماً بنية، ويؤيده من القرائن:

أولا: أن ذلك كان في فتح مكة كما في رواية لأبي داود: (وذلك في عام الفتح) فأقام فيها تلك المدة، ويبعد أن يكتفي بمدة أقل منها إذ مكة كانت محل أهل الشرك، وكان العرب يقتدون بهم في سلمهم وكفرهم حتى لما آمنوا وأسلموا، دخل الناس في دين الله أفواجاً، فهي مكة التي كان فيها صناديد الكفار فيبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى إقامة يوم أو يومين أو ثلاثة.

ثانيا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يبعد أن يضعف في التقدير هذا الضعف من تسعة عشر يوماً إلى أربعة أو ثلاثة أيام فيقدر ثلاثة أيام أو أربعة، فتصل المدة إلى تسعة عشر يوماً[64].

 أدلة القول الخامس: أن المسافر يقصر عشرين يومًا بلياليها ثم يُتمُّ بعد ذلك:

استدلوا: بما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: " أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة "[65].

كما استدلوا بأدلة المذهب الثالث، إلا أنهم نظروا إلى أمرين:

الأول: أنه لا اعتبار لنية الإقامة هنا، لأن النيات لا دخل لها في الأعمال التي لم يأمر الله تعالى بها، كالسفر والإقامة، وإنما تجب النيات في الأعمال التي أمر الله بها، فلا يجوز أن تؤدى بغير نية.

الثاني: مراعاة الأصل، وهو الإتمام، قالوا: «والحق أن الأصل في المقيم الإتمام، لأن القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر، والمقيم غير المسافر، فلولا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة لكان المتعيِّن هو الإتمام، فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلا بدليل، وقد دلَّ الدليل على القصر مع التردد على عشرين يومًا كما في حديث جابر، ولم يصحَّ أنه صلى الله عليه وسلم قصر في الإقامة أكثر من ذلك، فيقصر على هذا المقدار، ولا شك أن قصره صلى الله عليه وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك.[66]

ونوقش ذلك بما يلي:

فيجاب عن استدلالهم بأن الحديث قد اختلف فيه علي "يحيى بن أبي كثير"، فرواه معمر عن يحيى موصولاً، ورواه الثقات عنه مرسلاً وهو الراجح كما رجح ذلك الدارقطني وغيره فهو مرسل، والمرسل ضعيف[67].

وأجيب بأن من العلماء من صححه، كالشيخ الألباني رحمه الله[68].

أدلة القول السادس: أن المسافر يقصر أبدًا ما لم ينو إقامة دائمة:

أولا: فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفي فتح مكة.

ففي حديث ابن عباس قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذ سافرنا فأقمنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا»[69]. وفي حديث جابر قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة»[70].

وفي حديث عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: «يا أهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سَفْر»[71].

ثانيا: الآثار الواردة عن الصحابة تشهد لهذا القول، وتؤكد هذا الأصل.

فعن أبي المنهال العنزي قال: قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير؟ قال: «صلِّ ركعتين»[72].

وعن الحسن أن «أنس بن مالك أقام بنيسابور سنة أو سنتين، وكان يصلي ركعتين ثم يسلِّم، ثم يصلي ركعتين، ولا يُجَمِّع»[73].

وعنه أن عبد الرحمن بن سمرة «شتا بكابل شتوة أو شتوتين، لا يُجمِّع، ويصلي ركعتين»[74].

وعن أنس قال: «أقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة»[75].

وعن أبي وائل قال: «كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين حتى انصرف»[76].

ومجموع هذه الآثار يثبت هذا الأصل.

قالوا: دلت هذه الأحاديث على أن حقيقة المسافر لا تتعلق بمدة معينة، وإنما قصر النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانية عشر وتسعة عشر وعشرين، لأنه كان مسافرًا. وهكذا لو زادت المدة وهو ما يزال على سفره[77].

ثالثا: أن التحديد لا أصل له، فما دام المسافر مسافرا يقصر الصلاة ولو أقام في مكان شهورا[78].

رابعا: أن اسم المسافر يصدق على المقيم المتردد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إنا قوم سفر "، فصدق عليه هذا الاسم، ومن صدق عليه هذا الاسم قصر، لأن المعتبر هو السفر لانضباطه لا المشقة لعدم انضباطها[79].

ونوقش ذلك بما يلي:

أولا: أما استدلالهم بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وفتح مكة، وبفعل بعض الصحابة برام هرمز وأذربيجان فغير صريح في الدلالة لما ذهبوا إليه، وذلك لأن من نوى الإقامة غير عازم عليها ومتردداً فيها فهو في حكم المسافر. لأن المتردد في نية الإقامة، أو من حاصر عدواً، أو حاصره عدو أو سيل أو جليد أو كان ينتظر حاجة يتوقعها في سفره، كل يوم يرجو قضاءها، فكل هذا لا يأخذ حكم المقيم، لأنه غير عازم على الإقامة، وهذا ما يستفاد من الأحداث التي استدلوا بها، لأنهم ـ في جميعها ـ كانوا مترقبين السفر.

يقول ابن باز رحمه الله: " وإقامته صلى الله عليه وسلم في مكة تسعة عشر يوما يوم الفتح محمولة على أنه لم يجمع عليها وإنما أقام لإصلاح أمور الدين، وتأسيس توحيد الله في مكة وتوجيه المسلمين إلى ما يجب عليهم كما تقدم، فلا يلزم من ذلك أن يكون عزم على هذه الإقامة.

بل يحتمل أنه أقامها إقامة لم يعزم عليها، وإنما مضت به الأيام في النظر في شؤون المسلمين وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح وإقامة شعائر الدين في مكة المكرمة. وليس هناك ما يدل على أنه عزم عليها حتى يحتج بذلك على أن مدة الإقامة المجيزة للقصر تحد بتسعة عشر يوما كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهكذا إقامته صلى الله عليه وسلم في تبوك عشرين يوما ليس هناك ما يدل على أنه عازم عليها عليه الصلاة والسلام.

بل الظاهر أنه أقام يتحرى ما يتعلق بحرب، وينظر في الأمر وليس عنده إقامة جازمة في ذلك، لأن الأصل عدم الجزم بالإقامة إلا بدليل، وهو مسافر للجهاد والحرب مع الروم وتريث في تبوك هذه المدة للنظر في أمر الجهاد، وهل يستمر في السفر ويتقدم إلى جهة الروم أو يرجع؟ ثم اختار الله له سبحانه أن يرجع إلى المدينة فرجع.

والمقصود أنه ليس هناك ما يدل على أنه نوى الإقامة تسعة عشر يوما في مكة، ولا أنه نوى الإقامة جازمة في تبوك عشرين يوما حتى يقال إن هذه أقل مدة للقصر، أو أن هذه أقصى مدة للإقامة بل ذلك محتمل كما قاله الجمهور"[80].

ثانيا: قول شيخ الإسلام: إن التحديد لا أصل له فما دام المسافر مسافرا يقصر الصلاة ولو أقام في مكان شهورا، هو مع ذلك كان يفتي بالاحتياط، وهو إتمام الصلاة؛ فقد سئل عن رجل مسافر إلى بلد ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهل يتم الصلاة أم لا؟ فأجاب: (إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة، فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة. وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم)[81].

وهذا موافقة ضمنية منه لقول الجمهور، وعمل بما أخذوا به.

ثالثا: قولكم إن اسم المسافر يصدق على المقيم المتردد، فيجاب عنه بأنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير مسافر حال الإقامة، فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما سيكون عليه[82].

الترجيح:

بعد عرض مذاهب الفقهاء السابقة في تلك المسألة، يتبين لنا أن هناك اتجاهين رئيسين: الأول: اتجاه من يرى تحديد المدة، وهم الجمهور، على اختلاف أقوالهم في تحديد تلك المدة، وهم أصحاب الأقوال من الأول إلى الخامس.

والاتجاه الثاني اتجاه من يرى عدم التحديد، ويرى الرجوع إلى العرف في اعتبار المسافر قد انقطع سفره أو لم ينقطع.

ولو تأملنا مذهب القائلين بالتحديد، وهم جمهور الفقهاء، سنجد أنهم إنما حددوا مدة للإقامة والسفر بناءً على أن الأصل في الإقامة هي ترك النقلة، فمتى ترك التنقل فأقام فهو مقيم وليس بمسافر، وإنما السفر هو التنقل.

ولذلك قالوا: ولو لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، قصر في حال مكثه لقلنا إنه في حال المكث لا يقصر، كما هو مذهب الحسن البصري وهو مروي عن عائشة[83]، لكنه قصر عليه الصلاة والسلام، فرأينا أن أكثر مدة لقصره هي كذا. وتأولوا الأحاديث الأخر.

لكن هذا المنطلق فيه ضعف فيما يظهر. ومحل ضعفه أن يقال: إن ما ذكرتموه من أن السفر ينقطع بالإقامة والمكث وترك النقلة قد عارضه الأحاديث الثابتة وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصر يوماً أو يومين أو ثلاثة باتفاقنا.

يقصر في حال كونه ماكثاً تاركاً للنقلة، يدل على أن ترك النقلة ليست منافياً للسفر، فإنه وإن ترك النقلة فيبقى مسافراً بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - قد قصر وهو تارك للنقلة.

فدل على أن مجرد المكث وترك النقلة أثناء السفر لا ينافي السفر، ولا يخرج المسافر عن السفر إلى الإقامة بل يبقى مسافراً، وإن ترك التنقل ومكث ما لم ينو إقامة يثبت بها حكم الإقامة.

- ولذا فإن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهو مذهب طائفة من أهل العلم، وهو مروي عن مسروق من التابعين، من أن مرجع ذلك إلى العرف، هو الأقعد والموافق للأصول، وذلك لأن الشرع لم يثبت فيه تحديد لهذه المدة، وهكذا فإن اللغة العربية لم يثبت فيها تحديد للمدة التي يثبت بها كون الإنسان مسافراً أو مقيماً، ومن ثم وجب الرجوع إلى العرف كما هو مقرر في أصول الفقه.

ومما يدعم هذا القول الآثار المروية عن الصحابة في هذا الباب، وقد سبق ذكرها، ولم يأت من اعترض عليها، وهم الجمهور بدليل قوي يردها، بل ما قد ثبت في سنن البيهقي يإسناد صحيح من أن ابن عمر: (أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة)، دليل واضح على عكس ما ذهبوا إليه.

وذلك أنه لا يصح أن يقال: أنه لم يعزم تلك المدة، فإن مثل هذه المدة قد حبسه بها الثلج، فيستبعد أن يكون قد ظن أن يذهب بيومين أو ثلاثة أو أربعة فذلك في الغالب في أول الشتاء، لكونه قد استمر هذه المدة وهي ستة أشهر، فيبعد أن يظن ذهابه في مدة يسيرة.

ثم إنه رضي الله عنه، لما سئل عن القصر في ذي المجاز - كما في المسند بإسناد حسن - وهو سوق يجتمع فيه ويباع فيه ويمكث فيه عشرين يوماً أو خمسة عشر يوماً؟ فقال: " يقصر الصلاة به " وقال: " إني كنت بأذربيجان فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى يصلي ركعتين ركعتين و(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

 فهنا استدل بفعل أصحابه بأذربيجان وأنهم قد مكثوا شهرين أو أربعة أشهر - كما في مسند أحمد، وفي الرواية المتقدمة (ستة أشهر)، فاستدل بهذا على القصر عشرين أو خمسة عشر يوماً، فدل على أنه لم يكن ينو المكث المدة التي تقدم ذكرها عند جمهور الفقهاء.

ويدل على أنه استنبط ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وفيه أنه رأى ذلك سفراً، وأن إقامته بأذربيجان شهرين أو أربعة، كما في رواية أحمد، وفي رواية البيهقي " ستة أشهر ": أن ذلك سفر، وإن مكثهم بذي المجاز عشرين أو خمسة عشر يوماً سفر وأن في القصر اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقوله يخالف قول ابن عباس. ومأخذ ابن عباس تقدم ما فيه من النظر[84].

هذا، والله أعلى وأعلم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسوك محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

 


[1] رواه مسلم (686).

[2] رواه البخاري (1102)، ومسلم (689).

[3] وقد أوجبه بعضهم، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، لحديث عائشة: "فرضت الصلاة ركعتان ركعتان، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر"، قالوا: فالأصل في القصر أنه عزيمة، ولا يجوز للمسافر أن يتركه. انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 123)، التجريد للقدوري (2/ 878)، الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني (ص: 223)، المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (1/ 193)، وقال ابن حزم: " وكون الصلوات المذكورة في السفر ركعتين فرض - سواء كان سفر طاعة أو معصية، أو لا طاعة ولا معصية، أمنا كان أو خوفا - فمن أتمها أربعا عامدا، فإن كان عالما بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته، وإن كان ساهيا سجد للسهو بعد السلام فقط. وأما قصر كل صلاة من الصلوات المذكورة إلى ركعة في الخوف في السفر فمباح، من صلاها ركعتين: فحسن، ومن صلاها ركعة: فحسن؟". المحلى بالآثار (3/ 185).  والقول بالاستحباب مذهب أكثر أهل العلم، واستدلوا بالآية من سورة النساء، وبحديث مسلم وأصحاب السنن السابق ذكرهما.

[4] جاء في المبدع في شرح المقنع (2/ 114): (ومن سافر سفرا مباحا) ذكره أكثر الأصحاب، وحكاه ابن هبيرة اتفاقا؛ لأنه - عليه السلام - كان يترخص في العود من السفر؛ وهو مباح، وكالغزو، وفي " الوجيز " سفرا جائزا؛ وهو أعم، والمراد من ابتدأ سفرا مباحا، وصرح به في " الفروع "، والأصح: أو هو أكثر قصده، وعنه: لا يترخص في سفر النزهة والتفرج، اختاره أبو المعالي؛ لأنه إنما شرع إعانة على تحصيل المصلحة، ولا مصلحة في هذا، وظاهر كلام ابن حامد اختصاصه بسفر الطاعة.اهـ. واختار ابن باز القول بجواز القصر والجمع في سفر النزهة المباح؛ فقال: " إذا سافر المسلم مسافة 80 كيلو مترا تقريبا أو أكثر، للنزهة أو للصيد أو لغير ذلك من الأسباب المباحة شرع له القصر، فيصلي الأربع اثنتين، ويجوز له الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير، على حسب ما يراه أرفق به وإذا كان نازلا مستريحا فترك الجمع أفضل ". اهـ. مجموع فتاوى ابن باز (30/ 182).

[5] وهو اختيار شيخ الإسلام، يقول رحمه الله: (وتقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً، ... وسواء كان مباحا أو محرما، ونصره ابن عقيل في موضع، وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي ...). انظر: الفتاوى الكبرى (4/ 160)، اختيارات ابن تيمية الفقهية.

[6] بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 179). ومن الأسفار ما اختلفوا في إلحاقه، فمن ذلك: إذا سافر لتجارة مكاثرا في الدنيا فقيل: هو سفر معصية، والصحيح أنه مباح؛ ومنه ما لو عصى في سفره المباح، والصحيح أنه لا يمنع الترخص، كما لو عصى في الحضر، بخلاف من نقل سفره المباح إلى معصية لم يترخص في الأصح لزوال سببه، وإن نقل سفر المعصية إلى مباح، وقد بقي مسافة قصر، قصر في الأصح، لأن وجود ما مضى من سفره كعدمه. وإذا سافر لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل وصاحب " التلخيص ": لا يباح له الترخص؛ لقوله عليه السلام «لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد» متفق عليه، وقال ابن المنجا: السفر المكروه كزيارة القبور والمشاهد ملحق بالسفر المحرم. انظر: المبدع في شرح المقنع (2/ 114).

[7] وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وقال المالكية: تكفي نية القصر في أول صلاة يقصرها في السفر، ولا يلزم تجديدها فيما بعدها من الصلوات، فهي كنية الصوم أول ليلة من رمضان، فإنها تكفي لباقي الشهر. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 339)، الشرح الممتع (4 / 149)، انظر: الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 433)، الفقه الميسر (1/ 411).

[8] لا تشترط نية القصر عند الأحناف، وفي شرح زاد المستقنع للحمد (7/ 179): وقال بعض الحنابلة: لا يشترط ذلك، وهو مذهب الجمهور. ولم يثبت عن الإمام أحمد نص يخالف هذا، وهو اختيار شيخ الإسلام. اهـ. وانظر: فتاوى الشبكة - رقم الفتوى: (60174).

[9] مجموع الفتاوى (22 /81).

[10] مجموع الفتاوى (24/104).

[11] انظر: النتف في الفتاوى للسعدي (1/ 76)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 94).

[12] مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 728).

[13] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ت التركي (5/ 32).

[14] فتاوى الشبكة الإسلامية - رقم الفتوى: (36769).

[15] انظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (15/264).

[16] من أحكام الصلاة للمسافر- أبو محمد المدني- موقع صيد الفوائد.

[17] المرجع السابق.

[18] المجموع (4 / 228).

[19] انظر: البناية شرح الهداية (3/ 4)، أسهل المدارك (1/ 313)، عيون المسائل للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص: 141)، الحاوي الكبير (2/ 359)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (2/ 137).  

[20] توضيح الأحكام من بلوغ المرام، الشيخ البسام، ج2- ص 540.

[21] من فتوى على موقع الإمام ابن باز. تحت عنوان: مدة القصر ومسافته.

[22] وقال بهذا القول من الصحابة: ابن عباس وابن عمر، ومن التابعين: الحسن البصري والزهري، ومن الفقهاء المتبوعين: الليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، انظر: ملتقى أهل الحديث، تحت عنوان: مسافة قصر الصلاة – أبو أسيد النجدي. ومن العلماء المعاصرين: ابن باز والراجحي والفوزان، وبه أفتت اللجنة الدائمة. جاء في فتوى اللجنة الدائمة: (ومقدار المسافة المبيحة للقصر ثمانون كيلو متر تقريباً على رأي جمهور العلماء) انظر: السؤال السابع من الفتوى رقم ‏(‏6261‏)‏ المجلد الثامن.

[23] رواه مسلم (2390).

[24] قال بهذا القول: عمر بن الخطاب وأنس بن مالك وابن عمر وابن حزم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة والشوكاني والصنعاني والقنوجي صاحب الروضة الندية وابن قاسم والسعدي ومحمد بن إبراهيم وعبد الرحمن الدوسري في تفسيره وابن عثيمين وابن جبرين وعبد الله بن عقيل. انظر: ملتقى أهل الحديث، تحت عنوان: مسافة قصر الصلاة – أبو أسيد النجدي.

[25] رواه مسلم (691).

[26] رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7302). لكن قال في السلسلة الضعيفة (12/ 506): ثم تبينت أن الحديث بلفظ: "بريداً" شاذ، والمحفوظ بلفظ: "يوم وليلة"؛ كما هو مبين في ضعيف أبي داود (304)، وصحيح أبي داود (1516 - 1518).

[27] رواه مسلم (692). انظر: ملتقى أهل الحديث، تحت عنوان: مسافة قصر الصلاة – أبو أسيد النجدي.

[28] انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 160)، اختيارات ابن تيمية الفقهية.

[29] انظر: مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا (2/ 80)، وقال أيضا: (والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا‏.‏ فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني‏.‏ فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا‏. فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرًا لأجله‏.‏ والعمل لا يكون إلا في زمان‏.‏ فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد، سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد، لم يسم سفرًا، وإن بعـدت المسافـة‏.‏ فالأصل هـو العمل الذي يسمي سفـرًا، ولا يكون العمـل إلا في زمـان، فيعتبر العمل الذي هو سفر‏.‏ ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم، ليس له حد في الشرع ولا اللغة، بل ما سموه سفرًا فهو سفر‏. ). وقال: (وقد يركب الرجل فرسخا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه‏)، انظر: مجموع الفتاوى (24/ 135)، (24/42).

[30] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 340).

[31] مجموع الفتاوى (24/ 15). وذهب بعض المعاصرين إلى أن نوع التأشيرة التي تمنحها الدولة للمنتقل إليها هي التي تحدد كونه مسافرا أو غير مسافر؛ فمن منح تأشيرة عمل، ويلحق بذلك تأشيرة الدراسة، فهو غير مسافر، وحكمه بعد وصوله لهذه الدولة حكم المقيمين فيها، فلا يترخص برخص السفر، ومن منح تأشيرة زيارة أو سياحة فهو مسافر، يترخص برخص السفر، طالت المدة أو قصرت؛ فمن سافر لمرض يبحث عن علاج او كان مرافقا لمريض او له ابن او ابنة او أخ او صديق يدرس فأراد أن يزوره او ذهب للتجارة او ذهب للنزهة فهؤلاء جميعهم ومن في حكمهم  يقصرون ويجمعون دون النظر الى المدة، ومن ذهب للدراسة او العمل فان الدولة التي تقبله لا تعامله اصلا معاملة من اتى سياحة، بل يعطى من الاذونات تسهيلا له في البقاء والمقام ما لا يعطى من اتى للسياحة. أيضا فان من اتى للدراسة أو العمل لو جاءه خبر وفاة قريب له مثلا، فانه يأتي لأداء الواجب من تقبل العزاء ونحوه ثم يعود ويرجع يكمل سفره، بخلاف من اتى للسياحة – والامر على الغلبة. فما يعرف اليوم بتأشيرة السفر هي الفيصل للحكم. راجع فتوى صوتية للشيخ صالح المغامسي – على يوتيوب – بتصرف يسير.

وهذا القول ربما يؤخذ به على سبيل الاستئناس، وتسهيل الوصول للحكم في بعض الحالات، أما اعتباره قولا مستقلا في المسألة، فلا يظهر انضباطه، وأكثر الأسفار إنما يكون داخل الدولة ذاتها، وبغير تلك التأشيرات. كما أنه ليس قولا معروفا عند أحد من أهل العلم.

[32] انظر: مجموع الفتاوى (24/ 135)، (24/42).

[33] وهذا القول هو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. ونسبه الشيخ عبد الله البسام للمحققين من أهل العلم، فقال: (اختلف العلماء في تقدير المسافة التي تقصر فيها الصلاة ويباح فيها الرخص السفرية ... وذهب كثير من محققي العلماء إلى أنه لا يوجد دليل صريح صحيح على تحديد مسافة القصر بل المشرّع العظيم أباح رخص السفر ولم يحدده لا بمدة ولا بمسافة فكل ما عد سفراً أبيحت فيه الرخص. (توضيح الأحكام من بلوغ المرام، الشيخ البسام، ج2- ص 540).

[34] فقه السنة (284، 285).

[35] رواه مسلم، وسبق تخريجه. قال الألباني: (الفرسخ) ثلاثة أميال، والميل من الأرض منتهى مد البصر لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه، وبذلك جزم الجوهري، وقيل: حده أن ينظر إلى الشخص في أرض مسطحة فلا يدري أهو رجل أو امرأة، وهو ذاهب أو آت، كما في الفتح (2 / 467)، وهو في تقدير بعض علماء العصر الحاضر يساوي 1680 مترا. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 307).

[36] انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/305: 310).

[37] انظر: فتوى بعنوان: "قوة قول الشيخ الألباني في مسافة القصر" – على موقع البصيرة – إشراف: د/ أحمد النقيب.

ويقول الشيخ عبد الله بن جبرين في شرحه على منهج السالكين: (متى يكون الإنسان مسافرا؟ قيل: السفر هو ما لا يقطع إلا بمشقة وكلفة. وقيل: السفر ما احتاج إلى زاد ومزاد. وقيل: السفر ما يلزم منه غيبة طويلة، بحيث إذا قدم يُلاقى ويُهنأ ويُحيّى. هذه تعريفات لاسم السفر. ومنهم من حدده بالمسافة، فقال: مسافته ثمانية وأربعون ميلا، والميل قريب من ألف وسبعمائة مترا، يعني نحو 2 كيلو إلا ربع أو قريب منه، فيكون قريبا من خمسة وثمانين كيلو، أو تسعين. هكذا حدده بعضهم، وأكثرهم حدده باليوم، أنه مسيرة يومين قاصدين، وقالوا: إن مسيرة اليوم لا تسمى سفرا. وذهب بعض المحققين -كشيخ الإسلام- إلى أنه لا يحدد بمسافة، ورأى أن تحديده بالزمان لا بالمسافة، وأنه إذا سافر مسيرة يوم ونصف، ولو لم يقطع إلا عشرين ميلا سمي مسافرا. يوم ونصف، يومان أو أكثر، وإذا سافر وقطع مثلا أربعين ميلا أو مائة ميل أو مائتين ميلا، ولكنه رجع في يومه أو في ليلته لم يُسم مسافرا، هذا هو اختيار شيخ الإسلام كما ذكره برسالة السفر المطبوعة في المجلد الرابع والعشرين).اهـ.

[38] بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 180)، مناهج التحصيل في شرح المدونة وحل مشكلاتها (1/ 445).

[39] المجموع شرح المهذب (4/ 364).

[40] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (2/ 329).

[41] المغني لابن قدامة (2/ 212).

[42] المقدمات الممهدات (1/ 213).

[43] شرح زروق على متن الرسالة (1/ 360).

[44] قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن أقام عشرا أتم، وهو رواية عن ابن عباس. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 494)، التبصرة للخمي (2/ 469)، وذكر هذا القول وأشار إلى قوته ووجاهته: ابن باز في مجموع الفتاوى (12/278).

[45] تحفة الفقهاء (1/ 150)، بدائع الصنائع (1/ 104)، الحجة على أهل المدينة (1/ 168)، رد المحتار (2/125).

[46] مختصر اختلاف العلماء (1/ 364)، الأحكام الكبرى (2/ 341) لابن الخراط، المقدمات الممهدات (1/ 213).

[47] المحلى بالآثار (3/ 216)، نيل الأوطار (3/ 251)، مغنى المحتاج (1/ 262).

[48] قال الشيخ رحمه الله: (وذكروا أقاويل كثيرة لكن أرجحها ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنه ما دام الإنسان لا ينوي الإقامة المطلقة في هذا البلد فهو مسافر فإذا أقام ينتظر حاجة متى انتهت عاد إلى بلده فهو مسافر وسيأتي في كلام المؤلف أن هذا هو الحكم بشرط ألا يحدد الأيام وأنه إذا أقام لحاجة معينة فهو مسافر ولو أقام ألف سنة ما دام لم يحدد أيام والصواب أنه لا فرق بين تحديد الأيام وتحديد العمل فمن نوى إقامة محددة بعمل أو محددة بزمن فإنه مسافر ولا ينقطع سفره). تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (2/ 141).

[49] رواه البخاري (3933)، وفي رواية مسلم (1352): "كأنه يقول لا يزيد".

[50] شرح مسلم (5/203).

[51] فتح الباري (7/267).

[52] سنن البيهقي (5454). وقال أبو مالك: " إسناده ثقات: أخرجه البيهقي (3/ 147 - 9/ 209) بسند رجاله ثقات إلا أنهم تكلموا في سماع يحيى بن بكير من مالك ". صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 484).

[53] الأم (1/215).

[54] الحديث في البخاري (6019)، مسلم (14).

[55] مغني المحتاج (1/ 519).

[56] مجموع فتاوى ابن باز (12/ 275).

[57] تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (2/ 132).

[58] رواه البخاري (1081)، مسلم (693).

[59] بدائع الصنائع (1/ 104)، الحجة على أهل المدينة (1/ 168)، تحفة الفقهاء (1/ 150).

 

[60] تبيين الحقائق (1/ 211)، حاشية الطحطاوي (ص: 425).

[61] مجموع فتاوى ابن باز (12/ 276).

[62] سيأتي تخريجه، وانظر: التنبيه على مشكلات الهداية (2/ 733).

[63] رواه البخاري (1080). قال الشوكاني: " وقد اختلفت الأحاديث في إقامته صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح، فروي ما ذكر المصنف، وروي عشرون أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس، وروي خمسة عشر، أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس أيضا. قال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري، وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء، وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج، وهي رواية سبعة عشر بتقديم السين، وعدها في بعضها وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء، وعد يوم الدخول ولم يعد الخروج، وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ: وهو جمع متين. وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة اهـ. وقد ضعف النووي في الخلاصة رواية خمسة عشر قال في الفتح: وليس بجيد لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبد الله كذلك ". نيل الأوطار (3/ 250).

وإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر،

[64] شرح زاد المستقنع للحمد (7/ 182).

[65] رواه أحمد (14139)، أبو داود (1235)، عن جابر.

[66] نيل الأوطار (3/ 251)، صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 486).

[67] نيل الأوطار (3/ 250)، شرح زاد المستقنع للحمد (7/ 183).

[68] صححه الألباني، إرواء الغليل (3/ 23) ح (574).

[69] سبق تخريجه.

[70] سبق تخريجه.

[71] صحيح لغيره دون قوله: "يا أهل البلد صلّوا أربعاً، فإنا سَفرٌ"، وهذا إسناد ضعيف من أجل علي بن زيد: وهو ابن جدعان. سنن أبي داود ت الأرنؤوط (2/ 418). وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 423) ح (1342).

[72] أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 207). وقال أبو مالك: إسناده صحيح.

[73] أخرجه ابن أبي شيبة (5099)، وعنه ابن المنذر (ت/ 1736). وصحح أبو مالك إسناده. صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 486).

[74] أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 13). وصحح أبو مالك إسناده. صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 486).

[75] أخرجه البيهقي (3/ 152)، وانظر «الإرواء» (576). وصحح أبو مالك إسناده. صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 486).

[76] أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 208)، وعبد الرزاق (4357). وصحح أبو مالك إسناده. صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 486).

[77] انظر: المحلى بالآثار (3/ 216)، وما بعده، صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 486). صحيح فقه السنة وأدلته (1/ 486).

[78] مجموع الفتاوى (24/ 18).

[79] نيل الأوطار (3/ 251).

[80] مجموع فتاوى ابن باز (12/ 274).

[81] مجموع الفتاوى (24/ 17).

[82] نيل الأوطار (3/ 251).

[83] قال الشوكاني: " وعن الحسن البصري أن المسافر يصير مقيما بدخول البلد. وعن عائشة: بوضع الرحل. قال الإمام يحيى: ولا يعرف لهم مستند شرعي، وإنما ذلك اجتهاد من أنفسهم والأمر كما قال هذا الإمام ". نيل الأوطار (3/ 249).

[84] انظر: شرح زاد المستقنع للحمد (7/ 183).